«أنَّ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: يا عائشةُ، إنَّ اللهَ رفيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، ويُعطِي على الرِّفْقِ ما لا يُعطِي على العُنفِ، وما لا يُعطِي على ما سِوَاهُ».
رواه مسلم برقم: (2593)، من حديث عائشة -رضي الله عنها-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«الرِّفْق»:
لينُ الجَانب، وهو خِلَافُ العُنف، يُقالُ منه: رَفَقَ يَرْفُقُ ويَرْفِقُ. النهاية، لابن الأثير (2/ 246).
«العُنْف»:
هو بالضم: الشِّدِّة والمشقة. النهاية، لابن الأثير (3/ 309).
وقال العسكري -رحمه الله-:
وهو التشديد في التوصل إلى المطلوب. معجم الفروق اللغوية (ص: 259).
وقال الحميدي -رحمه الله-:
والعُنف: خلاف الرفق، يقال: عنَّفتُ الرَّجُل: قابَلْتُه بشدَّة من القول. تفسير غريب ما في الصحيحين (ص: 49).
شرح الحديث
قوله: «يا عائشة إن الله رفيق»:
قال ابن قرقول -رحمه الله-:
الرِّفق: ضد العنف، وهو اللطف وأخذ الأمر بأحسن وجوهه وأقربها. مطالع الأنوار على صحاح الآثار (3/ 176).
وقال المظهري -رحمه الله-:
«إن الله رفيق» أي: رحيم، و«الرفيق» نعت مِن الرفق، وهو ضد العنف. المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 123).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
الرِّفق ضد العنف، وهو لَطَافَة الفعل، ولِيْنُ الجانب واللطف والأخذ بالأسهل وما فيه اللطف ونحوه، واللَّه تعالى رفيق بعباده: مِن الرفق والرأفة، وهو فَعِيل بمعنى فاعل، والمعنى أن اللَّه -سبحانه وتعالى- يريد لعباده اليسر ولا يريد بهم العسر، فلا يكلفهم فوق طوقهم،بل يسامحهم ويلطف بهم. فتح القريب المجيب على الترغيب والترهيب (11/ 54).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
أي: لطيف بعباده، ويريد بهم اليسر، ولا يكلِّفهم إلِّا وسعهم، ولا يحملهم ما لا طاقة لهم به. بذل المجهود في حل سنن أبي داود (13/ 237).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
الرفيق: هو الكثير الرفق، وهو اللِّين، والتسهيل، وضده العنف والتشديد والتصعيب، وقد يجيء الرفق بمعنى الإرفاق، وهو: إعطاء ما يُرتَفَق به، قال أبو زيد: يقال: رَفَقت به، وأَرْفَقْته، بمعنى: نفَعْتُه، وكلاهما صحيح في حق الله تعالى؛ إذ هو الميَسِّر والمسهِّل لأسباب الخير والمنافع كلها، والمعطي لها، فلا تيسير إلا بتيسيره، ولا منفعة إلا بإعطائه وتقديره.
وقد يجيء الرفق أيضًا بمعنى: التمهُّل في الأمر والتأني فيه، يقال منه: رَفَقْتُ الدابة أرْفقُها رفقًا: إذا شَدَدْتُ عَضُدَها بحبل لتُبْطِئَ في مشيها، وعلى هذا فيكون الرفيق في حق الله تعالى بمعنى: الحليم؛ فإنه لا يُعَجِّل بعقوبة العصاة، بل يُمْهِل؛ ليتوب من سبقت له السعادة، ويزداد إثمًا من سبقت له الشقاوة، وهذا المعنى أَلْيَقُ بالحديث.المفهم (6/ 576، 577).
وقال ابن فورك -رحمه الله-:
اعلم أَن معنى قَوْله -عليه الصلاة و السلام-: «إِن الله رَفِيق يحب الرِّفْق» أَي: أَنه ليس بِعَجُول؛ وَإِنما يَعْجَلُ من يخَاف الفَوت، فَأَما من كانت الأشياء في مِلْكِه وقبضته فليس يَعْجَل فيها. مشكل الحديث وبيانه (ص: 332).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
هذا من عظيم خُلُقه -صلى اللَّه عليه وسلم- وكمال حِلْمِه. فتح القريب المجيب على الترغيب والترهيب (11/ 54).
