اشْتَكَى فقراءُ المهاجرينَ إلى رسولِ اللَّهِ -صلَّى الله عليه وسلَّم- ما فضَّلَ اللَّهُ به عليهم أغنياءَهُم، فقال: «يا مَعْشَرَ الفقراءِ، ألا أُبَشِّرُكُمْ؟ أنَّ فقراءَ المؤمنينَ يدخُلُونَ الجنَّةَ قَبْلَ أغنيائِهِم بنصْفِ يومٍ، خمسمائةِ عامٍ»، ثم تلا موسى (ابن عبيدة) هذه الآيةَ: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} الحج: 47».
رواه ابن ماجه برقم: (4124)، من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-، واللفظ له.
ورواه أحمد برقم: (10730)، والنسائي في الكبرى برقم: (11285)، وابن ماجه برقم: (4122)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
ورواه أبو داود برقم: (3666)، والترمذي برقم: (2351)، من حديث أبي سعيد الخُدْرِي -رضي الله عنه-.
وأصله في مسلم برقم: (2979)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-.
صحيح الجامع برقم: (7976)، من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-، والتعليقات الحسان على صحيح ابن حبان برقم: (674)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«اشْتَكَى»:
الشَّكْوَى: أنْ تُخْبِر عن مكرُوهٍ أصابَك، والشَّكْوُ والشَّكْوَى والشَّكَاةُ والشِّكَايَةُ: المرضُ. النهاية، لابن الأثير (2/ 497).
«مَعْشَرَ»:
المَعْشَر والنَّفَر والقَوْم والرَّهْط مَعْنَاهُمُ: الجمع، لا واحِدَ لهم مِن لفظِهِم...، وقال الليث: المَعْشَرُ كلُّ جماعةٍ أمرُهم واحِدٌ، نحو مَعْشر المسلمين، ومَعْشَر المشركين.لسان العرب لابن منظور(4/574)
والمعْشَر: مَفْعَل من المعاشرة، وهو الاجتماع والمخالطة. معجز أحمد، المعري (ص: 119).
وقال الزبيدي -رحمه الله-:
وقَيَّدَه بعضُهُم بأنَّه الجماعَةُ العظيمةُ...، وقِيل: المَعْشَرُ: أهلُ الرَّجُلِ. تاج العروس(13/ 53)
شرح الحديث
قوله: «اشْتَكَى فقراءُ المهاجرينَ إلى رسولِ اللَّهِ -صلَّى الله عليه وسلَّم-، ما فضَّلَ اللَّهُ به عليهم أغنياءَهُم»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
قوله: «اشتكى فقراء المهاجرين» من الشكوى «إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما فضل الله به عليهم أغنياءهم» من الأموال التي يتصدَّقون بها. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (25/ 152).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله- أيضًا:
قوله: «اشتكى فقراء المهاجرين» الذين هاجروا من أرض الكفر إلى غيرها؛ فرارًا بدينهم. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (25/ 153).
قوله: «فقال: «يا مَعْشَرَ الفقراءِ ألا أُبَشِّرُكُمْ؟»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فقال» لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يا معشر الفقراء، أَلَا» أي: انتبهوا واستمعوا إلى ما أقول لكم، «أبشركم» أيها الفقراء. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (25/ 152).
قوله: «أنَّ فقراءَ المؤمنينَ يدخُلُونَ الجنَّةَ قَبْلَ أغنيائِهِم بنصْفِ يومٍ، خمسمائةِ عامٍ»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«أنَّ فقراء المؤمنين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم» من أيام الآخرة، «خمسمائة عامٍ» بالجر؛ بدلٌ مِن «نصف يوم»، أو عطف بيان له. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (25/ 152).
وقال مكي بن أبي طالب -رحمه الله-:
مَعناهُ الفقراء من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يدخلون الجنة قبل الأغنياء مِن غير أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- لِفضل الصَحابة لا للفقر.الهداية إلى بلوغ النهاية(2/١٤٣٨)
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
وإنَّما دخلوا قبل الأغنياء؛ لأن الأغنياءَ وَقَفُوا في العَرصات للحساب، ويُسألون عن جهة تحصيل الأموال، وكيفية صرفها.
والمراد بـالفقراء: الصابرون الصالحون، وبالأغنياء: الأغنياء الشاكرون المؤدُّون حقوقَ أموالهم. شرح المصابيح (3/ 55).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -رحمه الله-:
المقصود بذلك: أن يؤخر الأغنياء عن دخول الجنة، وأن يمهلهم للحساب، ويدل عليه ما جاء في الحديث الذي فيه: «أن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة سنة»، فهو يبين معنى هذا الحديث، وأنه ليس المقصود بأن الدنيا تنتهي بعد خمسمائة سنة؛ لأنه مضى على هذا الحديث ألف وأربعمائة وزيادة، يعني: خمسمائة وخمسمائة والخمسمائة الثالثة هي الآن في خمسها الأخير، فإذًا: الذي يبدو أنه كما قال بعض أهل العلم: إن المقصود من ذلك تأخير الأغنياء في الحساب، فيتأخرون عن الفقراء الذين لا حساب عليهم، ويسبقونهم في دخول الجنة بهذه المدة التي هي خمسمائة سنة، أو نصف يوم.شرح سنن أبي داود.
