الأحد 23 رمضان 1446 هـ | 23-03-2025 م

A a

«إذا أسلمَ العبدُ فَحَسُنَ إسلامُه، يُكَفِّرُ اللهُ عنه كلَّ سيئةٍ كان زَلَفَهَا، وكان بعد ذلك القِصاص: الحسنةُ بعشرِ أمثالِها إلى سبعمائةِ ضِعْف، والسَّيئةُ بمثلِها إلا أن يَتَجَاوزَ اللهُ عنها».


رواه البخاري تعليقًا بصيغة الجزم برقم:(41)، ورواه موصولًا النسائي برقم: (4998)، والبيهقي في شعب الإيمان برقم: (24) من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (337)، مشكاة المصابيح برقم: (2373).


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«زَلَفَهَا»:
بفتح اللام مخففة، أي: جمعها واكتسبها. مشارق الأنوار، للقاضي عياض (1/310).

«القِصَاص»:
القصاص: القَوْد. والمراد به ههنا: مقابلة الشيء بالشيء، أي: كُل شيء يعمله يُعطى في مقابله شيء؛ إن خيرًا فخيرًا، وإن شرا فشرًا. عمدة القاري، للعيني (1/ 251).

«ضِعْف»:
ضِعْفُ الشيءِ، بالكسرِ: مِثْلُه، وضِعْفاهُ: مِثْلاهُ، أو الضِّعْفُ: الْمِثْلُ إلى ما زادَ. القاموس المحيط، للفيروزآبادي(ص: 829-830).

«يَتَجَاوز»:
أي: عن السيئة، يعني: يعفو عنها. عمدة القاري، للعيني (1/ 252).


شرح الحديث


قال البرماوي -رحمه الله-:
(رواه البخاري تعليقًا) هو تعليق بالجزم فله حكم الصحة، خلافًا لقول ابن حزم -رحمه الله-: إن انقطاعه قادح في صحته، لكن جوابه: أن الحكم تضمَّنَه للجزم، وإن كان منقطعًا صورة؛ لما علم من عادة البخاري في جزمه. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (1/246).

قوله: «إذا أسلم العبد»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله «إذا أسلم العبد» هذا الحكم يشترك فيه الرجال والنساء، وذكرهُ بلفظ المذكر تغليبًا. فتح الباري (1/99).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«إذا أَسلم العبد» أي: صار مسلمًا بإتيانه بالشهادتين، وانقياده للأحكام، هذا ما في النُّسَخِ، وفي رواية: «إذا أسلم الكافر». فيض القدير(1/280).

قوله: «فَحَسُنَ إسلامه»:
قال الطيبي -رحمه الله-:
الفاء في قوله: «فحسن» وقع موقع «ثم» في قوله: «قل: آمنتُ بالله ثم استقم» أي: أَسْلَم واستقام على الإسلام، بأن أدّى حقه، وأخلص في عمله، ولم يَرُغْ رَوَغَان الثعلب. شرح المشكاة (6/1866).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
قوله: «فحسن» عطف على أسلم، وجزاء الشرط: «يكفر الله»، ويجوز فيه الرفع والجزم نحو:
إذا أتاه خليل يوم مَسْغَبة *** يقول: لا غائب مالي ولا حرم
وعند الجزم يلتقي الساكنان فيُحَرَّك بالكسر، والرواية إنما هي بالرفع.
ومعنى حسن إسلام المرء: الدخول فيه بالظاهر والباطن جميعًا، يقال في عرف الشرع: حَسُنَ إسلام فلان: إذا دخل فيه حقيقة. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (1/169).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «فحسن إسلامه» أي: صار إسلامه حسنًا باعتقاده وإخلاصه ودخوله فيه بالباطن والظاهر، وأن يستحضر عند عمله قُربَ ربّه منه، واطلاعه عليه، كما دلَّ عليه تفسير الإحسان في حديث سؤال جبريل. فتح الباري (1/99).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
قوله: «إذا أسلم العبد فحسن إسلامه» بكونه عن إخلاص. شرح مصابيح السنة (3/160).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
قد فسَّره حين «سئل ما الإحسان؟ فقال: أن تعبد الله كأنك تراه» أراد مبالغة الإخلاص لله بالطاعة والمراقبة له. شرح صحيح البخاري (1/98).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «فحسُن إِسلامه» يعني: يكون الإسلام محبوبًا ومرضيًّا له ظاهرًا وباطنًا، ولم يكن النفاق في قلبه، فإذا كان كذلك كفَّر الله سيئاته. المفاتيح في شرح المصابيح (3/200).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «إذا أَسلم العبد فحسُن إسلامه» أي: قام بفرائضه، وانتهى عن نواهيه. التنوير شرح الجامع الصغير (1/562-563).
وقال النووي -رحمه الله-:
المراد بالإحسان هنا: الدخول في الإسلام بالظاهر والباطن جميعًا، وأن يكون مسلمًا حقيقيًّا، فهذا يغفر له ما سلف في الكفر بنص القرآن العزيز، والحديث الصحيح: «الإسلام يهدم ما قبله»، وبإجماع المسلمين.
والمراد بالإساءة: عدم الدخول في الإسلام بقلبه، بل يكون منقادًا في الظاهر مظهرًا للشهادتين غير معتقد للإسلام بقلبه، فهذا منافق باقٍ على كفره بإجماع المسلمين، فيؤاخذ بما عمل في الجاهلية قبل إظهار صورة الإسلام وبما عمل بعد إظهارها؛ لأنه مستمر على كفره، وهذا معروف في استعمال الشرع، يقولون: حسُن إسلام فلان: إذا دخل فيه حقيقة بإخلاص، وساء إسلامه أو لم يحسن إسلامه: إذا لم يكن كذلك -والله أعلم-. شرح مسلم (2/136).
وقال العراقي -رحمه الله-:
وكلام النووي هو الظاهر، ولا يتوقف كون الحسنة بعشر أمثالها وغير ذلك مما ذكر في هذا الحديث- على أن يكون الفاعل لذلك مبالغًا في الإخلاص لله تعالى بالطاعة والمراقبة له، بل مجرد الإسلام الذي هو شرط صحة العبادة كافٍ في ذلك، ولا يُحْتَرَزُ بذلك إلا عن النفاق -والله أعلم-. طرح التثريب في شرح القريب (8/232).
وقال محمد أنور شاه الكشميري -رحمه الله-:
قلتُ: والمراد من إحسان الإسلام عندي: أن يُسْلِمَ قلبه، ويتضمن إسلامه: التوبة عما فعل في الكفر، فلم يَعُدْ بعد الإسلام إليها، فهذا الذي غفر له ذنبه.
ومن إساءة الإسلام: أن يُسْلِمَ، ولم يتضمن إسلامه التوبة عن معاصيه التي زلفها في الكفر، واستمر على ما كان، فهذا وإن صار مسلمًا إلا أنه يؤخذ بالأول والآخر، وعلى هذا: فحديث الهدم محمول على ما تضمن إسلامُه التوبةَ، وحديث ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- على ما لم يكن كذلك. فيض الباري على صحيح البخاري (1/211).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
مما يُفَسَّرُ به إحسان الإسلام: أن تقع طاعات المسلم على أكمل وجوهها وأتمها، بحيث يستحضر العامل في حال عمله قرب الله تعالى منه، واطلاعه عليه، فيعمل له على المراقبة والمشاهدة لربه بقلبه، وهذا هو الذي فسر النبي -صلى الله عليه وسلم- به الإحسان في حديث سؤال جبريل -عليه السلام-. فتح الباري (1/161-162).
وقال السندي -رحمه الله-:
«فحسُن إسلامه» بضم سين مخففة، أي: صار حسنًا بمواطأة الظاهر الباطن، ويمكن تشديد السين ليوافق رواية: «أحسن أحدكم إسلامه» أي: جعله حسنًا بالمواطأة المذكورة. حاشية السندي على سنن النسائي (8/106).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«إذا أسلم العبد فحسن إسلامه» أي: بالإخلاص فيه بأن لا يكون منافقًا، وليس معناه: استقام على الإسلام، وأَدّى حقّه، وأخلص في عمله؛ لإيهامه أن مجرد الإسلام الصحيح لا يُكَفِّر، فإنه ينافيه قوله تعالى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} الأنفال:38، ويدل على ما قلنا قوله: «يكفر الله عنه كل سيئة كان زلفها». مرقاة المفاتيح (4/1644).