وقال المازري -رحمه الله-:
فقوله في هذا الحديث: «إن الله رفيق» إن لم يرد في الشريعة بإطلاقه (أي: على الله) سوى هذا، وجَرَى على ما أصَّلته لَكَ ها هنا من الاختلاف، ويحتمل أن يكون قوله: «رفيق» يفيد صفةَ فِعلٍ؛ وَهو ما يخلقه سبحانه من الرفق لعباده، كأحد التّأويلين في تسميته لَطِيفًا، بمعنى أنَّه ملطف، وإلى هذا مال بعض أصحابنا، وقال بعضهم: يحتمل أن يريد أنه ليس بِعَجُول، وهذا يقارب معنى الحِلْمَ. المعلم بفوائد مسلم (3/ 295-296).
وقال النووي -رحمه الله- مُعلقًا:
والصحيح: جواز تسمية الله تعالى رفيقًا، وغيره مما ثبت بخبر الواحد. شرح مسلم (16/ 146).
قوله: «يُحب الرفق»:
قال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
«يُحب الرفق» أي: يَأمر به، ويحض عليه، وقد تقدم أنَّ حُبَّ الله للطاعة شَرْعُه لها، وترغيبه فيها، وحُبَّ الله لمن أحبه من عباده: إكرامه له. المفهم (6/ 577).
وقال الشيخ محمد بن علي آدم الإتيوبي -رحمه الله- مُتعقِّبًا:
قد تقدم الرد على القرطبي وغيره في تأويلهم صفة المحبة بالإكرام ونحوه، فالحق أن صفة المحبة ثابتة لله تعالى على ظاهرها، كما يليق بجلاله، فتنبه فإن هذا من مزال الأقدام، والله تعالى أعلم. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (40/ 653).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«يحب الرفق» وهو اللين والتسهيل في الأمور، أي: يأمر به ويحض عليه، وحب اللَّه للطاعة شرعه لها وترغيبه فيها. شرح سنن أبي داود (18/ 483).
وقال الزرقاني -رحمه الله-:
«يحب الرفق» -بالكسر- لين الجانب بالقول والفعل، والأخذ بأيسر الوجوه وأحسنها، أي: يحب أن يرفق بعضكم ببعض. شرح الموطأ (4/ 624).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«يحب» ويرضى لهم «الرفق» والتيسير؛ أي: تيسير بعضهم على بعض فيما وُلُّوا. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (21/ 360).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
«يحب الرفق» من العباد ليرفق بعضهم بعضًا، ويعملوا في مصالحهم من طلب الرزق وغيره بالرفق واللطف ولا يُعَنِّفوا. لمعات التنقيح (8/ 321).
وقال ابن فورك -رحمه الله-:
«يحب الرفق» أَي: يحب ترك العَجَلة فِي الْأَعْمَال والأمور. مشكل الحديث وبيانه (ص: 332).
وقال الباجي -رحمه الله-:
يريد -والله أعلم- فيما يحاوله الإنسان من أمر دينه ودنياه؛ فإن الرفق عون على المراد، ولا يبلغ حد العجز، فإنه أيضًا مانع من المراد، وخير الأشياء أوسطها. المنتقى شرح الموطأ (7/ 304).
قوله: «ويعطي على الرفق»:
قال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
معناه: إن الله تعالى يعطي عليه في الدنيا من الثناء الجميل، وفي الآخرة من الثواب الجزيل. المفهم (6/ 578).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«ويعطي على الرفق» أي: يعطي من الثواب في مقابلة الرفق أو من المطالب والأغراض. شرح المصابيح (5/ 339).
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«ويعطي» أي: يثيب «على الرفق» والتيسير. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (21/ 360).
قوله: «ما لا يعطي على العُنْف»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
«ما لا يعطي على العُنف» بضم العين وفتحها، وهو التشديد والتصعيب في الأشياء. شرح سنن أبي داود (18/ 484).
وقال الزرقاني -رحمه الله-:
الشدة والمشقة، نبَّه به على وَطَاءة (أي: حُسْن) الأخلاق، وحسن المعاملة، وكمال المجاملة. شرح الموطأ (4/ 624).
وقال السندي -رحمه الله-:
«على العُنْف» بضم فسكون: ضد الرفق، أي: من يدعو الناس إلى الهدى برفق وتلطُّف خير من الذي يدعو بعُنف وشدة إذا كان المحل يقبل الأمرين، وإلا فيتعين ما يقبله المحل، والله أعلم بحقيقة الحال. حاشية السندي على سنن ابن ماجه (2/ 395).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
ثم أشار إلى استعمال الرفق في طلب الرزق وتحصيل المطالب، ورغَّب فيه بقوله: «ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف»، ورجحه عليه بكونه أَعْوَن على حصول المطلب وأنجح للمرام. لمعات التنقيح (8/ 321).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف» وذلك أن الرفق به انتظام خير الدارين واتساق أمرهما، وفي العنف ضد ذلك. دليل الفالحين (5/ 93).
