أتيتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع أبي، فرأى التي بظَهْرِهِ، فقال: يا رسول الله، ألا أُعالجها لك فإني طبيب؟ قال: «أنت رفيق، والله الطبيب»، قال: «مَن هذا معك؟» فقال: ابني، أَشْهَدُ به، قال: «أَمَا إنه لا يجني عليك، ولا تجني عليه».
رواه أحمد برقم: (17492) واللفظ له، وأبو داود برقم: (4207)، من حديث أبي رِمْثَةَ -رضي الله عنه-.
صحيح سنن أبي داود برقم: (4207)، سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (1537).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«أُعَالِجها»:
العِلاج: بكسر العين مصدر عَالَجَ، وهو المداواة لدفع المرض. معجم لغة الفقهاء، لمحمد رواس (ص: 319).
«طَبِيْبٌ»:
الطبيب في الأصل: الحاذق بالأمور، العارف بها، وبه سُمِّي الطبيب الذي يعالج المرضى. النهاية، لابن الأثير (3/ 110).
«رَفِيْقٌ»:
أي: أنت تَرْفُقُ بالمريض وتتَلَطَّفه، والله الذي يُبْرِئُه ويعافيه. النهاية، لابن الأثير (2/ 246).
«يَجْنِي»:
الجناية: الذَّنْبُ والجُرم، وما يفعله الإنسان مما يُوجِب عليه العذاب أو القصاص في الدنيا والآخرة. النهاية، لابن الأثير(1/309).
شرح الحديث
قوله: «أتيتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع أبي، فرأى التي بِظَهْرِه، فقال: يا رسول الله، ألا أعالجها لك فإني طبيب؟»:
قال ابن الأثير -رحمه الله-:
«فرأى التي بظهره»: أراد به خاتم النّبوة، فإنه كان مثل زِرِّ الحَجَلَة ناتئًا في ظَهْرِه من أعلاه. الشافي في شرح مسند الشافعي (5/157).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
أي: مِن خاتم النبوة الذي خُلِقَ مع خَلْقه -صلى الله عليه وسلم- بالخِلْقَة الأصلية، وظن أنه سَلْعَة، وهي على ما في الـمُغْرِب: لحمة زائدة تحدث في الجسد كالغُدة، تجيء وتذهب بين الجلد واللحم. مرقاة المفاتيح (6/2272).
وقال العظيم أبادي -رحمه الله-:
هو خاتم النبوة الذي كان بين كَتِفَي النبي -صلى الله عليه وسلم-، مثل زِرّ الحَجَلة، ولم يَعْرِف أبو أبي رِمْثَة أنه خاتم النبوة؛ ولذا قال ما قال. عون المعبود شرح سنن أبي داود (11/175).
قوله: «أنت رفيق»:
قال ابن الملك -رحمه الله-:
«أنت رفيق» أي: أنت تَرْفق بالناس في العلاج بلطافة الفعل، وحِفْظ المزاج من الأغذية الرديئة. شرح مصابيح السنة (4/133).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «أنت رفيق» أي: أنت ترفق بالمريض وتحميه مما يخشى أن لا يَحْتَمِل بدنه، وتطعمه ما ترى أنه أرفق به. الكاشف عن حقائق السنن (8/2468).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
الرِّفق والرُّفق: لين الجانب ولطافة الفعل، أي: أنت المتصدي للعلاج بلطافة الفعل، وإنما الشافي المزيل للداء هو الله سبحانه، ذهب في ذلك إلى مقتضى المعنى من الطبيب لا إلى مقتضاه في اللفظ. وهذا النوع من باب تحويل الكلام، أي: أن الذي تدعيه إنما هو إلى الله، وفي الحديث: «طبيبها الذي خلقها». ولا يوجب هذا جواز تسمية الله سبحانه طبيبًا، بل الوجه في ذلك كما هو في قوله: «فإن الله هو الدهر» أي: الذي ينسبونه إلى الدهر، فإن الله فاعله لا الدهر. الميسر في شرح مصابيح السنة (3/814).