قوله: «يُكَفِّر الله عنه كُلّ سيئة كان زَلَفَهَا»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
في رواية أبي ذر: «كان أزلفها». فتح الباري (1/99).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«أزلفها»: بالزاي، وفاء بعد اللام، أي: قدمها وأسلفها قبل إسلامه، وهذا زيادة على ما في الآية من قوله: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} الأنفال: 38؛ إذ ظاهر الآية أن الانتهاء عن الكفر مُحَصِّل المغفرة، وظاهر الحديث: أنه لا بد لحصولها من حسن الإِسلام. التنوير شرح الجامع الصغير (1/562-563).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«يُكَفِّر الله» أي: يستر «عنه» ويعفو «كل سيئة كان زلفها» أي: قدمها وأسلفها قبل الإسلام. شرح مصابيح السنة (3/160).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
المراد بالحسنات والسيئات التي كان أَزلفها: ما سبق منه قبل الإسلام، وهذا يدلُّ على أنَّه يُثاب بحسناته في الكفر إذا أسلم، وتُمحى عنه سيئاته إذا أسلم، لكن بشرط أنْ يَحْسُنَ إسلامُه، ويتقي تلك السيئات في حال إسلامه، وقد نص على ذلك الإمام أحمد، ويدلُّ على ذلك: ما في الصحيحين عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: «قلنا: يا رسول الله، أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال: أمَّا مَنْ أحسَنَ منكم في الإسلام فلا يُؤَاخَذُ بها، ومن أساءَ أُخِذَ بعمله في الجاهلية والإسلام».
وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- قال للنَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- لما أسلم: «أريدُ أنْ أَشْترط، قال: تشترط ماذا؟ قلتُ: أنْ يُغْفر لي، قال: أما عَلمتَ أنَّ الإسلامَ يَهدِمُ ما كان قبله؟».
وخرَّجه الإمام أحمد ولفظه: «إنَّ الإسلام يَجُبُّ ما كان قبله من الذنوب».
وهذا محمول على الإسلام الكامل الحسن؛ جمعًا بينه وبين حديث ابن مسعودٍ -رضي الله عنه-. جامع العلوم والحكم (1/318 -319).
وقال ابن رجب -رحمه الله- أيضًا:
هنا دليل على أن الإسلام إنما يكفِّر ما كان قبله من الكفر، ولَوَاحِقَهُ التي اجتنبها المسلم بإسلامه، فأما الذنوب التي فعلها في الجاهلية إذا أصرَّ عليها في الإسلام، فإنه يؤاخذ بها، فإنه إذا أصرَّ عليها في الإسلام لم يكن تائبًا منها، فلا يُكفَّر عنه بدون التوبة منها.
وقد ذكر طوائف من العلماء من أصحابنا -الحنبلية- كأبي بكر عبد العزيز بن جعفر وغيره، وهو قول طائفة من المتكلمين من المعتزلة وغيرهم، وهو اختيار الحليمي، وقد وجدته منصوصًا عن الإمام أحمد، فنقل الميموني في مسائله عن أحمد، قال: بلغني عن أبي حنيفة أنه كان يقول: لا يؤاخذ بما كان في الجاهلية، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في غير حديث: إنه يؤاخذ يعني: حديث شقيق، عن ابن مسعود -رضي الله عنه-، أراد: «إذا أحسنت في الإسلام». انتهى.
وكذلك حكى الجوزجاني عن أهل الرأي أنهم قالوا: إن من أسلم وهو مُصِرٌّ على الكبائر كفَّر الإسلام كبائره كلها، ثم أنكر ذلك عليهم، وجعله من جملة أقوال المرجئة.
وخالف في ذلك آخرون، وقالوا: بل يغفر له في الإسلام كل ما سبق منه في الجاهلية من كُفْرٍ وذنب، وإن أصرَّ عليها في الإسلام.
وهذا قول كثير من المتكلمين والفقهاء من الحنابلة؛ وغيرهم كابن حامد، والقاضي وغيرهما.
واستدلوا بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «الإسلام يهدم ما كان قبله» أخرجه مسلم من حديث عمرو بن العاص -رضي الله عنه-.
وأجاب الأولون عنه: بأن المراد: أنه يهدم ما كان قبله مما ينافيه الإسلام من كفر وشرك، ولواحق ذلك مما يكون الإسلام توبة منه، وإقلاعًا عنه؛ جمعًا بينه وبين الحديثين المتقدمين.
واستدلوا بقوله تعالى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} الآية الأنفال: 38.
وأجاب الأولون: بأن المراد: يغفر لهم ما سلف مما انتهوا عنه.
وتأول بعض أهل القول الثاني حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- على أن إساءته في الإسلام ارتداده عنه إلى الكفر، فيؤاخذ بكفره الأول والثاني.
ومنهم مَن حمله على إسلام المنافق، وهذا بعيد جدًّا.
ومتى ارتد عن الإسلام أو كان منافقًا فلم يَبْقَ معه إسلام حتى يسيء فيه. فتح الباري (1/155-156).
وقال السندي -رحمه الله-:
وهذا الحديث يدل على أن حسنات الكافر موقوفة؛ إن أسلم تُقْبَلُ وإلا تُرَدُّ، وعلى هذا فنحو قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ} النور: 39، محمول على مَن مات على الكفر، والظاهر: أنه لا دليل على خلافه، وفضل الله أوسع من هذا وأكثر؛ فلا استبعاد فيه، وحديث «الإيمان يجب ما قبله» من الخطايا في السيئات لا في الحسنات. حاشية السندي على سنن النسائي (8/106).
وقال المناوي -رحمه الله-:
أي: محا عنه كُلّ خطيئة قدّمها على إسلامه؛ بأن يُغْفَرَ له ما تقدم من ذنبه؛ لأن الإسلام يَجُبُّ ما قبله، لكن الكلام في خطيئة متعلقة بحق الله تعالى من العقوبات؛ بخلاف الحق المالي، نحو: كفارة ظهار ويمين وقتل؛ فإنه لا يسقط. فيض القدير (1/280).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
أسقط البخاري بعضه، ولم يسنده، وهو حديث مشهور من رواية مالك في غير الموطأ، ونص الحديث: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا أسلم الكافر فحسن إسلامه كتب الله له كل حسنة كان زَلَفَها، ومَحا عنه كُل سيئة كان زَلَفَها، وكان عمله بعد الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله».
ذكره الدارقطني في غريب حديث مالك، ورواه عنه من تسعة طرق، وثبت فيها كلها ما أسقطه البخاري: أن الكافر إذا حسن إسلامه يكتب له في الإسلام كل حسنة عملها في الشرك.
ولله تعالى أن يتفضل على عباده بما شاء، لا اعتراض لأحد عليه، وهو كقوله -صلى الله عليه وسلم- لحكيم بن حزام -رضي الله عنه-: «أسلمتَ على ما سلف من خير». شرح صحيح البخاري (1/99).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وقد ثبت في جميع الروايات ما سقط من رواية البخاري، وهو كتابة الحسنات المتقدمة قبل الإسلام...، فقيل: إن المصنف أسقط ما رواه غيره عمدًا؛ لأنه مشكل على القواعد. فتح الباري (1/99).
وقال الدماميني -رحمه الله-
قال الزركشي -رحمه الله-: إنما اختصره البخاري؛ لأن قاعدة الشرع: أن المسلم لا يثاب على عمل لم ينوِ به القُربة، فكيف بالكافر؟ مصابيح الجامع (1/136).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
وقيل: وإنما اختصره المؤلف؛ لأن قاعدة الشرع: أن الكافر لا يثاب على طاعته في شركه؛ لأن من شرط المتقرب كونه عارفًا بمن تقرب إليه، والكافر ليس كذلك. إرشاد الساري (1/127).
وقال محمد أنور شاه الكشميري -رحمه الله-:
واعلم أن ههنا إشكالًا: وهو أن المصنف -رحمه الله تعالى- ترك قطعة من الحديث، وأخرجها النووي -رحمه الله تعالى- في شرح مسلم، وقال: ذكره الدارقطني في غريب حديث مالك، ورواه عنه من تسع طرق، وثبت فيها كلها: أن الكافر إذا حسن إسلامه يكتب في الإسلام كل حسنة عملها في الشرك. انتهى.
وهذه القطعة ليست في البخاري، فقال قائل: إن المصنف -رحمه الله تعالى- حذفها لإشكالها؛ لأنها تدل على أن حسنات الكافر أيضًا معتبرة.
قلتُ: وهو كما ترى.
والوجه عندي: أن تلك القطعة الواردة في حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله تعالى- عنه ليست في أحد من الروايات التي رويت في هذا الباب، أي: في معنى هدم معاصي الكفر بعد الإسلام، وإن كانت ثابتة في حديث أبي سعيد -رضي الله تعالى عنه-، فحديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه-: «الإسلام يهدم ما كان قبله»، وإن كان مغايرًا لحديث أبي سعيد -رضي الله تعالى عنه- بحسب ضابطة المحدثين، إلا أنه لاتحاد المعنى يمكن أن يكون واحدًا عند المصنف -رحمه الله تعالى-.
ولما لم تَرِدْ تلك القطعة في أحد من تلك الروايات سوى حديث أبي سعيد -رضي الله تعالى عنه- فيما أعلم تَرَدَّدَ فيها وتركها -والله أعلم-. فيض الباري على صحيح البخاري (1/210-211).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
وأما القول بأنه حذف البخاري تلك الجملة لإشكالها فقول باطل، وكيف يُطْوَىْ بعض ما قاله رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه مشكل، فهذا لا يفعله مؤمن، بل يجب رواية ما قاله -صلى الله عليه وسلم-، ونبيِّن وجه إشكاله، ووقفه مما في كلامه مشكل نظر. التَّحبير لإيضَاح مَعَاني التَّيسير (1/137).
وقال المازري -رحمه الله-:
ظاهره خلاف ما تقتضي الأصول؛ لأن الكافر لا يصح منه التقرب فيكون مثابًا على طاعاته، ويصح أن يكون مطيعًا غير متقرب كنظره في الإيمان، فإنه مطيع فيه من حيث كان موافقًا للأمر، والطاعة عندنا موافقة الأمر، ولكنه لا يكون متقربًا؛ لأن من شرط المتقرب أن يكون عارفًا بالمتقرب إليه، وهو في حين نظره لم يحصل له العلم بالله تعالى بعد، فإذا تقرر هذا عُلِمَ أن الحديث مُتَأَوَّل، وهو يحتمل وجوهًا:
