«يا نساءَ المسلمات، لا تَحْقِرنَّ جارةٌ لجارتِها، ولو فِرْسَنَ شاةٍ».
رواه البخاري برقم: (2566) واللفظ له، ومسلم برقم: (1030)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«تَحْقِرنَّ»:
بفتح حرف المضارعة، وبالنون الثقيلة أي: لا تستحقِر إهداء شيء أو التصدُّق به. مرقاة المفاتيح، للقاري (4/ 1336).
«فِرْسَن»:
عَظْمٌ قليل اللحم، وهو خُفُّ البعير، كالحافر للدابة، وقد يُستعار للشاة فيقال: فِرْسَن شاة، والذي للشاة هو الظَّلف. النهاية، لابن الأثير(3/429).
شرح الحديث
قوله: «يا نساء المسلمات»:
قال السيوطي -رحمه الله-:
«يا نساء المسلمات» ضُبط بِنصب «نسَاء»، وجُر المسلمات على الْإِضَافَة؛ من إِضَافَة الْأَعَمّ إِلَى الْأَخَص، كمسجد الْجَامِع على تَقْدِير: يَا نسَاء الْأَنْفس المسلمات، وَقيل: تَقْدِيره: يَا فاضلات المسلمات، كَمَا يُقَال: هَؤُلَاءِ رجال الْقَوْم، أَي سادتهم وأفاضلهم.
وبرفع نسَاء وَالْمُسلمَات مَعًا على النداء، أَو الصّفة، أَي: يَا أيتها النِّسَاءُ المسلمات، وبرفع نسَاء، وَكسر المسلمات على أنه مَنْصُوب على الصّفة على الْموضع، كَمَا يُقَال: يَا زيد الْعَاقِل، بِرَفْع الْعَاقِل، ونصبه. شرح مسلم (3/ 106).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
«يا نساء المسلمات» لا بد من إضمار في قوله: «يا نساء المسلمات»؛ لأن إضافة الموصوف إلى الصفة غير جائز، فتقدير الكلام: يا نساء الطوائف المسلمات. الميسر في شرح مصابيح السنة (2/ 443-444).
وقال المغربي -رحمه الله-:
قال ابن رُشيد -رحمه الله-: إن الخطاب لنساء بأعيانهن، فكأنه قال: يا خَيِّرَات المسلمات.
وتُعُقِّبَ بأنه لم يخصهن بالحكم؛ لأن غيرهن شارَكَهُن في الحكم.
وأُجِيبَ: بأن المشاركة إنما كانت بطريق الإلحاق، والخطاب لمعيَّن.
وأنكر ابن عبد البرّ -رحمه الله- رواية الإضافة، وردّه ابن السيد -رحمه الله- بأنها قد صحَّت نقلًا، واستقامت من حيث المعنى.
وقال السهيلي وغيره -رحمهم الله-: جاء برفع الهمزة في النساء على أنه منادى مفرد، ويجوز في المسلمات الرفع على اللفظ، والنصب على المحل.
وقد رواه الطبراني من حديث عائشة: «يا نساء المؤمنين». البدر التمام شرح بلوغ المرام (6/445).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: «يا نساء المؤمنات» رويناه عن بعض شيوخنا بنصب «نساء» وخفض «المؤمنات» على الإضافة، فيكون من إضافةِ الشيء إلى نفسه، كقولهم: مسجدُ الجامع، أو إضافة الأعمّ للأخص، كقوله تعالى: {مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} الحج: 27. وإن كان لفظة البهيمة أعمُّ كما لَفْظ النساء هنا أعم، أو على معنى التعظيم، أي: يا فاضلات المؤمنات، كما يقال: هَؤُلاءِ رجالُ القوم، أي: سادتهم وأفاضِلهُم. إكمال المعلم (3/ 561).
وقال محمد أنور شاه الكشميري -رحمه الله-:
قوله: «يا نساء المسلمين»... الخ.
