«يا مَعْشَرَ الشَّبابِ، من استطاعَ منكم البَاءَةَ فليتزوَّجْ، فإنَّه أَغَضُّ للبَصَرِ، وأحصَنُ للفَرْجِ، ومَن لم يستطِعْ فعليه بالصَّومِ؛ فإنَّه له وِجَاءٌ».
رواه البخاري برقم: (1905)، ومسلم برقم: (1400) واللفظ له، من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«يا مَعْشَرَ»:
المَعْشَر والنَّفَر والقَوْم والرَّهْط مَعْنَاهُمُ: الجمع، لا واحِدَ لهم مِن لفظِهِم...، وقال الليث: المَعْشَرُ كلُّ جماعةٍ أمرُهم واحِدٌ، نحو مَعْشر المسلمين، ومَعْشَر المشركين. لسان العرب لابن منظور(4/ 574).
والمعْشَر: مَفْعَل من المعاشرة، وهو الاجتماع والمخالطة. معجز أحمد، المعري (ص: 119).
وقال الزبيدي -رحمه الله-:
وقَيَّدَه بعضُهُم بأنَّه الجماعَةُ العظيمةُ...، وقِيل: المَعْشَرُ: أهلُ الرَّجُلِ. تاج العروس (13/ 53).
«البَاءَةَ»:
أي: النكاح، والقدرة على الجماع. تفسير غريب ما في الصحيحين، للحميدي (ص: 28).
وقال المناوي -رحمه الله-:
الباءُ والباءةُ بالمد: الموضع الذي تبوءُ إليه الإبل، ثم جُعِلَ عبارة عن المنزل، ثم كُنِّي به عن الجماع؛ لأنه لا يكون غالبًا إلا في الباءة، أو لأن الرجل يتبوَّأ من أهله -أي: يتمكَّن- كما يتبوَّأ من داره. التعاريف (ص: 109).
وقال الحميري -رحمه الله-:
البَاءَة: مهموز: النكاح، قال ابن دريد: لأن الماءَ يصبُّ، ثم يعود. شمس العلوم (1/ 659).
«أَغَضُّ للبَصَرِ»:
أي: أشدُّ غضًّا له. طرح التثريب في شرح التقريب (7/ 6).
ويُقال: أصل الغَضِّ: الكَفُّ، ومنه قولهم غَضَّ الملامة، أي: كَفَّ عَنِ اللوم. غريب الحديث، الخطابي (2/ 450).
«أحصَنُ للفَرْجِ»:
أي: أَعَفُّ. تفسير غريب ما في الصحيحين (ص: 28).
وقال الهروي-رحمه الله-:
وأصل الإحصان: المنع، يُقال: حَصُنَتِ المرأةُ فهي حَاصِن وحِصَان، واحصَنَت فرجها ونفسها، فهي مُحْصَنَة: إذا منعت نفسها من الفجور، وحَصَّنْتُ الشيء وأَحْصَنْتُهُ: إذا مَنَعْتُه. الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي(ص: 209).
وقال الشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ
«أحصَنُ للفَرْجِ»: يعني: أَمنع عن المحُرم -عن الفاحشة-.فتح ذي الجلال والإكرام(4/٤٢٠)
«وِجَاءٌ»:
الوِجَاءُ: بكسر الواو والمَدِّ: فهو رَضُّ الأنثيين، وهو ضَربٌ من الخِصَاء. المفهم، للقرطبي(1/٣١٠).
وقال الرازي-رحمه الله-:
بالكسر والمدِّ رَضُّ عُرُوقِ البَيْضَتَيْنِ حتى تَنْفَضِحَ فيكون شبيهًا بالخِصَاءمختار الصحاح(ص: ٣٣٣)
شرح الحديث
قوله: «يا مَعْشَرَ الشَّبابِ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «يا معشَر الشباب» بفتح الشين، وتخفيف الموحدة، جمع شاب، وهو مَن بلغ، ولم يتجاوز ثلاثين، والمعْشَر: هم الطائفة الذين يشملهم وصفٌ، كالشباب والشيخوخة والبُّنوة. مرقاة المفاتيح (5/ 2041).
وقال ابن حجر رحمه الله-:
قوله: «يا معشَر الشباب» المعشر: جماعة يشملهم وصفٌ ما، والشباب: جمع شاب، ويُجمع أيضًا على شَبَبَة وشُبَّان، بضم أوله والتثقيل، وذكر الأزهري أنه لم يُجمع (فاعل) على (فُعَّال) غيره، وأصله: الحركة والنشاط، وهو اسم لمن بلغ إلى أنْ يكمل ثلاثين، هكذا أطلق الشافعية. فتح الباري (9/ 108).
وقال ابن حجر -رحمه الله- أيضًا:
المعْشَر: كل جماعة أمْرُهم واحد، ونُقل عن ثعلب أنه مخصوص بالرجال، وهذا الحديث (أي: يا معشر النساء) يَرُدُّ عليه، إلا إنْ كان مرادُه بالتخصيص حالة إطلاق المعْشَر، لا تقييده كما في الحديث. فتح الباري (1/ 406).
وقال النووي -رحمه الله-:
فالشباب معْشَر، والشيوخ معْشَر، والأنبياء معْشَر، والنساء معْشَر، فكذا ما أشبهه...، والشاب عند أصحابنا: هو مَن بلغ، ولم يجاوِز ثلاثين سنة. شرح النووي على مسلم (9/ 172-173).
