«كلُّ عملِ ابنِ آدم يُضَاعَفُ، الحسنةُ عشْرُ أمثالها، إلى سبعمائة ضِعْفٍ، قال اللهُ -عزَّ وجلَّ-: إلَّا الصَّوْمَ، فإنَّه لي، وأنا أجزِي به، يَدَعُ شهوتَهُ وطعامَهُ من أجلي، للصَّائِمِ فرحتانِ: فرحةٌ عندَ فِطْرِهِ، وفرحةٌ عندَ لقاءِ ربِّه، ولَخُلُوفُ فيهِ أطيبُ عندَ اللهِ من رِيحِ المسْكِ».
رواه البخاري (7492)، ومسلم برقم: (1151) واللفظ له، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
ورواه أحمد برقم: (9714)، وابن ماجه برقم: (1638)، وزادا: «إلى ما شاء الله».
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«يَدَعُ شهوتَهُ»:
أي: يترك ما اشتهته نفسه من محظورات الصوم. مرقاة المفاتيح (4/ 1363).
قال المناوي -رحمه الله-:
الشهوة: نزوع النَّفْسِ إلى محبوب لا تتمالك عنه. التعاريف (ص: 440).
«خُلُوفُ»:
بضم الخاء: رائحة الفم الكريهة. اختصار صحيح البخاري وبيان غريبه، لأبي العباس القرطبي (2/ 45).
وقال الهروي -رحمه الله-:
الْخُلُوفُ: تَغَيُّرُ طَعْم الفَمِّ؛ لتأخير الطعام. تهذيب اللغة للأزهري (7/ 171).
«رِيْحِ الْمِسْكِ»:
المِسْكُ طِيبٌ معروف، وهو مُعَرَّبٌ، والعرب تسميه المَشْمُومَ، وهو عندهم أفضل الطّيب، ... قال الْفَرَّاءُ: المِسْكُ مُذَكَّرٌ، وقال غيره: يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، فيقال: هو المِسْكُ وهي المِسْكُ. المصباح المنير للفيومي (2/ 573).
وقال ابن الطيب الفاسي -رحمه الله-:
والمِسْكُ: أشرف الطِّيْبِ وأفضله، وكانت العرب لا تَعْدِل به غيره. شرح كفاية المتحفظ (ص: 586).
شرح الحديث
قوله: «كلُّ عملِ ابنِ آدَمَ يُضَاعَفُ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«كلُّ عمل ابن آدم» أي: كل عملٍ صالح لابن آدم «يُضاعف». مرقاة المفاتيح (4/ 1362).
وقال القاضي البيضاوي -رحمه الله-:
لما أراد بقوله: «كلُّ عمل» الحسنات من الأعمال، وَضَعَ الحسنة موضِع الضمير الراجع إليه. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/ 489).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
والمراد بالعمل هنا: الأعمال الصالحة؛ لأن السّيئة لا تُضاعَف. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (22/ 340).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله- أيضًا:
«يُضاعف له» بالبناء للمفعول؛ أي: يُضاعف له جزاؤه وثوابه عند الله تعالى. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (22/ 340).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«يُضاعف» أي: ثوابه؛ فضلًا منه تعالى. مرقاة المفاتيح (4/ 1362).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«كلُّ عمل ابن آدم يُضاعَف» ظاهره: أنَّ نفْس العمل يُضاعَف، ويُؤيِّده قوله: {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} النساء: 40، وقيل: المراد ثوابه؛ لقوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} الأنعام: 160. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (7/ 25-26).
قوله: «الحسنةُ عَشْرُ أمثالِهَا، إلى سبعمائةِ ضِعْفٍ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«الحسنة» مبتدأ وخبر، أي: جِنْسُ الحسنات الشامل لأنواع الطاعات مُضاعَف ومُقابَل «بعشر أمثالها»؛ لقوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} الأنعام: 160، وهذا أقل المضاعفة، وإلا فقد يَزْدَادُ «إلى سبعمائة ضِعْف» بكسر الضاد، أي: مِثْل، بل إلى أضعافٍ كثيرةٍ، كما في التأويل: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} البقرة: 245، وقوله: {وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ} البقرة: 261، وقال بعضهم: التقدير: حسَنَته، واللام عوض عن العائد إلى المبتدأ، وهو «كل» أو العائد محذوف، أي: الحسنة منه. مرقاة المفاتيح (4/ 1362).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«الحسنة» الواحدة تُضاعَف «بعشر أمثالها» وبما فوقه «إلى سبعمائة ضِعْف»، وبما فوق السبعمائة إلى ما شاء الله تعالى، مما لا يُقَادِر قَدْرَه إلا الله سبحانه. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (10/ 14).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله- أيضًا:
«الحسنة» الواحدة تجزئ «بعشر أمثالها» وهذا أقل المضاعفة، وإلا فقد يُزاد في التضعيف «إلى سبعمائة ضِعْف» فما فوقها إلى ما شاء الله. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (22/ 340).
وقال المظهري -رحمه الله-:
وسبب الزيادة من عشرة أمثالها إلى سبعمائة: إما لكمال إخلاص نية المتصدِّق، وإما لشدة استحقاق الفقير، وقد يُزاد الثوابُ عن سبعمائة ضعْفٍ، كما قال الله تعالى: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} البقرة: 261. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 9).
وقال السيوطي -رحمه الله-:
قال أبو البقاء (العكبري): في «عشر» وجهان: أحدهما: النصب، على تقدير: تُضاعَف الحسنة عشرَ أمثالها، أي: تصير، فهو مفعول ثانٍ. والثاني: الرفع، على أنه مبتدأ، وخبره هذه الجملة مفسرة بمعنى: التضعيف. عقود الزبرجد على مسند الإمام أحمد (2/ 472).
وقال القاضي البيضاوي -رحمه الله-:
والمعنى: أنَّ الحسنات يُضاعَف جزاؤها مِن عشرِ أمثالها إلى سبعمائة مِثْل، بحسب ما بيْنَها من التفاوت، ويدل على أدناها قوله تعالى: {مَن جَاءَ بِالَحسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} الأنعام: 160، وعلى أقصاها قوله: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} البقرة: 261. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/ 489).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «يُضاعَف، الحسنةُ بعَشرِ أمثالها» يعني: كلُّ طاعةٍ وخيرٍ إنْ لم تكن رياءً ونفاقًا أقلُّ ما يُعطَى صاحبُه عشرةُ أمثالها، وقد يُزاد إلى سبعمائة ضعْفٍ، والضعْف: المِثْل. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 9).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قال الطوفي: إنما كُتِبَت الحسنة بمجرد الإرادة؛ لأن إرادة الخير سبب إلى العمل وإرادة الخير خير؛ لأن إرادة الخير من عمل القلب. فتح الباري: 11/ 325.
وقال ابن حجر -رحمه الله- أيضًا:
واستُدِل بقوله: «حسنة كاملة» على أنها تُكْتَب حسنة مضاعفة؛ لأن ذلك هو الكمال؛ لكنه مشكل يلزم منه مساواة مَن نوى الخير بمن فَعَلَه في أن كلًا منهما يُكتب له حسنة. وأُجِيب: بأن التضعيف في الآية يقتضي اختصاصه بالعامل؛ لقوله تعالى: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ} الأنعام:160، والمجيء بها هو العمل، وأما النَّاوي فإنما ورد أنه يُكتَب له حسنة، ومعناه: يُكتب له مثل ثواب الحسنة، والتضعيف قدر زائد على أصل الحسنة، والعلم عند الله تعالى... والتحقيق: أن حسنة مَن همَّ بها تندرج في العمل في عشرة العمل، لكن تكون حسنة مَن همَّ بها أعظم قدرًا ممن لم يهمَّ بها، والعلم عند الله تعالى. فتح الباري (11/ 325-326).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
اعلم أن مَن همَّ بالحسنة فلم يعملها على وجوه: الوجه الأول: أن يسعى بأسبابها ولكن لم يدركها، فهذا يكتب له الأجر كاملًا؛ لقول الله تعالى: {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ} النساء: الآية100... الوجه الثاني: أن يهمَّ بالحسنة ويعزم عليها ولكن يتركها لحسنةٍ أفضل منها، فهذا يُثاب ثواب الحسنة العليا التي هي أكمل، ويثاب على همِّه الأول للحسنة الدنيا، ودليل ذلك: أن رجلًا أتى إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- حين فتح مكة، وقال: «يا رسول الله، إني نذرت إنْ فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس؟ فقال: صلِّ ها هنا، فكرر عليه، فقال له: شأنُك إذًا»، فهذا انتقل من أدنى إلى أعلى. الوجه الثالث: أن يتركها تكاسلًا، مثل أن ينوي أن يصلي ركعتي الضحى، فقَرَع عليه الباب أحدُ أصحابه وقال له: هيا بنا نتمشى، فترك الصلاة وذهب معه يتمشى، فهذا يثاب على الهمِّ الأول والعزم الأول، ولكن لا يثاب على الفعل؛ لأنه لم يفعله بدون عذر، وبدون انتقال إلى ما هو أفضل. شرح الأربعين النووية (ص: 370).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
واختُلف في قوله تعالى: {وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ} البقرة: 261، هل المراد المضاعفة إلى سبعمائة فقط أو زيادة على ذلك؟ فالأول هو المحقَّق من سياق الآية، والثاني مُحتمَل، ويؤيد الجواز سعة الفضل. فتح الباري (11/ 326).
وقال العراقي -رحمه الله-:
قوله: «إلى سبعمائة ضعف» فيه أن التضعيف قد ينتهي إلى سبعمائة ضعف، وهذا جود واسع، وكرم محض، وقد دل على ذلك قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} البقرة: 261، وفي الصحيحين عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى قال: «إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بيَّن ذلك فمَن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله -عزَّ وجلَّ- عنده حسنة كاملة، وإن همَّ بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة»، وهو صريح في أن التضعيف لا يقف على سبعمائة، بل قد يزيد عليها لمن أراد الله تعالى زيادته له، وهو أحد القولين في قوله تعالى: {وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ} البقرة: 261 بهذا التضعيف، والأول أصح. طرح التثريب (8/ 230).
