«ليس الكَذَّابُ الذي يُصْلِحُ بين الناسِ، ويقول: خيرًا، ويَنْمِي خيرًا».
رواه البخاري برقم: (2692)، ومسلم برقم: (2605) واللفظ له، من حديث أُمِّ كُلثوم بنت عُقبة بن أبي مُعَيط -رضي الله عنها-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«الكَذَّاب»:
كثير الكَذِب. تفسير السمعاني (5/ 14).
قال الصاحب بن عباد -رحمه الله-:
الكَذِبُ: معروف، وهو الكِذَابُ، يَكْذِبُكَ كَذِبًا: أَخْبَرَك بالكذب.
ويُكَذِّبُكَ تكذيبًا: لم يُصَدِّق حديثك. المحيط في اللغة (6/ 237).
قال ابن منظور -رحمه الله-:
والكَذِب: نقيض الصِّدْق. لسان العرب (1/ 704).
«يُصْلِح»:
ُيُنْهِي الخُصومة. المعجم الوسيط (1/ 520).
قال الراغب الأصفهاني -رحمه الله-:
والصُّلْحُ يختصّ بإزالة النّفار بين الناس. المفردات في غريب القرآن (ص: 489).
«يَنْمِي»:
بِفتح أوَّلِهِ وكسْرِ الميمِ: أيْ يُبَلِّغُ. فتح الباري، لابن حجر (5/ 299).
قال ابن الأثير -رحمه الله-:
يقال: نَمَيْتُ الحديث أَنْمِيْهِ، إذا بلَّغتُه على وجه الإصلاح وطَلَبِ الخير، فإذا بلَّغْتُه على وجه الإفساد والنميمة، قلتُ: نمّيتُه، بالتشديد. النهاية (5/ 121).
شرح الحديث
قوله: «ليس الكذَّابُ الذي يُصْلِحُ بين الناسِ»:
قال العيني -رحمه الله-:
«الذي يُصلح بين الناس» في محل النصب؛ لأنه خبر (ليس)، ويُصلح، بضم الياء من الإصلاح. عمدة القاري (13/ 269).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
«ليس الكذاب» الكذَّاب اللام فيه إشارة إلى الكذاب المعهود الذي مر في الحديث السابق ونحوه، يعني الكذاب المذموم عند الله تعالى، الممقوت عند المسلمين ليس مَن يُصلح ذات البَين؛ فإنه محمود عند الله تعالى وعندهم.
فعلى هذا يجب أن يكون «الكذاب» مرفوعًا؛ على أنه اسم «ليس»، «الذي يُصلح» خبره، خلافًا لمن زعم أن «الكذاب» خبر «ليس»، و«الذي» اسمه. الكاشف عن حقائق السنن (10/ 3116).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ليس الكذاب» بالرفع على أنه اسم ليس، وفي نسخة بالنصب على أنه خبرها مقدم على اسمها، وهو أظهر دراية؛ لأنه المحكوم به والمحكوم عليه، «الذي يصلح بين الناس»... والمعنى: مَن كذب ليُصلح بين الناس لا يكون كاذبًا مذمومًا. مرقاة المفاتيح (7/ 3030).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
الكذب: الإخبار بالشيء على غير ما هو عليه، أو عدم مطابقة الخبر للواقع، وصيغة المبالغة: كذاب غير مقصودة، بل تشمل الكاذب؛ وإنما ذكرت لأن مَن هذه مُهِمَّته يُكْثر من الكذب غالبًا. فتح المنعم شرح صحيح مسلم. (10/ 90).
وقال النووي -رحمه الله-:
«ليس الكذَّابُ الذي يُصلِحُ بين الناس» معناه: ليس الكذاب المذموم الذي يُصلح بين الناس، بل هذا محسن. شرح مسلم (16/ 157).
وقال المظهري -رحمه الله-:
«ليس الكذَّابُ الذي يُصلِحُ بين الناس» يعني: مَنْ كَذَبَ لأجل أن يُصْلِحَ بين عدُوَّين لم يكنْ عليه بذلك الكذبِ إثمٌ، بل ثبتَ له فيه أجرٌ.
مثاله: أراد زيدٌ أن يُصلِحَ بين عمرٍو وبكرٍ، يجيء زيدٌ إلى عمرٍو ويقول: يسلِّمُ عليك بَكْرٌ ويمدحك، ويقول: أنا مُحِبُّه، وهكذا يجيءُ إلى بَكْرٍ ويبلغُه من عمرٍو السلامَ، فلا إثمَ على زيدٍ فيما يقول بين عمرٍو وبَكْرٍ مع أنه يسمَعُ مِنْ كلِّ واحدٍ منهما شتْمَ الآخر. المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 175).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«ليس الكذاب» فيه نفي المبالغة في الكذب.