قوله: «والله الطبيب»:
قال التوربشتي -رحمه الله- أيضًا:
فإن قيل: فما معنى قوله في الحديث: «أنت رفيق، والله الطبيب»؟ قلنا: الطبيب الحاذق بالشيء الموصوف، ولم يرد بهذا القول نفي هذا الاسم مما يتعاطى ذلك، وإنما حوَّل المعنى من الطبيعة إلى الشريعة، وبيَّن لهم أنَّ الذي يرجون من الطبيب فالله فاعله، والمنان به على عباده، وهذا كقوله: «فإن الله هو الدهر»، وليس الطبيب موجودًا في أسماء الله سبحانه، ولا يجوز أن يقال في الدعاء: يا طبيب، وكذلك لا يجوز أن يقال: يا رفيق؛ فإن أسماء الله تعالى إنما تؤخذ عن النقل المتواتر (الصحيح الذي عليه أهل السنة والجماعة إثبات الأسماء لله بحديث الآحاد)، ولم يوجد في الطبيب ولا في الرفيق نقل متواتر يجب به العلم. الميسر في شرح مصابيح السنة (3/1088).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- معلقًا:
الحقّ أن ما ثبت في الحديث الصحيح من تسمية الله تعالى به جائز الاستعمال، مثل قوله: «رفيق»، فنفي التوربشتي الجواز غير مقبول، فتبصّر بالإنصاف. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج (40/654 -655).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «أنت رفيق، والله الطبيب» هل هو إذْنٌ منه -صلى الله عليه وسلم- في تسمية الله بـ«الطبيب»؟ قلتُ: لا؛ لوقوعه مقابلًا لقوله: «فإني طبيب» مشاكلة وطباقًا للجواب على السؤال لقوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} المائدة: 116. الكاشف عن حقائق السنن (6/ 1767).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«والله الطبيب» أي: الْمُدَاوِي الحقيقي الشافي عن الداء، العالم بحقيقة الدواء، القادر على الصحة والبقاء، يعني: ليس هذا مما يُعالج، بل يفتقر كلامك إلى العلاج، حيث سمَّيتَ نفسك بالطبيب، والله هو الطبيب. شرح مصابيح السنة (4/133).
وقال المظهري -رحمه الله-:
«والله الطبيب» هو العالِم بحقيقة الداء والدواء، القادر على الصحة والشفاء، وليس ذلك إلا الله الواحد القهار، ثم تسمية الله تعالى به أن يذكر في حال الاستشفاء، مثل أن يقول: اللهم أنت المصِّحُّ والْمُمْرِضُ والمداوي والطبيب، ونحو ذلك، فأما أن يقول: يا طبيب، افعل كذا، كما يقول: يا حليم، يا رحيم، فإن ذلك مفارق لأدب الدعاء؛ فإنما الدعاء الثناء عليه بأبلغ الألفاظ والمختص به، بخلاف الشائعِ المشترك بينه وبين غيره؛ ولأن أسماءه توقيفية، وأيضًا الطبيب عُرفًا: إنسان آخر سوف يمرض ويموت، فنزع عن لفظٍ مُشْعِر بنقصان. المفاتيح في شرح المصابيح (4/201).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قلتُ: ولعل بُعْدَه من الأدب؛ لكونه موهمًا للإطلاق العُرفي على المخلوق، كما لا يقال له: الْمُعَلم، مع قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء} البقرة: 31، و{الرَّحْمَن * عَلَّمَ الْقُرْآن} الرحمن: 1 – 2. وأما تعليله بقوله: ولأن الأسماء توقيفية فلا يظهر وجهه إلا إن أراد من حصول التوقيف صحة الدليل، أو حَصْره بما في الأسماء الحسنى المشهورة المعدودة بالتسعة والتسعين، والله تعالى أعلم. مرقاة المفاتيح (6/2272).
وقال المازري -رحمه الله-:
الباري سبحانه لا يُسمى إلا بما سَمَّى به نفسه، أو سماه به رسوله -صلى الله عليه وسلم-، أو أَجْمَعت الأُمَّة عليه...، وبين المتأخرين من الأصوليين اختلاف أيضًا في تسمية الباري سبحانه بما ورد عن رسوله -صلى الله عليه وسلم- من جهة أخبار الآحاد. فقال بعض المتأخرين من حُذَّاق الأشعرية: يجوز أن يسمى بذلك؛ لأن خبر الواحد عنده يقتضي العمل به. المعلم بفوائد مسلم (3/295).