وقال النووي -رحمه الله-:
الصحيح المختار عند العلماء: أن التضعيف لا يقف على سبعمائة ضعف، وحكى أبو الحسن -أقضى القضاة- الماوردي عن بعض العلماء: أن التضعيف لا يتجاوز سبعمائة ضعف، وهو غلط؛ لهذا الحديث (أي قوله: «إلى أضعاف كثيرة»). شرح صحيح مسلم (2/ 152).
قوله: «...إلى ما شاء الله»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«إلى ما شاء الله تعالى» مما لا يُقَادِرُ قَدْرَه إلا الله سبحانه. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (10/14).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
لم يقع في شيء من طُرق حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: «إلى أضعاف كثيرة» إلا في حديثه ... في الصيام، فإن في بعض طرقه عند مسلم: «إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله». فتح الباري (11/ 326).
وقال محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- معقبًا:
هكذا عزا الحافظ إلى المصنف بزيادة لفظ: «إلى ما شاء الله»، ولم أر هذه الزيادة في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عنده في كتاب الصيام، ولا في مستخرج أبي نعيم، ولا في مسند أبي عوانة الذي هو مستخرج على صحيح مسلم، فلْيُحَرَّر، والله تعالى أعلم. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (3/ 598- 599).
وقال الشيخ عبد الله بن مانع الروقي -حفظه الله-:
قوله: «كُل عمل ابن آدم له إلا الصيام» هذا يُفَسَّر بالرواية الأخرى: «كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله، إلا الصيام» وهذا أحسن ما قيل في هذا الاستثناء، وقد قيل غير هذا، ولكن هذا مِن أَمْثَل ما قيل.
والمعنى أنّ الله -عزّ وجلّ- يُجازي عليه الجزاء الكثير بحسب جُوده وكرمِه؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} الزمر: 10؛ ولأن الصيام فيه أنواع الصبر الثلاثة:
1 - صبر على الطاعة.
2 - صبر عن معصية الله.
3 - صبر على أقدار الله المؤلمة. شرح كتاب الصوم من صحيح البخاري (ص36).
قوله: «قال اللهُ -عزَّ وجلَّ-: إلَّا الصَّوْمَ، فإنَّه لي»:
قال الطيبي -رحمه الله-:
و«إلا» مُستثنى عن كلامٍ غير محْكِي دلَّ عليه ما قبله، والمعنى: أنَّ الحسنات يُضاعَف جزاؤها من عشر أمثالها إلى سبعمائة، «إلا الصوم» فإنَّ ثوابه لا يقادِر قَدْرَه، ولا يَقْدِرُ إحصاؤه إلا الله، فلذلك يتولَّى جزاءه بنفسه، ولا يكِلُه إلى ملائكته. الكاشف عن حقائق السنن (5/ 1574).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«قال الله تعالى: إلا الصوم» فإنَّ ثوابه لا يُقادِرُ قَدْرَهُ، ولا يحصي حَصْرَه إلا الله؛ لاشتماله على خصوصيات لا تُوجَد في غيره؛ ولذلك يتولَّى جزاءه بنفسه، ولا يَكِلُه إلى ملائكة قُدْسِه. مرقاة المفاتيح (4/ 1362).
قوله: «فإنَّه لي»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
أي: إنه أحبُّ العبادات إليَّ والمقدَّمُ عندي. فتح الباري (4/108).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«إلا الصيام فإنَّه» خالصٌ «لي» لا يطَّلع عليه غيري، أو لا يعلم ثوابه المترتب عليه، أو وصف من أوصافي؛ لأنه يرجع إلى صفته الصمدية؛ لأنَّ الصائم لا يأكل ولا يشرب، فتخلَّق باسمه الصمد. أو معناه: أنَّ الأعمال يُقتص منها يوم القيامة في المظالم إلا الصوم، فإنَّه لله ليس لأحد من أصحاب الحقوق أنْ يأخذ منه شيئًا، واختاره ابن العربي.فيض القدير (4/ 471).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
وقوله: «فإنه لي» إذا قال قائل: وبقية العبادات لمن؟ لله، فكيف قال «لي»؟ نقول: لأن الصوم أخْلَصُ ما يكون في العبادات؛ إذ إنه سرٌ بين العبد وبين ربه، يكون عندك في المجلس عشرة رجال منهم رجلٌ صائم لا تدري هل هو صائم أم لا؟، لكن الله يدري، والصلاة لا يمكن أن يقوم الإنسان بتطوع إلا وهو يشاهَد؛ لأنها أفعال وأقوال، وكذلك الصدقة، وكذلك الحج، وبقية الأعمال لا بد أن تُرَى، ولكن الصيام سرٌ بين العبدِ وبين ربِّه، فهو أعظم ما يكون إخلاصه، فإذا كان خالصًا لله ما فيه رياء، كما قال بعض السلف: الصيام لا رياء فيه؛ لأنه أمرٌ خفي، إلا إنْ تَسَلَّط الإنسان على نفسه، وقال للناس: أنا أصوم يومًا وراء يوم، هذا صار فيه رياء، لكن إذا كان بينه وبين ربِّه كان لا رياء فيه؛ لأنه لا يُرى. التعليقات على الكافي (3/233).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
فَنَبَّه -تبارك وتعالى- على فضل الصيام بقوله: «الصَّوْمُ لي»، وقد قال علماؤنا في ذلك سبعة أوجه:
الأول: إضافته إليه تشريفًا وتخصيصًا، كإضافة المساجد والكعبة تنبيهًا على شرف الكل.
الثاني: أنَّه أراد بقول: «الصَّوْمُ لي» الصوم لا يعلمه غيري؛ لأن كل طاعة لا يَقْدِر المرء أنْ يخفيها، أو إنْ أخفاها عن الناس لم يخفِها عن الملائكة، والصوم يمكنه أن يَنْوِيْهِ، ولا يعلم به مَلَك ولا بشر.
الثالث: أنَّ المعنى: الصوم صِفَتِي؛ لأن الباري تعالى لا يَطْعَم، فمِنْ فضْلِ الصيام على سائر الأعمال أنَّ العبد يكون فيه على صفة من صفات الرب -عز وجل-، وليس ذلك في أعمال الجوارح إلا في الصوم، فأما في أعمال القلوب فيكون ذلك كثيرًا، كالعلم والكلام والإرادة.
الرابع: أنَّ المعنى «الصَّوْمُ لي» أي: من صفة ملائكتي؛ فإنَّ العبد في حالة الصوم مَلَك؛ لأنه يَذْكُر، ولا يأكل، ويمتثل العبادة، ولا يقضي شهوة.
والخامس: «الصَّوْمُ لي» أنَّ المعنى: فيه أنَّ كل عمل أُعْلِمُكُم مقداره إلا الصوم، فإني انفردتُ بعلمه، لا يطَّلع عليه أحد.
السادس: أنَّ معنى «الصَّوْمُ لي» أي: يَقمع عدوي، وهو الشيطان؛ لأن سبيل الشيطان إلى العبد اقتضاء الشهوات، فإذا تركها العبد بقي الشيطان لقًّا (اللَّقَى: المُلْقَى على الأرض) لا حراك به، ولا حيلة له.
السابع: أنَّه روي في الأثر «أنَّ العبدَ يأتي يومَ القيامةِ بِحَسَنَاتِهِ، ويأتي قد ضَرَبَ هذا، وشَتَمَ هذا، وأخَذَ مالَ هذا، فَتُدْفَعُ حَسَنَاتُهُ لِغُرَمَائِهِ إلَّا الصِّيَام، يقولُ الله تعالى: هو لي ليسَ لكُمْ إليه سبيلٌ» وهذا إنْ صح بديعٌ. القبس في شرح موطأ مالك بن أنس (ص: 481- 482).
وقال المازري -رحمه الله-:
تخصيصه الصوم ها هنا بقوله: «لي» وإنْ كانت أعمال البر المخلَصة كلها له تعالى: لأجْلِ أنَّ الصَّوْمَ لا يمكن فيه الرِّياء كما يمكن في غيره من الأعمال؛ لأنه كفٌّ وإمْسَاكٌ، وحال المُمْسِكِ شِبعًا أوْ لِفَاقة كحال الممسك تقربًا، وإنما القصد وما يُبطنه القلب هو المُؤَثِّر في ذلك، والصلوات والحج والزكاة أعمال بدنية ظاهرة يمكن فيها الرياء والسُّمْعة، فلذلك خُصَّ الصوم بما ذكره دونها. المعلم بفوائد مسلم (2/ 61).
