الأحد 23 رمضان 1446 هـ | 23-03-2025 م

A a

«أتاني جبريلُ بالحُمَّى والطاعونِ، فأمْسَكتُ الحُمَّى بالمدينةِ، وأرسلتُ الطاعونَ إلى الشامِ، فالطاعونُ شهادةٌ لأُمَّتي، ورحمةٌ لهم، ورِجْسٌ على الكافرين».


رواه أحمد برقم: (20767)، من حديث أبي عَسِيب مولى رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم، رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (60)، سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (761).


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«الطاعون»:
المرض العام، والوباء الذي يَفسد له الهواء، فتَفْسُد به الأمزجة والأبدان. النهاية في غريب الحديث (3/ 127).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
التحقيق: أن بين الوبَاء والطاعون عمومًا وخصوصًا، فكل طاعون وباء، وليس كل وباء طاعونًا، وكذلك الأمراض العامة أعم من الطاعون، فإنه واحد منها، والطواعين خراجات وقروح وأورام رديئة حادثة. زاد المعاد (4/35).

«الحُمَّى»:
هي حرارة بين الجلد واللحم. السراج المنير شرح الجامع الصغير (1/25).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
الحُمَّى حرارة غريبة تشتعل في القلب، وتَنْبَثُّ منه بتوسط الروح والدم في الشرايين والعروق إلى جميع البدن، فتشتعل فيه اشتعالًا يضر بالأفعال الطبيعية. الطب النبوي (21).

«أَمْسَكْتُ»:
أي: حَبَسْتُ. السراج المنير شرح الجامع الصغير (1/ 25).

«رِجْسٌ»:
الرِّجْسُ: القَذَرُ، وقد يُعبَّر به عن الحرام والفعل القبيح، والعذاب، واللعنة، والكفر. النهاية في غريب الحديث (2/200).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«رِجْسٌ» بكسر الراء وسكون الجيم آخره مهملة هو العذاب. التنوير شرح الجامع الصغير (1/271).


شرح الحديث


قوله: «أتاني جبريل بالحمَّى والطاعون»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«أتاني» جاءني. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/19).
وقال المناوي -رحمه الله- أيضًا:
«جبريل» كفِعِيل بالكسر، وفيه نحو عشرين وجهًا، وهو سرياني معناه: عبد الرحمن أو عبد العزيز كما صح عن الحَبْرِ (أي: ابن عباس)، و(إيل) اسم الله عند الأكثر. فيض القدير (1/94).
وقال المناوي -رحمه الله- أيضًا:
«بالحُمّى» باؤه للتعدية، وهي حرارة بين الجلد واللحم.
«والطاعون» بَثْرَةٌ مع لَهَبٍ، واسوداد من أَثَرِ وَخْزِ الجنِّ. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/19).