وقال النووي -رحمه الله-:
والصحيح: جواز تسمية الله تعالى رفيقًا وغيره مما ثبت بخبر الواحد. شرح مسلم (16/ 146).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
وأما الطبيب فإنه الله -سبحانه وتعالى-. الشافي في شرح مسند الشافعي (5/157).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
الاسم السادس: الطبيب. الأمد الأقصى في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العلى (ص: 584).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
في الحديث: إيماءٌ إلى أنه يجوز أن يقال: هو الطبيب، وهو رفيق؛ على منوال ما ورد، وأما قوله -صلى الله عليه وسلم- في آخر كلامه عند خروجه من الدنيا: «الرفيق الأعلى» يحتمل: أن يراد به الله، وأن يراد به الملأ الأعلى، فمع الاحتمال لا يصح الاستدلال. مرقاة المفاتيح (8/3170).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
وقوله: «والله الطبيب» الذي يبدو أن هذا الاسم مما يُطْلق على الله -عزَّ وجلّ-، لكن لا يقال: إن من أسماء الله الطبيب، كما لا يقال: من أسماء الله المُسعّر. شرح سنن أبي داود (472/18).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
لا أعلم أنَّ (الطبيب) من أسماء الله، لكن (الشافي) من أسماء الله، وهو أبلغ من (الطبيب)؛ لأن الطّب قد يحصل به الشفاء، وقد لا يحصل. مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (17/ 15).
وقال الحليمي -رحمه الله-:
ومنها (أي الأسماء الحسنى): ما جاء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أنه قال: «لا تقولوا: الطبيب، ولكن قولوا: الرفيق؛ فإنما الطبيب هو الله»، ومعنى هذا: أن المعالج للمريض من الآدميين وإن كان حاذقًا متقدِّمًا في صناعته، فإنه قد لا يحيط علمًا بنفس الداء؛ ولئن عَرَفَهُ وَمَيَّزَهُ فلا يَعْرِف مقداره، ولا مقدار ما استولى عليه من بدن العليل وقُوَّتِه، ولا يقدم في معالجته إلا مُطبِّبًا عالمًا بالأغلب من رأيه وفهمه؛ لأن منزلته في علم الدواء كمنزلته التي ذكرتها في علم الداء، فهو لذلك ربما يصيب وربما يخطئ، وربما يزيد فيغلو، وربما ينقص فيكبو، فاسم الرفيق إذًا أولى من اسم الطبيب؛ لأنه يرفق بالعليل، فيحميه ما يخشى أن لا يحتمله بدنه، ويطعمه ويسقيه ما يرى أنه أرفق له.المنهاج في شعب الإيمان (1/ 208-209).
قوله: «مَن هذا معك؟ فقال: ابني، أَشْهَدُ به»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«مَن هذا معك؟» «مَن» اسم استفهام مبتدأ، واسم الإشارة خبره، أو بالعكس، والظرف: أي: حال كونه مصاحبًا لك. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (36/255).
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «مَن هذا الذي معك؟ قال» أي: أبي «ابني» أي: هو ابني. مرقاة المفاتيح (6/2272).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
وفي رواية أبي داود: «آبنك هذا؟ قال: إي، ورب الكعبة، قال: حقًا، قال: أشهد به، قال: فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضاحكًا مِن ثَبْتِ شَبَهِي في أبي، ومِن حَلْف أبي عليَّ...» الحديث. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (36/255).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
هناك سبب أَوْجَبَ أن يَسأل عنه النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ ولهذا أكَّده فقال: «ابني، وأشهد به». والظاهر -والله أعلم-: أن هناك فرقًا في الشَّبَه أو في اللون، أو أن أبا رِمثة كان صغيرًا، لا يحتمل أن يكون هذا الابن ولدًا له، فقال: «مَن هذا؟»، وأما مجرد سؤال، ويقول: «هذا ابني وأشهد به»، فهذا بعيد فلا بد أن يكون هناك سبب لسؤاله: «فقلتُ: ابني، وأشهد به» أي: هذا ابني، فهو خبر لمبتدأ محذوف. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (5/280).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
وإنما سأله النبي -صلى الله عليه وسلم- عنه، مع ظهور شبهه به؛ تأكيدًا للحكم الذي يخبره بعده. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (36/255).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
قوله: «أشهد به» أي: أشهد أنه ابني، وأعترف به. الشافي في شرح مسند الشافعي (5/157).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
ومن الناس من يقول: فأشهدته، على لفظ الماضي، وهو تصحيف، وإنما هو على لفظ الأمر. الميسر في شرح مصابيح السنة (3/815).
