الأربعاء 26 رمضان 1446 هـ | 26-03-2025 م

A a

«رأى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- صبيًّا قد حُلِقَ بعضُ شعرِهِ وتُرِكَ بعضُهُ، فنهاهم عن ذلك، وقال: «احْلِقُوه كلَّهُ، أو اتركوه كلَّهُ».


رواه أحمد برقم: (5615)، وأبو داود برقم: (4195) واللفظ له، والنسائي برقم: (9250)، من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-.
صحيح سنن أبو داود برقم: (4195)، صحيح سنن النسائي برقم: (9250).


شرح مختصر الحديث


.


شرح الحديث


قوله: «رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- صبيًّا قد حُلق بعض شعره وتُرك بعضه، فنهاهم عن ذلك»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«رأى صبيًّا قد حلق» بصيغة المفعول «بعض رأسه وترك بعضه، فنهاهم» أي: أهل الصبي، «عن ذلك» أي: عمّا ذكر من حلق البعض، وترك البعض. مرقاة المفاتيح (7/ 2818).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
لا خلاف أنه إذا حُلِقَ ‌من ‌الرأس ‌مواضع، وأُبْقِيَتْ مواضع أنه القَزَعُ المنهي عنه... ، واختلف فيما إذا حلق جميع الرأس وترك منه موضع كشعر الناصية، أو فيما إذا حلق موضعًا وحدَهُ، وبقي أكثر الرأس، فمنع ذلك مالك، ورآه من القَزَعِ المنهي عنه. المفهم (5/ 441).
وقال النووي -رحمه الله-:
الأصح أنَّ القَزَع: حلق بعض الرأس مطلقًا، ومنهم من قال: هو حلق مواضع متفرقة منه، والصحيح الأول؛ لأنه تفسير الراوي (كما جاء في رواية مسلم)، وهو غير مخالف للظاهر، فوجب العمل به، وأجمع العلماء على كراهة القَزَع إذا كان في مواضع متفرقة، إلا أن يكون لمداواة ونحوها، وهي كراهة تنزيه، وكرهه مالك في الجارية والغلام مطلقًا، وقال بعض أصحابه: لا بأس به في القُصَّة والقفا للغلام، ومذهبنا: كراهته مطلقًا للرجل والمرأة؛ لعموم الحديث.
قال العلماء: والحكمة في كراهته: أنه تشويه للخلق، وقيل: لأنه أذى(زي أهل) الشر والشّطارة(يعني: الخُبْث)، وقيل: لأنه زي اليهود، وقد جاء هذا في رواية لأبي داود -والله أعلم-. شرح مسلم (14/ 101).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي، حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا الحجاج بن حسان، قال: دخلنا على أنس بن مالك، فحدثني أخي المغيرة، قال: وأنت يومئذٍ غلام، ولك قرنان، أو قصَّتان، فمسح رأسك، وبَرَّكَ عليك، وقال: «احلقوا هذين، أو قُصُّوهما، فإن هذا زي اليهود»؛ علَّل النهي عنهما بأن ذلك زي اليهود، وتعليل النهي بعلة يوجب أن تكون العلة مكروهة، مطلوبًا عدمها، فعُلِمَ أن زي اليهود حتى في الشعر مما يطلب عدمه، وهو المقصود. اقتضاء الصراط المستقيم (ص: 131-132).