«الذي يُصلح بين الناس» يعني: مَن كذَبَ ليُصْلِح بين الناس لم يكن عليه إثم ذلك الكذب، بل يثبت له أجرٌ. شرح المصابيح (5/ 239).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وكان حقُّ السياق أن يقول: ليس مَن يُصلح بين الناس كاذبًا، لكنه ورد على طريق القلب وهو سائغ. فتح الباري (5/ 299).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
«ليس الكذاب الذي يُصلح بين الناس» حاصله أن الكذب ورَفْع الحديث لإصلاح ذات البين جائز، وليس هو من النميمة والكذب المذموم، فإن النميمة رَفْعُ الحديث إشاعة له وإفسادًا. لمعات التنقيح (8/ 147).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ليس الكذاب» أي: ذو الكذب، «الذي» وفي رواية الجامع «بالذي يصلح بين الناس» أي: بكذبه. مرقاة المفاتيح (8/ 3150).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«ليس الكذاب» أي: إثم الكذب؛ من قبيل ذكر الملزوم وإرادة اللازم، أو معناه: ليس بكثير الكذب، «الذي يُصلح بين الناس» أي: يكذب للإصلاح بين المتباغِضَين؛ لأن هذا الكذب يؤدي إلى الخير وهو قليل أيضًا. دليل الفالحين (3/ 48).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
مَن كان ذا وجهين في الإصلاح بين الناس، فيواجه كل طائفة بوجه خير، وقال لكل واحدة منهما من الخير خلاف ما يقول للأخرى، فهو الذي يسمى بالمصلح، وفعله ذلك يسمى: الإصلاح، وإن كان كاذبًا. المفهم (6/ 89).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
قال المهلب: وإنما أَطْلَق -عليه السلام- للمُصلح بين الناس أن يقول ما عِلم من الخير بين الفريقين، ويسكت عمّا سمع من الشرِّ بينهم، لا أنه يُخْبِر بالشيء على خلاف ما هو عليه. إرشاد الساري (4/ 419).
وقال الشيخ حمزة محمد قاسم -رحمه الله-:
الصلح: عقد ينهي الخصومة بين المتخاصِمَين، ويسمى كل منهما مصالِحًا، والحق المتنازَع عليه مصالَحًا عنه، وما يؤديه أحدهما لخصمه بدل الصلح.
وهو نوعان: (أ) عام: ويشمل كل اتفاقية بين طرفين متنازِعَين تؤدي إلى إنهاء النزاع بينهما، سواء كانا زوجين أو مُتَداعِيَين، فردًا أو جماعة.
(ب) خاص: وهو الصلح بين المتداعِيَين أمام الحاكم الشرعي. منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري (4/ 51).
وقال النووي -رحمه الله-:
وأما كذبه لزوجته، وكذبها له، فالمراد به: في إظهار الودِّ والوعد بما لا يلزم، ونحو ذلك، فأما المخادَعة في منع ما عليه، أو عليها، أو أخذ ما ليس له أو لها، فهو حرام بإجماع المسلمين والله أعلم. شرح مسلم (16/ 158).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قال سفيان بن عيينة: لو أنَّ رجلًا اعتذر إلى رَجُل، يُحرِّف الكلام ويُحسِّنه؛ ليرضيه بذلك لم يكن كاذبًا. شرح المشكاة(10/ 3211).
وقال الدماميني -رحمه الله-:
قلتُ: وليس في تبويب البخاري ما يقتضي جوازَ الكذب في الإصلاح؛ وذلك أنه قال: بابٌ ليس الكاذبُ الذي يُصلح بين الناس، وسلبُ الكاذب عن المصلح لا يستلزمُ كونَ ما يقوله كذبًا؛ لجواز أن يكون صدقًا بطريق التصريح، أو التعريض، وكذا الواقع في الحديث؛ فإن فيه: «ليسَ الكذابُ الذي يُصلح بينَ الناس».
فإن قلتَ: لِمَ لم يُعبِّر في الترجمة بالكذب كما وقع في المتن؟
قلتُ: فَعَل ذلك تنبيهًا على أن نفيَ صيغة المبالغة غيرُ شرط ولا بدَّ، بل تثبتُ لمن لم يبالَغ ولم يَكْثُرْ ذلك منه. مصابيح الجامع (6/ 115).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
فهذا الكذب جائز؛ لِعِظَم المصلحة المترتب عليه على محظور الإخبار بخلاف الواقع، وكذا يجوز الكذب لتخليص محترم، بل يجب على مَن سُئل عن محترم قَصَد سائله عن إهلاكه أن يخفيه ولو باليمين، وليس في الحديث ما يدل على الحصر. دليل الفالحين (3/ 49).