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«اشهَد به» بهمزة وصل، وفتح هاء، أي: كن شاهدًا بأنه ابني مِن صُلْبي، وفي نسخة بصيغة المتكلم، وهو تقرير أنه ابنه. والمقصود: التزام ضمان الجنايات عنه على ما كانوا عليه في الجاهلية من مؤاخذة كلٍّ من الوالد والولد بجناية الآخر. مرقاة المفاتيح (6/2272).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «اشْهدْ به» على صيغة الأمر، أي: كن شاهدًا على اعترافي بأنه ابني، أو «أشْهدُ» على صيغة المتكلم، أي: أُقِرُّ وأعترف بذلك، قيل: فائدة هذا الكلام التزام ضمان الجنايات بينهما على عادة الجاهلية، فلذلك ردّ -صلى الله عليه وسلم- بقوله: «لا يجني عليك، ولا تجني عليه». فتح الودود شرح سنن أبي داود(4/335).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «أشهد به» تقرير لقوله: «ابني»، وفائدته: التزام ضمان الجنايات عنه على ما كانوا عليه في جاهليتهم من مؤاخذة كل واحد من المتوالدين بجناية الآخر؛ ولهذا رد -صلى الله عليه وسلم عليه- بقوله: «أما إنه لا يجني عليك، ولا تجني عليه». الكاشف عن حقائق السنن (8/2467).
قوله: «أما إنه لا يجني عليك، ولا تجني عليه»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«أمَا» بالتخفيف للتنبيه، «إنه» للشأن أو الابن، «لا يجني عليك» لا تُؤاخَذ بذنبه، «ولا تجني عليه» أي: لا يُؤاخَذ بذنبك. مرقاة المفاتيح (6/2272).
وقال الرافعي -رحمه الله-:
والمعنى: أن جناية كل واحد منكما تختص به، فلا يؤاخذ أحدكما بجناية الآخر، مع ما بينكما من القُرْب والمشابهة. شرح مسند الشافعي (3/253).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
فقال: «أما إنه لا يجني عليك» أي: لا يجني جناية يكون القصاص أو الضمان فيها عليك «ولا تجني عليه». شرح مصابيح السنة (4/133).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«قال» -صلى الله عليه وسلم- «أَمَا» بفتح الهمزة: أداة تنبيه، مثل: (أَلَا) «إنك لا تجني» بفتح أوله، من الجناية: أي لا يؤاخذ بذنبك «عليه، ولا يجني عليك» أي: لا تُؤاخَذ أنت بذنبه، يعني: أن جناية كل منهما قاصرة على نفسه لا تتعداه إلى غيره، ولو كان أقرب قريب له. ثم إنه يحتمل: أن يكون المراد به الإثم، وإلا فالدية متعدية إلى العَاقِلَة. ويحتمل: أن تُخَصَّ الجناية بالعمد، والمراد أنه لا يُقتل إلا القاتل، كما كان عليه أمر الجاهلية، مِن قَتْلِ أبيه أو ابنه أو أخيه أو نحوهم من الأقارب، فيكون هذا إخبارًا ببطلان أمر الجاهلية، وهذا هو الذي يؤيده الحديث في قصة بني ثعلبة. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (36/255).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله: «لا يجني عليك» يعني: لا تتحمل جنايته، «ولا تجني عليه» يعني: لا يتحمل جنايتك، هذا المعنى، وليس المعنى: أن الأب لا يمكن أن يجني على ابنه؛ فربما يجني عليه، كأن يضربه أو يجرحه وربما يقتله، وكذلك العكس. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (5/280).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
قد تبين لنا من قول النبي -صلى الله عليه وسلم- للرَّجُل: «إنه لا يجني عليك» أنه عنى بقوله: فاشهد بأنه ابني، الالتزام بضمان الجنايات عنه على ما كانوا يتعاملون به في الجاهلية من مؤاخذة الابن بما جناه الأب، ومؤاخذة الأب بما جناه الابن، وقتل أحدهما بالآخر، فقال: «إنه لا يجني عليك» أي: لا يجني جناية يكون القصاص أو الضمان فيها عليك. ويحتمل: أن يقال: لفظه خبر، ومعناه: نهي، أي: لا يجنِ عليك، ولا تجنِ عليه، والتأويل الصحيح هو الأول، وإليه التفات مَن أورد هذا الحديث في كتاب القصاص من أهل العلم بالحديث. الميسر في شرح مصابيح السنة (3/815).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
