قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أتَعْلم أول زُمْرَةٍ تدخل الجنة من أُمَّتي؟» قال: الله ورسوله أعلم، فقال: «المهاجرون، يأتون يوم القيامة إلى باب الجنة ويَسْتَفْتِحُونَ، فيقول لهم الخَزَنَةُ: أوَ قد حُوسِبْتِم؟ فيقولون: بأي شيء نُحاسَب وإنما كانت أسيافُنا على عَوَاتِقِنَا في سبيل الله حتى مِتْنَا على ذلك؟ قال: فيُفتح لهم، فَيَقِيلُونَ فيها أربعين عامًا قبل أن يَدخلها الناس».
رواه الحاكم في المستدرك برقم: (2389) واللفظ له، وعنه البيهقي في شُعَب الإيمان برقم: (3955)، وهو عند أحمد برقم: (6570)، وعند ابن حبان برقم: (7421)، وعند الطبراني في الكبير برقم: (151) بسياق آخر مختلف، وجميعهم عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-.
صحيح الجامع برقم: (96)، سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (853).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«زُمْرَة»:
أي: جماعة. مشارق الأنوار، للقاضي عياض (1/ 311).
«يَسْتَفْتِحُونَ»:
الاستفتاحُ: الافتِتَاحُ، يُقَال: استَفْتَحْت الشيْءَ وافتَتحْتُه، وجاءَ يَستفتِح البابَ. تاج العروس، للزبيدي (7/ 6).
«الخَزَنَة»:
جمع خَازِن، وهو الذي يَخْزِن تحت يده الأشياء. عمدة القاري، للعيني (14/ 135).
وقال المظهري -رحمه الله-:
الخازن: واحد الخَزَنَة، وهو مَلَكٌ موكَّلٌ بحفظ الجنة، سُمِّيَ خازنًا؛ لأن الجنةَ خِزانةُ الله -سبحانه وتعالى-، أعدَّها للمؤمنين، وهو حافظُها. المفاتيح في شرح المصابيح (6/ 87).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
والخَزَنة جمع خازِن، مثل حَفَظة وحافِظ، وهو المؤتَمن على الشيء الذي قد استُحْفِظَه. فتح القريب المجيب (14/ 670).
«فَيَقِيلُونَ»:
المقِيْلُ والقيلولة: الاستراحة نصف النهار، وإن لم يكن معها نوم، يقال: قالَ يَقِيْلُ قيلولة، فهو قائل. النهاية، لابن الأثير (4/ 133).
«عَوَاتِقِنَا»:
العاتِق: ما بين المنكب والعُنق. إكمال المعلم، للقاضي عياض (7/ 304)
شرح الحديث
قوله: «أتَعْلَم أول زُمْرَةٍ تدخل الجنة من أمتي؟»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
«أول زُمرة» بضم الزاي، أي: طائفة وجماعة. التنوير شرح الجامع الصغير (4/ 329).
قوله: «قال: الله ورسوله أعلم»:
قال ابن علان -رحمه الله-:
«الله ورسوله أعلم» فيه بيان أنَّ الأدب إذا سُئل الإنسان عما لا عِلْم له به أن يَكِلَ العلمَ فيه إلى الله سبحانه، ولا يتكلَّم فيما لا عِلْمَ له به، وليس من التكلُّم بلا علم ما يستنبطه أهل العلم، ويستخرجونه بما عندهم من جودة الذهن، وحُسن الفِكر، بل هو من التكلم بالعلم، قال تعالى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُم} النساء: 83. دليل الفالحين (4/ 296-297).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«الله ورسوله أعلم» (أعلم) هنا مفرد، وهو خبر عن اثنين «الله ورسوله أعلم»؛ وذلك لأن اسم التفضيل يُلتزم فيه الإفراد والتذكير إذا كان على تقدير (من)، أما إذا لم يكن على تقدير (من) فإنه يكون مطابقًا للموصوف، فيقول: زيد وعمرو الأفضلان، ولا تقول: زيد وعمرو أفضلان، وليس على تقدير (من)، أما إذا كان على تقدير أَفْضل من كذا، أو أَعْلَم من كذا، فإنه يلتزم فيه الإفراد والتذكير. وهكذا ينبغي للإنسان إذا سُئل عن شيء لا يعلمه، أن يقول: الله ورسوله أعلم، في الأمور الشرعية يقول الآن وقبل الآن، أما في الأمور الكونية فيقول: الله أعلم فقط، والفرق: أنَّ الأمور الكونية عِلْمُها علْم غيب محض، والرسول -صلى الله عليه وسلم- ليس عنده مِن علم الغيب إلا ما أعلمه الله، أما الأمور الشرعية فعلمها علم شرعي، والرسول -صلى الله عليه وسلم- أعلم الناس بالشرع، حتى وإن كان ميتًا، فهو أعلم الناس، فيجوز أن أقول الآن في حكم شرعي: الله ورسوله أعلم، أما لو قيل لي: هل يقدم فلانًا غدًا؟ فأقول: الله أعلم فقط، يعني: في حكم الله. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (5/ 300).