وقال أبو الطيب السندي -رحمه الله-:
فالمعْشَر كالجنس، والشباب كالنوع. حياة المهجة على سنن الترمذي، مخطوط (ص: 243).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قال أبو إسحاق الإسفرايني: عن الأصحاب المرجع في ذلك إلى اللغة، وأما بياض الشَّعْر، فيختلف باختلاف الأمزجة. فتح الباري (9/ 108).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
قوله: «يا معْشَر الشباب»... أي: يا طائفة الشباب. إرشاد الساري (8/ 5).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
خصَّ الشباب بالخطاب؛ لأن الغالب وجود قوة الداعي فيهم إلى النكاح، بخلاف الشيوخ، وإنْ كان المعنى معتبرًا إذا وُجد السبب في الكهول والشيوخ أيضًا. فتح الباري (9/ 108).
وقال الكنكوهي -رحمه الله-:
إنَّ سبب الخطاب لهم إنما هو ذاك أي: الاحتياج إليهن (أي: النساء)، فالشيوخ الذين تُوجد فيهم العلة داخلون في الأمر، والشباب الذين لا تُوجد فيهم خارجون عنه، وإنما خصَّ الشباب وإنْ كان المراد مَن كان تائقًا؛ لغلبة التوقان منهم دون الشيوخ، فإنَّ الغالب في غير الشباب عدم الحاجة. الكوكب الدري على جامع الترمذي (2/ 211).
قوله: «مَن استطاعَ منكم البَاءَةَ»:
قال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «مَن استطاع» أي: مَن وَجَدَ ما به يتزوج. المفهم (4/ 81).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
قوله: «مَن استطاع منكم الباءة» أي: الجماع، فهو محمول على المعنى الأعم بقدرته على مُؤن النكاح. إرشاد الساري (8/ 5).
وقال النووي -رحمه الله-:
واختلف العلماء في المراد بالباءة هنا (في هذا الحديث) على قولين يرجعان إلى معنى واحد، أصحهما: أنَّ المراد معناها اللغوي وهو الجماع، فتقديره: مَن استطاع منكم الجماع لقدرته على مُؤَنِهِ، وهي مُؤَنُ النكاح فليتزوج، ومَن لم يستطع الجماع لعجزه عن مُؤَنِهِ، فعليه بالصوم؛ ليدفع شهوته، ويقطع شر مَنِيِّهِ، كما يقطعه الوِجَاء، وعلى هذا القول وقع الخطاب مع الشبان الذين هم مَظِنَّة شهوة النساء، ولا ينفكون عنها غالبًا.
والقول الثاني: أنَّ المراد هنا بالباءة مُؤَنُ النكاح، سُمِّيت باسم ما يلازمها، وتقديره: مَن استطاع منكم مُؤَنَ النكاح فليتزوج، ومَن لم يستطعها فليصم؛ ليدفع شهوته. شرح النووي على مسلم (9/ 173).
وقال السيوطي -رحمه الله- مُعلِّقًا على كلام النووي:
قلتُ: والذي يظهر ترجيح الأول، وسياق الحديث يدل عليه؛ ولقوله في الحديث الآخر: «مَن كان ذا طَوْلٍ» أخرجه الطبراني. التوشيح شرح الجامع الصحيح (7/ 3206).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
ولا بد من أحد التأويلين (السابقين في كلام النووي)؛ لأن قوله -صلى الله عليه وسلم-: «ومَن لم يستطع» عطف على قوله: «مَن استطاع»، ولو حمُلتْ الباءة على الجماع لم يستقم. الكاشف عن حقائق السنن (7/ 2256-2257).
وقال المازري -رحمه الله-:
أصل الباءة في اللغة: المنزل، ثم قيل لعقد النكاح: باءة؛ لأن مَن تزوج امرأة بوَّأها منزلًا، والباءة ها هنا التزويج، وفيه أربع لغات: الباءة بالمد والهاء، والباء بالمد وحذف الهاء، والباهه بهاءين دون مد، والباهُ بِهَاء واحدة دون مَدّ، وقد يُسمَّى الجماع نفسُه باءة.
وليس المرادُ بالذي وقع في الحديث على ظاهره الجماع؛ لأنه قال: «ومَن لم يستطع فعليه بالصوم»، ولو كان غير مستطيعٍ للجماع لم يكن له حاجة إلى الصوم. المعلم بفوائد مسلم (2/ 129).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «مَن استطاع منكم الباءة» أي: مَن استطاع منكم التزوُّجَ بوجدان أسبابه من النفقة والكسوة، ولا بد من هذا التأويل؛ لأنه لو أراد باستطاعة الباءة مجردَ استطاعة النكاح يلزم تناقضٌ بين هذا وبين قوله: «ومَن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء»؛ لأنه لو كان كلُّ مَن يقدر على المجامعة مأمورًا بالتزوج، لم يكن مأمورًا بكسر الشهوة بالصوم؛ لأن الرجل لا يخلو: إما أن يكون له اشتهاء النكاح أو لم يكن، فإن لم يكن فلا يؤمر لا بالنكاح ولا بكسره بالصوم؛ لأن المعدوم وهو اشتهاءُ النكاح كيف يُكْسر؟ وإن كان مشتهيًا للمجامعة لا يؤمر بكسر الشهوة بل يؤمر بالتزوُّج؛ لأن الحديث قد جاء للترغيب في النكاح لتكثُر أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، فقد ثبت بما قررنا أنَّ مراد الحديث: أنَّ مَن قدر على تحصيل نفقة المرأة وكسوتها فليتزوج، ومَن لم يقدر على النفقة والكسوة فعليه كسر شهوته بالصوم. المفاتيح في شرح المصابيح (4/ 7-8).