قوله: «لا يجني عليك، ولا تجني عليه» قد فسرهُ بالآية التي قرأها في رواية أبي داود: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} فاطر:18، أي: أن جنايتك التي تجنيها لا يلزم ابنك منها شيء، وجنايته التي يجنيها لا يلزمك منها شيء، بل كل منكما مؤاخذ بجنايته، غير مطالَب بجناية الآخر. وقد أخرج هذا المعنى بقوله: «لا تجني عليه، ولا يجني عليك» مخرجًا بليغًا؛ لأنه أراد: لا يلتزم بجنايتك ولا تلتزم بجنايته، فظاهر لفظ الحديث لا يدل على ذلك، إنما مدلوله: أن الأب لا يجني على الابن، ولا الابن على الأب، ولكن لما كان التقدير: أن الأب إذا جنى جناية طُولِبَ بها ابنه، وأن الابن إذا جنى جناية طُولِبَ بها أبوه كان كل واحد منهما قد جنى على صاحبه الجناية التي جناها عليه غيره، فنفى الحكم من الأصل، وجعل وقوع الجناية من أحدهما على الآخر منفية، كأنها لا تقع وذلك أبلغ، فإن السبب إذا نُفِيَ من الأصل كان نَفْيُ المسبب آكد وأبلغ، فإنه يكون نفيًا للأصل، وإذا انتفى الأصل انتفى الفرع. الشافي في شرح مسند الشافعي (5/157).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
قوله: «أمَا إنه» بكسر الهمزة «لا يجني عليك» أي: لا تُؤاخَذ بجنايته، «ولا تجني عليه» أي: ولا أنت تُؤاخَذ بجنايته، وإنما يُؤاخَذ كل أحد بجناية نفسه، ويدل على هذا ما بعده: «ثم قرأ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}» فاطر:18 أي: لا تُؤاخَذ نفس آثمة بإثم أخرى، يعني: لا يُؤخَذ أحد بذنب أحد، ولا يؤاخَذ أحد بجريرة أخيه، ولا أمَّه ولا أبيه، كما كثر وقوعه في ظَلَمَة أهل هذا الزمان، إذا جنى أحد جناية وهرب يُطالَب به أَبوهُ وأخوهُ وعمه وذووه. شرح سنن أبي داود(17/540).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
أي: أنه لا يُؤخَذ أحد بذنب الآخر، ولا يُعاقَب أحد من أجل أن غيره جنى، بل العقوبة على الجاني والعاصي، وأما الذي لم يحصل منه جناية ولا معصية؛ فإنه لا يُعاقَب ولا يؤخَذ البريء بجريرة المذنب العاصي الجاني، وقد كان في الجاهلية يؤخذ الشخص بجريرة غيره. شرح سنن أبي داود (505/6).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
في الحديث: حِرْصُ النبي -صلى الله عليه وسلم- على معرفة أحوال أصحابه؛ لقوله: «مَن هذا؟». ووجه الدلالة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»، فلما سأل عُلِمَ أنه -صلى الله عليه وسلم- يعتني بأصحابه، وأن أحوال أصحابه مما يعنيه؛ إذ لا يمكن إن يكون الرسول -صلى الله عليه وسلم- غير حَسَن الإسلام وهو أكمل الناس إيمانًا، وأشدهم تقوى لله -عزَّ وجلَّ-. فإذن: يستدل بهذا الحديث على حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على معرفة أحوال أصحابه. ويَتَفَرَّع على هذه القاعدة: أنه ينبغي لكبير القوم من قاضٍ أو عالم أو أمير أن يتفقد أحوال مَن هم تحت يده؛ اقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ومن فوائد الحديث: أن الرجل إذا استلحق ابنًا له فإنه يلحقه ولا يحلف البيِّنة به، وهو كذلك، فإذا استلحق الإنسان شخصًا قال: هذا ولدي، فإنه ولده لكن بشرطين: الأول: ألا يُنَازَع فيه. والثاني: أن يمكن كونه منه؛ فإن نُوزِع فيه نظرنا، إن كان المنازِع غير ذي فراش فإنه يُعرَض على القَافَة الذين يعرفون النسب بالشَّبَهِ، فمن ألحقته به لحقه. ومن فوائد الحديث: صحة إطلاق الشهادة على الإقرار؛ لقوله: «وأشهد به» أي: أُقِرّ به، وقد سمى الله الإقرار شهادة فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} النساء: 125، والشهادة على النفس تصير إقرارًا والشهادة على الغير للغير شهادة، والشهادة للنفس على الغير دعوى، هذه ثلاثة أشياء. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (5/281- 282).