قوله: «فَأَمْسَكْتُ الحمَّى بالمدينة»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«فأمسكْتُ» حَبَسْتُ «الحمى بالمدينة» النبوية؛ لكونها لا تَقْتُل غالبًا. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/19).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«فأمسكت الحمى بالمدينة» وقد ثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- دخل المدينة وهي وَبِيْئَة، وكانت كذلك في الجاهلية، وروى البيهقي عن هشام بن عروة قال: كان وباء المدينة معروفًا في الجاهلية، وكان إذا كان الوادي وَبِيئًا وأَشْرَف عليه الإنسان، قيل له: أَنْهِقْ نهيق الحمار، فكان إذا فعل ذلك لم يضره وباء ذلك الوادي. انتهى.
وهاجر إليها -صلى الله عليه وسلم- وهي وَبِيئَة، ومرض فيها أصحابه، فدعا -صلى الله عليه وسلم- أن يُنقل إلى الجُحْفَة، فنُقل إليها، فكان الطير يمر بالجُحْفَة فتقع ميتًا، فهذه الحمَّى التي نزل بها جبريل غير تلك، ولعلها أخف من التي نُقِلت منها. التنوير شرح الجامع الصغير (1/271).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
ويقال: إنَّ الجُحْفَة كانت إذ ذاك دار اليهود؛ فلذلك دعا بنقل الحُمَّى إليها. أعلام الحديث (2/ 938).
وقال المناوي -رحمه الله-:
اختار الحمَّى أولًا على الطاعون وأقرَّها بالمدينة، ثم دعا الله فنقلها إلى الجُحْفَة، وبقيت منها بقايا بها. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/19).
وقال المناوي -رحمه الله- أيضًا:
وخَصَّ الجحفة بنقلها إليها؛ لأنها كانت مساكن اليهود.
واستُشكل نقل الحمى إليها مع جعلها ميقاتًا للحج.
وأجيب: بأنه لما عُلِمَ من قواعد الشرع أنه لا يأمر بما فيه ضرر وَجَب حمل ذلك على أنها انتقلت إليها مدة مقام اليهود بها، ثم زالت بزوالهم من الحجاز أو قبله حين التوقيت بها. فيض القدير (1/94).
وقال الشيخ عبد الكريم الخضير -حفظه الله-:
فإن قيل: كيف جُعلتْ (الجُحْفَة) ميقاتًا وفيها الحمى المذكورة مع أنَّ في ذلك ضررًا على المسلمين؟
أُجيب: بأنَّ نقل الحمَّى إليها مدة مقام اليهود بها كانت مسكنًا لليهود...، ثم زالت الحُمَّى عنها بزوالهم، ثم بعد ذلك صارت ميقاتًا؛ ولذا هل للحمى أثر الآن؟ ما لها، زالت بزوالهم. شرح التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح).