قوله: «وأنا أجزي به»:
قال العيني -رحمه الله-:
ظاهر سياقه أنه من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم-، وليس كذلك، إنما هو من كلام الله -عز وجل-، وهو من رواية النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ربه -عز وجل-، كذلك أخرجه البخاري في التوحيد من رواية محمد بن زياد عن أبي هريرة أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال يرويه عن ربكم -عز وجل- قال: «لكل عمل كفارة، والصوم لي وأنا أجزي به...» الحديث، وهو من جملة الأحاديث القدسية. عمدة القاري (22/ 61).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
«وأنا أجزي به» يعني -والله تعالى أعلم- أنه يجازي عليه جزاءً كثيرًا من غير أنْ يعين مقداره، ولا تضعيفه، وهذا كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجرَهُم بِغَيرِ حِسَابٍ} الزمر: 10، وهم الصائمون في أكثر أقوال المفسرين، وهذا ظاهر قول الحسن. المفهم (3/ 213).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«وأنا أجزي به» صاحبَه جزاءً كثيرًا، وأتولَّى الجزاء عليه بنفسي، فلا أَكِلُه إلى مَلَك مقرَّب ولا غيره؛ لأنه سرٌّ بيني وبين عبدي، لا يطَّلع عليه غيري كصلاة بغير طُهْرٍ، أو ثوب نجس، أو نحو ذلك مما لا يعلمه إلا الله. فيض القدير (4/ 471).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: «وأنا أجزي به» أي: وغيره من الحسنات اطَّلعتُ على مقادير أجُورها، كما قال: «كل حسنة بعشرٍ أمثالها» الحديث، والصوم موكَّل إلى سعة جوده، وغيب علمه، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغِيْرِ حِسَاب} الزمر: 10. إكمال المعلم (4/ 111).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «وأنا أجزي به» بيان لكثرة ثوابه؛ لأنَّ الكريم إذا أخبر بأنه يتولَّى بنفسه الجزاء اقتضى عظمته وسعته. عمدة القاري (10/ 259).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
المراد بقوله: «وأنا أجزي به» أني أَنْفَرِدُ بعلم مقدار ثوابه، وتضعيف حسناته، وأمّا غيره من العبادات، فقد اطَّلَعَ عليها بعض الناس. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (21/69).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«وأنا أجزي به» أي: أجزي بدون حساب، إذا كانت الأعمال الحسنة بعشرة أمثالها فهذا الحسنة بثوابٍ لا يعلمه إلا الله، ثوابٍ على الله تعالى هو يجزي به، وما أعظم الثواب إذا كان من أكرم الأكرمين سبحانه وتعالى!. تعليقات ابن عثيمين على الكافي لابن قدامة (3/233).
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام -رحمه الله-:
يقول: فأنا أتولَّى جزاءه على ما أُحِبّ من التضعيف، وليس على كتابٍ كُتِبَ له، ومما يُبيِّن ذلك: قوله -عليه السلام-: «ليس في الصوم رياء»؛ وذلك أنَّ الأعمال كلها لا تكون إلا بالحركات إلا الصوم خاصة، فإنما هو بالنية التي قد خَفِيَت على الناس، فإذا نواها فكيف يكون ها هنا رياء؟ هذا عندي -والله أعلم- وجه الحديث. غريب الحديث (1/ 326).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
والموجِب لاختصاص الصوم بهذا الفضل أمران: أحدهما: أنَّ سائر العبادات مما يَطَّلع عليه العباد، والصوم سرٌّ بينه وبين الله تعالى، يفعله خالصًا لوجه الله تعالى، ويعامِله بها طالبًا لرضاه، وإليه أشار بقوله: «فإنَّه لي». وثانيهما: أنَّ سائر الحسنات راجعة إلى صَرْفِ المال، واشتغال البدن بما فيه رضاه، والصوم يتضمَّن كَسْر النَّفْس، وتعريض البدن للنقصان والتحول، مع ما فيه من الصبر على مضض الجوع، وحُرقة العطش، فبينه وبينها أمد بعيد. الكاشف عن حقائق السنن (5/ 1574).
وقال المناوي -رحمه الله-:
وقيل: لم يُعْبَدْ به غير الله، فلم تُعظِّم الكفارُ في عصرٍ قط آلهتهم بالصوم، وإنْ عظَّموها بالسجود وغيره، واستحسنه ابن الأثير، وللطالقاني في ذلك جزء مفرد، جمع فيه نحو خمسين قولًا. فيض القدير (4/ 471).
قال ابن حجر-رحمه الله-:
قال ابن الجوزي: جميع العبادات تظهر بفعلها، وقلّ أن يَسلَم ما يظهر من شَوْبٍ، بخلاف الصوم. وارتضى هذا الجواب المازري وقررهُ القُرطبي؛ بأن أعمال بني آدم لما كانت يمكن دخول الرّياء فيها أُضيفت إليهم بخلاف الصوم، فإن حال المُمسك شبعًا مثل حال المُمسك تقرّبًا، يعني: في الصورة الظاهرة.فتح الباري(4/107).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «إلا الصيام فإنه لي» اختُلف في معنى هذا على أقوال: أحدها: أنَّ أعمال بني آدم يمكن الرياء فيها فيكون لهم إلا الصيام، فإنه لا يمكن فيه إلا الإخلاص؛ لأن حال الممْسِك شِبَعًا كحال الممسك تقربًا، وارتضاه المازري.
وثانيها: أنَّ أعمال بني آدم كلها لهم فيها حظٌّ إلا الصيام فإنهم لا حظَّ لهم فيه؛ قاله الخطابي.
وثالثها: أنَّ أعمالهم هي أوصافهم، ومناسبة لأحوالهم إلا الصيام؛ فإنه استغناء عن الطعام؛ وذلك من خواص أوصاف الحق -سبحانه وتعالى-.
ورابعها: أنَّ أعمالهم مضافة إليهم إلا الصيام، فإن الله تعالى أضافه إلى نفسه تشريفًا، كما قال: {بَيْتِيَ} البقرة: 125، و{عِبَادِي} البقرة: 186.
وخامسها: أنَّ أعمالهم يُقتص منها يوم القيامة فيما عليهم إلا الصيام فإنه لله، ليس لأحد من أصحاب الحقوق أنْ يأخذ منه شيئًا، قاله ابن العربي. وقد كنتُ استحسنتُهُ إلى أنْ فكَّرتُ في حديث المقاصَّة، فوجدتُ فيه ذِكْر الصوم في جملة الأعمال المذكورة للأخذ منها، فإنه قال فيه: «هل تدرون مَن المفلس؟ قالوا: «المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: المفلس هو الذي يأتي يوم القيامة بصلاة وصدقة وصيام، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وضرب هذا، وسفك دم هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فَنِيَت حسناته قبل أن يَقضي ما عليه؛ أُخِذ من سيئاتهم فطُرح عليه، ثم طرح في النار»، وهذا يدلُّ على أنَّ الصوم يُؤخَذ كسائر الأعمال.
وسادسها: أنَّ الأعمال كلّها ظاهرة للملائكة، فتكتبها إلا الصوم، وإنما هو نية وإمساك، فالله يعلمه، ويتولَّى جزاءه؛ قاله أبو عبيد.
وسابعها: أنَّ الأعمال قد كُشفت لبني آدم، مقادير ثوابها، وتضعيفها إلا الصيام، فإنَّ الله يُثيب عليه بغير تقدير، ويشهد لهذا مساق الرواية الأخرى التي فيها: «كل عمل ابن آدم يضاعف؛ الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله: إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به»، يعني -والله تعالى أعلم-: أنه يجازي عليه جزاءً كثيرًا من غير أنْ يُعيِّن مقداره ولا تضعيفه، وهذا كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} الزمر: 10، وهم الصائمون في أكثر أقوال المفسرين، وهذا ظاهرُ قولِ الحسن، غير أنه قد تقدَّم، ويأتي في غير ما حديث: أنَّ صوم اليوم بعشرة، وأن صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وصيام رمضان صيام الدهر، وهذه نصوص في إظهار التضعيف، فَبَعُدَ هذا الوجه، بل بطل.
والأَوْلى حمل الحديث على أحد الأوجه الخمسة المتقدِّمة؛ فإنها أبعد عن الاعتراضات الواقعة، والله تعالى أعلم. المفهم (3/ 211-213).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
وهذه الوجوه (السابقة التي ذكرها القرطبي) لا تكادُ تخلو من إشكالٍ أو اعتراضٍ، أو عدم تخليص، أو تعقيد في المجاز، أو عدم بيان وجه المجاز في اللفظ، ونذكر الآن ما يُيسِّرُ الله تعالى: أما الوجه الأول: فيظهر من قوله: "إنَّ أعمال بني آدم يمكن الرياء فيها فتكون لهم" أنَّ معنى كونها لهم أنها باطلةٌ ليست لله؛ كما جاء: «ولا تقولُوا: للهِ والرحمِ؛ فإنَّه للرحمِ، وليسَ للهِ فيه شيءٌ» أو كما قال، وهذا باطل بالضرورة إنْ أخذنا الكلام على ظاهره؛ لأنَّ إمكان الرياء لا يكون سببًا لإبطال العمل، إنما يكون سببًا لإمكان إبطال العمل، فيصير التقدير: كلُّ عملِ ابن آدم يمكن أن يكون له -أي: يمكن أنْ يكون باطلًا بسبب ريائه- إلا الصيام، فإنه لا يمكن أنْ يكون باطلًا بسبب الرياء؛ لأنه إخلاصٌ مَحْضٌ كما ذكر، وهذا يقتضي أنَّ الرياء لا يدخل الصوم، وليس كذلك، فإنَّه يمكن أنْ يُراءى به كغيره من الأعمال، فإنه يمكن أنْ يُظهِر الصائمُ من الحالات والهيئات ما يُشعر بصومه؛ رياءً وطلبًا للعَرَضِ الدنيويِّ، نعم حصول الإخلاص فيه أيسرُ من حصوله بالأعمال الظاهرة التي تتوقَّفُ على الجوارح، ولكنْ يشاركُ الصومَ في هذا سائرُ ما يُثاب عليه من النيات والعزوم والأعمال القلبية؛ كالتوكل على الله، والتفويض إليه، فإنها لا يَظهر فيها عملٌ، كما لا يظهر في الصوم المَنْوِيِّ مع الإمساك عمل.
وقد صرَّح الحديثُ الصحيح بالثواب على الترك مع النية من غير إظهار عمل، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: «قالَتِ الملائكةُ: ربِّ، ذاكَ عبدُك يريدُ أن يعملَ سيئةً، وهو أبصرُ به، فقال: ارقُبُوه، فإنْ عملَهَا فاكتبوها له بمثلها، وإن تركها فاكتبوها له حسنة، إنما تركها من جَرَّايَ» أي: من أجلي، فهذا تركٌ اقترنَ به نيةٌ من غير عمل ظاهر، وقد كتب له حسنة، وهو غير الصوم، ولا يكون علة اختصاص الشيء بأمر مشترك بينه وبين غيره.
