قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «اقرأ بالمعوِّذتين؛ فإنك لن تقرأ بمثلهما».
رواه أحمد برقم: (17322) واللفظ له، والترمذي برقم: (2903)، والطبراني في المعجم الكبير برقم: (849)، من حديث عُقبة بن عامر -رضي الله عنه-.
ورواه بنحوه النسائي برقم: (5441)، من حديث جابر -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (1160)، صحيح الترغيب برقم: (1486).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«المـُعَوِّذَتَيْن»:
تثنية مُعَوِّذَة، اسم فاعل مِن عَوّذَ يُعوِّذ تعويذًا، إذا قال: أُعيذك بالله من كل شر.
وأراد بالمعوِّذتين: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} الفلق: 1، و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} الناس: 1، سُمِّيتا بذلك؛ لأنهما عَوَّذتا صاحبهما، أي: عَصَمَتاه من كُل سُوء. المصباح المنير (ص: 225) وذخيرة العقبى في شرح المجتبى (12/ 308).
وقال الهروي -رحمه الله-:
وعَاذَ وتَعَوَّذَ واسْتَعَاذ بمعنى واحد؛ وهو: الالتجاء والاعْتَصَام. تهذيب اللغة (3/ 93).
شرح الحديث
قوله: «اقرأ بالمعوِّذتين»:
قال ابن الملك -رحمه الله-:
قوله: «اقرأ المعوِّذَتين» أُرِيدَ بهما: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} الفلق: 1، و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} الناس:1، سُمِّيتا بذلك؛ لأنهما يدفعان الآفة عن قارئهما. شرح المصابيح (2/ 50).
وقال الساعاتي -رحمه الله-:
أبْهَمَ القراءة في هذه الرواية، والظاهر: أنَّ المراد في دُبر كل صلاة، أي: عَقِبَها؛ أخذًا من الرواية السابقة، والأحاديث يُفسِّر بعضها بعضًا. الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني (18/ 350).
قوله: «فإنك لن تقرأ بمثلهما»:
قال ابن الملك -رحمه الله-:
المراد: التحريضُ على التعوُّذ بهاتَين السورتَين. شرح المصابيح (3/ 47).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
والمراد: أنه لا تقرأ بشيء أعظم في باب الاستعاذة من هاتين السورتين؛ لما يأتي في (كتاب الاستعاذة) من طريق ابن عجلان، عن سعيد المقبري عن عقبة -رضي الله عنه-، وفيه: «... ما سأل سائل بمثلهما، ولا استعاذ مستعيذ بمثلهما».
فلا ينافي هذا ما ثبت من أفضلية فاتحة الكتاب، وآية الكرسي. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (12/ 321).
وقال الساعاتي -رحمه الله-:
قوله: «لن تقرأ بمثلهما» يعني: من الأذكار الأخرى عقب الصلاة، والله أعلم. الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني (18/ 350).
وقال ابن بطال-رحمه الله-:
في الاسترقاءِ بالمعوذاتِ استعاذةٌ بالله تعالى مِن شَرِّ كُلِّ مِن خَلق ومِن شَرِّ النفاثات في السِّحر ومِنْ شَرِّ الحاسد ومِن شَرِّ الشيطان ووسوسته، وهذه جوامع من الدّعاء تَعُمُّ أكثر المكروهات؛ ولذلك كان -عليه السلام- يسترقي بهما، وهذا الحديث أَصل ألا يُسترقى إلا بكتاب الله وأسمائه وصفاته.شرح صحيح البخاري(4/٤٢٧).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
فيه: استحباب قراءتهما بعد التسليم من كل صلاة مكتوبة؛ لأنهما هنا لم يَتعَوَّذ مُتعَوِّذ بمثلهما، فإذا تعوَّذ المصلي بهما خلْفَ صلاة كان في حراستهما بالله تعالى إلى أن تأتي صلاة أخرى. شرح سنن أبي داود (7/ 337).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
والمعنى: ليس تعويذٌ مثلهما، بل هما أفضل التَّعاويذ، وفي رواية له أيضًا: أنه -صلى الله عليه وسلم- قال له: «اقرأ بهما كلَّما نُمْتَ، وكلَّما قُمْتَ». مرقاة المفاتيح (7/ 2886).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
فتضمَّنت هاتان السورتان الاستعاذة من هذه الشرور كلها، بأَوْجَزِ لفظ، وأَجْمَعِه، وأَدَلِّهِ على المراد، وأَعَمِّهِ استعاذةً، بحيث لم يَبق شرّ من الشرور إلا دخل تحت الشر المستعاذ منه فيهما.
فإن سورة الفلق تضمنت الاستعاذة من أمور أربعة:
أحدها: شر المخلوقات التي لها شرّ عمومًا.
الثاني: شر الغاسق إذا وقب.
الثالث: شر النفاثات في العقد.
الرابع: شر الحاسد إذا حسد. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (16/ 436).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
وفي المعوِّذتين الاستعاذةُ مِن كل مكروه جملةً وتفصيلاً، فإنَّ الاستعاذَة مِن شَرِّ ما خلق تَعُمُّ كُلَّ شَرٍّ يُستعاذ منه، سواء أكان في الأجسام أو الأرواح، والاستعاذَةَ مِن شَرِّ الغاسق وهو اللَّيل، وآيتِهِ وهو القمر إذا غاب، تتضمن الاستعاذةَ مِن شَرِّ ما يَنتشِرُ فيه من الأرواح الخبيثة التي كان نورُ النهار يحولُ بينها وبين الانتشار، فلما أظلم الليل عليها، وغاب القمرُ، انتشرت وعَاثَتْ.
والاستعاذة مِن شَرِّ النفاثات في العُقد تتضمن الاستعاذة من شَرِّ السواحر وسِحْرِهن.
والاستعاذة مِن شَرِّ الحاسد تتضمن الاستعاذَة مِن النفوس الخبيثة المؤذية بحَسَدها ونظرها.
والسورةُ الثانية: تتضمن الاستعاذة مِن شَرِّ شياطين الإنس والجن، فقد جمَعت السورتان الاستعاذة من كُلِّ شَرٍّ، ولهما شأنٌ عظيم في الاحتراس والتحصُّن من الشرور قبل وقوعها؛ ولهذا أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- عُقبةَ بن عامر بقراءتهما عَقِبَ كُلِّ صلاةٍ، ذكره الترمذي في جامعه، وفي هذا سِرٌ عظيم في استدفاع الشرورِ من الصلاة إلى الصلاة.
وقال: «ما تَعَوَّذ المتعوِّذون بمثلهما»، وقد ذُكر أنه -صلى الله عليه وسلم- سُحِرَ في إحدى عشرةَ عُقدة، وأنَّ جبريلَ نزل عليه بهما، فجعَلَ كُلَّما قرأ آية منهما انحلَّتْ عُقدة، حتى انحلَّتْ العُقَد كُلُّها، وكأنما أُنْشِطَ من عِقَال. الطب النبوي (ص:134- 135).
وقال ابن القيم -رحمه الله- أيضًا:
قراءة هاتين السورتين فإن لهما تأثيرًا عجيبًا...؛ ولهذا قال النبي: «ما تَعوَّذ المتعوِّذُون بمثلهما»، وقد تقدَّم أنه كان يُعوذ بهما كل ليلة عند النوم، وأمر عقبة أن يقرأ بهما دُبُرَ كل صلاة، وتقدَّم قوله: «إن من قرأهما مع سورة الإخلاص ثلاثًا حين يمسي، وثلاثًا حين يصبح كَفَتْهُ من كل شيء». بدائع الفوائد (2/ 268).