«فوَ الذي نَفْسِي بِيَدِهِ، لا يؤمنُ أحدُكُم حتى أكونَ أحبَّ إليهِ مِن والدِهِ وولَدِهِ».
رواه البخاري برقم: (14) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، ورواه البخاري أيضًا برقم: (15)، ومسلم برقم: (44)، من حديث أنس -رضي الله عنه- وزادا: «والناسِ أجمعينَ».
شرح مختصر الحديث
.
شرح الحديث
قوله: «فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ»:
قال الشيخ حمزة محمد قاسم -رحمه الله-:
«فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ» الواو واو القسم، و«وَالَّذِي» صفة لمحذوف تقديره: والله الذي نفسي بيده خَلْقًا ومُلكًا وتصرفًا وتدبيرًا. منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري (1/ 92).
وقال الشيخ محمد المختار الشنقيطي -رحمه الله-:
قوله: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ» الواو: للقسم، و«الذي» في الأصل صفة لموصوف محذوف استعملت استعماله حتى كأن الأصل مَنْسِي فيها؛ إذ التقدير: والله الذي نفسي بيده.
والنفس هي: الروح، والمراد: إظهار عظمته، أي: الذي يَقْدِر على قبض روحي متى شاء، وهذه الصيغة كانت غالب يمين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بها. شروق أنوار المنن الكبرى الإلهية (5/ 1744).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «والذي نفسي بيده» فيه: جواز الحلف على الأمر المهم توكيدًا، وإن لم يكن هناك مُسْتَحْلِفٌ. فتح الباري (1/ 58).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
قوله: «والذي نفسي بيده» إثبات صفة اليد لله -عز وجل- على الوجه الذي يليق بجلاله، فهو كالقول في سائر الصفات، وهو -عز وجل- منزه عن مشابهة الخلق في كل شيء، موصوف بصفات الكمال اللائقة به -عز وجل-. البحر المحيط الثجاج(14/٢٢٥).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
واليد ها هنا ظاهر في معنى القُدرة والْمُلك، واستعمال العرب لها في هذا الباب مشهور. إكمال المعلم(6/٢٩٥).
وقال الشيخ محمَّد الخَضِر الشنقيطي -رحمه الله-:
قال أبو حنيفة: يلزَمُ من تأويلها بالقدرة عين التعطيل، فالسبيل فيه كأمثاله، الإِيمان به على ما أراد، ونَكُفُّ عن الخوض في تأويله، فنقول: له يد على ما أراد، لا كَيَدِ المخلوق. كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري (1/ 504).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- متعقبًا القاضي عياض:
هذا التأويل غير صحيح، وأن الحق هو ما كان عليه السلف؛ أن اليد صفة من صفات الله -سبحانه وتعالى-، أثبتها النص، فنحن نثبتها على مراد الله تعالى، وننزهه تعالى عن مشابهة خلقه، إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهًا بلا تعطيل، فتنبه.البحر المحيط الثجاج(32/٣٥٩) .
وقال الشيخ عبد الكريم الخضير -حفظه الله-:
قوله: «والَّذِي نفْسِي بيدِهِ» هو الله -جلَّ وعَلا-.
فيه: إثبات اليد لله -جلَّ وعَلا- على ما يليق بجلاله وعظمته...، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يَحْلِفُ على الأمور المهمة من غير استحلاف، وهو الصادق المصدوق. شرح المحرر في الحديث (32/ 19).
قوله: «لا يُؤْمِن أَحدُكُمْ»:
قال السفيري -رحمه الله-:
قوله: «لا يُؤْمِن أَحدُكُمْ» محمول على نفي الكمال، أي: لا يكمل إيمان أحدكم حتى أكون أحب مِنْ والِدِهِ وولَدِهِ، فمن لم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحبَّ إليه مِنْ وَالِدِهِ وولَدِهِ، فهو ناقصُ الإيمان. المجالس الوعظية في شرح أحاديث خير البرية (1/ 405).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «لا يُؤْمِن أَحدُكُمْ» المراد بالنفي: نفي الكمال، ونفي اسم الشيء بمعنى: نفي الكمال عنْه مستفيضٌ في كلامهم، كقولهم: فلان ليس بإنسان، هكذا يقولونه، ولكن حُبَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمدة الإيمان، فلا بد منه في نفس الإيمان، فيحتمل أنّ أحبيَّتَهُ على كل ما ذكر ليست شرطًا في الإيمان، فيفهم أنها لنفي الكمال. التحبير لإيضاح معاني التيسير (1/ 185).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
تبيَّن أنَّ حقيقة الإيمان لا تتم إلا بذلك، فلا يصحُّ الإيمان إلا بتحقيق إِنافَة (رِفْعَة) قَدْرِ النبي -صلَّى الله عليه وَسلَّم- ومنزلته على كل والد وولد، ومُحْسِن ومُفْضِلٍ، ومن لم يعتقد هذا واعتقد سواه فليس بمؤمن. إكمال المعلم (1/ 280/281).