فإن قلتَ: لم تصنعْ أكثرَ من إبداء صورة -أو صور غير الصوم- تكونُ لابن آدم، وليس فيه أكثر من تخصيصِ عمومِ: «كلُّ عملِ ابنِ آدمَ لهُ إلا الصومَ» ولا إنكارَ في تخصيص العموم. قلتُ: لا ننكرُ أن يُخَصَّ هذا العموم إذا ثبت أنَّ ها هنا عملًا آخر غير الصوم يكون لابن آدم، وإنما أنكرتُ تسليمَك اختصاص الصوم بكونه لابن آدم دونَ سائر أعماله، معلِّلًا لهذا الاختصاص بعلة لا تختص بالصوم، فليس هذا مُجرَّد تخصيص العموم، فإنه لو قام دليل على تخصيص العموم لخصصناه، ولم يلزم منه هذا المنكر الذي أنكرناه، فهذا إنما نشأ مِن جَعْلِكَ علةَ الاختصاص ما هو مشتركٌ.
وأما الوجه الثاني: وهو أنَّ أعمال بني آدم كلّها لهم منها حظٌّ إلا الصيام، فإنه لا حظَّ لهم فيه؛ فإما أنْ يُعنى بالحظِّ الحظَّ الدنيوي أو الأخروي، فإنْ أراد به الحظَّ الدنيوي؛ بمعنى: أنَّ لهم في الأعمال التي هي غير الصوم ما يُوافِق أغراضَهم ويُلائِم طباعَهم إلا الصوم، فهذا لا يصح؛ لأن ها هنا أعمالًا كثيرة هي أشقُّ من الصوم، وأصعب على النفس، وأبعد من موافقة الطباع، والغرض الدنيوي؛ كضرب الرقاب في سبيل الله، وقطع الأيدي، والقيام الطويل في الليالي الطوال، وما لا يُحصى من الأعمال المُشِقَّة، التي لا تُوافِق الطبع، ولا فيها حظٌّ للنفس دنيويٌّ. وإنْ أراد به الحظَّ الأخروي وهو الثواب، فالصوم مشترِك مع غيره في ذلك، لمن يقصد بعمله الثواب والأجر الأخروي، ولا اختصاصَ للصوم بذلك، وكذلك من لا يقصد بعمله الثوابَ والجزاء لا فرقَ عنده بين الصوم وغيره في سقوط حظِّه من قصد الثواب والجزاء، وإنْ أراد بالحظ ما يرجع إلى الرياء فهو الوجه الأول، وقد قدَّمنا ما فيه.
وأما الوجه الثالث: وهو أنَّ أعمالَهم هي أوصافهم، مناسبةٌ لأحوالهم، إلا الصيام، فإنه استغناء عن الطعام؛ وذلك من خواصِّ الحق -سبحانه وتعالى-، فهذا عندي من المجاز، ولكن يحتاج إلى بيان نوعه من أنواع المجاز، ووجه العلاقة.
فنقول: هذا يجري مجرى قول الإنسان لمن ذُكر له فعلٌ عن غيره: هذا له؛ بمعنى: أنه مناسب ولائق بأحواله وأفعاله، ووجه المجاز فيه: أنَّ اللام تقتضي الإذن في الفعل، والإذن فيه ميسَّر لفعله؛ كما أنَّ المنع منه مُعسَّر لفعله، وما عليه الإنسان من الأخلاق والطباع إذا اقتضت شيئًا تيسَّر فعله عليه بسبب خُلُقه وطبعه وملائمة الفعل له، فقد يشابهُ تيسُّرُ الفعل بمقتضى الخِلْقة والطبيعة والأحوال تيسِّرُهُ بسبب الإذن والإباحة له، فأطلقَ على تيسره بالخلق والطبيعة الصيغةَ المستعملةَ في الإذن؛ لاشتراكهما في تسبب التيسير.
ويلزم على قوله: «وذلك من خصائص الحق -سبحانه وتعالى-» أنْ يكون الملائكةُ -صلوات الله وسلامه عليهم- يأكلون ويشربون، وهذا أقلُّ ما يلزم هذا القائل، عليه أن يقيمَ دليلًا شرعيًا يقتضي الخبر عنهم بذلك، حتى يصحَّ له أنْ يجزم الحُكْم عليهم به، هذا مع ما تقرَّر في نفوس المؤمنين وغيرهم من خلافِ ما يقتضيه قولُه، وتنزيهِ الملائكة عن الأكل والشرب.
وقد ذكر بعضهم في الحديث ما معناه: أنه صفةُ ملائكتي، كما سنذكره، وهذا مخالفٌ لما قال، ومع الاختلاف فلا بدَّ من دليل يدلُّ على ما جزم به.
وأما الوجه الرابع: وهو أنَّ أعمالهم مضافة إليهم إلا الصيام، فإنَّ الله تعالى أضافه إلى نفسه تشريفًا، كما قال: {نَبِّئْ عِبَادِي} الحجر: 49، وهذا وجه قريب، فإنَّ إضافةَ التشريف معلومةٌ، غيرَ أنه ينبغي تتبُّعُ ألفاظِ الكتاب والسُّنة حتى لا يبقى فيها شيءٌ أضيفَ للهِ تعالى غير الصوم.
وقول هذا القائل: كما قال: {نَبِّئْ عِبَادِي} الحجر: 49، فليس كما يُظَنُّ به من قوله تعالى: «فإنه لي»، وهذه الإضافة في «الصوم لي» ليست كذلك؛ فإنه ليس في «الصوم لي» من معنى إضافة التشريف ما في قوله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي} الحجر: 49، و{عَبْدَنَا} ص: 41، فإن اللام للمِلْكِ أو الاختصاص؛ وذلك لا يُقصد به تشريف بنفسه، فإن لله ما في السماوات وما في الأرض، وليس القصدُ تشريفَ كل ما في السماوات وما في الأرض، ولا يُفهم منه ذلك، بخلاف قوله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي} الحجر: 49، و{عَبْدَنَا} ص: 41.
وأما الوجه الخامس: وهو أنَّ أعمالهم يقتصُّ منها يوم القيامة فيما عليهم إلا الصيام، فإنه ليس لأحد من أصحاب الحقوق أنْ يأخذَ منه شيئًا، فهذا الوجه الحَسَن، وإن حَسُنَ من حيث انطباقِه على اللفظ من غير تكلُّفٍ، ولا مجازٍ معقَّد، إلا أنه لا يجوز أنْ يقالَ به إلا أنْ يرِدَ توقيفٌ بنصٍّ يقتضيه، وأما مُجرَّد الاحتمال فلا يجوز، فلو لم يكن إلا هذا لكفى في التوقف عن القول به، لا سيَّما مع ما ذكره أبو العباس (القرطبي) وساقه من حديث المُقاصَّة، وقوله: وهذا يدل على أنَّ الصيام يُؤخَذ كسائر الأعمال، وظاهر الحديث كما ذَكر، إلا أنه لو وُجدَ دليل صحيح على أنَّ الصومَ لا يُؤخَذ في القصاص، أمكنَ الجواب عن العمل بظاهر حديث المُقاصَّة، وإذا لم يَرِد فلا يجوز العدول عن الظاهر لمُجرَّد احتمالٍ لا دليلَ عليه.
وقول أبي العباس (القرطبي): قاله ابن العربي، يُفهم منه أنه جعله قولًا له مرضيًّا، وليس الأمر على ذلك فيما هو على ذهني، وإنما حكاه.
وأما الوجه السادس: وهو أنَّ الأعمال كلها ظاهرة للملائكة، فتكتبها الملائكة، إلا الصوم، فإنما هو نية وإمساك، فالله يعلمه، ويتولَّى جزاءَه، فهذا، وإن قَرُب في قوله: «لي» بأن يكون معناه: أني منفردٌ بالاطلاع عليه، لكنَّ تنزيلَ قوله: «كلُّ عملِ ابنِ آدمَ له» على أنه تَطَّلِعُ عليه الملائكة، بعيدٌ لا يتوجَّهُ إلا بمجازِ تعقيد.
وأما الوجه السابع: فلم أزل أعتقد أنه المراد بالحديث المطلق؛ لقوة دلالته على أنَّ عملَ ابن آدم مقدَّرٌ بعشرة أمثاله إلا الصوم، فإنه غير مُقدَّر، بل أُبهمَ ثوابُه تعظيمًا له؛ لتذهب النفس في تعظيم ثوابه كلَّ مذهب، وهذا الحديث قريب من النصوصية في التقدير لغير الصوم، وعدم التقدير في الصوم.
والذي أورده أبو العباس (القرطبي) من أنَّ صومَ اليوم بعشرة، وأنَّ صيامَ ثلاثة أيام من كل شهر، وصومَ رمضان صيامُ الدهر، وقوله: وهذه نصوص في إظهار التضعيف، فبَعُد هذا الوجه، بل بطل.
فنقول: إنَّ الحديث الذي فيه تفسيرُ كونها له بعشرة، واستثناء الصوم عن ذلك، لا شيءَ أقوى منه في تفسير هذا اللفظ، وانطباقه عليه، وهو حديث صحيح، فيتعيَّن المصيرُ إليه، وما يَرِدُ عليه إن أمكن عنه جواب فذاك، وإلا قلنا: بأنه المراد، ولو وقف علينا الجواب، وكم من لفظ متبيِّن غير خافٍ في الدلالة، يرِدُ عليه ما يَعجزُ عن جوابه بعضُ الناس.
والذي تمكَّن عندي أنْ يُجاب عن هذا: بأنَّ التقدير محمول على التقدير في أصل تضعيف الثواب الذي وجب بالوعد الكريم أنْ لا يُنقصَ عنه، وما زادَ على العشر إلى السبعمائة فالأمرُ فيه مفوَّضٌ إلى مُجرَّد المشيئة، لا أنه داخل في أصلِ وضعِ الثواب، والوعد به الذي يوجب وقوعه.