قوله: «وأَرْسَلتُ الطاعون إلى الشام»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«وأَرْسَلتُ الطاعون إلى الشام»؛ لكونه يقتل غالبًا. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/19).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«وأرسلتُ الطاعون إلى الشام» وإنما أَمْسَك -صلى الله عليه وسلم- الحُمَّى وأرسل الطاعون؛ لأنَّ الحُمَّى أخف ألمًا؛ لأنَّ الطاعون يَعُمُّ، ويُهلك في أسرع الوقت. التنوير شرح الجامع الصغير (1/271).
وقال نور الدين السمهودي -رحمه الله-:
وهو يقتضي عود شيء من الحمى إليها (المدينة) بآخرة الأمر، والمشاهَد في زماننا عدم خلوها عنها أصلًا، لكنه كما وُصف أولًا بخلاف الطاعون؛ فإنها محفوظة عنه بالكلية كما سيأتي، والأقرب أنه -صلّى الله عليه وسلّم- لما سأل ربه تعالى لأُمَّته أن لا يلبسهم شِيَعًا، ولا يذيق بعضهم بأس بعض، فمنعه ذلك، فقال في دعائه: «فحُمَّى إذًا أو طاعونًا»، أراد بالدعاء بالحمى للموضع الذي لا يدخله طاعون، كما سنشير إليه في الفصل الآتي؛ فيكون ما بالمدينة اليوم ليس هو حمى الوباء، بل حمى رحمة بدعائه -صلّى الله عليه وسلّم- كما سنوضحه، والله أعلم. وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى (1/ 55).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
قال السيد نور الدين (السمهودي): المشاهَد عدم خلو المدينة عن الحمّى بخلاف الطاعون؛ فإنها محفوظة منه، وكأنه -صلى الله عليه وسلم- أرسل الطاعون إلى الشام، ثم استمر، وأنه تعالى أخبره أنه لا بد في هذه الأُمَّة من الطاعون والحمَّى، وأنه يختار لبلَدَيه أيهما أخف، فاختار الأخف، وأرسل الآخر إلى الشام؛ لأنه لا يخلو عن كافر، فيكون عليه رجسًا، بخلاف أهل المدينة؛ فإنهم مؤمنون لا يسكنها كافر. التنوير شرح الجامع الصغير (1/271).
وقال الزرقاني -رحمه الله-:
قال ابن حجرٍ: ولا يعارضه الدعاء برفع الوباء عنها (المدينة) لندرة وقوعه فيها، بخلاف الطاعون، لم يُنقل قطُّ أنه وقع بها. شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك (4/ 303).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«وأَرْسَلْتُ الطاعون إلى الشأم» كالرأس همزًا وتخفيفًا، وأنكر ابن الأثير المد، يُذكَّر ويُؤنَّث، إقليم معروف عن شمال القبلة، يشتمل على بلاد قاعدتها دمشق سميت به؛ لأن بأرضها شامات ملونة، أو لكونها عن شمال القبلة، وزُعم أنها سميت بسام بن نوح؛ لكونه أول من اختطها، وردَّه ابن جماعة بتصريح جمعٍ بأنه لم يدخلها، والله قادر على تصوير المعاني المعقولة بهيئة الأجسام المشخَّصَة.
وخَصَّ الشام بإرساله؛ لأنه كان بها في قصة الجبابرة مع موسى؛ ولأنها أخْصَب الأرض، والخصب مَظِنَّة الأَشَر والبَطَر، فجُعِل بها ليزجرهم عن المنهيات، ويقودهم للمأمورات، وهذا (الطاعون) لم يزل به (الشام) سلطانه (أي: شدته وكثرته)، ومن ثم قالوا: لا طواعين كطواعين الشام. فيض القدير (1/94).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
الحكمة في ذلك: أنه -صلى الله عليه وسلم- لما دخل المدينة كان في قِلَّة من أصحابه عددًا ومَددًا، وكانت المدينة وَبِئَة كما سبق من حديث عائشة، ثم خُيِّر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في أمرين يحصل بكل منهما الأجر الجزيل، فاختار الحُمَّى حينئذٍ؛ لقلة الموت بها غالبًا، بخلاف الطاعون، ثم لما احتاج إلى جهاد الكفار، وأُذِنَ له في القتال، كانت قضية استمرار الحمى بالمدينة أنْ تضعف أجساد الذين يحتاجون إلى التقوية لأجل الجهاد، فدعا بنقل الحمى من المدينة إلى الجُحْفَة، فعادت المدينة أصح بلاد الله بعد أن كانت بخلاف ذلك، ثم كانوا مِن حينئذٍ مَن فاتته الشهادة بالطاعون ربما حصلت له بالقتل في سبيل الله، ومن فاته ذلك حصلت له الحمى التي هي حظ المؤمن من النار، ثم استمر ذلك بالمدينة تمييزًا لها عن غيرها؛ لتحقق إجابة دعوته، وظهور هذه المعجزة العظيمة بتصديق خبره، هذه المدة المتطاولة، والله أعلم. فتح الباري (10/ 191).
وقال الزرقاني -رحمه الله-:
وقد عدُّوا عدم دخوله (الطاعون) المدينة من خصائصها، وهو من لوازم دعائه -صلى الله عليه وسلم- لها بالصحة، فهي معجزة له، قال بعضهم: لأن الأطباء من أوَّلهم إلى آخرهم عجزوا أن يدفعوا الطاعون عن بلد من البلاد، بل عن قرية من القرى، وقد امتنع الطاعون عن المدينة بدعائه وخبره هذه المدد المتطاولة، فهو خاص بها، وجَزْم ابن قتيبة في المعارف والنووي في الأذكار: بأن الطاعون لم يدخل مكة أيضًا. مُعارَضٌ بما نقله غير واحد بأنه دخلها في سنة سبع وأربعين وسبعمائة، لكن في تاريخ مكة لعمر بن شبة برجال الصحيح عن أبي هريرة مرفوعًا: «المدينة ومكة محفوفتان بالملائكة، على كل نقب منهما مَلَك فلا يدخلهما الدجال ولا الطاعون»، وحينئذٍ فالذي نُقل أنه دخل مكة في التاريخ المذكور ليس كما ظُن، أو يقال: إنه لا يدخلهما من الطاعون مثل الذي يقع في غيرهما كالجارف وعَمْوَاس. شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك (4/ 289).