أحدها: أن يكون المعنى: أنك اكتسبت طباعًا جميلة، وأنت تنتفع بذلك الطبع في الإسلام، وتكون تلك العادة تمهيدًا لك، ومعونة على فعل الخير والطاعات.
والثاني: أن يكون المعنى: أنك اكتسبت بذلك ثناء جميلًا فهو باقٍ عليك في الإسلام.
والثالث: أنه لا يبعد أن يُزَادَ في حسناته التي يفعلها في الإسلام، ويكثر أجره لما تقدم له من الأفعال الجميلة. المعلم بفوائد مسلم (1/ 308-309).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وقيل: معناه: ببركة ما سبق لك من خير هداك الله إلى الإسلام، أي: سبق لك عند الله من الخير ما حملك على فعله في جاهليتك وعلى خاتمة الإسلام لك، وأنَّ من ظهر منه خير في مبتدئه فهو دليل على سعادة أخراه، وحسن عاقبته. إكمال المعلم بفوائد مسلم (1/416).
وقال الأبّي -رحمه الله-:
والحديث نص في القضيَّة، وتصحُّ نيَّةُ التقرب من الكافر، وما عللوا به من الجهل إن عنوا به: أنه يُجهُلَهَ مُطلقًا مُنِعَ؛ لأنه لا ينكر الصانع (يعني: الخالق)، وإن عنوا به: أنه يجهله من وجه فهو استدلال بمحل النزاع؛ لأن محل النزاع: الجاهل بالله من وجه هل يصح منه نِيَّة التقرب أم لا؟ ثم الذي يقضي بصحة النية منه: اتفاقهم على التخفيف؛ لأنه لولا صحة النية لم يصح التخفيف، وقول الفقهاء: لا يُعْتَدُّ بعمل الكافر، معناه: في أحكام الدنيا، ولا يمتنع أن يثاب الناظر في دليل الإيمان إذا اهتدى للحق، أو يفرق بأن الناظر لم ينو التقرب، والكافر نواه.
وأيضًا: فالقياس يقتضيه، فإن الإسلام إذا جبَّ السيئات صَحَّح الحسنات، وإثابة الكافِر بتخفيف العذاب لا تمتنع، وإنما الممتنع إثابته بالخروج من النار. إكمال إكمال المعلم في شرح صحيح مسلم (1/ 233).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قال الحربي -رحمه الله-: ما تقدم لك من الخير الذي عملته هو لك؛ كما تقول: أسلمت على ألف درهم، أي: على أن أحرزها لنفسه.
وهذا الذي قاله الحربي هو أشبهها وأولاها، وهو الذي أشرنا إليه في الترجمة (أي: حيث قال: باب الإسلام إذا حَسُنَ هَدَم ما قبله من الآثام، وأحرز ما قبله من البرّ) -والله تعالى أعلم-. المفهم (1/332).
وقال النوويّ -رحمه الله-:
ذهب ابن بطال وغيره من المحققين إلى أن الحديث على ظاهره، وأنه إذا أسلم الكافر ومات على الإسلام يثاب على ما فعله من الخير في حال الكفر، واستَدَلُّوا بحديث أبي سعيد الخدريّ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا أسلم الكافر فحسن إسلامه كَتَب الله تعالى له كلَّ حسنة زَلَفَها، ومحا عنه كل سيئة زَلَفها، وكان عمله بعد ذلك: الحسنةُ بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عنها» ذكره الدارقطنيّ في غريب حديث مالك، ورواه عنه من تسع طُرُق، وثبت فيها كلها: أن الكافر إذا حسن إسلامه، يُكتب له في الإسلام كلُّ حسنة عملها في الشرك.
وأما قول الفقهاء: لا يصح من الكافر عبادةٌ ولو أسلم لم يُعْتَدَّ بها، فمرادهم: أنه لا يُعتدّ له بها في أحكام الدنيا، وليس فيه تعرّض لثواب الآخرة، فإن أقدم قائل على التصريح بأنه إذا أسلم لا يثاب عليها في الآخرة، رُدَّ قوله بهذه السنة الصحيحة.
وقد يُعْتَدّ ببعض أفعال الكفار في أحكام الدنيا، فقد قال الفقهاء: إذا وجب على الكافر كفارةُ ظهار، أو غيرها فكفَّر في حال كفره أجزأه ذلك، وإذا أسلم لم تجب عليه إعادتها، واختَلَف أصحاب الشافعي -رضي الله عنه- فيما إذا أجنب واغتسل في حال كفره، ثم أسلم هل تجب عليه إعادة الغسل أم لا؟ وبالغ بعض أصحابنا فقال: يصحّ من كل كافر كلُّ طهارة من غسل ووضوء وتيمم، وإذا أسلم صَلَّى بها. شرح مسلم (2/141-142).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
والاختلاف في هذه المسألة مبني على أصول:
أحدها: أن التوبة من ذنب تصح مع الإصرار على غيره، وهذا قول جمهور أهل السنة والجماعة، والخلاف فيه عن الإمام أحمد لا يثبت، وقد تأَوَّل ما روي عنه في ذلك المحققون من أصحابه، كابن شاقلا والقاضي في كتاب المعتمد، وابن عقيل في فصوله.
وأما المعتزلة: فخالفوا في ذلك، وقال مَن قال منهم كالجبائي بناء على هذا: إن الكافر لا يصح إسلامه مع إصراره على كبيرة كان عليها في حال كفره، وهذا قول باطل، لم يوافقهم عليه أحد من العلماء.
الأصل الثاني: أن التوبة هل من شرط صحتها إصلاح العمل بعدها أم لا؟
وفي ذلك اختلاف بين العلماء، وقد ذكره ابن حامد من الحنبلية، وأشار إلى بناء الخلاف في هذه المسألة على ذلك، والصحيح عنده وعند كثير من العلماء: أن ذلك ليس بشرط.
والأصل الثالث: أن بعض الذنوب قد يُعفَى عنها بشرط اجتناب غيرها، فإن لم يحصل الشرط لم يحصل ما عُلِّقَ عليه، وهذا مأخذ أبي بكر عبد العزيز من الحنابلة، وجعل من هذا: أن الصغائر إنما تكفر باجتناب الكبائر، فإن لم يجتنب الكبائر وقعت المؤاخذة بالصغائر والكبائر، وهذا فيه خلاف.
وجعل منه: أن النظرة الأولى يُعفَى عنها بشرط عدم المعاودة، فإن أعاد النظرة أُخِذَ بالأولى والثانية.
والأصل الرابع: أن التوبة من الذنب هي: الندم عليه بشرط الإقلاع عنه، والعزم على عدم العود إليه، فالكافر إذا أسلم وهو مُصِرٌّ على ذنب آخر؛ صحت توبته مما تاب منه وهو الكفر دون الذنب الذي لم يتب منه، بل هو مُصِرٌّ عليه.
وأخرج النسائي حديث مالك الذي علقه البخاري هنا، وزاد في أوله: «كتب الله له كل حسنة كان أزلفها»، وهذا يشبه قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لحكيم بن حزام -رضي الله عنه- لما قال له: «أرأيتَ أمورًا كنتُ أتبرر بها (أي: أطلب بها البر) في الجاهلية، هل لي منها من شيء؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أسلمتَ على ما أسلفتَ من خير» أخرجه مسلم.
وكلاهما يدل على أن الكافر إذا عمل حسنة في حال كُفرهِ ثم أسلم فإنه يُثاب عليها، ويكون إسلامه المتأخر كافيًا له في حصول الثواب على حسناته السابقة منه قبل إسلامه.
ورجح هذا القول ابن بطال والقرطبي وغيرهما، وهو مقتضى قول مَن قال: إنه يعاقب بما أَصَرَّ عليه من سيئاته إذا أسلم -كما سبق-، وحكي مثله عن إبراهيم الحربي، ويدل عليه أيضًا: أن عائشة -رضي الله تعالى عنها- لما سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ابن جدعان وما كان يصنعه من المعروف، هل ينفعه؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: «إنه لم يقل يومًا قطُّ: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين».
وهذا يدل على أنه لو قال ذلك يومًا من الدهر ولو قبل موته بلحظة لنفعه ذلك.
ومما يستدل به أيضًا: قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في مؤمن أهل الكتاب إذا أسلم: «إنه يؤتى أجره مرتين» متفق عليه، مع أنه لو وافى على عمله بكتابه الأول لكان حابطًا، وهذا هو اللائق بكرم الله وجوده وفضله.
وخالف في ذلك طوائف من المتكلمين وغيرهم، وقالوا: الأعمال في حال الكفر حابطة لا ثواب لها بكل حال، وتأولوا هذه النصوص الصحيحة بتأويلات مَسْتَكْرَهة مُسْتَبْعَدَة.
وكذلك مَن كان له عمل صالح فعمل سيئة أحبطته ثم تاب، فإنه يعود إليه ثواب ما حبط من عمله بالسيئات.
وقد ورد في هذا آثار عن السلف، قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: عبدَ اللهَ رجلٌ سبعين سنة، ثم أصاب فاحشة فأحبط الله عمله، ثم أصابته زَمَانَة (أي: ضعف لكبر السن أو لطول مرض) وأُقْعِدَ فرأى رجلًا يتصدق على مساكين؛ فجاء إليه فأخذ منه رغيفًا فتصدق به على مسكين فغفر الله له، ورد عليه عمل سبعين سنة. أخرجه ابن المبارك في كتاب البر والصلة.
بل عود العمل ها هنا بالتوبة أولى؛ لأن العمل الأول كان مقبولًا، وإنما طرأ عليه ما يحبطه؛ بخلاف عمل الكافر قبل إسلامه، ومن كان مسلمًا وعمل صالحًا في إسلامه ثم ارتدَّ ثم عاد إلى الإسلام؛ ففي حبوط عمله الأول بالردة خلاف مشهور، ولا يبعد أن يقال: إنه يعود إليه بإسلامه الثاني على تقدير حبوطه -والله أعلم-.
وقد وردت نصوص أُخَرُ تدل على أن الكافر إذا أسلم وحسن إسلامه؛ فإنه تُبَدَّل سيئاته في حال كفره حسنات، وهذا أبلغ مما قبله، وهو يدل على أن التائب من ذنب تُبَدَّل سيئاته قبل التوبة بالتوبة حسنات، كما دلت عليه الآية في سورة الفرقان، وفي ذلك كلام يطول ذكره ها هنا.
ولا يُسْتَبْعَد إثابة المسلم في الآخرة بما عمل قبل إسلامه من الحسنات، فإنه لا بد أن يثاب عليها في الدنيا، وفي إثابته عليها في الآخرة بتخفيف العذاب نزاع مشهور، فإذا لم يكن بُدٌّ من إثابته عليها فلا يستنكر أن يثاب عليها بعد إسلامه في الآخرة؛ لأن المانع من إثابته عليها في الآخرة هو الكفر وقد زال.