وأما الصوم فإنه في أصل وضع الثواب غيرُ مُقدَّر بشيء معين يكون الزائد عليه غير موعود به، بل الموعود عليه في الصوم ثوابٌ غير مقدَّر بعدد في أصل وضع الثواب، وهذا المعنى لا ينافي أنْ يحصلَ تحت هذا الأمر العظيم عددٌ يُذكرُ؛ لا على معنى تقييد الوعد به، بل لأنه فردٌ من أفراد ما تعلَّق الوعد به من عدم انحصار الوعد في عدد.
فالحاصل: أنَّ الأعمالَ غيرُ الصوم، وتقديرَها بالعشر هو الموعود به الذي يجب وقوعُهُ بالوعد، والصومُ لا تقديرَ فيه في أصل وضع الثواب، وما يذكر من عدد فلأنه فرد؛ أي: من الموعود به، لا أنه مُتعلَّقُ الوعد في أصل وضع الثواب. شرح الإلمام بأحاديث الأحكام (3/164- 173).
قوله: «يَدَعُ شهوتَهُ وطعامَهُ من أجلي»:
قال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «يدع شهوته، وطعامه» جملة مستأنَفة، واردة بيانًا لموجِب الحُكْم. الكاشف عن حقائق السنن (5/ 1574).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «يَدَع شهوتَه» أي: يترك ما اشتهتْه نفسُه من اللذات والاستمتاعات التي هي لا تجوز للصائم. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 9).
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«يدع شهوته» أي: يترك ما اشْتَهَتْهُ نفسه من محظورات الصوم، «وطعامه» تخصيص بعد تعميم، أو الشهوة كناية عن الجماع، والطعام عبارة عن سائر المفطرات. مرقاة المفاتيح (4/ 1363).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
قوله: «يدع شهوته» أي: ما تشتاق النفس إليه. دليل الفالحين (7/ 26).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
والمراد بالشهوة في الحديث شهوة الجماع؛ لعَطْفِها على الطعام والشراب، ويُحتمل: أنْ يكون من العام بعد الخاص. فتح الباري (4/ 107).
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
وقدَّم الجماع اهتمامًا بشأنه، فإنه أقبح مفسداته. مرقاة المفاتيح (4/ 1363).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«وطعامه» أراد به ما يُطْعَم، فشمل الشراب، «مِن أَجْلِي» أي: بسببي. دليل الفالحين (7/ 26).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «يدع شهوته وطعامه من أجلي» المراد بشهوته: شهوة الجماع، والمراد: أنَّه جاهَد نفسه طول نهاره مع مَيْل نفسه إلى ما جاهدها عليه، فأمَّا مَن لم يعرض له ذلك، فغيره أفضل منه، وإنما حملناه على الجماع؛ لأنَّه عَطَف عليه الطعام، ويُحتمل: أنْ يكون من الخاص بعد العام، وفي رواية ابن خزيمة: «يدع الطعام والشراب من أجلي، ويدع لذته من أجلي، ويدع زوجته من أجلي». التحبير لإيضاح معاني التيسير (6/ 176).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
(و)لا شك أنَّ مَن لم يعرض في خاطره شهوة شيء من الأشياء طول نهاره إلى أن أفطر ليس هو في الفضل كمن عرض له ذلك، فجاهد نفسه في تركه. فتح الباري (4/ 107).
قوله: «مِن أجلي»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«من أجلي» أي: من جهة أمري، وقصد رضائي وأجري. مرقاة المفاتيح (4/ 1363).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وقوله: «من أجلي» تنبيهٌ على الجهة التي بها يستحق الصوم أنْ يكون كذلك، وهو الإخلاص الخاص به. المفهم (3/ 213).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «من أجلي» تعليل لاختصاصه بعِظَم الجزاء. حاشية السندي على سنن ابن ماجه (1/ 501).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
وهذه الجملة التي هي «يدع شهوتَهُ وطعامَهُ من أجلِي» تقتضي التعليل بها لما سبقها؛ أي: تقتضي تعليل ترتيب الجزاء على هذا الأمر؛ أعني: ترك الشهوة والطعام لأجل الله تعالى، والجُمَل قد تفيدُ معنى التعليل كثيرًا. شرح الإلمام بأحاديث الأحكام (3/ 230).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله- أيضًا:
فقولُه تعالى: «يدع شهوتَه وطعامَه من أجلِي» يحتمل أمرين: أحدهما: أنْ يكون تعليلًا للأمر؛ أي: أنه فعل ذلك بسبب أمري له بالصوم، فلا يلزم أنْ يكون فِعْلُ ذلك معلِّلًا لفعله بأنه لأجل الله تعالى. ويحتمل المعنى الآخر: وهو أنْ يكون ممدوحًا على كونه فَعَلَ ذلك لأجل الله تعالى؛ أي: مقصود أنه كونه لله تعالى. شرح الإلمام بأحاديث الأحكام (3/ 232).
قوله: «للصَّائِمِ فرحتانِ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«للصائم فرحتان» أي: مرَّتان من الفرح عظيمتان: إحداهما: في الدنيا، والأخرى في الآخرة، «فرحةٌ عند فطره» أي: إفطاره، بالخروج عن عُهدة المأمور، أو بوجدان التوفيق لإتمام الصوم، أو بالأكل والشّرب بعد الجوع والعطش، أو بما يرجوه من حصول الثواب، وقد ورد: «ذهب الظمأ، وثبت الأجر»، أو بما جاء في الحديث من أنَّ «للصائم عند إفطاره دعوة مستجابة». «وفرحةٌ عند لقاء ربه» أي: بنيل الجزاء، أو حصول الثناء، أو الفوز باللقاء. مرقاة المفاتيح (4/ 1363).
وقال السندي -رحمه الله-:
«للصائم فرحتان» أي: يفرح حينئذٍ طبعًا، وإن لم يأكل؛ لما في طبع النّفس من محبة الإرسال، وكراهة التَّقيُّد، قيل: يُحتمل: أنَّ هذه هي فرحة النفس بالأكل والشرب، ويُحتمل: أنها فرحها بالتوفيق؛ لإتمام الصوم، والخروج عن العهدة. وقوله: «عند لقاء ربه» أي: ثوابه على الصوم. حاشية السندي على سنن ابن ماجه (1/ 501-502).
قال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
أي: فَرِحَ بزوال عطشه وجوعه حين أُبيح له الفِطر، وهذا الفرح طبيعي، وهو السابق للفهم. وقيل: إنَّ فرَحَهُ بفطره؛ إنما هو من حيث إنه: تمام صومه، وخاتمة عبادته، وتحقيق رِيِّه، ومعونته على مستَقْبَلِ صومه. المفهم (3/ 216).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
ولا مانع من الحمل على ما هو أَعم مما ذُكر، فَفَرَحُ كلُّ أَحد بحسبه؛ لاختلاف مقامات الناس في ذلك، فمنهم من يكون فرحه مباحًا وهو الطبيعي، ومنهم من يكون مستحبًا، ومنهم من يكون سببه شيءٌ مما ذَكَرَهُ (القرطبي). فتح الباري (4/ 118).
قوله: «فرحةٌ عندَ فطْرِهِ، وفرحَةٌ عندَ لقاءِ ربِّهِ»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «للصائم فرحتان» بيَّنهما بقوله: «فرحةٌ عند فطره» قيل: لزوال الجوع، والعطش، وقيل: لإتمام الصوم، والمثوبة. قلتُ: أولهما، ويرشد له الدعاء عند الإفطار: «اللهم لك صمنا، وعلى رزقك أفطرنا». قوله: «وفرحةٌ عند لقاء ربه» لما يناله من الجزاء الذي أخبر عنه بقوله: «وأنا أجزي به» وغير ذلك مما ذُكِر في جزاء الصيام. التحبير لإيضاح معاني التيسير (6/176- 177).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
إذا أفطر فَرِحَ، وهذا فَرَحُ الطبع، فأمّا العقل فإنه يفرح بتمام صومه، وسلامته من الآفات. كشف المشكل (3/ 167).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
قوله: «للصائمِ فرحتانِ: فرحة عند الإفطار» بلذَّة الطعام، وقال أهل العبادة: فرحته تمام الصيام، وإذا لقي الله تعالى كان أشد فرحًا. القبس في شرح موطأ مالك بن أنس (ص: 482).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
أما فرحته عند لقاء ربه، فبيِّنة؛ لما يراه من الثواب، وحُسن الجزاء، كما قال في الرواية الأخرى: «إذا لقي الله، فجزاه فَرِحَ». وأما عند إفطاره فلتمام عبادته، وسلامتها من الفساد، وما يرجوه من ثوابها، وقد يكون معناه: لما طُبِعَت النفس عليه من الفرح بإباحة لذة الأكل، وما مُنِعَ منه الصائم، وحاجته إلى ذهاب ألم الجوع عنه، وهو ظاهر في بعض الروايات أنه «إذا أفطر فَرِحَ بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه». إكمال المعلم (4/ 112-113).
وقال النووي -رحمه الله-:
قال العلماء: أما فرحته عند لقاء ربّه فبما يراه مِن جزائه، وتذكُّر نعمة الله تعالى عليه بتوفيقه لذلك، وأما عند فطره فسببها تمام عبادته. شرح صحيح مسلم(8/ 31).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
إنَّ للصائم فرحتين، هما مِن أول الجزاء، إذا أفطر فرح بما أدَّاه من طاعة مولاه، وبما أنعم به عليه من نعمائه، وإذا لقي الله تعالى فجزاه -أعطاه أجر صومه- فَرِحَ، {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} يونس: 58. التنوير شرح الجامع الصغير (3/ 408).