اعلم أن إضافة الموصوف إلى الصفة جائزة عند الكوفيين، وخالفهم البصريون، وأوَّلوا في مثل هذه المواضيع؛ وليس بشيء؛ فإن كثرة الاستعمال دليل الجواز، فمذهب الكوفيين أرجح. فيض الباري على صحيح البخاري (4/42).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
وعندي أن أقرب الأوجه أنه مِن حذف الموصوف، وإقامة الصفة مقامه؛ أي: يا نساء الأنفس المسلمات، كما هو رأي البصريين، وإلى ترجيح مذهبهم أشار ابن مالك -رحمه الله- في (الخلاصة) حيث قال:
وَلَا يُضَافُ اسْمٌ لِمَا بِهِ اتَّحَدْ *** مَعْنًى وَأَوِّلْ مُوهِمًا إِذَا وَرَدْ. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج (19/ 544).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
خص النهي بالنساء؛ لأنهن موارد المودة والبغضاء؛ ولأنهن أسرع انفعالًا في كل منهما. فتح الباري (10/445).
وقال المغربي -رحمه الله-:
ولعل تخصيص النساء بذلك لما كان النساء بحسب الأغلب إنما يتصرفن فيما يملكه الزوج، فنُبِّهْنَ بالمهاداة بالشيء اليسير الذي تطيب نفوس الأزواج بإهدائه من أموالهم من متاع البيت. البدرُ التمام شرح بلوغ المرام (6/446).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
خُصَّ النداء بنساء المسلمات؛ لأن المرأة المسلمة هي التي يحملها إسلامها على قبول ما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم-، فهو من باب الإغراء والحث على قبول ما أمر به -صلى الله عليه وسلم-. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (4/321).
وقال الشيخ مصطفى ديب البغا -حفظه الله-:
خصَّ النساء بالخطاب؛ لأنهن يغلب عليهن استصغار الشيء اليسير، والتباهي بالكثرة، وأشباه ذلك. الخلاصة في شرح الأربعين الاجتماعية (ص: 47).
قوله: «لا تحقرنَّ جارة لجارتها»:
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
وقوله: «لا تحقرن»، هذا نهي، وفيه إشكال من حيث الإعراب؛ لأن المعروف أن «لا» الناهية تجزم الفعل، وهنا الفعل آخره الراء وهو غير مجزوم، بل هو مفتوح، ولننظر ماذا تقولون؟
لأنه مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد.
لكن يرد على هذا قوله تعالى: {ثُمّ لَتُسْأَلُنّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النّعِيمِ} التكاثر: 8؛ فإن الفعل هنا متصل بنون التوكيد ولم يُبْنَ.
إذن نقول: يُبنى على الفتح إذا كانت مباشرة لفظًا وتقديرًا، وهذه لفظًا لا تقديرًا. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (4/321).
قال عبد الحق الدِّهْلوي -رحمه الله-:
وقوله: «لا تحقرن» بصيغة المعلوم، والمراد الحقارة في الإهداء، أي: لا تحقر امرأةٌ أن تهدي إلى جارتها. لمعات التنقيح (4/349).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «لا تحقرن» أي: لا تستحقر إهداءَ شيء أو تَصَدُّقه. مرقاة المفاتيح (4/1336).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «لا تَحقرَنَّ...» يعني: لا ينبغي لامرأةٍ أن تتركَ الصدقةَ إلى جارتها وإن كانت تلك الصدقةُ شيئًا قليلًا، ولا ينبغي لها أن تستحي من الصدقة بشيء قليلٍ، فإن الله تعالى يقبَل القليلَ، ويَجزِي به جزاءً كثيرًا. المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 532-533).
وقال التُّورِبِشْتِي -رحمه الله-:
وفي قوله: «لا تحقرن جارة لجارتها» اختصارًا لمعرفة المخاطَبين بالمراد منه، أي: لا تحقرنَّ أن تُهدي إلى جارتها. الميسر في شرح مصابيح السنة (2/ 444).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«لا تحقرنّ جارة» أسْدَت «لجارتها» شيئًا من المعروف، فتمتنع منه لِقِلَّتِه. دليل الفالحين (2/360).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
ويمكن أن يقال: إنه من النهي عن الشيء، والأمر بضده، وهو كناية عن التَّحاب والتّواد. الكاشف عن حقائق السنن (5/1543-1544).
وقال الشيخ عبد الكريم الخضير -حفظه الله-:
قوله: «لا تحقرن إحداكن»؛ لأن بعض الناس يحتقر الصدقة إذا كانت قليلة، وهذا أُشِير إليه في القرآن أنه من صنيع المنافقين، حتى بعض الناس لا سيما في ظروف السعة، وليس بحاجة إلى أن يُتَصَدق عليه، فإذا جيء له بشيء يسير احتقره.