قوله: «فليتزوَّجْ»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
قوله: «فليتزوج» معنى التفعُّل هنا بمعنى: الاتخاذ، كـ(يتختَّم) إذا اتخذ خاتمًا، أي: فليتخذ له زوجة، وليس في كلام العرب: تزوَّجْتُ بامرأة، وأما قوله تعالى: {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} الدخان: 54، على التضمين، أي: قرناهم بهن. شرح سنن أبي داود (9/ 253).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «فليتزوَّج» قيل: الأمر فيه للوجوب؛ لأنه محمول على حالة التوقان؛ بإشارة قوله: «يا معشر الشباب» فإنهم ذوو التَّوَقَان على الجِبِلَّة السليمة. مرقاة المفاتيح (5/ 2041).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
قوله: «فليتزوَّج» جواب الشرط، وعند النسائي من طريق أبي مَعْشَر عن إبراهيم النخعي: «مَن كان ذا طَوْلٍ فَلْيَنْكِح». إرشاد الساري (8/ 5).
وقال القسطلاني -رحمه الله- أيضًا:
والأمر في قوله: «فليتزوَّج» وفي قوله: {فَانْكِحُوا} النساء: 3، وإنْ كان ظاهرهما الوجوب إلا أنَّ المراد بهما الإباحة. إرشاد الساري (8/ 6).
وقال ابن حزم -رحمه الله-:
وفرْضٌ على كل قادر على الوَطْءِ إنْ وَجد من أين يتزوج أو يتسرَّى أنْ يفعل أحدهما ولا بد، فإنْ عجز عن ذلك، فليكثر من الصوم، برهان ذلك: ما رويناه من طريق البخاري... عن علقمة أنه سمع عبد الله بن مسعود يقول: لقد قال لنا النبي -صلى الله عليه وسلم-: «يا معشر الشباب، مَن استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومَن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء». المحلى بالآثار (9/ 3).
وقال النووي -رحمه الله-:
وفي هذا الحديث: الأمر بالنكاح لمن استطاعه، وتاقت إليه نفسه، وهذا مُجمع عليه، لكنه عندنا وعند العلماء كافة أمرُ ندب، لا إيجاب، فلا يلزم التزوج ولا التَّسَرِّي، سواء خاف العَنَت (الزنا) أم لا، هذا مذهب العلماء كافة، ولا يُعلم أحد أوجَبَه إلا داود ومَن وافقه من أهل الظاهر، ورواية عن أحمد، فإنهم قالوا: يلزمه إذا خاف العَنَت أن يتزوج أو يتسرَّى، قالوا: وإنما يلزمه في العُمْر مرة واحدة، ولم يَشْرُط بعضهم خوف العَنَت، قال أهل الظاهر: إنما يلزمه التزويج فقط، ولا يلزمه الوطء، وتعلَّقوا بظاهر الأمر في هذا الحديث مع غيره من الأحاديث مع القرآن. شرح النووي على مسلم (9/ 173).
وقال المازري -رحمه الله-:
إنَّ المشهور من قول فُقَهاء الأمصار أنَّ النكاح مستحب على الجملة، وذهب داود إلى وجوبه، وسبب الخلاف تعارض الظواهر؛ فلداود قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} النساء: 3، والأمر على الوجوب، وله الحديث المذكور (أي: حديث «يا معشر الشباب»)، وله قوله -عليه السلام- بعد هذا في حديث ذكر فيه التزويج، وقال فيه: «فمن رغب عن سُنَّتي فليس مني»، ولفقهاء الأمصار عليه أنَّ الله تعالى خيَّر في الآية بين النكاح وملك اليمين، والتَّسَرُّرُ غير واجب باتفاق، فلو كان النكاح واجبًا ما صح التخيير بينه وبين ملك اليمين؛ إذ لا يصح على مذهب أهل الأصول التخيير بين واجب وما ليس بواجب؛ لأن ذلك مُؤَدٍّ إلى إبطال حقيقة الواجب، وأن يكون تاركه غير آثم...
وقد قال بعض أصحابنا: إن قوله -عليه السلام- في هذا الحديث: «ومَن لم يستطع فعليه بالصوم» فيه حجة على أنَّ النكاح ليس بواجب؛ لأنه خيَّر بينه وبين الصوم، والصوم المذكور ها هنا ليس بواجب، ونحا في هذا إلى ما ذكرنا من التخيير بين النكاح وملك اليمين، وليس هذا الأمر كذلك؛ لأنه في الحديث رتَّب فقال: «ومَن لم يستطع فعليه بالصوم»، وهذا غير مستحيل أنْ يُجمع فيه بين واجب وغير واجب، ويصح أنْ يقول قائل: أوجبتُ عليك أنْ تفعل كذا، فإن لم تستطع، فأندبك إلى كذا. المعلم بفوائد مسلم (2/127- 128).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وقوله: «فليتزوج» أمرٌ، وظاهره: الوجوب، وبه قال داود ومَن تابعه، والواجب عندهم العَقدُ لا الدخول، فإنه إنما يجب عندهم مرة في العُمْر، والجمهور: على أنَّ التزويج مندوب إليه، مُرَغَّبٌ فيه على الجملة، وقد اعتبره بعض علمائنا بالنظر إلى أحوال النَّاس، وقسَّمه بأقسام الأحكام الخمسة؛ وذلك واضحٌ، وصَرَفَ الجمهورُ ذلك الأمرَ عن ظاهره لشيئين:
أحدهما: أنَّ الله تعالى قد خيَّر بين التزويج والتَّسَرِّي بقوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِنَ النِّسَاءِ مَثنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} ثم قال: {أَو مَا مَلَكَت أَيمَانُكُم} النساء: 3، والتَّسرِّي ليس بواجب إجماعًا، فالنكاح لا يكون واجبًا؛ لأن التخيير بين واجب وبين ما ليس بواجب يرفع وجوب الواجب، وبَسطُ هذا في الأصول.