قوله: «ولَخُلُوفُ فِيْهِ»:
قال ابن علان -رحمه الله-:
«ولَخُلُوف» بفتح اللام، أي: لام جواب القسم، أكَّد به دفعًا لما يستبعد من الحكم بأَطْيَبِيَّتِهِ، مع كونه مُسْتَقْذَرًا عند الناس. دليل الفالحين (7/ 26).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«لخُلُوف» بضم الخاء، وخَطَّؤُوا مَن فتحها: تَغَيُّر رائحة فمِّ الصائم. فيض القدير (4/ 471).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
وأما الخُلُوف فهو تغير ريح الفم، يقال: خَلُفَ فمُهُ يخلُف خُلُوفًا، وكثير من أصحاب الحديث يقولون: ولخَلوف بفتح الخاء؛ وهو غلط؛ لأن الخَلُوف هو الذي بَعُد وتَخَلَّفَ، قال النمر بن توْلب: جزى الله عني جمرة ابنة نوفل *** جزاء خَلُوف بالأمانة كاذب. كشف المشكل (3/ 167-168).
قال ابن علان -رحمه الله-:
أي: لتَغَيُّر «فِيْهِ» الناشئ عن الصوم، الكائن من بعد الزوال؛ لأن التغيُّر قَبْلَه قد يُحال على ما أَكَلَه وقت السحر، بخلافه بعده، فيتمحَّض كونه أَثره. دليل الفالحين (7/ 26).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
والخُلُوف: رائحة الفم بترك تناول الطعام. الإفصاح (6/ 88).
وقال الباجي -رحمه الله-:
الخُلُوف: تغيُّر رائحة فمِّ الصائم، وإنما يَحْدُثُ مِن خُلُوِّ المعدة بترك الأكل، ولا يذهب بالسواك؛ لأنها رائحة النَّفَس الخارج من المعدة، وإنما يذهب بالسواك ما كان في الأسنان من التَّغيُّر. المنتقى شرح الموطأ (2/ 74).
قوله: «أطيبُ عندَ اللهِ من ريح المسكِ»:
قال المناوي -رحمه الله-:
قوله: «أطيب عند الله من ريح المسك» أي: عندكم فضل ما يُستَكْرَه من الصائم على أطيب ما يُسْتَلذ مِن جِنْسِه؛ ليُقاس عليه ما فوقه من آثار الصوم، ولا يُتوهم أنَّ الله يستطيب الروائح، ويستلذها، فإنَّه محالٌ عليه تعالى، وإنما معنى هذه الأَطْيِبية راجع إلى أنَّه تعالى يُثيب على خُلوف فمه ثوابًا أكثر مما يُثيب على استعمال المسك، حيث نَدَبَ الشرع إلى استعماله في الجُمَع والأعياد وغيرها. ويُحتمل: أنْ يكون في حق الملائكة، فيستطيبون ريح الخُلوف أكثر مما يستطيبون ريح المسك، وقيل: يجازيه الله في الآخرة بأنْ يجعل نكهته أطيب من المسك، كما في دم الشهيد أو هو مجاز واستعارة لتقريبه من الله. فيض القدير (4/ 471).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «أطيبُ عند الله من ريح المسك» أحب إليه تعالى من ريح المسك، يكون التطيُّب به قربة كالتطيب للجمعة مثلًا، نبَّأ على أنَّ المراد طيب الأفواه نفسها، أو عند ملائكته أطيب من المسك عند بني آدم. التنوير شرح الجامع الصغير (3/408- 409).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
قوله: «أطيب عند الله من ريح المسك» هذه الجملة مَسُوقَة لبيان شرف الصوم عند الله تعالى، وزيادة مكانته. دليل الفالحين (7/ 26).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
وإذا كان هذا في تغير فمه، فما ظنك بصلاته وعبادته؟! التنوير شرح الجامع الصغير (7/ 92).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
وقوله: «أطيب عند الله من ريح المسك» يريد أزكى عند الله الواحد. شرح صحيح البخاري (4/ 12).
وقال المازري -رحمه الله-:
وأما قوله: «أطْيَبُ عند الله من ريح المِسْك» فمجاز واستعارة؛ لأن استطابة بعض الروائح من صفات الحيوان الذي له طبائع تميل إلى شيء فتستطيبه، وتنفر عن آخر فتستقذره، والله تعالى يتقدَّس عن ذلك، ولكن جرت العادة فينا بتقريب الروائح الطيبة منَّا، واستُعير ذلك في الصوم؛ لتقريبه من الله سبحانه. المعلم بفوائد مسلم (2/61- 62).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وقيل: يجزيه الله في الآخرة حتى تكون نكهته أطيب من ريح المسك، كما قال في المكلوم في سبيل الله: «الريح ريح مسك»، وقيل: بل ينال صاحبُها من الثواب ما هو أفضل من ريح المسك عندنا، لا سيما بالإضافة إلى الخُلوف، وهما ضدان، وقيل: يعتدُّ بها، وتُدَّخَر على ما هي عليه أكثر مما يعتد بريح المسك لصاحبه، وأيضًا فيكون رائحتها عند ملائكة الله أطيب من المسك، وإن كانت عندنا نحن بخلافه، وقال الداودي: يُثاب عليها ما لا يُثاب على رائحة المسك إذا تطيَّب به للصلاة والجمعة. إكمال المعلم (4/ 112).
وقال النووي -رحمه الله-:
والأصح ما قاله الداودي من المغاربة، وقاله مَن قال من أصحابنا: إنَّ الخلوف أكثر ثوابًا من المسك؛ حيث ندب إليه في الجُمَع والأعياد ومجالس الحديث والذكر وسائر مجامع الخير. شرح النووي على مسلم (8/ 30).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وقوله: «أطيب عند الله من ريح المسك» لا يُتَوهم أنَّ الله تعالى يستطيب الروائح ويستلذها، كما يقع لنا من اللذة والاستطابة؛ إذ ذاك من صفات افتقارنا، واستكمال نقصنا، وهو الغني بذاته، الكامل بجلاله وتقدسه، على أنَّا نقول: إنَّ الله تعالى يدرك المدركات، ويبصر المبصرات، ويسمع المسموعات على الوجه اللائق بجماله وكماله وتقدسه عن شِبْهِ مخلوقاته، وإنما معنى هذه الأطيبيَّة عند الله تعالى راجعة إلى أنَّ الله تعالى يثيب على خُلُوف فم الصائم ثوابًا أكثر مما يثيب على استعمال روائح المسك، حيث ندب الشرع إلى استعماله فيها، كالجُمع والأعياد، وغير ذلك. ويُحتمل: أنْ يكون ذلك في حق الملائكة، فيستطيبون رِيْحَ الخُلُوف أكثر مما يستطيبون ريح المسك. المفهم (3/215- 216).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
وعلى هذا فهو يدل على أنَّ الله تعالى جعل للملائكة إدراكًا للرائحة كما جعله لبني آدم، وقد ثبت أنهم يتأذون من الرائحة الكريهة، وأنهم يتأذون مما يتأذى به بنو آدم، كما ورد في النهي عن دخول المسجد لمن أكل الكُرَّاث، فإنه علَّل للأذى. التنوير شرح الجامع الصغير (3/409).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
وقوله: «أطْيَبُ عند الله من ريح المسكِ» مَثَلٌ وَجْهُ التمثيل فيه: أنَّ المسك محبوب للنفس، والصوم أحبُّ إلى الله تعالى، وأقرب إليه، من حُبِّ المسك إليكم، وقُرْبِه مِن أَنْفُسِكم، إشارة إلى أنَّ المسك أطيب الطيب، كذلك الصوم أفضل العبادة، فإنْ قيل: فهل يكون أفضل من الصلوات بهذا المعنى؟ قلنا: العبادة على ضربين: متعدية ولازمة، فالصوم أفضل اللازمة؛ لأنه منها، فإن قيل: والصلاة لازمة فهل هو أفضل منها؟ قلنا: لا أفضل من الصلاة، وإنما يكون فضل الصوم بعدها. القبس في شرح موطأ مالك بن أنس (ص: 482).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
واعلم أنَّ الله -عز وجل- ينْظُر إلى قصد الفاعل، فإذا كان صحيحًا أحب ما يحدث منه، وإنْ كان مكروهًا عند الخلق كالخُلُوف في الصوم، والنوم في التهجد، والدم في حق الشهيد. كشف المشكل (3/ 167-168).
وقال العراقي -رحمه الله-:
اختُلف في معنى كون هذا الخُلوف أطيب من ريح المسك بعد الاتفاق على أنه -سبحانه وتعالى- منزهٌ عن استطابة الروائح الطيبة، واستقذار الروائح الخبيثة، فإنَّ ذلك من صفات الحيوان الذي له طبائع تميل إلى شيء فتستطيبه، وتنفر من شيء فتَتَقَذَّرُه على أقوال:
أحدها: قال المازري: هو مجاز واستعارة؛ لأنه جرت عادتنا بتقريب الروائح الطيِّبة منا، فاستُعير ذلك من الصوم لتقريبه من الله تعالى، انتهى، فيكون المعنى: أنَّ خُلُوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك عندكم، أي: إنه يقرب إليه أكثر من تقريب المسك إليكم، وذكر ابن عبد البر نحوه.
الثاني: أنَّ معناه: أنَّ الله تعالى يجزيه في الآخرة حتى تكون نكهته أطيب من ريح المسك، كما قال في المكلوم في سبيل الله: «الريح ريح مسك» حكاه القاضي عياض.
الثالث: أنَّ المعنى: أنَّ صاحب الخُلُوف ينال من الثواب ما هو أفضل من ريح المسك عندنا، لا سيما بالإضافة إلى الخلوف، وهما ضدان، حكاه القاضي عياض أيضًا.
الرابع: أنَّ المعنى: أنه يُعتد برائحة الخُلوف، وتُدخر على ما هي عليه أكثر مما يُعتد بريح المسك، وإن كانت عندنا نحن بخلافه، حكاه القاضي أيضًا.
الخامس: أنَّ المعنى: أنَّ الخُلوف أكثر ثوابًا من المسك؛ حيث ندب إليه في الجُمَع والأعياد ومجالس الحديث والذكر وسائر مجامع الخير، قاله الداودي وابن العربي وصاحب المفهم، وبعض أصحابنا، وقال النووي: إنه الأصح.