وأشد من هذا إذا حصلت ضيافة لشخص تعوَّد على أنه يُسْرَف في إكرامه، ثم بعد ذلك وُضِعَ له أقل من ذلك، فإنه يَتَبَرَّم بهذا، ويضيق به ذرعًا، بعض الناس ما يتحمل مثل هذه الأمور، تعوَّد على شيء لا يستطيع الفطام عنه، هذا لا شك أنه من ازدراء نعمة الله.
والشيء اليسير إن كنتَ لا تحتاجه اقبله من صاحبك، واجْبُرْ خاطره، وادفعه إلى غيرك. شرح الموطأ (182/14).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
يعني: لا تمنع إحداكن من الهدية لجارتها؛ احتقارًا للموجود عندها، ويجوز أن يكون الخطاب لمن أُهدي إليهن، فالمعنى: لا تحقرنّ إحداكن هدية جارتها، بل تقبلها وإن كانت قليلة. شرح مصابيح السنة (2/465).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
قيل: يحتمل: أن يكون النهى عن الاحتقار للمُعْطَاة.
ويحتمل: أن يكون ذلك للمُعْطِية، وأن تَصِلَ جارتها بما أمكنها، ولا يمنعها إن لم تجد الكثير أن تصل بالقليل، وهذا الوجه هو الظاهر من تأويل مالِكٍ في إدخال الحديث في الموطأ في باب الترغيب في الصدقة. إكمال المعلم بفوائد مسلم (3/561).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
قوله: «لا تحقرن» هذا النهي إما للمُعْطِية، أي: لا تمتنع جارةٌ بالصدقة لجارتها؛ لاستقلالها واحتقارها، بل تجود بما تَيَسَّر، وإن كان قليلًا، كفِرْسَن شاة، فهو خير من العَدم، وإما للمُعْطَاة المتصدَّق عليها. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (21/174).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
النهي للمعطِية أي: لا تمنع جارة من الصدقة لجارتها؛ لاستقلالها واحتقارها، للمعطاة، أي: لا تمنع جارة من أخذ ما تَصَدَّقت به عليها جارتها؛ لاستقلاله واحتقاره. منحة الباري بشرح صحيح البخاري (9/179).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
ولا يتم حمله على الْمُهْدَى إليها إلا بجعل اللام في قوله: «لجارتها» بمعنى: (مِن)، ولا يمتنع حمله على المعنيين. فتح الباري (10/445).
قوله: «جارة لجارتها»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:كذا للأكثر، ولأبي ذر: «لجارة» والمتعلق محذوف تقديره: هدية مُهْدَاة. فتح الباري (5/198).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «جارة» الجارة مؤنث الجار، ويقال للزوجة: جار؛ لأنها تُجَاوِر زوجها في محل واحد.
وقيل: العرب تُكَنِّي عن الضّرَّة بالجارة تَطَيُّرًا من الضرر، ومنه: كان ابن عباس -رضي الله عنهما- ينام بين جاريتيه (أي: زوجتيه).
قوله: «لجارتها» ظاهره المرأة التي تُجَاوِرُ المرأة التي تُسمى جارة مؤنث الجار. عمدة القاري (13/ 126).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
الجارة: هي القريبة، وليس المراد بالجارة: الضَّرَّة، يعني: الزوجة الثانية للزوج، المراد بالجارة هنا القريبة. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (4/321).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
والجار يتناول المسلم والكافر، والإحسان يشمل كل نوع من الأموال والأقوال والأفعال. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (9/421).
وقال الملا علي قاري -رحمه الله-:
«جارة» أي: فقيرة أو غنية منكن أو من غيركن...،«لجارتها» أي: لأجلها وإن كانت من الأكابر. مرقاة المفاتيح (4/1336).
قوله: «ولو فِرْسَنَ شاةٍ»:
قال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
«ولو» هنا للتقليل. المفهم (3/75)
وقال ابن علان -رحمه الله-:
و«لو» في الحديث مثلها في الحديث الآخر: «اتقوا النار ولو بشق تمرة».
قال ابن هشام -رحمه الله- في (المغني) في ذكر معاني (لو): ذكر ابن هشام اللخمي -رحمه الله- وغيره: أنها تجيء للتقليل، قال: ومثَّل له بقوله تعالى: {وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} النساء: 135.