وقد يستدل لهذا أيضًا بقول الله -عزَّ وجلَّ- في قصة أسارى بدر: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَنْ فِي أَيْدِيْكُم مِّنَ الأَسْرَىْ إِنْ يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} الآية، الأنفال: 70، وقد كان العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه- وهو من جملة هؤلاء الأسارى يقول: أما أنا فقد آتاني الله خيرًا مما أخذ مني؛ وعدني المغفرة. أخرجه ابن جرير في تفسيره.
فهذه الآية تدل على أن الكافر إذا أصيب بمصيبة في حال كفره ثم أسلم فإنه يثاب على مصيبته، فَلَأَنْ يثاب على ما سلف منه من أعماله الصالحة أولى، فإن المصائب يثاب على الصبر عليها والرضا بها، وأما نفس المصيبة فقد قيل: إنه يثاب عليها، وقيل: إنه لا يثاب عليها، وإنما يكفر عنه ذنوبه، وهذا هو المنقول عن كثير من الصحابة. فتح الباري (1/157-160).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
واستضعف ذلك النووي فقال: الصواب الذِي عليه المحققون -بل نقل بعضهم فيه الإجْمَاع-: أن الكافر إذا فعل أفعالًا جَميلة كالصدقة وصلة الرحم ثم أسلم ومات عَلى الإسلام- أن ثواب ذلك يُكتب له، وأما دعوى أنه مُخالف للقواعد فغير مُسَلَّم؛ لأنه قد يُعْتَدُّ ببعض أفعال الكافر في الدُّنْيَا ككفارة الظهار، فإنه لا يلزمه إعادتها إذا أسلم وتجزئه. انتهى
والحق: أنه لا يلزمه من كتابة الثواب للمسلم في حال إسلامه تفضلًا من الله وإحسانًا أن يكون ذلكَ لكون عمله الصادر منه في الكفر مقبولًا، والحديث إنّما يتضمن كتابة الثواب، ولم يتعرض للقبول، ويحتمل أن يكون القبول مُعلقًا عَلى إسلامه فيقبل ويثاب إن أسلم وإلا فلا.
وقد جزم بِما جزم به النووي: إبراهيم الحربي، وابن بَطَّال وغيرهما من القدماء، والقرطبي وابن المنير من المتأخرين.
قَالَ ابن المنير: المخالف للقواعد: دعوى أنه يكتب له ذَلِكَ في حال كفره، وأما أن الله يضيف إلَى حسناته في الإسلام ثواب ما كَانَ صدر منه مِما كَانَ يظنه خيرًا فلا مانع منه، كما لو تفضل عليه ابتداءً من غير عمل، وكما يتفضل عَلى العاجز بثواب ما كَانَ يعمل وهو قادر، فإذا جاز أن يكتب له ثواب ما لَم يعمل ألبتة جاز أن يكتب له ثواب ما عمله غير موفى الشرط. النكت على صحيح البخاري (1/344).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
هذا الذي قرّره هؤلاء العلماء من أن الصواب: أن أعمال الإنسان في حال كُفره تكتب له في حال إسلامه، ويُجازى عليها فضلًا من الله -سبحانه وتعالى- بسبب حسن إسلامه- هو الحقّ الذي لا شكّ فيه ولا مِرْيَة، فمعارضته بأنه مخالف للقواعد غير مقبولة، فماذا يعنون بالقواعد؟ أليست القواعد هي التي جاءت بها النصوص الشرعية؟ فالذي أسّس القواعد ووطّدها وأرساها هو الذي أخبرنا بكتابة هذه الأعمال، فلا مجال بعد هذا للجدال، {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} يونس: 32، فأسلم تسلم وتغنم -والله تعالى أعلم بالصواب-. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (3/455).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- أيضًا:
هذا الذي حقّقه ابن بطال، وأقرّه عليه النوويّ، والأبيّ، وكذا القرطبيّ تبعًا للحربيّ- هو الحقّ الذي لا محيد عنه؛ لظاهر حديث حكيم بن حزام -رضي الله عنه-، وحديث أبي سعيد الخدريّ -رضي الله عنه-، فلا ينبغي الالتفات إلى التأويلات المخالفة له، المعارضة لظواهر النصوص. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (3/501).
وقال الشيخ الألباني -رحمه الله-:
قلتُ: وهذا هو الصواب الذي لا يجوز القول بخلافه؛ لتضافر الأحاديث على ذلك؛ ولهذا قال السندي -رحمه الله- في حاشيته على النسائي: وهذا الحديث يدل على أن حسنات الكافر موقوفة؛ إن أسلم تُقْبَلُ وإلا تُرَدُّ، وعلى هذا فنحو قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ} النور: 39 محمول على مَن مات على الكفر، والظاهر: أنه لا دليل على خلافه، وفضل الله أوسع من هذا وأكثر فلا استبعاد فيه، وحديث: «الإيمان يَجُبُّ ما قبله» من الخطايا في السيئات لا في الحسنات.
قلتُ: ومثل الآية التي ذكرها السندي -رحمه الله- سائر الآيات الواردة في إحباط العمل بالشرك، كقوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين} الزمر: 65، فإنها كلها محمولة على من مات مشركًا، ومن الدليل على ذلك: قوله -عزَّ وجلَّ-: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون} البقرة: 217.
ويترتب على ذلك مسألة فقهية وهي: أن المسلم إذا حج ثم ارتَدَّ ثم عاد إلى الإسلام لم يحبط حجه، ولم يجب عليه إعادته، وهو مذهب الإمام الشافعي وأحد قولي الليث بن سعد، واختاره ابن حزم، وانتصر له بكلام جيد متين أرى أنه لا بد من ذكره، قال -رحمه الله تعالى- (7/277): مسألة: مَن حج واعتمر ثم ارتد ثم هداه الله تعالى، واستنقذه من النار، فأسلم فليس عليه أن يعيد الحج ولا العمرة، وهو قول الشافعي وأحد قولي الليث، وقال أبو حنيفة ومالك وأبو سليمان: يعيد الحج والعمرة، واحتجوا بقول الله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين} الزمر: 65، ما نعلم لهم حجة غيرها، ولا حجة لهم فيها؛ لأن الله تعالى لم يقل فيها: لئن أشركت ليحبطن عملك الذي عملت قبل أن تشرك، وهذه زيادة على الله لا تجوز، وإنما أخبر تعالى أنه يحبط عمله بعد الشرك إذا مات أيضًا على شركه لا إذا أسلم، وهذا حق بلا شك.
ولو حج مشرك أو اعتمر أو صلى أو صام أو زكى لم يجزِه شيء من ذلك عن الواجب، وأيضًا فإن قوله تعالى فيها: {وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} الزمر:65 بيان أن المرتد إذا رجع إلى الإسلام لم يحبط ما عمل قبل إسلامه أصلًا؛ بل هو مكتوب له ومجازى عليه بالجنة؛ لأنه لا خلاف بين أحد من الأمة في أن المرتد إذا رجع إلى الإسلام ليس من الخاسرين؛ بل من المربحين المفلحين الفائزين، فصح أن الذي يحبط عمله هو الميت على كفره، مرتدًّا أو غير مرتد، وهذا هو من الخاسرين بلا شك، لا من أسلم بعد كفره، أو راجع الإسلام بعد ردته، وقال تعالى: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} البقرة: 217، فصح نص قولنا: من أنه لا يحبط عمله إن ارتد إلا بأن يموت وهو كافر، ووجدنا الله تعالى يقول: {أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى} آل عمران: 195، وقال تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} الزلزلة: 7، وهذا عموم لا يجوز تخصيصه، فصح أن حجه وعمرته إذا راجع الإسلام سيراهما، ولا يضيعان له.
وروينا من طرق كالشمس عن الزهري وعن هشام بن عروة المعنى (أي: المعنى واحد وإن اختلفت ألفاظهم)، كلاهما عن عروة بن الزبير: أن حكيم بن حزام -رضي الله عنه- أخبره أنه قال لرسول الله -عليه السلام-: «أَيْ رسول الله، أرأيتَ أمورًا كنتُ أتحنثُ بها في الجاهلية من صدقة أو عتاقة أو صلة رحم، أَفِيْهَا أجر؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أسلمتَ على ما أسلفتَ من خير».
قال ابن حزم: فصح أن المرتد إذا أسلم والكافر الذي لم يكن أسلم قطُّ إذا أسلما فقد أسلما على ما أسلفا من الخير، وقد كان المرتد إذ حج وهو مسلم قد أدى ما أمر به، وما كُلِّفَ كما أُمِرَ به، فقد أسلم الآن عليه فهو له كما كان.
وأما الكافر يحج كالصابئين الذين يرون الحج إلى مكة في دينهم، فإن أسلم بعد ذلك لم يُجْزِهْ؛ لأنه لم يُؤَدِّهِ كما أمر الله تعالى به؛ لأن من فرض الحج وسائر الشرائع كلها أن لا تُؤَدَّى إلا كما أمر بها رسول الله محمد بن عبد الله -عليه السلام- في الدين الذي جاء به؛ الذي لا يقبل الله تعالى دينًا غيره، وقال -عليه السلام-: «مَن عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ».
والصابئ إنما حج كما أمره يوراسف أو هرمس فلا يجزئه، -وبالله تعالى التوفيق-.
ويلزم مَن أسقط حجه بردته أن يُسْقِطَ إحصانه وطلاقه الثلاث، وبيعه وابتياعه، وعطاياه التي كانت في الإسلام، وهم لا يقولون بهذا، فظهر فساد قولهم -وبالله تعالى نَتَأَيَّدُ-. ا. هـ.
وإذا تبين هذا: فلا منافاة بينه وبين الحديث: «أن الكافر يثاب على حسناته ما عمل بها لله في الدنيا»؛ لأن المراد به: الكافر الذي سبق في علم الله أنه يموت كافرًا؛ بدليل قوله في آخره: «حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يجزى بها»، وأما الكافر الذي سبق في علم الله أنه يسلم ويموت مؤمنًا؛ فهو يجازى على حسناته التي عملها حالة كفره في الآخرة، كما أفادته الأحاديث المتقدمة، ومنها: حديث حكيم بن حزام -رضي الله عنه- الذي أورده ابن حزم في كلامه المتقدم وصححه، ولم يُعْزُهُ لأحد من المؤلفين، وقد أخرجه البخاري في صحيحه. سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/493-496).