وقال القرطبي -رحمه الله- مُعلقًا:
وظاهر هذا القول: أنَّه صَرَف محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى اعتقاد تعظيمه وإجلاله، ولا شك في كفر من لا يعتقد عليه، غير أنَّ تنزيل هذا الحديث على ذلك المعنى غير صحيح؛ لأنَّ اعتقاد الأعظمية ليس بالمحبَّة، ولا الأحبية، ولا مستلزم لها؛ إذ قد يجد الإنسان من نفسه إعظام أَمْرٍ أو شخصٍ، ولا يجد محبته؛ ولأنَّ عمر -رضي الله عنه- لمَّا سمع قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين» قال عمر: يا رسول الله، أنت أحب إليَّ من كل شيء إلا نفسي، فقال: ومِن نفسك يا عمر، قال: ومن نفسي، فقال: «الآن يا عمر»، وهذا كُلَّهُ تصريح بأن هذه المحبة ليست باعتقاد تعظيم، بل ميل إلى المعتقد، وتعظيمه وتعلق القلب به، فتأمل هذا الفرق؛ فإنَّه صحيح، ومع ذلك فقد خفي على كثير من الناس، وعلى هذا فمعنى الحديث -والله أعلم-: أنَّ من لم يجد من نفسه ذلك الميل وأرجحيته للنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكمل إيمانه. المفهم (1/ 226).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
لا يكون المؤمن مؤمنًا حتى يُقدِّمَ محبَّةَ الرسول على محبَّةِ جميع الخلق، ومحبة الرسول تابعة لمحبة مُرْسِلِه، والمحبَّة الصحيحةُ تقتضي المتابعةَ والموافقةَ في حبِّ المحبوبات وبغضِ المكروهات. جامع العلوم والحكم (3/ 1149).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
فمن قال: إنَّ المنفي هو الكمال، فإنْ أراد أنَّه نفي الكمال الواجب الذي يُذَمُّ تاركه ويتعرض للعقوبة؛ فقد صدق، وإن أراد أنَّه نفي الكمال المستحب، فهذا لم يقع قط في كلام الله ورسوله، ولا يجوز أن يقع، فإنَّ مَن فَعَل الواجب كما وجب عليه، ولم ينتقص من واجبه شيئًا؛ لم يجز أنْ يقال: ما فعله لا حقيقة ولا مجازًا. الإيمان الكبير (ص: 5).
قوله: «حتى أكونَ أحبَّ إليهِ مِن والدِهِ وولَدِهِ»:
قال المظهري -رحمه الله-:
الهمزة في «أَكون» همزة نفس المتكلم، والهمزة في «أَحَبَّ» همزة أفعل التفضيل، يعني: لا يكون أحدكم مؤمنًا حتى أكون أنا أشد حبًّا في قلبه مِن حُبِّه نفسه وآباءه وأولاده، وجميع الناس، ومن كان حُبُّ شيء في قلبه أكثر وأشد من حبي، فهو كافر. المفاتيح في شرح المصابيح (1/ 67/ 68).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «حتَّى أكونَ أَحَبَّ» وإن كانت محبة جميع الرسل من الإيمان، لكن الأَحَبِّيَّةَ مختصة بسيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فتح الباري (1/ 58).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
واعلم أنَّ محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إرادة فعل طاعته، وترك مخالفته، وهي من واجبات الإسلام.الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (1/ 98).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
اعلم أنَّ المراد بهذه المحبَّةِ المحبّةُ الشرعية، فإنَّه يجب على المسلمين أن يَقُوْا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنفسهم وأولادهم. وليس المراد بهذا المحبة الطبْعِيَّة، فإنهم قد فروا عنه في القتال وتركوه، وكل ذلك لإيثار حُب النفس. كشف المشكل (3/ 231).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
ومن الإشفاق في محبته: نُصْرَةُ سنَّتِهِ، والذَبُّ عن شريعته، وتمني حضور حياته، فيبذل نفسه وماله دونه. إكمال المعلم (1/ 280/281).