قال: وفيه نظر.
قال ابن أقبرس -رحمه الله-: لعل النظر في خصوص مثاله، لا في إفادتها معنى التقليل في نحو: «ولو بشق تمرة»، «ولو خاتمًا من حديد». اهـ. دليل الفالحين (2/361-362).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
يعني: لِتَبْعَثَ كلُّ جارة إلى جارتها مما عندها من الطعام وإن كان شيئًا قليلًا. شرح مصابيح السنة (3/509).
وقال التُّورِبِشْتِي -رحمه الله-:
«ولو» أن تُهدي «فِرْسَن شاة» وإن كان مما لا يُنتفع به؛ فإنه استعمل ههنا على المعتاد من مذهب العرب في كلامهم إذا بالغوا في الأمر وحثوا عليه، وفي معناه قوله -صلى الله عليه وسلم-: «ولو بِظِلْفٍ مُحْرَقٍ».
ومن هذا الباب: قوله -صلى الله عليه وسلم-: «مَن بني لله مسجدًا ولو كمِفْحَص قَطَاة»، ومقدار الْمِفْحَصِ لا يمكن أن يُتَّخذ مسجدًا، وإنما هو على سبيل المبالغة في الكلام من مذاهب العرب. الميسر في شرح مصابيح السنة (2/ 444).
وقال المناوي -رحمه الله-:
قوله: «ولو» أن تبعث إليها وتتفقَّدها «بشق فِرْسَن شاة» وهو قطعة لحم بين ظِلْفَي الشاة. فيض القدير (3/272).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«ولو كان فِرْسَن شاة» أي: ظِلْفها هديَّة. شرح مصابيح السنة (2/465).
وقال عبد الحق الدِّهْلوي -رحمه الله-:
«ولو» أن تهدي «فِرْسَن شاة» أي: لا ينبغي ترك الصدقة وإن كان شيئًا قليلًا، وأن يستحيا منها. لمعات التنقيح (4/349).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
كأنه قيل: لتحاب جارة جارتها بإرسال هدية ولو كانت حقيرة، ويتساوى فيه الفقير والغني، ونحوه قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لو أُهْدِيَ إليَّ ذِرَاعٌ لقبلتُ». الكاشف عن حقائق السنن (5/1543-1544).
وقال الطيبي -رحمه الله- أيضًا:
أرشد -صلى الله عليه وسلم- الناس إلى أنَّ التهادي يزيل الضغائن، ثم بالغ فيه حتى ذكر أحقر الأشياء بين أبغض البغيضين، إذا حمل الجارة على الضرة، وهو الظاهر لمعنى التتميم. الكاشف عن حقائق السنن (7/ 2233).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
وأُشير بذلك إلى المبالغة في إهداء الشيء اليسير وقبوله، لا إلى حقيقة الفِرْسَن؛ لأنه لم تجر العادة بإهدائه. أي: لا تمنع جارة من الهدية لجارتها الموجود عندها؛ لاستقلاله، بل ينبغي أن تجود لها بما تيسر، وإن كان قليلًا فهو خير من العدم، وإذا تواصل القليل صار كثيرًا، وفي حديث عائشة -رضي الله عنها- المذكور: «يا نساء المؤمنين، تهادوا، ولو فِرْسَن شاة، فإنه يثبت المودة ويذهب الضغائن». إرشاد الساري (4/334).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
والمراد المبالغة في الإحسان على الجار بكل ما أمكن. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (9/421).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا تحقرن جارة لجارتها ولو فِرْسَن شاة» يعني: أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- في هذا الحديث حث على الهدية للجار ولو شيئًا قليلًا، قال: «ولو فِرْسَن شاة» الفِرْسَن ما يكون في ظِلْفِ الشاة، وهو شيء بسيط زهيد، كأن النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: لا تحقرن من المعروف شيئًا ولو قلَّ.
وقد جاء عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: «إذا طبختَ مرقة فأكثر ماءها، وتعاهد جيرانك»، حتى المرق إذا أعطيتَه جيرانك هدية فإنك تثاب على ذلك.