قوله: «فالطاعونُ شهادةٌ لأُمَّتي، ورحمةٌ لهم»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
«فالطاعون شهادة لأُمَّتي» أي: المصاب به يكون له أجر شهيد إن مات به. التنوير شرح الجامع الصغير (1/271).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«فالطاعون شهادة» أخروية. فيض القدير (1/94).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«فالطاعون شهادة لأُمَّتي» أُمَّة الإجابة. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/19).
وقال المناوي -رحمه الله- أيضًا:
«ورحمة لهم» أي: مغفرة لذنوبهم، ورفع لدرجاتهم بشروط. فيض القدير (1/94).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«ورحمة لهم» لأنه يكون به لهم أجر الشهداء، أو لأنه يُسرع بهم إلى رحمة الله. التنوير شرح الجامع الصغير (1/271).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وكون الطاعون رحمةً إنما هو خاص بالمسلمين، وإذا وقع بالكفار فإنما هو عذاب عليهم، يُعَجَّلُ لهم في الدنيا قبل الآخرة، وأما العاصي من هذه الأُمّة، فهل يكون الطاعون له شهادة، أو يختص بالمؤمن الكامل؟
فيه نظر، والمراد بالعاصي من يكون مرتكب الكبيرة، ويَهْجُم عليه ذلك وهو مصرٌّ، فإنه يحتمل أنْ يقال: لا يُكرم بدرجة الشهادة؛ لشؤم ما كان متلبسًا به؛ لقوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الجاثية: 21، وأيضًا فقد وقع في حديث ابن عمر ما يدل على أنَّ الطاعون ينشأ عن ظهور الفاحشة، أخرجه ابن ماجه والبيهقي بلفظ: «لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم» الحديث...، ففي هذه الأحاديث أن الطاعون قد يقع عقوبة بسبب المعصية، فكيف يكون شهادة؟
ويحتمل: أنْ يُقال: بل تحصل له درجة الشهادة؛ لعموم الأخبار الواردة، ولا سيما في الحديث الذي قبله عن أنس: «الطاعون شهادة لكل مسلم»، ولا يلزم من حصول درجة الشهادة لمن اجترح السيئات مساواة المؤمن الكامل في المنزلة؛ لأن درجات الشهداء متفاوتة، كنظيره من العُصاة إذا قُتِلَ مجاهدًا في سبيل الله؛ لتكون كلمة الله هي العليا، مُقْبِلًا غير مُدْبِر، ومن رحمة الله بهذه الأُمّة المحمدية أنْ يُعجِّل لهم العقوبة في الدنيا، ولا ينافي ذلك أن يحصل لمن وقع به الطاعون أجر الشهادة، ولا سيما وأكثرهم لم يباشِر تلك الفاحشة، وإنما عمهم -والله أعلم- لتقاعدهم عن إنكار المنكر. فتح الباري (10/ 192-193).

قوله: «ورِجْسٌ على الكافرين»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
بكسر الراء وسكون الجيم آخره مهملة هو العذاب.التنوير شرح الجامع الصغير للصنعاني(1/271).
وقال المناوي -رحمه الله-:
أي: عذاب نشأ عن غضب. فيض القدير (1/94).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«على الكافرين» لأنهم لا يؤجَرون على ألم؛ ولأنه يُسْرع بهم إلى عذاب الله. التنوير شرح الجامع الصغير (1/271).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«على الكافرين» وفي رواية: «الكافر» والمراد به الجِنس. فيض القدير (1/94).

وللاستفادة من الرواية الأخرى ينظر (هنا)


ابلاغ عن خطا