السادس: قال صاحب المفهم: يحتمل: أَنْ يكون ذلك في حق الملائكة؛ يستطيبون ريح الخُلُوف أكثر مما يستطيبون ريح المسك. طرح التثريب (4/95- 96).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
هذه الأقوال (في تفسير الخلوف) كلها ساقطة، لا أثارة عليها من علم، بل هي مبنية على هواء الهوى الفاسد، والتشبيه المتخيَّل الكاسد، وليس فيها عن السلف شيء، بل كلها جاءت عن متأخري الأشاعرة، ومن سار على دربهم.
فإن الله سبحانه حينما أنزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لَخُلُوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك» لم يأمره ببيان كونه من المتشابه، وأن ظاهره غير مراد، بل تأويله كذا وكذا، مع أنه تعالى هو الذي قال له: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} الآية النحل: 44، ولم يتعرض النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما أخبر بهذا الخبر لبيان الإشكال المزعوم، ولا للجواب عنه، ولا الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- الذين كانوا أعلم الناس بلغة العرب، وبمقاصد الشريعة بعد نبيهم -صلى الله عليه وسلم-، حينما سمعوا الحديث ما اسْتَشْكَلُوه، ولا سألوا عن تأويله، وهكذا التابعون لهم بإحسان -رحمهم الله تعالى-، سلكوا مَسْلَكَم، أفلا يَسَعُنَا ما وَسِعَهُم؟.
فيا أيها العقلاء، ويا أيها المنصفون الذين لم تَنْصَبِغ عقولهم بخيالات الفلاسفة، وأوهام المتكلمين: إِنَّ واجب كُلّ مُسلمٍ إذا سمع شيئًا من النصوص أن يتلقَّاهُ بالقبول، ولا يذهب به كل مذهب تتخيَّلُه نفسُه؛ فإن هذه النصوص لم تأتِ إلا من العليم الحكيم الذي هو أعلم بما يجوز أن يُنسب إليه، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يقول إلا الحق، كما قال تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} النجم: 3-4.
وخلاصة القول: أنْ ما ثبت نِسْبَتُه إلى الله تعالى في كتابه العزيز، أو في حديث رسوله -صلى الله عليه وسلم- الصحيح وجب قبوله، وإجراؤه على ظاهره على المعنى الذي أراده الله تعالى، دون تشبيه ولا تمثيل، ولا تأويل ولا تعطيل.
اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اخْتُلِفَ فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (21/74-75).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- أيضًا:
ما أوقعهم في هذه الأقوال المنتشرة التي لا تنبني على حُجة، إلا مجرد التخيُّل، وقياس الغائب بالشاهد؛ تقليدًا للمتكلمين الذين هم أذناب الفلاسفة الملحدين، وإلا فلو فكروا في أن الله تعالى له الصفات العلى، لا تُشْبِه صفات المخلوقين، كما أن ذاته المقدَّسة لا تُشْبِهُ ذواتهم، لَمَا تطرق إلى أذهانهم الإشكال المزعوم أصلًا، كما هو هدي السلف الصالحين الذين كانوا إذا سمعوا مثل هذا الحديث لم يَتَلَجْلَجْ في قلوبهم شيء من الخيالات الفاسدة، والأوهام الكاسدة، بل سلَّمُوا، وأثبتوا ما أثبته النص، على مراد الله تعالى، والخير كل الخير هو الذي كانوا عليه:
وكل خير في اتباع مَن سَلَفَ ... وكل شر في ابتداع مَن خَلَفْ. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (21/74).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
وهل المراد في الدنيا أو يوم القيامة بأنْ تصير رائحة أفواه الصائمين أطيب من المسك؟ محتمل، وقد وقع فيه نزاع بين أئمةٍ من أهل الحديث. التنوير شرح الجامع الصغير (3/409).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
ومعنى قوله: «عند الله» يريد في الآخرة، أي: يجازيه يوم القيامة بتطييب نكهته الكريهة في الدنيا حتى تكون كريح المسك، والدليل على أنه أراد الآخرة بقوله: «عند الله»: قوله تعالى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ} الحج: 47، يريد أيام الآخرة، ومن هذا الباب قوله -عليه السلام- في الشهيد: «أنه يأتي يوم القيامة وجُرْحُه يَثْعُبُ دمًا، اللون لون الدم، والريح ريح المسك»، فأخبر أنه يجازي الشهيد في الآخرة بأنْ يجعل رائحة دمه الكريهة في الدنيا كريح المسك في الآخرة. شرح صحيح البخاري (4/ 12).
وقال العراقي -رحمه الله-:
وقد وقع خلافٌ بين الإمامين ابن الصلاح وابن عبد السلام في ذلك، أي في أنَّ طيب رائحة الخُلُوف هل هو في الدنيا والآخرة أو في الآخرة فقط؟ فذهب ابن الصلاح إلى الأول، وابن عبد السلام إلى الثاني. طرح التثريب (4/ 97).
وقال النووي -رحمه الله-:
واحتج أصحابنا بهذا الحديث على كراهة السواك للصائم بعد الزوال؛ لأنه يزيل الخُلوف الذي هذه صفته وفضيلته، وإنْ كان السواك فيه فضل أيضًا؛ لأن فضيلة الخُلوف أعظم، وقالوا: كما أنَّ دم الشهداء مشهود له بالطيب، ويُترك له غسل الشهيد مع أنَّ غسل الميت واجب، فإذا تُرك الواجب للمحافظة على بقاء الدم المشهود له بالطيب، فتَرْكُ السواك الذي ليس هو واجبًا للمحافظة على بقاء الخُلُوف المشهود له بذلك أولى، والله أعلم. شرح النووي على مسلم (8/ 30).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
احتج الشافعي بالثناء على الخُلوف لمنع السواك بعد نصف النهار، وهو وقت وجود الخُلوف؛ لأن السواك يُذْهِبه، وفي بقائه من الأجر والفضل ما لا يجب عنده إزالته، وذهَب مالك إلى جوازه (يعني: السواك) في النهار كله؛ لأنه عنده إن كان من الْمِعْدَة فلا يذهبه السواك، وأيضًا فإنْ جعلنا الكلام في الثناء على الخلوف استعارةً وتنبيهًا على فضل الصوم، لا على نفس الخُلوف، فذهابه وبقاؤه سواء. إكمال المعلم (4/ 112).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وقد أخذ الشافعي من هذا الحديث منع الصائم من السِّواك من بعد الزوال، قال: لأن ذلك الوقت مبدأ الخُلوف، قال: والسواك يُذْهِبه، وربما نَظَمَ بعض الشافعية في هذا قياسًا، فقال: أثر عبادة فلا يُزَال كدم الشهيد. وهذا القياس تَرِدُ عليه أسئلة، مِن جُمْلَتها القول: ومع أنَّ السِّواك يزيل الخلوف، فإنه من الْمِعْدة والحلق، لا مِن محل السِّواك، وحينئذٍ لا يلزم شيء من ذلك، وقد أجاز كافة العلماء للصائم أنْ يتسوَّك بسواك لا طَعم له، في أي أوقات النهار شاء. المفهم (3/ 215).
وقال العراقي -رحمه الله-:
وقال والدي -رحمه الله- في شرح الترمذي: وهذا (القول بأنَّ الخُلوف من المعدة) مخالف للحس؛ لأن الصائم إذا تغير فَمه واستاك زالت الرائحة الكريهة، وأمّا كون أصل التغير من المعدة، فأمر آخر، ثم حُكي عن صاحب المحكَم أنه حكى عن اللحياني: خلف الطعام والفم وما أشبههما يخْلُف خُلُوفًا إذا تغير، وأكل طعامًا، فبقيت في فِيْهِ خُلْفة فتغير فُوْهُ، وهو الذي يبقى بين الأسنان، اهـ.
قال والدي: وهذا يدل على أنَّ خُلوف الفم من بقايا الطعام الذي بين الأسنان لا من المعدة، كما قال صاحب المفهم.
قلتُ: ويوافق ذلك قول أصحابنا الشافعية: إنَّ البَخَرَ الذي هو عيب يرد به ما كان من المعدة دون ما كان مِن قَلَحِ (صفرة ووسخ يعلو الأسنان) الأسنان؛ لأن هذا يزيله السواك، بخلاف الذي من المعدة، والله أعلم. طرح التثريب (4/ 100-101).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
هذا الحديث يدل على فضيلة الصوم، وتقديمه على الأعمال؛ لقوله: «الصوم لي». الإفصاح (6/ 87).
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
وفيه: إيماء إلى اعتبار النية والإخلاص في الصوم، وإشعار بأنَّ الصوم لا رياء فيه أصلًا؛ لأن غاية ما يقوله المرائي: أنا صائم، وهو لا يُوجِب رياء في أصل الصوم، إنما الذي وقع به الرياء الإخبار عن الصوم لا غير. مرقاة المفاتيح (4/ 1363).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
ويُؤخذ من قوله: «أطيب من ريح المسك» أنَّ الخُلُوف أعظم من دم الشهادة؛ لأن دم الشهيد شُبِّه ريحه بريح المسك، والخُلُوف وُصِفَ بأنه أطيب، ولا يلزم من ذلك أنْ يكون الصيام أفضل من الشهادة؛ لما لا يخفى، ولعل سبب ذلك: النظر إلى أصل كل منهما، فإنَّ أصل الخُلوف طاهر، وأصل الدم بخلافه، فكان ما أصله طاهر أطيب ريحًا. فتح الباري (4/ 106).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
اتفقوا على أن المراد بالصيام هنا: صيام مَن سَلِمَ صيامه من المعاصي قولًا وفعلًا. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (21/73).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- أيضًا:
في فوائده: منها: بيان عظيم فضل الصوم، والحث عليه.