وثانيهما: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُم لِفُرُوجِهِم حَافِظُونَ * إِلا عَلَى أَزوَاجِهِم أو مَا مَلَكَت أَيمَانُهُم فَإِنَّهُم غَيرُ مَلُومِينَ} المؤمنون:5- 6، ولا يقال في الواجب: إنه غير ملوم.
ثم هذا الحديث لا حجة لهم فيه لوجهين:
أحدهما: أنْ نقول بموجبه في حق الشابِّ المستطيع الذي يَخافُ الضررَ على نفسه ودِينه من العُزبة، بحيث لا يرتفع عنه إلا بالتزويج، وهذا لا يُختلف في وجوب التزويج عليه.
والثاني: أنهم قالوا: إنَّما يجب العقد لا الوَطء، وظاهرُ الحديث: إنَّما هو الوَطْء، فإنَّه لا يحصل شيءٌ من الفوائد التي أرشد إليها في ذلك الحديث؛ من تحصين الفرْج، وغَضِّ البصر بالعقد، بل: إنَّما يحصل كلُّ ذلك بالوطء، وهو الذي يحصل دفع الشَّبق إليه بالصوم، فما ذهبوا إليه لم يتناوله الحديث، وما تناوله الحديثُ لم يذهبوا إليه؛ وذلك دليل على سوء فهمهم، وقلة فطنتهم. المفهم (4/ 82-83).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
واحتجوا (أهل الظاهر) بظاهر هذا الحديث، وحملوا أمره -عليه السلام- بالنكاح على الإيجاب، قالوا: ولكنه أمرٌ لخاصٍّ من الناس، وهم الخائفون على أنفسهم العَنَت (الزنا) بتركهم النكاح، فأما مَن لم يخف العَنَت، فهو غير مراد بالحديث، قالوا: وقد بيَّن صحة قولنا إخباره -عليه السلام- عن السبب الذي من أجله أمر الذي يستطيع الباءة بالنكاح؛ وذلك قوله: «فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج»، فمَن قدر على غض بصره عن المحارم، وتحصين فَرْجِه فغير فرض عليه النكاح، ومَن كان غير قادر على ذلك وخشي مواقعة الحرام، فالنكاح فرض عليه؛ لأمر النبي -عليه السلام- إياه به.
واحتج أهل المقالة الأولى (الجمهور) بقوله: «ومَن لم يستطع فعليه بالصيام»، وإذا كان الصوم الذي هو بدل عن النكاح ليس بواجب، فمبدله مثله، وأيضًا فإن جماعة من الصحابة تركوه وهم قادرون عليه، وعكفوا على العبادة، فلو كان واجبًا لكان تركُه معصية، ولا يجوز أن يفعله الصحابة وهو معصية، وخاصة بكون الرسول -صلى الله عليه وسلم- باقيًا، فلما لم يُنقل عنه، ولا عن الأئمة بعده النَّكير على من لم يتزوج، عُلم أنه غير واجب.
فإن قال أهل الظاهر: قد قال معاذ بن جبل: زوِّجوني؛ لئلا ألقى الله أعزب، وقال عمر لأبي الزوائد: لم لا تتزوج؟ ما يمنعك منه مع علمك بوجوبه إلا عجزٌ أو فجورٌ، قيل: أما معاذ فأراد أنْ يلقى الله على أكمل أحواله؛ لأن النكاح مندوب إليه، ويحتمل أن يريد عمر بوجوبه: وجوب سُنة، وهذا أبو الزوائد من الصحابة لم يتزوج. ومن الدليل أنه غير فرض: أنه قضاء شهوة، ولم يفرض الله على أحد مِن خَلْقه فرضًا هو شهوة لا يخاف مع تركها الهلاك، فإن قالوا: الغذاء هو شهوة، وقد فرض الله إحياء النفوس به، قيل: ليس في ترك الجماع خوف الهلاك، كما في فقد الغذاء، فهما غير مشتبهين، وإذا كان لا يُخاف الهلاك في فَقْدِ الجماع، فالفضل في الصبر على تركه؛ إذ الفضل في ترك اللذات، وفي إجماع الحجة على أنَّ مَن صبر عن النكاح ولم يَقْتَحِم محرمًا بصبره عنه غير حَرِج ولا آثم أدل دليل على صحة ما قلناه من أنَّ أمر النبي -عليه السلام- بالنكاح على الندب لا على الفرض، وهذا قول الطبري وابن القصار. شرح صحيح البخاري (7/ 162-163).
قوله: «فإنَّه أَغَضُّ للبَصَرِ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فإنه» أي: التزوُّج «أَغَضُّ للبصر» أي: أَخْفَضُ وأدْفَع لعين المتزوج عن الأجنبية مِن غَضِّ طَرْفِه، أي: خَفْضِهِ وكَفِّهِ. مرقاة المفاتيح(5/ 2041).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «أغض للبصر» الغضُّ: إلصاق أحد جَفْنَي العين بالأخرى. المفاتيح في شرح المصابيح (4/ 8).
وقال إسماعيل الأنصاري -رحمه الله-:
قوله: «أغض للبصر» أشدُّ غضًّا للبصر، والمراد بالبصر هنا: الطَّرْف المشتمِل عليه؛ لأنه الذي يُضاف إليه، وفي رواية النسائي: «أغض للطرف». الإلمام بشرح عمدة الأحكام (2/ 57).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
«فإنه أغض للبصر» من النظر بالحرام. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (2/ 330).