قوله: «وكان بعد ذلك القِصَاص»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «وكان بعد ذَلِكَ القصاص» أي: كتابة المجازاة في الدُّنْيَا، وهو مرفوع بأنه اسم (كَانَ)، ويَجوز أن تكون «كَانَ» تامة، وعَبَّر بالماضي لتحقُّق الوقوع؛ فكَأَنَّهُ وقع، كقوله تعالَى: {وَنَادَىْ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} الأعراف: 44. النكت على صحيح البخاري (1/344).
وقال العزيزي -رحمه الله-:
قال العلقمي -رحمه الله-: والقصاص: اسم (كان)، ويجوز أن تكون تامّة، «والحسنة» مبتدأ، و «بعشر» الخبر، والجملة استثنائية فيه. السراج المنير شرح الجامع الصغير (1/90).
وقال التُّورِبِشْتِي -رحمه الله-:
«وكان بعد القصاص» قصاص -ههنا-: المجازاة...، فالقصاص: أن يؤخذ الجاني في السبيل الذي جاء منه، فيجرح مثل جرحه، أو يقتل كقتله صاحبه؛ وذلك يفيد معنى المماثلة والمجازاة؛ فلهذا استُعْمِل في الحديث بمعنى: المماثلة والمجازاة، وجاء قوله: «الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسيئة بمثلها» مجيء التفسير للقصاص. الميسر في شرح مصابيح السنة (2/552).
وقال المظهري -رحمه الله-:
والتقدير: كان بعد الإسلام القصاص، يعني: قد غُفِرَ له ما فعل قبل الإسلام، ولكن يُطالب بعد الإسلام بما فعل من السيئات، وما عليه من حقوق الآدميين. المفاتيح في شرح المصابيح (3/201).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
«القصاص» أي: المجازاة بمثله، فيكون قوله: «السيئة بمثلها» هو المراد بالقصاص؛ لأن المثلية مُعتَبَرَة فيه، وأن السيئة هي التي تقص لا الحسنة، فيكون قوله: «الحسنة بعشر أمثالها» مستطردًا وكالتوطئة لذكر السيئة.
وهذا التأويل أنسب؛ لأن القصاص في الشرع: مجازاة بمثل ما فعله من الجرح والقتل، فيؤخذ الجاني في السبيل الذي جاء منه من غير زيادة، فيجرح مثل جرحه، ويقتل كقتله صاحبه. الكاشف عن حقائق السنن (6/1866-1867).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«القصاص» المقاصصة والمجازاة، وإتباع كل عمل بمثله، والقصاص: مقابلة الشيء بالشيء، أي: كل شيء يعمل يوضع في مقابلة شيء آخر؛ إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر. فيض القدير (1/280)..
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«وكان ذلك بعد القصاص؛ الحسنة» بدل من القصاص، ويحتمل أنه مبتدأ، «بعشر أمثالها»: خبر. التنوير شرح الجامع الصغير (1/563).
وقال عبيد الله الرحماني المباركفوري -رحمه الله-:
«القصاص»... أي: وكان بعد ذلك المجازاة في الدنيا أو في الآخرة، على الأعمال التي يفعلها بعد إسلامه. مرعاة المفاتيح (8/93).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«كان بعد ذلك القصاص» أي: كتابة المجازاة والمماثلة الشرعية، وضعها الله تعالى فضلًا منه ولطفًا، لا العقلية. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (37/253).