ومنها: إثبات صفة الكلام لله تعالى، وأنه يتكلم حيث يشاء، ويُكَلِّمُ من يشاء بما يشاء، وأن كلامه ليس خاصًا بالقرآن الكريم، وهذا هو الذي يُسمى بالحديث القدسي، وهو كلام الله تعالى على الحقيقة، والفرق بينه وبين القرآن أن القرآن مُتَعبَّد بتلاوته، بخلاف هذا.
ومنها: أن قوله: «وأنا أجزي به» فيه بيان لِعِظَمِ فضله، وكثرة ثوابه؛ لأن الكريم إذا أخبر بأنه يتولى بنفسه الجزاء اقتضى عِظَمَ قدر الجزاء، وسعة العطاء.
ومنها: أن العبادات تتفاوت من حيث الثواب. ومنها: أن ثواب الصوم لا يعلم مقداره إلا الله تعالى.
ومنها: أن الصائم له الفرح في الدنيا والآخرة.
ومنها: أن الله -سبحانه وتعالى- تفضَّل على عباده بأن جعل الروائح الكريهة بسبب الصوم أطيب من ريح المسك. البحر المحيط الثجاج (21/ 361).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
وهذا الحديث الجليل يدل على فضيلة الصوم من وجوه عديدة:
الأول: أن الله اختص لنفسه الصوم من بين سائر الأعمال؛ وذلك لشرفه عنده ومحبته له، وظهور الإخلاص له سبحانه فيه؛ لأنه سرٌّ بين العبد وبين ربه، لا يطَّلع عليه إلا الله، فإن الصائم يكون في الموضع الخالي من الناس متمكِّنا مِن تناول ما حرم الله عليه بالصيام فلا يتناوله؛ لأنه يعلم أن له ربًّا يطَّلِع عليه في خلوته، وقد حرم عليه ذلك فيتركه لله خوفًا من عقابه، ورغبة في ثوابه، فمِن أجْلِ ذلك شَكَرَ الله له هذا الإخلاص، واختصَّ صيامه لنفسه من بين سائر أعماله؛ ولهذا قال: «يدعُ شهوته وطعامه من أجلي»، وتظهر فائدة هذا الاختصاص يوم القيامة كما قال سفيان بن عُيَيْنة -رحمه الله-: إذا كان يوم القيامة يحاسِب الله عبده، ويؤدِّي ما عليه من المظالم من سائر عمله، حتى إذا لم يبقَ إلا الصوم يتحمَّل الله عنه ما بقي من المظالم، ويدخله الجنة بالصوم.
الثاني: أن الله قال في الصوم: «وأنا أجزي به»، فأضاف الجزاء إلى نفسه الكريمة؛ لأن الأعمال الصالحة يضاعف أجرها بالعدد، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، أما الصوم فإن الله أضاف الجزاء عليه إلى نفسه من غير اعتبار عدد، وهو سبحانه أكرم الأكرمين وأجود الأجودين.
والعطيَّة بقدر مُعْطِيْهَا، فيكون أجر الصائم عظيمًا كثيرًا بلا حساب، والصيام صبر على طاعة الله، وصبر عن محارم الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة من الجوع والعطش وضعف البدن والنفس، فقد اجتمعت فيه أنواع الصبر الثلاثة، وتحقَّقَ أن يكون الصائم من الصابرين، وقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَاب} الزمر: 10...
الرابع: أن خَلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك؛ لأنها من آثار الصيام، فكانت طيبة عند الله سبحانه ومحبوبة له، وهذا دليل على عظيم شأن الصيام عند الله، حتى إن الشيء المكروه المستخْبَث عند الناس يكون محبوبًا عند الله وطيبًا؛ لكونه نشأ عن طاعته بالصيام.
الخامس: أن للصائم فرحتين: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، أما فرحه عند فطره فيفرح بما أنعم الله عليه من القيام بعبادة الصيام الذي هو من أفضل الأعمال الصالحة، وكم من أُناس حُرِمُوه فلم يصوموا، ويفرح بما أباح الله له من الطعام والشراب والنكاح الذي كان مُحَرَّمًا عليه حال الصوم، وأما فرحه عند لقاء ربه فيفرح بصومه حين يجد جزاءه عند الله تعالى مُوَفَّرًا كاملًا في وقت هو أحوج ما يكون إليه، حين يقال: أين الصائمون ليدخلوا الجنة من باب الريَّان الذي لا يدخله أحد غيرهم؟ مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (20/299-201).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- أيضًا:
فيه فوائد:
أن الله -سبحانه وتعالى- جعل الصوم له، وعَمَلَ ابن آدم الثاني -أي غير الصوم- لابن آدم، يقول الله تعالى: «كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي».
والمعنى: أن الصيام يختصه الله -سبحانه وتعالى- من بين سائر الأعمال؛ لأنه -أي: الصيام- أعظم العبادات إطلاقًا، فإنه سرٌّ بين الإنسان وربه؛ لأن الإنسان لا يُعْلَم إذا كان صائمًا أو مفطرًا، هو مع الناس ولا يُعْلَمُ به، نِيَّتُه باطنة، فلذلك كان أعظم إخلاصًا، فاختصَّه الله من بين سائر الأعمال، قال بعض العلماء: ومعناه: إذا كان الله -سبحانه وتعالى- يوم القيامة وكان على الإنسان مظالم للعباد فإنه يؤخذ للعباد من حسناته، إلا الصيام فإنه لا يؤخذ منه شيء؛ لأنه لله -عزَّ وجلَّ- وليس للإنسان، وهذا معنى جيد؛ أن الصيام يتوفر أجرُه لصاحبه ولا يؤخذ منه لمظالم الخلق شيئًا.
ومنها: أنَّ عمل ابن آدم يزاد من حسنة إلى عشرة أمثالها إلا الصوم، فإنه يُعطى أجرُه بغير حساب، يعني: أنه يضاعَف أضعافًا كثيرة.
قال أهل العلم: لأن الصوم اشتمل على أنواع الصبر الثلاثة، ففيه: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على أقدار الله.
أما الصبر على طاعة الله فلأنَّ الإنسان يحمل نفسه على الصيام مع كراهته له أحيانًا، يكرهه لمشقته لا لأن الله فرضه، لو كره الإنسان الصوم؛ لأن الله فرضه لحبط عمله، لكنه كرهه لمشقته، ولكنه مع ذلك يحمل نفسه عليه فيصبر عن الطعام والشراب والنكاح لله -عزَّ وجلَّ-، ولهذا قال الله تعالى في الحديث القدسي: «يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي».
النوع الثاني من أنواع الصبر: الصبر عن معصية الله، وهذا حاصل للصائم؛ فإنه يصبِّر نفسه عن معصية الله -عزَّ وجلَّ-، فيتجنَّب اللغو والرفث والزور وغير ذلك من محارم الله.
الثالث: الصبر على أقدار الله؛ وذلك أن الإنسان يصيبه في أيام الصوم ولا سيما في الأيام الحارة والطويلة من الكسل والملل والعطش ما يتألَّم ويتأذى به، ولكنه صابر؛ لأن ذلك في مرضاة الله.
فلما اشتمل على أنواع الصبر الثلاثة كان أجره بغير حساب، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَاب} الزمر:10.
ومن الفوائد التي اشتمل عليها هذا الحديث: أن للصائم فرحتين، الفرحة الأولى: عند فطره، إذا أفطر فَرِحَ بفطره. فرح بفطره من وجهين:
الوجه الأول: أنه أدى فريضة من فرائض الله، وأنعم الله بها عليه، وكم من إنسان في المقابر يتمنى أن يصوم يومًا واحدًا فلا يكون له؟! وهذا قد منَّ الله عليه بالصوم فصام، فهذه نعمة، فكم من إنسان شرع في الصوم ولم يتمَّه؟ فإذا أفطر فرح؛ لأنه أدى فريضة من فرائض الله. ويفرح أيضًا فرحًا آخر: وهو أن الله أحلَّ له ما يوافق طبيعته من المآكل والمشارب والمناكح بعد أن كان ممنوعًا منها.
فهاتان فرحتان في الفطر، الأولى: أن الله منَّ عليه بإتمام هذه الفريضة. الثانية: أن الله منَّ عليه بما أحل له من محبوباته من طعام وشراب ونكاح. شرح رياض الصالحين (5/266-268).
وقال الشيخ ابن سعدي -رحمه الله-:
فبيَّن هذا الأصل الجامع: أنَّ جميع الأعمال الصالحة من أقوال وأفعال ظاهرة أو باطنة، سواء تعلَّقت بحق الله، أو بحقوق العباد مُضاعَفة من عشرٍ إلى سبعمائة ضِعْف، إلى أضعاف كثيرة.
وهذا مِن أعظم ما يدل على سعة فضل الله، وإحسانه على عباده المؤمنين؛ إذ جعل جناياتهم ومخالفتهم الواحدة بجزاء واحد، ومغفرة الله تعالى فوق ذلك.
وأما الحسنة: فأقل التضعيف أو الواحدة بعشر، وقد تزيد على ذلك بأسباب: منها: قوة إيمان العامل، وكمال إخلاصه، فكلما قوي الإيمان والإخلاص تَضَاعَف ثواب العمل.
ومنها: أنْ يكون للعمل موقع كبير، كالنفقة في الجهاد والعلم، والمشاريع الدينية العامة، وكالعمل الذي قوي بحُسْنِه وقُوَّته ودفعه المعارضات، كما ذكره -صلى الله عليه وسلم- في قصة أصحاب الغار، وقصة البَغِيِّ التي سَقَت الكلب، فشكر الله لها، وغفر لها، ومثل العمل الذي يُثمر أعمالًا أُخر، ويقتدي به غيره، أو يُشاركه فيه مشارك، وكدفع الضرورات العظيمة، وحصول المبرَّات الكبيرة، وكالمضاعفة لفضل الزمان أو المكان، أو العامل عند الله، فهذه المضاعفات كلها شاملة لكل عمل. بهجة قلوب الأبرار (ص: 93-94).