قوله: «ويقول خيرًا»:
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ويقول خيرًا» أي: قولًا متضمنًا للخير دون الشر. مرقاة المفاتيح (7/ 3030).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- أيضًا:
«ويقول خيرًا» أي: لكلٍّ من المتخاصِمَين ما يفيد النصيحة المقتضية إلى الخير، والتقدير: كلام خير أو قول خير، أي: حسنًا، أو يقول كلام خير الذي ربما سمعه منه، ويدع شره عنه. مرقاة المفاتيح (8/ 3150).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«يقول: خيرًا»...ليس المراد نفي ذات الكذب بل نفي إثمه، فالكذب كذب، سواء كان للإصلاح أو لغيره، وقد يرخص في بعض الأوقات في الفساد القليل الذي يؤمل فيه الصلاح الكثير. إرشاد الساري (4/ 418-419).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «يقول: خيرًا»... قال العلماء: المراد هنا: أنه يخبر بما عَلِمَه من الخير، ويسكت عما علِمَه من الشر، ولا يكون ذلك كذبًا؛ لأن الكذب: الإخبار بالشيء على خلاف ما هو به، وهذا ساكت، ولا يُنْسَب لساكتٍ قول، ولا حُجَّة فيه لمن قال: يشترط في الكذب القصد إليه؛ لأن هذا ساكت. فتح الباري (5/ 299-230).
قوله: «ويَنْمِي خيرًا»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ويَنْمِي خيرًا» بفتح الياء وكسر الميم أي: ويبلِّغه لهما ما لم يسمعه منهما من الخير؛ بأن يقول: فلان يسلِّم عليك ويحبك، وما يقول فيك إلا خيرًا ونحو ذلك، وهذا ظاهر الحديث. مرقاة المفاتيح (8/ 3150).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
«ويقول: خيرًا، ويَنْمِي خيرًا» هو شكٌّ من الراوي، والمعنى واحد، يقال: يَنْمِي الحديث إذا رَفَعَه، وبلَّغه على وجه الإصلاح. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (17/ 17).
قال التوربشتي -رحمه الله-:
يقال: نَمَيْتُ الحديثَ: إذا بلَّغته على وجه الإصلاح وطَلَب الخير أَنْمِيْهِ، فإذا بلَّغته على وجه النميمة وإفساد ذات البين قل: نَمَّيته بالتشديد؛ وإنما لم يكن هذا النوع كذبًا لأن القصد فيه صحيح، ثم على قائله أن يُورِّي ما استطاع عن حقيقة القول بالكناية، فنقول: مثل قوله: أرجو أن لا يصدر عن صاحبك شيء تكرهه، وإني لا أظن أنه يقول فيك قولًا سيئًا، وقد سَمِعَ منه أخبث قول، وأفحش كلام، فيُورِّي عنه بقوله: لا أظن، وحقيقة القول أني لا أظن، بل أتحقق. الميسر في شرح مصابيح السنة (3/ 1081).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
«ويَنْمِي خيرًا» أي: يُبلِّغُ خيرَ ما سَمِعَه، ويدع شره، يقال: نَمَيْت الحديث -مخففًا- في الإصلاح، ونمّيته -مثقلًا- في الفساد، وكأن الأول من النماء؛ لأنه رفع لما يبلغه، والثاني من النميمة، وإنما نفى عن المصلح كونه كذا باعتبار قصدِه دون قوله؛ ولذلك نَفَى النعت دون الفعل. تحفة الأبرار (3/ 263).
وقال المظهري -رحمه الله-:
نَمَى يَنْمِي نميًا: إذا بَلَّغَ أحدٌ حديثَ أحدٍ على وجْهِ الإصلاح، ونَمَّى تنميةً: إذا بلَّغه على وجه الإفساد، ويَنْمِي أي: يُوصل حديثَ خيرٍ من أحد العدوَّين إلى الآخر؛ ليوقع بينهما صلحًا، ولا إثم في الكذب فيما يقول بين العدوَّين مما يوقع بينهما محبةً وصلحًا. المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 237).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
«ويَنْمِي خيرًا»... أي: يبلغ خيرَ ما سَمِعَه ويدع شرَّه، يقال: نَمَيْتُ الحديث مخففًا في الإصلاح...، وإنما نفى عن المصلح كونه كذابًا باعتبار قصده دون قوله؛ ولذلك نُفي النعت دون الفعل.
