أنَّ رجلًا أَتى النبي -صلى الله عليه وسلم- يَسْتَطْعِمُه، فأَطْعَمَهُ شَطْرَ وَسْقِ شَعِير، فما زال الرَّجُلُ يأكل منه وامرأتُه وَضَيْفُهُمَا حتى كَالَهُ، فأتى النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-، فقال: «لو لم تَكِلْهُ لأَكَلْتُم منه، ولَقَامَ لكم».
رواه مسلم برقم: (2281)، من حديث جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«يَسْتَطْعِمُهُ»:
اسْتَطْعَمْتُهُ: سألتُه أن يُطْعِمَني. المصباح المنير (2/372).
وقال ابن منظور-رحمه الله-:
واسْتَطْعَمَهُ: سأَلَهُ أن يُطعمه. لسان العرب (12/366).
«شَطْر»:
الشَّطْرُ: نصف الشيء، والجمع أَشْطُر وشُطُور. وشَطَرْتُه: جعلتُه نصفين. لسان العرب (4/406).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
والمراد بالشَّطْرِ هنا: البعض، والشَّطْرُ يُطلق على النصف وعلى ما قارَبَه، وعلى الجهة، وليست مرادة هنا. فتح الباري (11/280).
«وَسَق»:
الوَسَقُ: بالفتح: ستون صاعًا، وهو ثلاثمائة وعشرون رطلًا عند أهل الحجاز، وأربعمائة وثمانون رطلًا عند أهل العراق، على اختلافهم في مقدار الصاع والْمُد.
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
والأصل في الوَسَقِ: الحِمْل، وكُل شيء وسَقْتَهُ فقد حَمَلْتَه، والوَسَقُ أيضًا: ضمُّ الشيء إلى الشيء. النهاية لابن الأثير (5/ 185).
«ضَيفُهُما»:
الضيف: هو القادمُ على القومِ، النازلُ بهم، ويقال: ضَيفٌ، على الواحد والجمع، ويُجمع أيضًا على: أضْياف، وضُيُوف، وضِيفَان، والمرأة ضَيفٌ، وضَيفَةٌ. المفهم للقرطبي (1/ 230-231).
«كَالَهُ»:
أي: حتَّى كَالَ ذلك الطعام؛ ليَعْلَم قَدْرَهُ، فلما كاله فَنِيَ بسرعة. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (23/ 23).
شرح الحديث
قوله: «أنَّ رجلًا»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«أنَّ رجلًا» لم أرَ أحدًا من الشراح ذكر اسم هذا الرجل، وللبيهقي ما يفيد أنَّه نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، ولعلها حادثة أخرى مشابهة لها. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (23/22).
وقال ابن العجمي -رحمه الله-:
قوله: «أنَّ رجلًا أَتى النبي -صلى الله عليه وسلم- يَسْتَطْعِمه» لا أعرفه، ولا أعرف امرأته. تنبيه المعلم بمبهمات صحيح مسلم (ص: 391-392).
قوله: «أَتى النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَسْتَطْعِمُه، فأَطْعَمَهُ شَطْرَ وَسَقِ شَعير»:
قال محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
قوله: «أتى النبي -صلى الله عليه وسلم-» حالة كونه «يَسْتَطْعِمُه» أي: يطلب منه -صلى الله عليه وسلم- الإطعام. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (23/22).
وقال محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«أَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَسْتَطْعِمُهُ» أي: يطلب منه أن يُعطيه الطعام. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (37/215).
وقال الشيخ موسى شاهين -حفظه الله-:
قوله: «يَسْتَطْعِمُه، فأَطْعَمَهُ شَطْرَ وَسَقِ شَعير» أي: يطلب منه طعامًا له ولأهله، فأعطاه شعيرًا. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (9/92).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فأَطْعَمَهُ» النبي -صلى الله عليه وسلم-، أي: فأعطاه النبي -صلى الله عليه وسلم- طعامًا. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (23/22).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«فَأَطْعَمَهُ» أي: أعطاه. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (37/215).
قوله «شَطْرَ وَسْقِ شَعِير»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
أي: نصف وَسَقٍ وهو ستون صاعًا أو حَمل بعيرٍ، ويحتمل أنْ يُراد بالشطر البعض، فإِنه بعض مَعانيه كما في قوله تعالى: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} البقرة: 144، وهو أَنسب بالمقام لدلالته بالأغلبية على المرام.مرقاة المفاتيح(9/٣٨٣١).