قوله: «الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضِعْف»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «الحَسَنَةُ بعَشْرِ أَمْثَالِهَا» «الحسنة»: مبتدأ، والخبر: «بعشر»، والجملة استئنافية، وقوله: «إلى سبعمائة ضِعْف» متعلق بِمُقَدَّر، أي: منتهية. فتح الباري (1/100).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«الحسنة» مبتدأ خبره قوله: «بعشرة أمثالها» والجملة مستأنفة؛ استئنافًا بيانيًّا، وهو: ما وقع جوابًا لسؤال مقدَّر، تقديره هنا: كيف القصاص؟ وقوله: «إلى سبعمائة ضعف» متعلق بمقدر: أي: منتهية إلى سبعمائة ضعف. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (37/253).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«والحسنة» بواو العطف في بعض النُّسَخ؛ يعني: كانت الحسنة بعد الإسلام «بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف» بخلاف قبل الإسلام، فإنه إذا عمل حسنة في الكفر ثم أسلم يعطى لكل حسنة ثواب حسنة واحدة. شرح مصابيح السنة (3/160).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
وكلام ابن الملك يحتاج إلى بيان وبرهان؛ لأن الكافر حال كفره لم يصدر عنه حسنة إلا صورة. مرقاة المفاتيح (4/1645).
وقال عبيد الله الرحماني المباركفوري -رحمه الله-:
«بعشر أمثالها» أي: تكتب، أو تثبت بعشر أمثالها. مرعاة المفاتيح (8/93).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
المضاعفةُ للحسنة بعشر أمثالها لا بدَّ منه، والزيادةُ على ذلك تكونُ بحسب إحسّان الإسلام، وإخلاصِ النية، والحاجة إلى ذلك العمل وفضله، كالنفقة في الجهاد، وفي الحج، وفي الأقارب، وفي اليتامى والمساكين، وأوقات الحاجة إلى النفقة، ويشهد لذلك ما رُوي عن عطية، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: نزلت: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} الأنعام:160 في الأعراب، قيل له: فما للمهاجرين؟ قال: ما هو أكثرُ، ثم تلا قوله تعالى: {وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} النساء: 40. جامع العلوم والحكم (1/ 317).
وقال ابن رجب -رحمه الله- أيضًا:
وقد دل حديث أبي سعيد وأبي هريرة -رضي الله تعالى عنهما- المذكوران على أن مضاعفة الحسنات للمسلم بحسب حسن إسلامه.
وأخرج ابن أبي حاتم من رواية عطية العوفي، عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما-، قال: نزلت {مَنْ جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} الآية، الأنعام:160 في الأعراب، فقال رجل: يا أبا عبد الرحمن، فما للمهاجرين؟ قال: ما هو أكثر، ثم تلا قوله تعالى: {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} النساء: 40.
ويشهد لهذا المعنى: ما ذكره الله -عزَّ وجلَّ- في حق أزواج نبيه -صلى الله عليه وسلم-، فقال: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} إلى قوله: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا * يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} الآية الأحزاب: 30-32.
فدل على أن مَن عظُمَت منزلته ودرجته عند الله فإن عمله يضاعف له أجره.
وقد تأول بعض السلف من بني هاشم دخول آل النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا المعنى؛ لدخول أزواجه.
كذلك من حسن إسلامه بتحقيق إيمانه وعمله الصالح، فإنه يضاعف له أجر عمله بحسب حسن إسلامه وتحقيق إيمانه وتقواه -والله أعلم-.
ويشهد لذلك: أن الله ضاعف لهذه الأمة -لكونها خير أمة أخرجت للناس- أجرها مرتين، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ} الآية الحديد: 28.
وفي الحديث الصحيح: «إن أهل التوراة عملوا إلى نصف النهار على قِيْرَاط قِيْرَاط، وعمل أهل الإنجيل إلى العصر على قِيْرَاط قِيْرَاط، وعملتم أنتم من العصر إلى غروب الشمس على قِيْرَاطَين، فغضبت اليهود والنصارى، وقالوا: ما لنا أكثر عملًا، وأقلّ أجرًا؟ فقال الله: هل ظلمتكم من أجوركم شيئًا؟ قالوا: لا، قال: فذلك فضلي أوتيه مَن أشاء».
وأما مَن أحسن عمله وأتقنه وعمله على الحضور والمراقبة، فلا ريب أنه يتضاعف بذلك أجره وثوابه في هذا العمل بخصوصه، على مَن عمل ذلك العمل بعينه على وجه السهو والغفلة.
ولهذا روي في حديث عمار -رضي الله عنه- المرفوع: «إن الرجل ينصرف من صلاته وما كُتِبَ له إلا نصفها، إلا ثلثها، إلا ربعها، حتى بلغ العُشْر»؛ فليس ثواب من كتب له عُشر عمله كثواب مَن كتب له نصفه، ولا ثواب مَن كتب له نصفه كثواب مَن كتب له عمله كله، -والله أعلم-. فتح الباري (162-163).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
حكى الماوردي أن بعض العلماء أخذ بظاهر هذه الغاية؛ فزعم أن التضعيف لا يتجاوز سبعمائة.
ورُدَّ عليه بقوله تعالى: {وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء} البقرة:261، والآية محتملة للأمرين.
فيحتمل: أن يكون المراد: أنه يضاعف تلك المضاعفة بأن يجعلها سبعمائة.
ويحتمل: أنه يضاعف السبعمائة بأن يزيد عليها.
والمصرح بالرد عليه: حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- المُخَرَّج عند المصنف في الرقاق ولفظه: «كتب الله له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة». فتح الباري (1/100).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
والظاهر: أن مراد الحديث: الكثرةُ؛ لقوله تعالى: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} البقرة: 261 بعد ذكرهِ سبعمائة.
وإليه أشار في بعض الروايات: «إلى سبعمائةٍ إلى ما شاء الله».
والتحقيقُ: أن الأقل عشرة أمثال لا ينقص عنه؛ لقوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} الأنعام: 160، وأمَّا نهايته فلا يعلمه إلَّا علَّامُ الغيوب.
ألا ترى إلى ما رواه الشيخان: «مَن تصدَّق بعَدْلِ تمرةٍ من كسبٍ طيبٍ فإن الله يُرَبّيه كما يُرَبي أحدكم فُلُوَّهُ (أي: المهر، وهو ولد الفرس) حتى يكون مثل الجبل».
وهذا التفاوت العظيم منشؤه تفاوت الأشخاص والأزمان والأماكن، ألا ترى أن صلاة في المسجد الحرام بمائة ألفِ صلاةٍ في سائر المساجد، والسيئة بمثلها إلَّا أن يتجاوز اللهُ عنها، فلا يؤاخذ بها أصلًا. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (1/107-108).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«إلى سبعمائة ضعف» الضِّعف يطلق على المثل، وعلى المثلين، وقد جاء: «الحسنة بعشر أمثالها»، و«إلى سبعمائة»، «وبغير حساب»، «وإلى أضعاف كثيرة» كل ذلك فضل من الله. التنوير شرح الجامع الصغير (1/563).