وقال القاضي عياض -رحمه الله- أيضًا:
قال بعضهم: المحبةُ مواطأة القلب على ما يُرضي الرب، فيحبُّ ما أَحَبَّ، ويكره ما كَرِهَ، واختلفت عبارات المتكلمين في هذا الباب بما لا يؤول إلى اختلاف، إلا من حيث اللفظ والالتفات إلى أسباب المحبة، أو إلى ثمراتها، وبالجملة فأصل المحبة: الميلُ لما يوافق المحبَّ، والله -جل اسمه- منزهٌ عن أن يميل أو يمال إليه، وأما المحبةُ للرسول فيصح منه الميل؛ إذ ميل الإنسان لما يوافقه إما لأنه يستلذه ويستحسنه، كميله للصورة الجميلة والأصوات الحسان، والمطاعم الشهية، وأشباهها من المستلذات بالحواس الظاهرة، أو يستلذه بحاسة عقله من المعاني الباطنة الجميلة، والأخلاق الرفيعة، كمحبة الصالحين والعلماء وأهل الفضائل، والخصال العليَّة، وإن لم يَرَهم ولا قارب زمانهم، أو ميله لمن يحسن إليه، وينعم عليه، ويدفع المضار والمكاره عنه، فقد جُبلت النفوس على حب مَن أحسن إليها.
وهذه المعاني كلها موجودة في حق النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-، مُسَبِّبة حبه لما خُلِق عليه من كمال صورة الباطن والظاهر، وكمال خلال الجلال، وجماع الفضائل، وإحسانه إلى المسلمين بهدايته إياهم إلى الصراط المستقيم، ودوام النعيم: الإبعاد من الجحيم، وقد أشار بعضهم إلى أن هذا متصَوَّرٌ في حق الله تعالى، وحب العبد له على قدر معرفته لجلاله وكمال صفاته وتقدسه عن النقائص، وفيض إحسانه، وأن الكُلَّ منه، وكل جمال وجلال فمضاف إليه، وكل فضل وإجمال فمِن بَسْطِ يديه لا إله غيره.
ومن محبته ومحبة رسوله: التزام شريعته، ووقوفه عند حدوده، ومحبة أهل ملته، وهو تمام محبته، فيُحب العبد لا يحبه إلا لله؛ لأن من أحبَّ شيئًا أحبَّ ما يُحبهُ، ومن يحبه، ومن هو من سببه، قال النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «من أحبَّ العربَ فَبِحُبّي أحبَّهم»، وإذا حصل هذا بين المؤمنين حصلت منه الألفةُ الموجبة للتعاون على البر والتقوى، والمزيدة لأمر الدين والدنيا والمحبة لله، والبغض فيه من واجبات الإسلام، وهو قول مالك وغيره من العلماء. إكمال المعلم (1/ 278-279).
وقال محمد الخضر الشنقيطي -رحمه الله-:
قوله: «مِنْ وَالِدِهِ» أَبيه وأمه، أو اكتفى به عنها. كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري (1/ 504).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قُدِّمَ الوالد على الولد في رواية؛ لِتَقَدُّمِهِ بالزمان والإجلال، وقُدِّمَ الولد في أخرى؛ لمزيد الشفقة. فتح الباري (1/ 59).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «من والده وولده» قدّم الوالد للأكثرية؛ لأن كُل أحدٍ له والد من غير عكس، وفي رواية النسائي من حديث أنس تقديم الولد على الوالد؛ وذلك لمزيد الشفقة، ولم تختلف الروايات في ذلك في حديث أبي هريرة هذا، وهو من أفراد البخاري عن مسلم... وذكر الولد والوالد أدخل في المعنى؛ لأنهما أعز على العاقل من الأهل والمال، بل ربما يكونان أعز من نفسه؛ ولهذا لم يذكر النفس أيضًا في حديث أبي هريرة.