كذلك أيضًا: «لا تحقرن شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق» فإن هذا من المعروف، إذًا لا تلقَ أخاك بوجه عبوس مُكْفَهر، بل بوجه منطلق منشرح، فإنَّ هذا من الخير ومن المعروف؛ لأن أخاك إذا واجهته بهذه المواجهة يدخل عليه السرور ويفرح، وكل شيء يدخل السرور على أخيك المسلم فإنه خير وأجر، كل شيء تغيظ به الكافر فإنه خير وأجر. قال الله تعالى: {وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} التوبة:120. شرح رياض الصالحين (2/ 168-169).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
قوله: «ولو فِرْسَن شاة» أي: ولو كان المهدَى مما لا وقع له، والنهي للمعطِية أي: لا تمنع جارة من الصدقة لجارتها؛ لاستقلالها واحتقارها، للمعطاة، أي: لا تمنع جارة من أخذ ما تَصَدَّقت به عليها جارتها؛ لاستقلاله واحتقاره. منحة الباري بشرح صحيح البخاري (9/179).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«فِرْسَن شاة» كناية عن القِلَّة، ويحتمل: أن يكون نهيًا للمعطاة: أي لا تحتقر المعطاة الشيء القليل، بل تشكر ذلك، ففي الحديث: «لا يشكر الله من لا يشكر الناس». دليل الفالحين (2/360).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
حاصله: أن فيه اختصارًا؛ لأن المخاطَبين يعرفون المراد منه، أي: لا تحقرن أن تهدي إلى جارتها شيئًا ولو أنها تهدي لها ما لا يُنتفع به في الغالب.
ويحتمل: أن يكون من باب النهي عن الشيء أمر بضده، وهو كناية عن التَّحابُبِ والتَّوَادُدِ، فكأنه قال: لِتُوَادِدَ الجارة جارتها بهدية ولو حَقُرَتْ، فيتساوى في ذلك الغني والفقير. فتح الباري (10/445).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
فيه: شدّة اهتمام النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في توجيه أُمَّته رجالًا ونساءً، فليست توجيهاته قاصرةً على الرجال فقط. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج (19/ 546).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
في هذا الحديث من الفقه: ألا يُحْقر قليل المعروف؛ فإنه لا يَحْقِرُه إلا قليل العلم، فإنه إذا نظر إلى ما يتقبل الله تعالى منه لم يَسُغْ له احتقار شيء يتقبَّله الله تعالى. الإفصاح عن معاني الصحاح (6/271).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
في هذا الحديث: الحضّ على الصدقة بكل ما أمكن من قليل الأشياء وكثيرها، وفي قول الله -عز وجل-: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} الزلزلة: 7. التمهيد (4/301).
وقال العيني -رحمه الله-:
وفي الحديث: الحض على التهادي ولو باليسير؛ لما فيه من استجلاب المودة، وإذهاب الشحناء؛ ولما فيه من التعاون على أمر المعيشة.
والهدية إذا كانت يسيرة فهي أدل على المودة، وأسقط للمؤنة، وأسهل على الْمُهدِي؛ لإطراح التكليف، والكثير قد لا يتيسر كل وقت، والمواصلة باليسير تكون كالكثير. عمدة القاري (13/ 126).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
في هذا الحديث: الحض على مهاداة الجار وصِلَته، وإنما أشار النبي -عليه السلام- بفِرْسَن الشاة إلى القليل من الهدية، لا إلى إعطاء الفِرْسَن؛ لأنه لا فائدة فيه، وقد قال -عليه السلام- لأبي تميمة الهجيمي: «لا تحقرن من المعروف شيئًا ولو أن تضع مِن دَلْوِك في إناء المستقي». شرح صحيح البخاري (9/ 222).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
وفيه: أن مِن السُّنة مشاركة الواجد المعدم، وأن يكون الناس يشتركون فيما في أيديهم بالتفضُّل من الواجد. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (16/ 278-279).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
فنستفيد من هذا الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يهدي لجيرانه ولو شيئًا قليلًا، وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إذا اشتريتَ لحمًا فأكثر مَرَقَهَا وتعاهد جيرانك»، حتى في هذا الأمر؛ وذلك لما يترتب عليه من الفائدة، وهي الأُلفة بين الجيران، ولا شك أن الأُلفة بين الجيران فيها مصالح كثيرة:
منها: التعاون على البِرِّ والتقوى فيما إذا كان أحدهما مقصرًا.
ومنها: الحماية والرعاية؛ لأن جارك يحميك.