قوله: «فقال: المهاجرون، يأتون يوم القيامة إلى باب الجنة ويَسْتَفْتِحُونَ»:
قال السندي -رحمه الله-:
قوله: «المهاجرون» يحتمل: أنْ يقال: إنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- داخل فيهم، أو يقال: الكلام فيما عدا الأنبياء -عليهم السلام-، وإلا فتَقَدُّم الأنبياء معلوم. حاشية السندي على مسند أحمد (2/226).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
السَّبق إلى الفوز من أهوال يوم القيامة والصِّراط أولى من المقام في تلك الأهوال بالضرورة، فالسابق إلى ذلك أفضل بالضرورة، وحينئذٍ لا يُلتفت لقولِ مَن قال: إنَّ السَّبق إلى الجنة لا يدل على أفضلية السابق. وزخرف ذلك: بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أفضل الخليقة، ومع ذلك فدخوله الجنة متأخرٌ عن دخول هؤلاء الفقراء؛ لأنهم يدخلون قبله، وهو في أرض القيامة؛ تارة عند الميزان، وتارة عند الصراط، وتارة عند الحوض، كما قد أخبر عن ذلك فيما صح عنه. وهذا قول باطل صدر عمَّن هو بما ذكرناه وبالنقل جاهل، فكأنه لم يسمع ما تقدم في كتاب الإيمان مِن قوله -صلى الله عليه وسلم-: «أنا أول مَن يَقْرَعُ باب الجنة، فيقول الخازن: مَن أنت؟ فأقول: أنا محمد، فيقول الخازن: بك أُمِرْتُ، لا أَفْتَحُ لأحد قبلك». وفي حديثٍ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «أنا أول مَن يدخل الجنة، ومعي فقراء المهاجرين». وعلى هذا فيدخل الجنة، ويتسلَّم ما أُعِدَّ له فيها، ويُبَوِّئ الفقراءَ منازلهم، ثم يرجع إلى أرض القيامة ليخلص أُمَّته بمقتضى ما جعل الله في قلبه من الحنوّ على أُمَّته والشفقة عليهم، والرأفة بهم، فيلازمهم في أوقات شدائدهم، ويسعى بما يمكنه في نجاتهم، فيحضرهم عند وزن أعمالهم، ويسقيهم عند ظمئهم، ويدعو لهم بالسلامة عند جوازهم، ويشفع لمن دخل النار منهم، وهو مع ذلك كله في أعلى نعيم الجنة الذي هو غاية القُرب من الحق، والجاه الذي لم ينله أحد غيره من الخلق، ولذة النظر إلى وجه الله الكريم، وسماع كلامه الحكيم بألطف خطاب، وأكرم تكليم، كيف لا، وهو يسمع: «يا محمد، قل يُسْمع لك، سَلْ تُعْطَ، اشفع تُشَفَّع، فيقول: أُمَّتي أُمَّتي أُمَّتي، فيقال: انطلق فأدْخِل الجنة ِمن أُمَّتِك مَن لا حساب عليه من الباب الأيمن». وهذه خطوة لا تتسع لها العبارات، ولا تحيط بها الإشارات، حَشَرَنا الله في زمرته، ولا خيَّبَنا من شفاعته. قال القاضي أبو الفضل: ويحتمل: أن هؤلاء السابقين إلى الجنة يتنعمون في أفنيتها وظِلالها، ويتلذَّذون بما هم فيه إلى أن يدخل محمد -صلى الله عليه وسلم- بعد تمام شفاعته، ثم يدخلونها معه على قَدْرِ منازلهم وسَبْقِهم، والله تعالى أعلم. المفهم (7/ 135-136).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
اختلفت هذه الأحاديث في أي الفقراء هم السابقون؟ وفي مقدار المدة التي بها يسبقون؟ فهذان موضعان وقع فيهما الاختلاف، ويرتفع الخلاف عن الموضع الأول بأن يُرَدَّ مطلق حديث أبي هريرة إلى مقيَّد روايته الأخرى، ورواية جابر -رضي الله عنه-، فيُعنى بالفقراء: فقراء المسلمين، وحينئذٍ يكون حديث عبد الله بن عمرو وحديث أبي سعيد مخصوصًا بفقراء المهاجرين، وحديث أبي هريرة وجابر يعم جميع فقراء قرون المسلمين، فيدخل الجنة فقراء كل قرن قبل أغنيائهم بالمقدار المذكور، وهذه طريقة حسنة، ونزيدها وضوحًا بما قد صح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «أصحاب الجنة محبوسون على قَنْطَرة بين الجنة والنار، يسألون عن فضول أموال كانت بأيديهم» رواه البخاري، وهذا واضح. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (26/ 388-389).