وهل تدخل الأم في لفظ الوالد؟ إن أريد به من له الولد فنعم، أو يقال: اكتفى بذكر أحدهما كما يكتفى عن أحد الضدين بالآخر، ويكون ما ذكر على سبيل التمثيل، والمراد: الأعزة، كأنه قال: أحب إليه من أعزته.
وذكر «الناس» بعد «الوالد والولد» من عطف العام على الخاص، وهو كثير.
وهل تدخل النفس في عموم قوله: «والناس أجمعين»؟ الظاهر: دخوله، وقيل: إضافة المحبة إليه تقتضي خروجه منهم، وهو بعيد، وقد وقع التنصيص بذكر النفس في حديث عبد الله بن هشام. النكت على صحيح البخاري (1/ 248).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
في هذا الحديث من الفقه: أنَّ الحب المحمود بالشرع لا بالطبع، وأنَّه لا ينبغي لمؤمن أن يحب إلا لله، ولا يبغض إلا لله تعالى، فعلى هذا لا يكون المؤمن مؤمنًا حتى يكون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحبَّ إليه من والده وولده والناس أجمعين.
ثم يُنَزَّلُ المؤمنُ من الصحابة والأخيار على ذلك، فإنَّ الحبَّ في الله، والبغض في الله، أوثق عُرى الإيمان...، فإنْ عَرَضَ للمؤمن الحبُّ الطبْعِي اعتراضًا يؤثر عنده في الحب الشرعي، فمتعين عليه أن يجاهده ويدفعه. الإفصاح عن معاني الصحاح (5/ 162).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
قال أبو الزناد: هذا مِن جوامع الكلم الذي أُوْتِيَه -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنَّه قد جمع في هذه الألفاظ اليسيرة معاني كثيرة؛ لأن أقسام المحبة ثلاثة: محبة إجلال وعظمة، كمحبة الوالد، ومحبة شفقة ورحمة، كمحبة الولد، ومحبة استحسان ومشاكَلة، كمحبة سائر الناس، فحصر صنوف المحبة، ومعنى الحديث والله أعلم: أنَّ مَن استكمل الإيمان علم أنَّ حق الرسول وفضله آكد عليه من حق أبيه وابنه والناس أجمعين؛ لأنَّ بالرسول استنقذ الله أُمَّته من النار، وهداهم من الضلال، فالمراد بهذا الحديث: بذل النفس دونه -صلى الله عليه وسلم-. شرح صحيح البخاري (1/ 66).
وقال القرطبي -رحمه الله-:
على أني أقول: إنَّ كلَّ من صدَّق بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، وآمن به إيمانًا صحيحًا، لم يَخْلُ عن وجدان شيء من تلك المحبة الراجحة للنبي -صلى الله عليه وسلم -؛ غير أنهم في ذلك متفاوتون؛ فمنهم من أخذ تلك الأرجحية بالحظَّ الأوفى...، ولا شكَّ في أنَّ حظَّ أصحابه من هذا المعنى أعظم؛ لأن معرفتهم لقدره أعظم؛ ولأنَّ المحبة ثمرة المعرفة، فتقوى وتضعف بحسبها.
ومن المؤمنين: من يكون مستغرقًا بالشهوات، محجوبًا بالغفلات عن ذلك المعنى في أكثر أوقاته؛ فهذا بأخَسِّ الأحوال، لكنَّه إذا ذُكِّرَ بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، وبشيء من فضائله، اهتاج لذكره، واشتاق لرؤيته، بحيث يُؤْثِر رؤيته، بل رؤية قبره ومواضع آثاره، على أهله وماله وولده، ونفسه والناس أجمعين، فيخطر له هذا، ويجده وجدانًا لا شك فيه، غير أنَّه سريع الزوال والذهاب؛ لغلبة الشهوات، وتوالي الغفلات؛ ويُخَاف على من كان هذا حاله ذهاب أصل تلك المحبة، حتى لا يوجد منها حَبَّةٌ، فنسأل الله الكريم أن يمنَّ علينا بدوامها وكمالها، ولا يحجبنا عنها. المفهم (/ 226 / 227).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- من أصول الإيمان، وهي مقارنة لمحبة الله -عز وجل-، وقد قرنها الله بها، وتوعَّد من قدَّم عليها شيء من الأمور المحبوبة طبعًا من الأقارب والأموال والأوطان وغير ذلك...، فيجب تقديم مَحبَّةِ الرسول -صلى الله عليه وسلم- على النفوس والأولاد والأقارب والأهلين والأموال والمساكين، وغير ذلك مما يحبه الناس غاية المحَبَّة.