قوله: «وما لا يعطي على ما سواه»:
قال ابن الملك -رحمه الله-:
«وما لا يُعطي على ما سِواه» أي: على ما سِوى الرّفق من الخصال الحسنة، وهذا يدل على أنّ الرفق أقوى الأسباب الحسنة كلها وأوثقها. شرح المصابيح (5/ 339).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وما لا يُعطي على ما سِواه» أي: سوى الرّفق، وهو العنُف، ففي الكلام زيادة مبالغة وتأكيد للحكم، والأظهر أن التقدير: ما سوى الرفق من الخصال الحسنة. مرقاة المفاتيح (8/ 3170).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
وإنَّما ذَكَرَ قوله: «وما لا يعطي على ما سِواه» بعد قوله: «ما لا يعطي على العُنف» ليدل على أن الرفق أنجح الأسباب كلها، وأنفعها بأسرها. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (3/ 272).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
«وما لا يعطي على ما سواه» أي: ما سوى الرفق، ويحتمل أن يكون الضمير في «ما سواه» للعنف، على معنى: لا يعطي على ما سوى العنف من الأسباب أيضًا، ولا يختص الحكم بالعُنف، هذا هو المفهوم من تقرير كلامهم، والظاهر أن الرفق والعنف كل منهما طريق تحصيل المطالب وكيفية طلبها، لا أنهما سببان مستقلان مقابلان بالأسباب، فالمباشرة بالأسباب لا تخلو إما أن تكون بالرفق أو بالعنف؛ فإن كان بالرفق فلا وجه لترجيحه عليها، وإن كان بالعنف فقد رجحه عليه. لمعات التنقيح (8/ 321).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«وما لا يعطي على ما سواه» يعني: أن الرفق يتأتى به من الأغراض ما لا يتأتى بغيره، ويسهل به ما لا يسهل بغيره من المطالب، «و» يعطي بالرفق «ما لا يعطي على ما سواه» أي: على ما سوى الرفقِ من التَّشديدِ والخَرْقِ؛ يعني: من الأجر والثواب، وهو بمعنى ما قبله، فيكون ذكره للتأكيد. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (21/ 360).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
الرفق خير كله، ودليل على فضله؛ لأنه سبب كل خير، وجالِب كل نفع، بضد الخَرْق (الجهل) والعنف. إكمال المعلم (8/ 64).
وقال النووي -رحمه الله-:
فيه: حثٌّ على الرفق والصبر والحِلْمِ وملاطفة الناس، ما لم تَدْعُ حاجة إلى المخاشنة. شرح مسلم (14/ 145).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
فيه: فضل الرفق، والحث على التخلق به، وذم العنف، وأن الرفق سبب كل خير. الكاشف عن حقائق السنن (10/ 3230).
وقال السندي -رحمه الله-:
مَن جعله الله تعالى محرومًا من الرفق ممنوعًا منه فقد جعله محرومًا من الخير كله؛ إذ الخير لا يُكتسب إلا بالرفق والتأني وترك الاستعجال في الأمور. حاشية السندي على سنن ابن ماجه (2/ 395).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
فيه الحثّ على أن يكون الإنسان رفيقًا في جميع شؤونه، رفيقًا في معاملة أهله، وفي معاملة إخوانه، وفي معاملة أصدقائه، وفي معاملة عامة الناس يرفق بهم؛ فإن الله -عز وجل- رفيقٌ يحب الرفق.
ولهذا فإن الإنسان إذا عامل الناس بالرفق يجد لذة وانشراحًا، وإذا عاملهم بالشدة والعنف ندم، ثم قال ليتني لم أفعل، لكن بعد أن يفوت الأوان، أما إذا عاملهم بالرفق واللين والأناة انشرح صدره، ولم يندم على شيء فعله. شرح رياض الصالحين (3/٥٧٨)
وقال -رحمه الله- أيضًا:
غيرتنا تأبى إلَّا أن نُعنِّف ونستعمل العنف، ونظن أن هذا هو الذي يحل المشكلة، ولكن الأعلم مِنَّا والأنصح محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول -وهو صادق بار-: «إن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف». الشرح الممتع (15/245).