وقال المغربي -رحمه الله-:
والحديث فيه: دلالة على أنه لا يطالَب أحد بجناية غيره، سواء كان قريبًا كالأب والولد أو غيرهما أو أجنبيًّا، فالجاني يُطالَب وحده بجنايته ولا يُطالَب بجنايته غيره، وهو كقوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وزْرَ أُخْرَى} الإسراء: 15... ولا يَرِدُ على ذلك ما قد ثبت مِن تحمُّل العَاقِلَة في جناية الخطأ والقِسَامَة، فإن ذلك ليس مِن تحمل عقوبة الجناية، وإنما هو من باب النُّصرة والتَّعاضد فيما بين المسلمين. البدرُ التمام شرح بلوغ المرام (8/458).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
ومن فوائد الحديث: أنه لا يُقتص من أحد عن أحد، حتى الابن لا يُتقص منه عن أبيه، ولا الأب عن ابنه، فلو أن الأب جنى على شخص وقطع يده عمدًا، فإنها تُقطع يده إذا تمت الشروط، فإذا قال: ابنه هذا أبي اقطعوا يدي بدله، هل يُمكَّن من ذلك؟ لا؛ لأن الأب لا يجني على الابن، وكذلك بالعكس، لو أن الابن قطع يد شخص عمدًا وتمت شروط القصاص وأردنا أن نقتص منه فقال أبوه: اقتصوا مني؛ لأن ابني شاب وأنا شيخ كبير، فإنه لا يُمكَّن؛ لقوله: «لا يجني عليك ولا تجني عليه». فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (5/282).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
في الحديث: دليل لمن ذهب إلى أن الابن والأب لا يتحمَّلان العَقْل عن القاتل، وإليه ذهب الشافعي. شرح سنن أبي داود (16/574).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
فإن قلتَ: قد أمر الشارع بتحمل العَاقِلَة الدِّية في جناية الخطأ والقِسَامَة. قلتُ: هذا مخصص من الحُكم العام. وقيل: إن ذلك ليس من تحمُّل الجناية، بل من باب التعاضد والتناصر فيما بين المسلمين. سبل السلام (2/367).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
الأحاديث تدل على أنه لا يضمن الولد من جناية أبيه شيئًا، ولا يضمن الوالد من جناية ابنه شيئًا، أما عدم ضمان الولد فهو مخصوص من ضمان العَاقِلَة بما سلف في حديث جابر -رضي الله عنه-، وأما الأب فقد استدل بهذه الأحاديث على أنه لا يضمن جناية ابنه، كما أن الابن لا يضمن جناية الأب، وإلى ذلك ذهب مالك والشافعي في الابن والأب كما تقدم، وجعلا هذه الأحاديث مخصِّصة لعموم الأحاديث القاضية بضمان العَاقِلَة على العموم، فلا يكون الأب والابن من العَاقِلَة التي تضمن الجناية الواقعة على جهة الخطأ. وخالفَتْهُما في ذلك العِتْرَةُ كما سلف، ويمكن الاستدلال لهم أن هذه الأحاديث قاضية بعدم ضمان الابن لجناية الأب، والأب لجناية الابن سواء كانت عمدًا أو خطأ، فتكون مخصصة بالأحاديث القاضية بضمان العَاقِلَة، وهذا وإن سَلِم فلا يَتِم باعتبار الابن؛ لأنه قد خرج من عموم العَاقِلَة بما تقدم في حديث جابر -رضي الله عنه- من أنه -صلى الله عليه وسلم- جعل دِية المقتولة على عَاقِلَة القاتلة، وبَرَّأَ زوجها وولدها. والحاصل: أنه قد تعارض ههنا عمومان؛ لأن الأحاديث القاضية بضمان العَاقِلَة هي أعم من الأب وغيره من الأقارب كما سلف، والأحاديث المذكورة هي أعم من جناية العمد