قوله: «وأحصَنُ للفَرْجِ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وأَحْصَنُ» أي: أحفظ «للفَرْجِ» أي: عن الوقوع في الحرام. مرقاة المفاتيح (5/ 2041).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
وقوله: «أَحْصَنُ للفَرْج» أي: أمنع، ومنه سُمِّي الحصن؛ لأنه يمنع مَن فيه، «أَحْصَنُ للفَرْج» يعني: أَمْنَعُ عن المحرم -عن الفاحشة-؛ فإنه يمنع الإنسان من الفاحشة؛ ولذلك أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- الرَّجُل إذا رأى من امرأةٍ ما يعجبه أن يأتي أهله، وقال: «إنَّ ما معها مثل الذي معها»، يعني: مع أهلك مثل الذي كان مع التي أعجبتك. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (4/ 420).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «أَحْصَنُ» وهو من الإحصان، وهو الحفظ، و«أغض» و«أحصن» أَفْعَل التفضيل، يعني: مَن تزوَّج فقد حَفِظَ عينَه عن النظر إلى امرأة أجنبية، وحفظ فَرْجَه عن الحرام. المفاتيح في شرح المصابيح (4/ 8).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
«وأَحْصَنُ للفَرْج» أي: أَحْفَظُ للفَرْجِ من السِّفَاح. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (2/ 330).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
وقوله -عليه السلام-: «فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج» يحتمل أمرين:
أحدهما: أنْ تكون (أَفْعَل) فيه مما استُعمل لغير المبالغة.
والثاني: أنْ تكون على بابها؛ فإنَّ التقوى سبب لغض البصر، وتحصين الفرْج، وفي معارضتها: الشهوة، والداعي إلى النكاح، وبعد النكاح يضعف هذا المعارض، فيكون أغض للبصر، وأحصن للفرج مما إذا لم يكن، فإنَّ وقوع الفعل مع ضعف الداعي إلى وقوعه أندر من وقوعه مع وجود الداعي. إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (2/ 169).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
فإن قيل: هل لا يكون غض البصر إلا بهذين الأمرين؟
فالجواب: إنَّ هذين أكثره، وقد يكون غض البصر بأنْ يغطي رأسه حتى لا يرى أحدًا إنْ كان المعنى الجارحة، وإن كان المعنى الجارحة مع سكون الفكر في ذلك، فهذا قد يزيله نوع آخر، مثل شدة الخوف والتألم، كما روي عن الثوري أنه كان إذا مر به خاطر لغير الله يضرب نفسه بقضيب، فربما كان يقطع في اليوم الواحد جملة من القضبان. شرح سنن أبي داود (9/ 254).
قوله: «ومَن لم يستطِعْ فعليه بالصَّومِ»:
قال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «ومَن لم يستطع» أي: من لم يجد ذلك، ولا يُراد به هنا: القُدرة على الوطءِ؛ لقوله: «فعليه بالصوم؛ فإنه له وِجَاء». المفهم(4/ 81-82).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«ومَن لم يستطع» أي: الجماع؛ لعجزه عن مُؤَنِه «فعليه بالصوم». إرشاد الساري (8/ 5).
وقال القسطلاني -رحمه الله- أيضًا:
«فعليه بالصوم» ذهب ابن عصفور إلى أنَّ الباء زائدة في المبتدأ، والتقدير: فعليه الصوم، وضُعِّف باقتضائه حينئذٍ الوجوب؛ لأن ذلك ظاهر في هذه الصيغة، ولا قائل به. إرشاد الساري (8/ 7).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
والحوالة على الصوم لما فيه كَسْرُ الشهوة، فإنَّ شهوة النكاح تابعة لشهوة الأكل، تقوى بقوتها، وتضعف بضعفها. إحكام الأحكام (2/ 169).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله: «فعليه بالصوم»، «عليه» هنا جار ومجرور، يُراد به: الإغراء؛ أي: فليلزم الصوم، والمراد بالصوم هنا: الإمساك عن الطعام والشراب تعبدًا لله -سبحانه وتعالى- من طلوع الشمس إلى غروب الشمس؛ أي: أنَّ المراد بالصوم هنا: الصوم الشرعي لا الصوم اللغوي؛ لأن الصوم اللغوي هنا لا معنى له؛ ولأن القاعدة المقررة: أنْ يُحمل كلام كل مُتكلِّم على عُرْفه، فإذا جاء الكلام من النبي -صلى الله عليه وسلم- يُحَمل على العُرْف الشرعي؛ لأنه مُشرِّع، لكن لو جاءنا من رجل لغوي، حملناه على المعنى اللغوي. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (4/ 420).
وقال أبو موسى الأصبهاني -رحمه الله-:
وفي الحدِيث: حُجَّة لمن جَوَّز إغراءَ الغائب؛ لأنه قال: «عليه بالصَّوم» والمَشهُور: أنَّ الإغراء للحَاضِر. المجموع المغيث (3/ 384).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«ومَن لم يستطع فعليه بالصوم» ذهب بعضهم إلى أنَّه إغراء للغائب، كقوله: {عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} البقرة: 158، وسهَّل ذلك تَقَدُّمُ المغرَى به في «من استطاع منكم الباءة» فصار كالحاضر، وكأنه قيل: فإن لم تستطيعوا فعليكم بالصوم. شرح سنن أبي داود (9/ 254).