قال الملا علي القاري -رحمه الله- أيضًا:
وشطر الشّيء نصفه وهو بفتح أوله ولا يصح كسره. قال النووي: والشطر هُنا معناه: شيءٌ، كذا فسره الترمذي.شرح الشفا(1/650)
قوله: «وَسْقِ»:
قال ابن منظور -رحمه الله-:
والوَسْق والوِسْق: مَكِيلَة معلومة، وقيل: هو حِمْل بَعِير، وهو ستون صاعًا بصاع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو خمسة أرطال وثلث، فالوسَق على هذا الحساب مائة وستون منًّا وهو الذي يُكال به السمن وغيره.
وقال الزجاج -رحمه الله-:
خمسة أوْسُقٍ هي خمسة عشر قَفِيْزًا (نوع من أنواع الكيل يتواضع الناس عليه)، قال: وهو قَفِيزُنا الذي يسمى الْمُعَدَّل. لسان العرب(10/ 378).
وقال الشيخ محمد على الإتيوبي -رحمه الله-:
والوَسَقُ بالتقدير المعاصر، كما حرّره بعضهم: (500, 130) كيلو غرامًا، والله تعالى أعلم. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (37/215).
قوله: «فما زال الرَّجُل يأكل منه وامرأتُه وضيفُهما حتى كَالَهُ»:
قال الملا علي قاري -رحمه الله-:
قوله: «فما زال الرَّجُل يأكل منه وامرأتُه» بالرفع، أي: وتأكل هي أيضًا منه. مرقاة المفاتيح (9/3831).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
قوله: «فما زال الرَّجُل يأكلُ منه» لم يُعلم مُدَّةُ أكْلِه، واللَّه أعلم. لمعات التنقيح في شرح مشكاة المصابيح (9/509).
وقال محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
قوله: «فما زال الرَّجُل يأكل منه» أي: من ذلك الشَّطْر هو «وامرأتُه وضيفُهما حتَّى كَالَهُ». الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (23/23).
وقال الملا علي قاري -رحمه الله-:
«وضيفُهما» أي: من الرجال والنساء كذلك، وهو يطلق على المفرد والجمع. مرقاة المفاتيح (9/3831).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
قوله: «حَتَّى كَالَهُ» أي: الرَّجُل ذلك الطعام فَنَفِدَ. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (37/216).
وقال محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«حتَّى كَالَهُ» أي: حتَّى كَالَ ذلك الطعام؛ ليَعْلَمَ قَدْرَه، فلما كَالَهُ فَنِيَ بسرعة. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (23/23).
وقال الشيخ موسى شاهين -حفظه الله-:
قوله: «حتى كَالَهُ» أي: كَالَ ما بقي منه؛ ليَعْرِف مقدراه، فذهبَت البركة بالكيل. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (9/92).
قوله: «فَفَنِي»:
قال الملا علي قاري -رحمه الله-:
أي: نَفَدَ سريعًا. مرقاة المفاتيح (9/3831).
قوله: «فأتى النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-، فقال: «لو لم تَكِلْهُ لأَكَلْتُمْ منه، وَلَقَامَ لكم»:
قال الملا علي قاري -رحمه الله-:
«فأتى النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-» أي: فذكر له أو لم يذكر. مرقاة المفاتيح (9/3831).
وقال محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
قوله: «فأتى النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-» فأخبره بحال الطعام مِن أَكْلِه زمانًا قبل الكيل، ومِن فَنَائه بسرعة بعد الكيل. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (23/23).
وقال الملا علي قاري -رحمه الله-:
«لو لم تَكِلْهُ لأَكَلْتُمْ» أي: أنت وامرأتك وأضيافكما. مرقاة المفاتيح (9/3831).
وقال ابن قرقول -رحمه الله-:
قوله: «لَقَامَ لكم» أي: دام، ويُروى: «بكم» أي: اسْتَعَنْتُم به ما بقيتم. مطالع الأنوار على صحاح الآثار (5/405).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
وقوله: «لَقَامَ لكم» أي: بقي، وكانت البركة تنزل في ذلك الطعام، فاستطال الرجل مُدَّتَه فكَالَهُ؛ لينظر ما بقي، فلما وقف مع العادات وُكِلَ إليها، كما وقف الماء حين زمَّتْهُ هاجر. كشف المشكل (3/109).
وقال الملا علي قاري -رحمه الله-:
«وَلَقَامَ لكم» أي: على وجه الدوام؛ ببركة النبي -صلى الله عليه وسلم-. مرقاة المفاتيح (9/3831).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: «لو لم تَكِلْهُ لأَكَلْتُمْ منه، وَلَقَامَ لكم»: أي: ولَبِثَ ودام، ويروى: «بكم» أي: لكفاكم وأغناكم...