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
ظاهر الحديث أن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام أو بمدة أخرى تتفاوت عن الخمسمائة عام، ولكن هذا فيما إذا تساوى المؤمن الغني والفقير؛ فإن الله يَجْبُرُ هذا الفقير الذي لم يتنعم في الدنيا بما تنعم به الغني فيقدمه على الغني في دخول الجنة، أما إذا كان الغني عنده من الأعمال الصالحة ما يفوق الفقير فالظاهر -والله أعلم- أن الغني يسبق الفقير بحسب سبقه للعمل الصالح، ويكون هذا الحديث مقيدًا بما إذا تساوى الغني والفقير، أو يقال: إن هؤلاء يسبقون الأغنياء دخولًا ولكن الأغنياء إذا دخلوا الجنة صاروا في منازلهم التي يستحقونها، وكانوا فوق الفقراء إذا كانوا يستحقون منزلة فوق الفقراء والجنة درجات {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} الأنعام:132.لقاء الباب المفتوح، لقاء رقم:(28).
وقال المنذري -رحمه الله-:
وفي لفظ الترمذي: «يدخُل فقراء المسلمين»، ولفظ ابن ماجه: «فقراء المؤمنين»، وأخرج مسلم في صحيحه من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص قال: سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: «إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنة بأربعين خَريفًا»، فيُجمع بينهما: بأنَّ فقراء المهاجرين يسبقون إلى الجنة قبل فقراء المسلمين بهذه المدة؛ لما لهم مِن فضل الهجرة، وكونهم تركوا أموالهم بمكة؛ رغبةً فيما عند اللَّه -عز وجل-. مختصر سنن أبي داود (2/ 537).
وقال محب الدين الطبري -رحمه الله- مُتعقِّبًا المنذري:
قلتُ: وفيما ذكره نظر، فإنَّ الحديث مُصرِّح بدخول الفقراء قبل الأغنياء، كيف يصح تأوله على الفقراء؟ وإنما يجمع بينهما بما لا يمكن أنْ يُدافَع؛ بأنْ يُحمل الأغنياء في حديث مسلم على أغنياء المهاجرين، ونقول: فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفًا؛ لفضل الهجرة، وكذلك فقراء غيرهم، وبل أولى، ويدخل الفقراء من المهاجرين ومن غيرهم قبل الأغنياء من المهاجرين بخمسمائة عام، فإنْ قيل: فقد أخرج الترمذي وابن ماجه: «إنَّ فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام»، وأخرج الترمذي أيضًا «يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفًا» قلنا: قال الحافظ المنذري: هذان الحديثان لا يَثْبُتَان، قلتُ: ولو ثَبَتَا أمكن الجمع بينهما؛ بأنْ يُحمل ذلك على اختلاف مراتب الغنى والشكر، والفقر والصبر عليه، فيدخل بعض فقراء المهاجرين قبل أغنيائهم بأربعين، وقبل بعضهم بخمسمائة، وكذلك فقراء المسلمين مع أغنيائهم، ولا يحفى تنزيل ذلك على الأحوال، والله أعلم. غاية الأحكام (4/181-182).
وقال العلقمي -رحمه الله-:
وهذا (أي: حديث: «بأربعين خريفًا») لا تعارض بينه وبين قوله في الخبر الآتي: «بخمسمائة سنة»؛ لاختلاف مدة السَّبْق باختلاف أحوال الفقراء والأغنياء، فمنهم سابِقٌ بأربعين، ومنهم بخمسمائة، كما يتفاوت مُكْث عُصاة الموحِّدين في النار باختلاف جرائمهم، وهذا كما ترى أعم وأفضل من تفريق البعض بأنَّ الفقير الحريص يتقدَّم على الغني بأربعين سنة، والزاهد بخمسمائة سنة، أو أراد بالأربعين التكثير لا التحديد، أو أنَّ خبر الخمسمائة متأخِّر، ويكون الشارع زاد في زمن سَبْقِ الدخول، ترغيبًا في الصبر على الفقر.
لكن ينبغي أنْ تعلم أنَّ سَبْقَ الدخول لا يستلزم رفع المنزلة، فقد يكون بعض المتأخرين أرفع درجة من السابقين، يرشد إليه أنَّ ممن يُحاسَب أفضل من الألف الداخلين بغير حساب، فالمزية مزيتان: مزية سَبْقٍ، ومزية رفعة، وقد تجتمعان، وقد تنفردان، ويحصل لواحدٍ السَّبْقُ والرفعة، ويعدمهما آخر، ويحصل لآخر واحد فقط، بحسب المقتضى. الكوكب المنير شرح الجامع الصغير (ص: 21) مخطوط.