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام -رحمه الله-:
وفي هذا الحديث من العربيَّة: قوله: «فعليه بالصَّوْمِ» فأغرى غَائِبًا، ولا تكاد العرب تُغْرِي إلَّا الشَّاهِد، يقولون: عليك زيدًا، ودونك عَمْرًا وعندك، ولا يقولون: عليْه زيدًا، إلَّا في هذا الحديث، فهذا حجَّة لكل من أَغْرَى غَائِبًا. غريب الحديث (2/ 75).
وقال القسطلاني -رحمه الله- مُتعقِّبًا أبا عبيد:
وأُجيب: بأنَّ الخطاب للحاضرين الذين خاطبهم أولًا بقوله: «فمَن استطاع منكم»، فالهاء في فـ«عليه» ليست لغائب، بل هي للحاضر المبهَم؛ إذ لا يصح خطابُه بالكاف، وهذا كما يقول الرَّجُل: مَن قام الآن منكم فله درهم، فهذه الهاء لمن قام من الحاضرين، لا لغائب. إرشاد الساري (8/ 5-6).
وقال المازري -رحمه الله-:
فيه: إغراء بالغائب، ومِن أصول النحاة أن لا يُغرى بغائب، وقد جاء شاذًا قول بعضهم: عليه رجُلًا لَيْسَنِي (يُرِيد: ليطلب رجلًا غيري) على جهة الإِغراء. المعلم بفوائد مسلم (2/ 130)
وقال القاضي عياض -رحمه الله- مُتعقِّبًا المازري:
هذا الكلام الذى قاله -رحمه الله- موجود لبعضهم كما ذكره، وإنْ كان مجموعُهُ ليس من قول أحد، ولكن على قائليه في ذلك أغاليط ثلاثة:
أولها: قول مَن قال: لا يجوز الإغراء بالغائب كما ذكره، وهو غفلة ووهم من قائله، ولفظٌ جاء على غير تأمُّل وتحصيل، وهو لفظ أبي محمد ابن قتيبة وأبي القاسم الزجاجي وبعضهم، وصوابه: لا يجوز إغراء الغائب، ولا يُغرى غائبٌ، وإنما يُغرى الحاضر والشاهد، وأما الإغراء بالشاهد والغائب فجائزٌ...
الغلط الثاني: عدَّ جميعُهم من هذا قولهم: عليه رجلًا ليْسني، وإنَّ هذا من إغراء الغائب، قال سيبويه: وهذا قليل، شبَّهُوه بالفعل، وقال السّيرافي: وإنما أمر الغائب بهذا الحرف على شذوذ؛ لأنه قد جرى للمأمور ذِكْره، فصار كالحاضر، واشتبه أمره أمر الحاضر...
الغلط الثالث: عدُّهم هذه اللفظة في الحديث من إغراء الغائب حتى قال أبو عبيد: فيه حجة لمن أجاز ذلك، وجعلها السيرافي من باب: عليه رجلًا ليْسني، على ما تقدم، وأنَّ ما جرى من الذكر له صار كالحاضر، فلذلك جاز، وكان بعض مَن لقيناه من أئمة العربية يقول: إنما جاز هذا في هذا الحديث؛ لأن في تبليغ الشاهد للغائب ما يُغني عن إضمار فعل التبليغ للغائب...
والصواب: أنَّه ليس في الحديث إغراء بغائب جملةً، والكلام كله والخطاب للحضور الذين خاطبهم -عليه السلام- من الشباب، فقال: «مَن استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومَن لم يستطع فعليه بالصوم» قالها ها هنا في «عليه» ليست لغائب، وإنما هي لمن خصه من الحاضرين بعدم الاستطاعة؛ إذ لا يصح خطابه بكاف المخاطب؛ لأنه لم يتعين منهم، ولإبهامه بلفظة «مَنْ» وإن كان حاضرًا، وهذا كثير في القرآن والحديث والكلام...، وأما حكم تبليغ الشاهد الغائب، ودخول الغائب في خطاب الحاضر، فحكم آخر من غير هذا الباب. إكمال المعلم (4/524- 527).
وقال عبد الله بن مانع العتيبي -حفظه الله-:
«فعليه بالصَّوْمِ» قد يقول قائل: إنَّ الإنسان إذا صام وكان ذا شهوة فإنه قد يهيج، ويزداد رغبة في تفريغ الشهوة، فيقال له: هذا يكون في البداية، لكن إذا استمر في الصيام وتمادى عليه، سكنت نفسه، وضَعُفت بعض الشيء. شرح كتاب الصوم من صحيح البخاري (ص: 37).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
والقطع في الصوم نظرًا لدوامه، لا لابتدائه، فإنه يثير الحرارة، ويهيجها. فتح الإله في شرح المشكاة (8/366).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
كان من الظاهر أنْ يقول: ومن لم يستطع فعليه بالجوع، وقِلة ما يزيد في الشهوة، وطغيان الماء من الطعام، فعدل إلى الصوم إدماجًا لمعنى عبادة هي برأسها مطلوبة؛ وليُؤْذِنَ أنَّ المطلوب من نفس الصوم الجوع، وكسر الشهوة، وكم من صائم يمتلئ مِعَىً(واحد الأمعاء). الكاشف عن حقائق السنن(7/ 2257).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- مُتعقِّبًا كلام الطيبي:
ويُحتمل: أنْ يكون الصوم فيه هذا السّر والنفع لهذا المرض، ولو أكل وشرب كثيرًا إذا كانت له نية صحيحة؛ ولأن الجُوع في بعض الأوقات والشبع في بعضها ليس كالشبع المستمر في تقوية الجماع، والله تعالى أعلم. مرقاة المفاتيح (5/ 2041).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
وفيه: دليل على جواز التعالج لقطع الباءة بالأدوية، ونحوها. معالم السنن (3/ 180).