ومنها: التغاضي عن الحقوق إذا كان بينك وبينه حقٌّ، ومعلوم أن الجار بينه وبين جاره حق، فإذا كنتَ تهدي إليه، ويهدي إليك تغاضى عن حقوقك، وتغاضيت أنت عن حقوقه.
ومنها: أن الإنسان ينال بها كمال الإيمان؛ لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره»؛ ولهذا أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالهدية إلى الجيران حتى في الشيء القليل.
ومنها: جواز هدية المرأة من بيت زوجها للشيء اليسير؛ لقوله: «جارة لجارتها»، والعلماء -رحمهم الله- قيدوا ذلك بشرط: ألا يكون الزوج بخيلًا لا يرضى، فإن كان بخيلًا لا يرضى فإنه لا يجوز لها أن تُهدي شيئًا من بيت زوجها حتى ولو قليلًا.
وقد كان بعض النساء المجتهدات المحبات للخير تُهدي الشيء القليل ولو كان الزوج قد نهاها، وتقول: إنه يَفْسُد؛ لأن بعض الأزواج يقول لزوجته: لا تهدي شيئًا أبدًا، ولو فسد الطعام، فمن النساء مَن تقول: إذا كان يفسد فأنا سأهدي.
وجوابنا على ذلك: أن نقول لها: لا يحل لك أن تهدي إذا نهاكِ عن الهدية؛ لأن المال ماله، والبيت بيته، والإثم الحاصل بفساد هذا المال عليه هو، أما أنت فليس لك الحق، لكن في هذه الحال ينبغي لها أن تعظه وتخوّفه من الله، فإذا بقي شيء من الطعام الذي يفسد تحثه على أن يتصدق به، وهذا يقع كثيرًا فيما إذا كان عند الزوج وليمة، أما إذا كانت المسألة عادية، فإنه يمكنها أن تجعل الطعام بقَدْرِ الحاجة فقط، وحينئذٍ لا يبقى شيء في الغالب، لكن إذا كان هناك دعوة فربما يبقى شيء كثير.
ومن فوائد الحديث: جواز صدقة المرأة من مالها بغير إذن زوجها، وجْهُهُ: أنه إذا جاز أن تتصدق من مال زوجها اليسير، فمن باب أولى أن تتصدق بشيء من مالها. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (4/321 -322).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
فيه: تنبيه على الأعلى بالأدنى في الطرفين في الهدية والمهْدِي. التنوير شرح الجامع الصغير (5/103).
وقال الشيخ فيصل ابن المبارك -رحمه الله-:
في هذا الحديث: الحث على صلة الجارة ولو بِظْلِفِ شاة، وفي معناه الحديث الآخر: «إذا طبختَ مرقة فأكثر ماءها، وتعاهد جيرانك». تطريز رياض الصالحين (ص: 106).
وقال الشيخ فيصل ابن المبارك -رحمه الله- أيضًا:
وفيه: الحث على فعل المعروف بين الجيران وإن قلَّ. تطريز رياض الصالحين (ص: 218).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
وفيه: حث على الهدية، واستجلاب القلوب. شرح مصابيح السنة (2/465).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
فيه: بيان شدّة عناية الشارع على ما يجلب المودّة والمحبّة بين المجتمعات، بحيث لا يوجد عندهم شحناء ولا بغضاء، بل يكونون يدًا واحدةً على مَن سواهم، وهذا معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضًا، ثم شبَّكَ بين أصابعه» متّفقٌ عليه، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «مثل المؤمنين في توادّهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، مَثَلُ الجسد؛ إذا اشتكى منه عضوٌ، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمَّى» متفق عليه، واللفظ لمسلم، والله تعالى أعلم بالصواب. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج (19/ 546)
وقال الشيخ عبد القادر الحمد –رحمه الله–:
والمقصود: أن المسلم ينبغي له أن لا يحتقر هديةً أُهديت إليه مهما صغرت، وأنه لا ينبغي له أن يمتنع عن الإِهداء بسبب صِغَر ما يمكن أن يُهْديه.
وفيه: تربية للمسلم على التواضع، وترك دواعي الكبر، واللَّه أعلم. فقه الإسلام شرح بلوغ المرام (6/116).
وللاستفادة من الرواية الأخرى ينظر (هنا)