هذه أمور قد يضطر الإنسان فيها إلى زيادة القول، ومجاوزة الصدق؛ طلبًا للسلامة ودفعًا للضرر، وقد رخَّص في بعض الأحوال في اليسير من الفساد؛ لما يؤمّل فيه من الصلاح، فالكذب في الإصلاح بين اثنين هو أن يَنْمِي من أحدهما إلى صاحبه خيرًا، ويبلغه جميلًا، وإن لم يكن سمعه منه، يريد بذلك الإصلاح. الكاشف عن حقائق السنن (10/ 3211).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
وعن الأصيلي -رحمه الله-: أنه لا يجوز الكذب في شيء، وإنما يجوز الإلغاز، كما يقول للظالم: فلان يدعو لك، يعني: قوله في الصلاة: اغفر للمسلمين والمسلمات. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (17/ 18-19).
وقال الإمام مسلم -رحمه الله-:
قال ابن شهاب (الزهري): ولم أسمع يُرخَّص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرَّجُل امرأته وحديث المرأة زوجها. صحيح مسلم (4/ 2011).
وقال الطحاوي -رحمه الله-:
لم يكن ذلك إلا على القول الذي بمعاريض الكلام مما ليس قائله كاذبًا. شرح مشكل الاثار (7/ 359).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
الكذب ليس حرامًا لعينه، بل لما فيه من الضرر، والكلام وسيلة إلى المقاصد، فكل مقصود محمود يمكن أن يُتوصل إليه بالصدق والكذب جميعًا، فالكذب فيه حرام، وإن أمكن التوصل إليه بالكذب دون الصدق، فالكذب فيه مباح إذا كان تحصيل ذلك المقصود مباحًا، وواجب إذا كان المقصود واجبًا، كما لو رأى رجلًا يسعى وراء رَجُل بسيف ليضربه، وهو يعلم أنه ظالم، فسأله: هل رأيته؟ فإنه يجب عليه أن يقول: لا؛ لئلا يعين على سفك دم مسلم. كشف المشكل (4/ 459).
وقال الغزالي -رحمه الله-:
الكلام وسيلة إلى المقاصد، فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعًا فالكذب فيه حرام، وإن أمكن التوصل إليه بالكذب دون الصدق فالكذب فيه مباح إن كان تحصيل ذلك القصد مباحًا، وواجب إن كان المقصود واجبًا، كما أن عصمة دم المسلم واجبة، فمهما كان في الصدق سفك دم امرئ مسلم قدِ اختفى من ظالِمٍ فالكذب فيه واجبٌ، ومهما كان لا يتمُّ مقصود الحرب أو إصلاحُ ذات البين، أو استمالة قلب المجني عليه إلا بكذب فالكذب مباح، إلا أنه ينبغي أن يَحْتَرز منه ما أمكن، لأنه إذا فَتحَ باب الكذب على نفسه فيُخشى أن يتداعى إلى ما يُستغنى عنه وإلى ما لا يقتصر على حد الضرورة، فيكون الكذب حرامًا في الأصل إلا لضرورة. إحياء علوم الدين (3/ 137).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
الكذب كله محرم لا يحل منه شيء إلا هذه الثلاثة، فإنَّه رخص فيها لما يحصل بذلك من المصالح، ويندفع به من المفاسد، والأَوْلى ألا يكذب في هذه الثلاثة إذا وجد عنه مَنْدُوحَة، فإن لم توجد المندوحة أُعْمِلَت الرخصة.
وقد يجب ذلك بحسب الحاجة إلى تلك المصلحة، والضرورة إلى دفع تلك المفسدة، وما ذكرته هو -إن شاء الله- مذهب أكثر العلماء.
وقد ذهب الطبري: إلى أنه لا يجوز الكذب الصريح بشيء من الأشياء، لا في هذه الثلاثة، ولا في غيرها، متمسِّكًا بالقاعدة الكلية في تحريمه، وتأوَّل هذه الأحاديث على التورية والتعريض، وهو تأويل لا يعضده دليل، ولا تَعَارُض بين العموم والخصوص كما هو عن العلماء منصوص. المفهم (6/ 592).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
لا خلاف في جواز الكذب في هذا، واختُلف في الصورة الجائزة فيه، وما هو هذا الكذب المباح في هذه الأبواب؟ فحَمَلَه قومٌ على الإطلاق، وأجازوا قول ما لم يكن في ذلك لما فيه من الصلاحِ، وأنَّ الكذب المذموم إِنما هو ما فيه مضرة المسلمين...، وقالوا: لا خلاف أنَّ مَن رأى رجلًا يُريد أن يقتل مسلمًا، أو يَقْدِر على أن ينجيه منه بالكذب، أنه واجب عليه، مثل أنْ يقول: ليس هو ها هنا، أو ليس هو فلان، ونحو هذا، فإذا كان واجبًا هنا، فهو جائز فيما فيه الصلاح.