وقال العراقي -رحمه الله- مُتعقِّبًا الخطابي:
قلتُ: لا يلزم من الإرشاد للصوم لكسر الشهوة الإرشاد لاستعمال ما يقطعها، فإنه قد تَحْصُلُ السَّعَة؛ لأن المال غادٍ ورائح، فيجد شهوته، ويتمكَّن من تحصيل مقاصد النكاح الدينية والدنيوية، وإذا استعمل ما يقطعها فات ذلك، وقد قال أصحابُنا: إنه لا يكسرها بالكافور ونحوه، فما ذكره ليس هو المنقول، ولا يصح استنباطه من الحديث، والله أعلم. طرح التثريب في شرح التقريب (7/ 9).
وقال ابن حجر -رحمه الله- مُتعقِّبًا الخطابي أيضًا:
وينبغي أنْ يُحمل على دواء يسكن الشهوة، دون ما يقطعها أصالة؛ لأنه قد يَقْدِر بَعْدُ، فيندم لفوات ذلك في حقه. فتح الباري (9/ 111).
وقال السفاريني -رحمه الله-:
صرَّح علماؤنا بجواز شرب دواء مباح يمنع الجماع، قالوا: ولأنثى شُربه أيضًا لإلقاء نطفةٍ لا علقةٍ؛ ولحصول حيض، لا قرب رمضان لتفطر. كشف اللثام شرح عمدة الأحكام (5/ 250).
قوله: «فإنَّه له وِجَاءٌ»:
قال القسطلاني -رحمه الله-:
«فإنَّه» أي: الصوم «له وِجاء» بكسر الواو، وبالجيم ممدودًا، وقيل: بفتح الواو، مع القصر، بوزن عَصَا، أي: التعب والحفا؛ وذلك بعيد، إلا أنْ يُراد فيه معنى الفتور؛ لأنه مِن وُجِيَ إذا فَتَرَ عن المشي، فشبَّه الصوم في باب النكاح بالتعب في باب المشي، أي: قاطِعٌ لشهوته، وأصله: رَضُّ الأُنثيين (الخصيتين)؛ لتذهب شهوة الجماع، وإطلاق الصوم على الوِجاء من مجاز المشابهة؛ لأن الوِجاء قطع الفعل، وقطع الشهوة إعدام له أيضًا. إرشاد الساري (8/ 6).
وقال أبو موسى الأصبهاني -رحمه الله-:
رواه بعضُهم «وَجًى» يُرِيدُ الحَفَا؛ وذلك بَعِيدٌ؛ لأنَّ ذلك مَنْ مَشىَ كثيرًا، لا أن يُسْتَعملَ بمعنَى الفُتُور؛ فإنَّ مَن وُجِيَ فقد فَتَر عن المَشي. المجموع المغيث (3/ 384).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فإنه له وجاء» أي: قاطِع للشهوة، مع ما فيه من سلامة النفس من التعذيب، وقطع النسل، ومن حصول الثواب بالصيام المقتضي لرياضة النفس، المؤدية إلى طاعتها لأمر مولاها. مرقاة المفاتيح (2/ 607).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
الوِجَاء رض الأنثيين، والخصا نزعهما. معالم السنن (3/ 179).
وقال السيوطي -رحمه الله-:
أُطلِق (الوجاء) على الصيام لمشابهته له في قمع الشهوة، قال العلماء: الصوم يثير الحرارة، فإذا دام سكنت. التوشيح شرح الجامع الصحيح (7/ 3206).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
وفيه من الفقه: استحباب النكاح لمن تاقت إليه نفسه.
وفيه: دليل على أنَّ النكاح غير واجب، ويُحكى عن بعض أهل الظاهر أنه كان يراه على الوجوب. معالم السنن (3/ 180).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
وفيه: دليل على أنَّ الصوم يقطع مادة النكاح ويضعفها، وهذا أمر منه -صلى الله عليه وسلم- للشباب كما في رواية البخاري وغيره أنَّ الشاب له من شهوة النكاح ما قد يغلب عليه، بخلاف الكبير، فإنَّ تلك المادة الكبرى ليست عنده.
وفيه: دليل على أنَّ المرء مأمور بعمل الأسباب؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بالتسبب في دفع حرارة ما يجده الإنسان مما أشرف إليه بالتأهل. شرح سنن أبي داود (9/ 255).
وقال ابن العطار -رحمه الله-:
وفي هذا الحديث أحكام:
منها: مراعاة الشهوات وحظوظ النفوس؛ بحيث لا تقدَّم على أحكام الشرع، بل تكون مقيدة بها، غير مطلقة.
ومنها: الأمر بالنكاح لمن استطاعه، وتاقت إليه نفسه، أما من لم يستطعه، ولم تتُقْ إليه نفسه، فهو مكروه في حقه، وظاهر الأمر للمستطيع الوجوب....
ومنها: الأمر بالصوم للعاجز عن القيام بمأمورات النكاح.
ومنها: شرعية تعليل الحُكم؛ فإنه -صلى الله عليه وسلم- علَّل الحِكمة في الأمر بالصوم له: «فإنه له وجاء» أي: قاطِع لمشقَّة المكابدة لشهوة النكاح.
ومنها: الحثُّ على غض البصر، وقد أمر الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم- فقال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنينَ يَغُضُوا مِن أَبْصَارِهِم وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُم} {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِن أَبْصَارِهِنَّ} النور: 30 - 31، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «غُضُّوا أبصاركم، واحفظوا فروجكم».
ومنها: الحث على تحصين الفَرْجِ بكل طريق أَمَرَ الشرع به.