وفيه: أن هذه الأمور الكونية يجب ألا يُتقصَّى أمرها، وتُترك مُهملة لا تدخل تحت التقدير، ومثله حديث شعير عائشة، وأنها لما كَالَتْهُ فَنِيَ؛ لأن كيْلَها وعَصْرَها وتَقَصِّي ما فيها مضاد للتسليم والتوكل على رزق الله، ويقضي على تقدير ما لا يحصيه التقدير من سعة فضل الله، وتكَلُّفٌ لما لا طائل وراءه، فعوقب فاعله بأن رُفعت تلك البركة عنه، ورُدَّ إلى قُوَّته وحَوْله التي تكلَّفها، والله أعلم.
هذا هو وجه التأويل فيه، وظاهر معناه، وإن كان بعضهم تأول في حديث عائشة أنه لما كالَتْه عرَفَت قدْرَه فَنِيَ على حسابها، وكانت أولًا لم تُقَدِّرْهُ، فطال ذلك في ظنها، ولم يجعل في ذلك آية بينة، ولا بركة.
وظاهر الحديث يرد قوله، لا سيما مع ما في هذا الحديث من قوله -عليه السلام-: «لو لم تَكِلْهُ لأَكَلْتُمْ منه، وَلَقَامَ بكم»، فقد نصَّ على ضد ما قاله هذا الشارح، والله الموفق برحمته. إكمال المعلم بفوائد مسلم (7/242-243).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وقد استَشْكَلَ هذا النهي مع الأمر بكيل الطعام، وترتيب البركة على ذلك، كما تقدم في البيوع من حديث المقدام بن معد يكرب -رضي الله عنه- بلفظ: «كِيْلُوا طعامكم يُبارَك لكم فيه».
وأُجيب: بأن الكيل عند المبايعة مطلوب؛ من أجل تعلُّق حق المتبايِعَين، فلهذا القصد يندب.
وأما الكيل عند الإنفاق فقد يبعث عليه الشحُّ؛ فلذلك كُرِهَ. فتح الباري (11/281).
قال ابن بطال -رحمه الله-:
وفيه: أنَّ الطعام المكيل يكون فَنَاؤُه معلومًا؛ للعلم بكيله، وأن الطعام غير المكيل فيه البركة؛ لأنه غير معلوم مقداره. شرح صحيح البخاري (10/ 174).
وقال ابن حجر -رحمه الله- معلِّقًا:
قلتُ: في تعميم كل الطعام بذلك نظر، والذي يظهر أنه كان من الخصوصية لعائشة ببركة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد وقع مثل ذلك في حديث جابر -رضي الله عنه-. فتح الباري (11/280).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
ونَماءُ سمن العُكَّة، وشَطْرِ وَسْقِ الشعير، كل ذلك ببركة النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما لَمِسَه، أو تناوله، أو تهمَّم به لعلها الصواب تعمَّم به، أو استحم به أو برَّك عليه، وكم له منها وكم؟!.
ورفْعُ النماء من ذلك عند العَصْر والكيل سببه -والله أعلم-: الالتفات بعين الحرص، مع معاينة إدرار نِعَمِ الله تعالى، ومواهب كراماته، وكثرة بركاته، والغفلة عن الشكر عليها، والثقة بالذي وهبها، والميل إلى الأسباب المعتادة عند مشاهدة خرق العادة، وهذا نحو مما جرى لبني إسرائيل في التَّيْه لما أنزل عليهم المنَّ والسلوى، وقيل لهم: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ} البقرة: 172، فأطاعوا حرص النفس، فادخروا للأيام، فَخَنِزَ اللحم، وفسد الطعام.
وقوله لصاحبة العُكَّة: «لو تركتيها ما زال قائمًا»، ولصاحب الشَّطْر: «لو لم تَكِلْهُ لَقَامَ لكم» يُستفاد منه: أن من أُدِرَّ عليه رزق، أو أُكْرِم بكرامة، أو لُطِفَ به في أمر ما، فالمتعين عليه موالاة الشكر، ورؤية المنَّة لله تعالى، ولا يُحدِث مغيرًا في تلك الحالة، ويتركها على حالها.
ومعنى رؤية النعمة: أن يعلم أن ذلك بمحض فضل الله وكرمه، لا بحولنا ولا بقوتنا ولا استحقاقنا. المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم (6/54-55).