قوله: «والسَّيئة بمثلها»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
وقوله: «والسيئة» عطف على الحسنة مبتدأ، و«بمثلها» خبره. التَّحبير لإيضَاح مَعَاني التَّيسير (1/133).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«والسيئة بمثلها» وبدون العطف في بعض النسخ، فيكون بيانًا للقصاص إلى المجازاة، والتبع الذي يفعل معه في حسناته وسيئاته يكون كذلك. شرح مصابيح السنة (3/160).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«والسيئة بمثلها» أي: بلا زيادة؛ وذلك فضل من الله تعالى ومن سعة رحمته، كما قال تعالى: {فَلاَ يُجْزَىْ إِلَّا مِثْلَهَا} الأنعام: 160. منحة الباري بشرح صحيح البخاري (1/207).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«والسيئة بمثلها» أي: فيؤاخذ بها مؤاخذة مثلها؛ فلا يزاد عليها؛ فضلًا منه تعالى حيث جعل الحسنة بعشر والسيئة كما هي. فيض القدير (1/280).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«والسيئة بمثلها» من عدله تعالى ألا يضاعف عقاب السيئات؛ بل جزاءً وفاقًا، أو يتفضل بعفوه عنها. التنوير شرح الجامع الصغير (1/563).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«والسيئة بمثلها» عدلًا ورحمة، ولو بالحرم؛ خلافًا لمجاهد وغيره. مرقاة المفاتيح (4/1645).