قوله: «فيقول لهم الخَزَنَةُ: أوَ قد حُوسِبْتُم؟»:
قال الشيخ حسن أبو الأشبال -حفظه الله-:
«أوَ قد حُوسِبْتُم؟» أي: هل قد حاسبكم الله -عز وجل-؟ شرح صحيح مسلم (4/ 7).
قوله: «فيقولون: بأي شيء نُحاسَب، وإنما كانت أَسيافُنا على عَوَاتِقِنَا في سبيل الله حتى مِتْنَا على ذلك؟»:
قال الشيخ عمر سليمان الأشقر -رحمه الله-:
وقد بيّن الرسول -صلى الله عليه وسلم- في موضع آخر أنَّ هؤلاء لم يكن عندهم شيء يحاسَبون عليه، هذا مع جهادهم وفضلهم، أخرج الحاكم في مستدركه عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أتَعْلَم أول زمرة تدخل الجنة من أُمَّتي؟ قلتُ: الله ورسوله أعلم، فقال: فقراء المهاجرين، يأتون يوم القيامة إلى باب الجنة، ويستفتحون، فيقول لهم الخزنة: أوَ قد حُوسِبْتُم؟ فيقولون: بأي شيء نُحاسَب، وإنما كانت أسيافنا على عواتقنا في سبيل الله حتى مِتْنَا على ذلك؟ قال: فيُفتح لهم، فيقِيْلُون فيه أربعين عامًا قبل أن يدخلها الناس». وفي صحيح البخاري عن أسامة بن زيد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «قمتُ على باب الجنة، فكان عامة مَن دخلها المساكين، وأصحاب الجَدِّ محبوسون غير أن أصحاب النار قد أُمِرَ بهم إلى النار»، وأصحاب الجد هم الأغنياء من المسلمين. وقد وقع في الأحاديث السابقة أن الفقراء يسبقون الأغنياء بأربعين خريفًا، وجاء في حديث آخر بخمسمائة عام، ووجه التوفيق بين الحديثين: أنَّ الفقراء مختلفو الحال، وكذلك الأغنياء -كما يقول القرطبي-، فالفقراء متفاوتون في قوة إيمانهم وتقدمهم، والأغنياء كذلك، فإذا كان الحساب باعتبار أول الفقراء دخولًا الجنة، وآخر الأغنياء دخولًا الجنة، فتكون المدة خمسمائة عام، أما إذا نظرت إلى آخر الفقراء دخولًا الجنة، وأول الأغنياء دخولًا الجنة، فتكون المدة أربعين خريفًا، باعتبار أول الفقراء، وآخر الأغنياء، والله أعلم. الجنة والنار (ص: 126-127).
قوله: «قال: فيُفتح لهم، فَيَقِيلُونَ فيها أربعين عامًا قبل أن يدخلها الناس»:
قال الشيخ حسن أبو الأشبال -حفظه الله-:
«فيقيلون فيها أربعين عامًا قبل أن يدخلها الناس» أي: يمكثون في الجنة أربعين عامًا قبل أن يدخلها بقية أهلها. شرح صحيح مسلم (4/ 7).
وللاستفادة من الروايات الأخرى ينظر (هنا) و (هنا)