ومنها: عدم التكليف بغير المستطاع، والله أعلم. العدة في شرح العمدة (3/1253- 1254).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
واستدل به بعض المالكية على تحريم الاستمناء؛ لأنه أرشد عند العجز عن التزويج إلى الصوم الذي يقطع الشهوة، فلو كان الاستمناء مباحًا؛ لكان الإرشاد إليه أسهل.
وتُعقِّب دعوى كونه أسهل؛ لأن الترك أسهل من الفعل، وقد أباح الاستمناء طائفة من العلماء، وهو عند الحنابلة، وبعض الحنفية لأجل تسكين الشهوة. فتح الباري (9/ 112).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
واستدلَّ بالحديث على أنَّ مَن لم يستطع الجماع، فالمطلوب منه ترك التزويج؛ لأنه أرشده إلى ما ينافيه، ويضعف دواعيه. إرشاد الساري (8/ 6).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
وفيه: فضيلة للصوم؛ حيث كان مانعًا عن الوقوع في المعاصي، وهذا هو أصل الحكمة في مشروعيته، كما قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُم الصِّيامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم لَعَلَكُم تَتَقُونَ} البقرة: 183. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (21/ 116).
وقال السفاريني -رحمه الله-:
ويُستفاد منه: أنَّ الذي لا يجد أُهْبَةَ النكاح وهو تائق إليه يُندب له التزويج؛ دفعًا للمحذور، «فليتزوج» دفعًا للمحذور، وتحصيلًا للمصلحة؛ فإنَّ الله سبحانه اختار النكاح لأنبيائه ورسله، فقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} الرعد: 38، وقال في حقِّ آدم: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} الأعراف: 189، واقتطع مِن زمن كليمه موسى -عليه السلام- عشر سنين في رعاية الغنم مهر الزوجة، ومعلوم مقدار هذه السنين العشر في نوافل العبادات، واختار لنبيّه وحبيبه محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- أفضلَ الأشياء، فلم يحب له تركَ النكاح، بل زوّجه بعدة نساء، حتى إنه ماتَ عن تسعة من النساء، ولا هدي فوق هديه، ولو لم يكن في النكاح إلا سرور النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم المباهاة بأمَّته، وأنَّ الناكح لا ينقطع عمله بموته، وأنه يخرج من صُلْبِه من يشهد لله بالوحدانية، ولرسوله بالرسالة، لكفاه. كشف اللثام شرح عمدة الأحكام (5/ 236).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
وفيه: دليل على أنَّ المقصود في النكاح الوطء، وأنَّ الخيار في العُنَّة (عدم القُدرة على إتيان النِّساء) واجب. معالم السنن (3/ 180).
وقال العراقي -رحمه الله- مُتعقِّبًا الخطابي:
وقال والدي -رحمه الله-: وما أدري ما وجه الدلالة فيه.
قلتُ: قد وطَّأ له باستدلاله به أولًا على أنَّ المقصود في النكاح الوطء، أي: والعُنَّة مُفَوِّتَةٌ لمقصوده، ومقتضى ذلك تأثيرها فيه، لكن تأثير الخيار بخصوصه يحتاج إلى دليل خاص، وليس في هذا الحديث ما يدل عليه بالتعيين، والله أعلم. طرح التثريب في شرح التقريب (7/ 9).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
فيه: أيضًا أنَّ تشريك النية في مثل ذلك لا يضر بإخلاص العبادة، فإنه -صلى الله عليه وسلم- أمر الشباب بالصوم لكسر شهواتهم، فيدل على أنه إذا صام الإنسان احتسابًا، وكسرًا لشهوته جاز صومه، ونال الأجر، ومثل ذلك من يصوم احتسابًا، وتخفيفًا للسِّمَن، ونحو ذلك، والله تعالى أعلم. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (21/ 116).
وقال القرافي -رحمه الله-:
مَن صام ليصح جسده أو ليحصل له زوال مرض من الأمراض التي ينافيها الصيام ويكون التداوي هو مقصودهِ، أو بعض مقصودهِ والصوم مقصودهِ مع ذلك، وأوقع الصوم مع هذه المقاصد لا تقدح هذه المقاصد في صومه، بل أَمر بها صاحب الشرع في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء» أي: قاطِع، فأَمَر بالصوم لهذا الغرض، فلو كان ذلك قادحًا لم يأمر به -عليه الصلاة والسلام- في العبادات وما معها، ومن ذلك أن يجدد وضوءه وينوي التبرُّد أو التنظيف، وجميع هذه الأغراض لا يدخل فيها تعظيم الخلق، بل هي تشريك أمور من المصالح ليس لها إدراك، ولا تصلح للإدراك، ولا للتعظيم، فلا تقدح في العبادات، فظهر الفرق بين قاعدة الرياء في العبادات، وبين قاعدة التشريك في العبادات غرضًا آخر غير الخلق، مع أن الجميع تشريك، نعم لا يمنع أن هذه الأغراض المخالِطة للعبادة قد تُنْقِص الأجر، وأن العبادة إذا تجرَّدت عنها زاد الأجر، وعظم الثواب، أما الإثم والبُطلان فلا سبيل إليه، ومِن جهته حصل الفرق لا من جهة كثرة الثواب وقلته. الفروق للقرافي (3/ 23)
وقال ابن حجر -رحمه الله- مُعلِّقًا على كلام القرافي:
فإنْ أراد تشريك عبادة بعبادة أخرى، فهو كذلك، وليس محل النزاع، وإن أراد تشريك العبادة بأمر مُباحٍ، فليس في الحديث ما يُساعده. فتح الباري(9/ 112).
وللاستفادة من الرواية الأخرى ينظر (هنا)