وإنما تتم المَحَبَّة بالطاعة كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} آل عمران: 31، وسُئل بعضهم عن المَحَبَّة، فقال: الموافقة في جميع الأحوال، فعلامة تقديم مَحَبَّة الرسول على مَحَبَّة كل مخلوق: أنه إذا تعارض طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في أوامره، وداعٍ آخر يدعو إلى غيرها من هذه الأشياء المحبوبة، فإن قَدَّمَ المرء طاعة الرسول وامتثال أوامره على ذلك الداعي: كان دليلًا على صحة محبته للرسول وتقديمها على كل شيء، وإن قَدَّمَ على طاعته وامتثال أوامره شيئًا من هذه الأشياء المحبوبة طبعًا دلَّ ذلك على عدم إتيانه بالإيمان التام الواجب عليه، وكذلك القول في تعارض مَحَبَّة الله ومَحَبَّة داعي الهوى والنفس، فإن مَحَبَّة الرسول تبع لمَحَبَّة مُرْسِلِهِ -عزَّ وجلَّ-، هذا كله في امتثال الواجبات، وترك المحرمات، فإنْ تعارض داعي النفس ومندوبات الشريعة، فإن بلغت المَحَبَّة إلى تقديم المندوبات على دواعي النفس كان ذلك علامة كمال الإيمان، وبلوغه إلى درجة المقربين والمحبوبين المتقربين بالنوافل بعد الفرائض، وإن لم تبلغ هذه المَحَبَّة إلى الدرجة فهي درجة المقتصدين أصحاب اليمين الذين كملت محبتهم، ولم يزيدوا عليها. فتح الباري (1/ 49).
وقال المناوي -رحمه الله-:
والحديث من جوامع الكلم؛ لأنَّه جمع فيه أصناف المحبة الثلاث، محبة الإجلال، وهي محبة الأصل، ومحبة الشفقة، وهي محبة الوالد، ومحبة المجانسة، وهي محبة الناس أجمعين، وشاهد صدق ذلك بذل النفس في رضا المحبوب، وإيثاره على كل مصحوب. فيض القدير (6/ 441).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
علامة محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يكون الإنسان أشد اتباعًا له، وأشد تمسكًا بسنته، كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} آل عمران: 31، فالميزان هو اتباع الرسول عليه -الصلاة والسلام-، من كان للرسول أتبع، فهو له أحب. شرح رياض الصالحين (3/ 379).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
من فقه الحديث، وما يستنبط منه:
1. وجوب تقديم محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- على أَعَزِّ الناس إلى الإنسان.
. أنَّ محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- واجبة، وهي تابعة لمحبة الله لازمة لها.
3. أنَّ الأعمال من الإيمان لأنَّ المحبة عمل القلب.
4. أنه قد ينفي الإيمان عن شخص ولا يخرج بذلك عن الإسلام.
5. أنَّه إذا كان هذا شأن محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فما الظن بمحبة الله؟
6. الإشارة إلى ما يجب للوالد من التوقير والإجلال وما يجب للولد من الشفقة.
7. البدء بالأهم فالمهم. عشرون حديثًا من صحيح البخاري (ص: 168).
وقال الشيخ عبد الكريم الخضير -حفظه الله-:
لا بد أنْ تكون محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في قلبه مقدَّمة على محبَّة كُلّ مَن سِواه من الناس، فهذا هو معنى شهادة أنَّ محمدًا رسول الله، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه. شرح سنن أبي داود (527/ 18).
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن -رحمه الله-:
فمن ادعى محبة النبي -صلي الله عليه وسلم- بدون متابعته وتقديم قوله على قول غيرهِ فقد كذب، كما قال تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} النور: 47، فنفى الإيمان عمن تولى عن طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، لكن كل مسلم يكون محبًّا بقدر ما معه من الإسلام، وكل مسلم لا بد أن يكون مؤمنًا وإن لم يكن مؤمنًا الإيمان المطلق؛ لأن ذلك لا يحصل إلا لخواص المؤمنين. فتح المجيد شرح كتاب التوحيد (ص: 336/337).