قوله: «إلا أن يَتَجَاوز الله عنها»:
قال البيضاوي -رحمه الله-:
وقوله: «إلا أن يتجاوز الله عنها» بقبول التوبة، والعفو عن الجريمة. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (2/85).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
وفى قوله: «إلا أن يتجاوز الله عنها» رَدٌّ على مَن أنفذ الوعيد على العصاة المؤمنين؛ لأن قوله: «إلا أن يتجاوز الله عنها» يدل أنه قد يؤاخذ بها، وقد يتجاوز عنها إذا شاء، وهذا مذهب أهل السنة. شرح صحيح البخاري (1/98-99).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
قوله: «إلا أن يتجاوز الله عنها» أي: يعفو عنها، وهذا دليل لأهل السنة في أن أصحاب المعاصي لا يقطع عليهم بالنار، بل هم في مشيئة الله تعالى؛ خلافًا للمعتزلة حيث قطعوا بعقاب صاحب الكبيرة إذا مات بلا توبة منها. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (1/171).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «إلا أن يتجاوز الله عنها» زاد ‌سَمَوَيْهِ في فوائده: «إلا أن يغفر الله وهو الغفور».
وفيه: دليل على الخوارج وغيرهم من المكفِّرين بالذنوب، والموجبين لخلود المذنبين في النار.
فأول الحديث يَرُدُّ على مَن أنكر الزيادة والنقص في الإيمان؛ لأن الحُسْنَ تتفاوت درجاته، وآخره يَرُدُّ على الخوارج والمعتزلة. فتح الباري (1/100).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
وفيه حجةٌ على المرجئة القائلين بأن المعصية لا تضرّ مع الإيمان. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (1/108).


ابلاغ عن خطا