والخطأ، وقد قيل: إن ما تَحْمِلُه العَاقِلَة في جناية الخطأ والقِسَامة ليس مِن تَحَمُّل عقوبة الجناية، وإنما هو من باب النصرة والمعاضدة فيما بين الأقارب، فلا معارضة بين هذه الأحاديث وأحاديث ضمان العَاقِلَة، وقد تقدم في باب دية الجنين من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأبي القاتلة: «أدِّ في الصبي غُرَّة»، وجعله المصنف دليلًا على أن الأب من العَاقِلَة كما سلف. وأما حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- وحديث الرجل الذي مِن بني يَرْبُوع فهما يدلان على أنه لا يؤاخَذ أحد بذنب أحد في عقوبة ولا ضمان، ولكنهما مخصَّصان بأحاديث ضمان العَاقِلَة المتقدمة؛ لأنهما أعم مطلقًا، كما خُصِّصَ بها عموم قوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} الإسراء: 15، وقد قدمنا أن ضمان العَاقِلَة لجناية الخطأ مُجْمَع عليه على ما حكاه صاحب الفتح، وقد حَمَل المصنف -رحمه الله- هذه العمومات على جناية العمد. نيل الأوطار (1/157).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
المعنى: أنه لا يتحمل جنايتك ولا تتحمل جنايته، وعلى هذا فالأب لا يحمل مِن الدية إذا كانت على العَاقِلَة شيئًا، لو أن شخصًا قتل إنسانًا خطأ، فالدية على عَاقِلَتِه، والعَاقِلَةُ: هم الأصالة (الأصول)، لكن هذا الحديث يدل على أن الأصول والفروع لا يتحملون من الدّية شيئًا؛ لأنه قال: «لا يجني عليك ولا تجني عليه»، وإلى هذا ذهب أهل العلم، وقالوا: إن العَاقِلَة هم ذكور العَصَبة ما عدا الأصول والفروع، وأن الأصول والفروع لا يتحملون من الدية شيئًا، ولكن القول الراجح أنهم يتحملون، وأنهم أولى بالتحميل ممن وراءهم؛ لأن القرابة الذين سواهم من أين كانوا قرابة لك؟ منهم، فإذا كانوا هم الأصل فكيف يَحْمِل الفرع ولا يَحْمِل الأصل؟! فالصواب: أن الأصول والفروع من العَاقِلَة كما سواهم، ولكن لو قال قائل: كيف نجيب عن هذا الحديث؟ نقول: المراد الجناية التي يكون بها قصاص، يعني: لو جنى الابن جناية فيها قصاص، فإنه لا يُقتص من أبيه بدلًا عنه، ولو جنى الأب جناية فيها قصاص فإنه لا يُقتص من الابن نيابة عنه، أما مسألة الدية فإنه لا تَعَرُّض للحديث فيها. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (5/280-281).
وقال الشيخ عبد القادر شيبة الحمد -رحمه الله-:
ولا معارضة بين قول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: «إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه» وبين تحمُّل العَاقِلَة للدية في قتل الخطأ؛ لأن تحمُّل العَاقِلَة للدية ليس من باب تحمُّل جناية الغير، وإنما هي من باب التعاون والتعاضد وتخفيف البلوى عن المبتلى بها من العصبة. وقد أقرَّت جميع الشرائع السماوية قاعدة: أنه لا يجني جانٍ إلا على نفسه، فلا يتحمل أحد وزر أحد، وإلى ذلك يشير اللَّه -عزَّ وجلَّ- حيث يقول: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} النجم: 36-39، وكما قال -عزّ وجلّ-: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} فاطر: 18. فقه الإسلام شرح بلوغ المرام (8/213).