وقال آخرون -وهو مذهب الطبري-: لا يجوز الكذب في شيء من الأشياء، ولا الخبر عن شيء بخلاف مخبره عن شيء، وما جاء في هذا من الإباحة، فإنما هو مما لا يجوز في غيره للضرورة هنا، إنما هو على التورية، وطريق المعاريض، لا تصريح الكذب، مثل أن يَعِدَ زوجته بأن يغفر لها، ويحسن إليها، ونيَّته في ذلك إنْ قدَّر الله، أو إلى مدة ذلك، وثناؤه وإثابتها في غير هذا بكلمات مشتركة، وألفاظٍ محتملة، يُفهم منها ما يطيب قلبها، وكذلك في الإصلاح بين الناس، ونقل ما ينقل لهؤلاء عن هؤلاء، من كلام جميل، وقول حسن، وعُذْرٍ محتمل، وكذلك في الحرب، كما كان إذا أراد غزوة وَرَّى بغيرها، مثل أن يقول: هل لكم في قتال بني فلان؟ أو غزو بلد كذا، أو تأهبوا لغزو بلد كذا، وقد وجب غزو بني فلان، أو أنا أغزو بلد كذا، ونيَّته وقتًا آخر...، ويقول للجيش من عدوِّه: مات إمامكم الأعظم؛ ليدخُل الذعرُ قلوبهم، ويريد النَّوم، وشِبْه هذا، أو يقول: غدًا يقدم علينا مدد، وهو قد أعدَّ قومًا من عسكره ليأتوا في صورة المدد، فهذا من الخُدَع الجائزة، والمعاريض المباحة، فمثل هذا كله من المعاريض التي فيها مَنْدُوحَة عن الكذب، وتأوَّلوا قصة إبراهيم ويوسف منها أنها معاريض، ووجوه أُخَر معروفة. إكمال المعلم (8/77- 78).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
فيه: الرخصة لأنْ يقول في الإصلاح بين المسلمين ما لا يسمعه من الذكر الجميل، والقول الحسن؛ ليَسْتَلَّ به من قلب أخيه السَّخِيمَةَ (أي: الحقد والغل والبغضاء)، والدلالة على أنه ليس فيه بكاذب، ولا آثم. أعلام الحديث (2/ 1315).
وقال الشيخ ابن عثيمين-رحمه الله-:
فالإنسان إذا قصد الإصلاح بين الناس، وقال للشخص: إن فلانًا يثني عليك ويمدحك ويدعو لك وما أشبه ذلك من الكلمات، فإن ذلك لا بأس به. شرح رياض الصالحين (3/ 39).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
وفي الحديث دليل على عظم شأن الإصلاح بين الناس؛ لأنه أُبِيْحَ له ما قَبُحَ عقلًا وشرعًا، بل أوجب تارة فيه، ويُؤخَذ منه: شدة قُبْح السعي في إفساد ذات بينهم، وعِظم جُرْمِه وعقوبته. التنوير شرح الجامع الصغير (9/ 230).
وقال الشيخ حمزة محمد قاسم -رحمه الله-:
دل هذا الحديث على... جواز الكذب للإصلاح بين المتخاصِمِين؛ بأن يُنقل بينهم من كلام الخير ما لم يقولوه؛ لِيُلَيِّن قلوبهم. منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري (4/ 52).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
ويُؤخَذ منه: جواز كذب الإنسان لطيبة نفس أخيه ونحوه؛ لأنه إذا جاز للإصلاح بين اثنين، فليجز ليصلح بينه وبين أخيه. التنوير شرح الجامع الصغير (9/ 109).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
وفيه: جواز قول الرجل في الإصلاح ما لم يقله الآخر، والكذب لا يجوز إلا في ثلاث، هذا أحدها، وثانيها: أن يَعِدَ امرأته بشيء وينوي أن لا يفي؛ ليصلح أمرها، ثالثها: خدعة الحرب. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (17/18).
وللاستفادة من الرواية الأخرى ينظر (هنا)