وقال محمد الفنجاني -رحمه الله-:
وفي رواية لمسلم: «إنَّ فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنة بأربعين خريفًا»، وحديث مسلم يدل على تخصيص هذا الحكم بالفقراء من المهاجرين والأغنياء منهم، وحديث الباب يدل على العموم، وعلى كون السَّبْقِ بخمسمائة عام لغير المهاجرين من الأصحاب، وأيضًا ذلك في غير المهاجرين من الأصحاب، وبهذا يندفع المنافاة بين هذا الحديث وحديث مسلم.
وقيل: إنَّ الفقراء الذين في قلوبهم ميل ورغبة إلى الدنيا يتقدَّمون على الأغنياء بأربعين، والزُّهاد من الفقراء يتقدَّمون بخمسمائة. مفتاح الحاجة بشرح سنن ابن ماجه (4/284).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
فاختَلَفَت هذه الأحاديث في أي الفقراء هم السابقون؟ وفي مقدار المدة التي بها يسبقون؟ فهذان موضعان، ويرتفع الخلاف عن الموضع الأول بأنْ يُرَدَّ مُطْلَق حديث أبي هريرة إلى مُقَيَّد روايته الأخرى، ورواية جابر -رضي الله عنه-، فيعني بالفقراء: فقراء المسلمين، وحينئذٍ يكون حديث عبد الله بن عمر، وحديث أبي سعيد، مخصوصًا بفقراء المهاجرين، وحديث أبي هريرة وجابر يعم جميع فقراء قرون المسلمين، فيدخل الجنة فقراء كل قَرْنٍ قبل أغنيائهم بالمقدار المذكور، وهذه طريقة حسنة. المفهم (7/ 134).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
وإنَّما يسبق الفقراء الأغنياء إلى الجنة بنصف يوم؛ لعدم فضول الأموال التي يحاسَبون على مخارجها ومصارفها، فمن لم يكن له فضل كان من هؤلاء، وإن لم يكن مِن أهل الزكاة، ثم أرباب الفضول إن كانوا مُحْسِنِين في فضول أموالهم فقد يكونون بعد دخول الجنة أرفع درجة من كثير من الفقراء الذين سبقوهم، كما تقدَّم أغنياء الأنبياء والصديقين من السابقين وغيرهم على الفقراء الذين دونهم. مجموع الفتاوى (11/ 69).
وقال ابن الصلاح -رحمه الله-:
يدخل في هذا: الفقير الذي لا يملك شيئًا، والمسكين الذي يملك شيئًا، ولكن لا يملك تمام كفايته، إذا كانوا مؤمنين غير مرتكبين شيئًا من الكبائِر، ولا مُصِرِّينَ على شيء من الصَّغائِر، ويشْتَرط في ذلك: أنْ يكونا صابرَين على الفقر والمسكنة، راضِيَيْنِ بهما، والله أعلم. فتاوى ابن الصلاح (1/ 161).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
لا يُلتفت لقول مَن قال: إنَّ السَّبق إلى الجنة لا يدلُّ على أفضلية السابق، وزَخَرَفَ ذلك بأنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أفضل الخليقة، ومع ذلك فدخوله الجنة متأخِّر عن دخول هؤلاء الفقراء؛ لأنَّهم يدخلون قبله، وهو في أرض القيامة؛ تارة عند الميزان، وتارة عند الصراط، وتارة عند الحوض، كما قد أخبر عن ذلك فيما صح عنه، وهذا قول باطل صدر عمن هو بما ذكرناه وبالنقل جاهل، فكأنه لم يسمع ما تقدَّم في كتاب الإيمان من قوله -صلى الله عليه وسلم-: «أنا أول من يَقْرَعُ باب الجنة، فيقول الخازن: مَن أنت؟ فأقول: أنا محمد، فيقول الخازن: بك أُمِرْتُ لا أفتح لأحد قبلك»، وفي حديثٍ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «أنا أول مَن يدخل الجنة، ومعي فقراء المهاجرين»، وعلى هذا فيدخل الجنة، ويتسلم ما أعد له فيها، ويبوِّئ الفقراء منازلهم، ثم يرجع إلى أرض القيامة ليُخَلِّصَ أُمَّتَهُ بمقتضى ما جعل الله في قلبه من الحنو على أُمَّتِهِ، والشفقة عليهم، والرأفة بهم. المفهم (7/ 135-136).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
ويُحتمل أنَّ هؤلاء السابقين إلى الجنة يُنعَّمون في أفنيتها وظِلالها، ويتلذذون بما هم فيه إلى أنْ يدخل محمد -صلَّى اللَّه عليه وسلَّم- الجنة بعد تمام شفاعته، ثم يدخلونها معه على قدر منازلهم وسَبْقِهِم، والله أعلم. إكمال المعلم (8/ 527-528).
قوله: «ثم تلا موسى هذه الآيةَ: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} الحج: 47»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«ثم تلا موسى» بن عبيدة؛ استدلالًا على قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- «هذه الآية» يعني: قوله تعالى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ} من أيام الآخرة {كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} الحج: 47، في الدنيا. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (25/ 152-153).
وللاستفادة من الروايات الأخرى ينظر (هنا) و (هنا)