قوله: «وقال: احلقوهُ كله، أو اتركوهُ كله»:
قال النووي -رحمه الله-:
وهذا صريح في إباحة حلق الرأس لا يحتمل تأويلًا، قال أصحابنا: حلق الرأس جائز بكل حال، لكن إن شقّ عليه تعهدهُ بالدهن والتسريح استُحِبَّ حَلقه، وإن لم يشق استُحِبَّ تركه. شرح مسلم (7/ 167).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «احلقوه كلَّه، أو اتركوه كلَّه» هذا تصريح منه -صلى الله عليه وسلم- بأن الحلقَ في غير الحج والعمرة جائزٌ، وتصريحٌ بأن الرجلَ مخيَّر بين الحلق وتركه. المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 41).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
فيه: إذن في حلق كل الرأس، وهو محل استدلال المصنّف -رحمه الله تعالى- (النسائي) على الترجمة.
واختُلف فِي علة النهي، فقيل: لكونه يُشوِّه الخِلْقة، وقيل: لأنه زِيّ الشيطان، وقيل: لأنه زيّ اليهود، قَدْ جاء مصرّحًا به فِي حديث أنس -رضي الله عنه- عند أبي داود منْ طريق يزيد بن هارون، عن الحجاج بن حسان، قَالَ: دخلنا عَلَى أنس بن مالك، فحدثتني أختي المغيرة، قالت: وأنت يومئذٍ غلام، ولك قرنان، أو قُصّتان، فمسح رأسك، وَبَرَّكَ عليك، وقال: «احلقوا هذين، أو قُصُّوهما، فإن هَذَا زي اليهود». ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (38/ 7).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
وهذا الحديث يشهدُ لمن يقول بكراهة حلق البعض وترك البعض من غير اشتراطٍ للكثرة والتفرق، إلَّا أنَّه لا يلزم أن يكون هو القزع المذكور فيه بذلك اللفظ.
ويمكن عندي: أن تكون العلةُ في كراهة القزعِ وحلقِ البعض وتركِ البعض: دخولَهُ في تغيير خلق الله تعالى الذي دلَّت الآيةُ الكريمة على نسبته للشيطان، والذي يدلُّ عليه قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لعنَ اللهُ الواشمةَ والْمُستوشمَةَ»…إلى أن قال: «والْمُتَنَمِّصاتِ المغيِّراتِ خلقَ اللهِ»؛ فوصف جميعهن بكونهن مغيِّراتٍ لخَلقِ الله، ومنهنَّ من تحلِقُ بعضَ حاجبها وتترك بعضه، فالنصُّ دالٌّ على أنَّه داخل في تغيير خَلقِ الله، وهذا موجودٌ في القزع. شرح الإلمام بأحاديث الأحكام (3/ 378-379).
وقال الغزالي -رحمه الله-:
ولا بأس بحلقه (شعر الرأس) لمن أراد التنظيف، ولا بأس بتركه لمن يدهنه ويُرَجِّلُه، إلا إذا تركه قَزَعًا، أي: قِطَعًا، وهو دأب أهل الشطارة(يعني: الخُبْث)، أو أرسل الذوائب على هيئة أهل الشرف، حيث صار ذلك شعارًا لهم، فإنه إذا لم يكن شريفًا كان ذلك تلبيسًا. إحياء علوم الدين (1/ 140).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«‌احلقوه ‌كله» فيه دليل على جواز حلق جميع الرأس... وفيه: رد على من كرهه؛ لِمَا رواه الدارقطني في الأفراد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «لا توضع النواصي إلا في حج أو عمرة».
ويقول عمر لصبيغ: لو وجدتك محلوقًا لضربتُ الذي فيه عيناك بالسيف، ولحديث الخوارج: «سيماهم التحليق».
قال أحمد: إنما كرهوا الحلق بالموسى، أما بالمقراض فليس به بأس؛ لأن أدلة الكراهة تختص بالحلق.
«أو اتركوه كله» ولا بأس به لمن أراد دهنه وترجيله وقام بإكرامه. شرح سنن أبي داود (16/ 544- 545).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«احلقوه» بكسر اللام «كله» أي: شعر الرأس، أي: أزيلوه بحلق أو غيره، كقص أو نورة، وخص الحلق لغلبته وسلامته من الأذى وغيرُهُ قد يؤذي.
قال الحرالي: والحلق إزالة ما يتأتى الزوال فيه بالقطع من الآلة الماضية في عمله، والرأس مجتمع الخلقة، ومجتمع كل شيء رأسه.
«أو اتركوه»، وفي رواية: «أو ذروه كله»؛ فإن الحلق لبعض الرأس وترك بعضه مُثْلَة، ويسمى القَزَع فهو مكروه مطلقًا تنزيهًا إلا لعذر، سواء كان لرجل أو امرأة، ذكره النووي، وسواء كان في القفا أو الناصية أو الوسط، خلافًا لبعضهم.
وأكَّده بقوله: «كله» دفعًا لتوهم التجوز بإرادة الأكثر؛ وذلك لما فيه من التشويه وتقبيح الصورة والتعليل بذلك، كما قال القرطبي: أشبه منه بأنه زي أهل الدعارة والفساد، وبأنه زي اليهود.
وفُهِمَ من إطلاقه: عموم النهي؛ كما لو ترك منه مواضع متفرقة، أو حلق الأكثر وترك محلًّا واحدًا، وهذا من كمال محبة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- للعدل؛ فإنه أمر به حتى في شأن الإنسان مع نفسه؛ فنهاه عن حلق بعض وترك بعض؛ لأنه ظلم للرأس حيث ترك بعضه كاسيًا، وبعضه عاريًا، ونظيره المشي في نعل واحدة.
وقوله: «‌احلقوه ‌كله» يدل على جواز الحلق، وهو مذهب الجمهور، وذهب بعض المالكية: إلى تخصيصه بحالة الضرورة؛ محتجًّا بورود النهي عنه إلا في الحج؛ لكونه من فعل المجوس، والصواب: الحلق بلا كراهة، ولا خلاف الأولى، وأما قول أبي شامة: الأولى تركه لما فيه من التشويه ومخالفة طريق المصطفى -صلى الله عليه وسلم-؛ إذ لم يُنقل عنه أنه كان يحلقه، بل إذا قصد به التقرب في غير نسك أَثِمَ؛ لأنه شرع في الدين ما لم يأذن به الله؛ ففي حَيِّزِ المنع بلا ريب، كيف وقد حلق المصطفى -صلى الله عليه وسلم- رؤوس أبناء جعفر بن أبي طالب؟
وفي أبي داود: أنه أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل ثائر الرأس فقال: «مَهْ، أحسن إلى شعرك، أو احلقه»؛ فانظر كيف سوى بين ترجيله وحلقه وخيَّره بينهما؟
وأعدل حديث في هذا المقام: قول حجة الإسلام (الغزالي): لا بأس بحلقه لِمُريد التنظيف، ولا بأس بتركه لمن يدهن ويترجل، يعني: من قدر على دهنه وترجيله فبقاؤه له أولى، ومن عَسُرَ عليه كضعيف وفقير منقطع علم من بقائه أنه يتلبَّد ويجمع الوسخ والقمل- فالتنظيف منه بحلقه أولى.
والكلام كله في الذَّكَر، أما الأنثى فحلقها له مكروه حيث لا ضرر، بل إن كانت مفترشة أي: تحت زوج أو سيد، مأخوذ من الافتراش، وهو: تَأَتِّيْ الوط ولم يأذن الحليل حرم، بل عده في المطامح من الكبائر، وشاع على الألسنة أن المرأة إذا حلقت رأسها بلا إذن زوجها سقط صداقها؛ وذلك صرخة من الشيطان لم يقل به أحد. فيض القدير (1/ 201).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
القول بكراهة الحلق محل نظر؛ بل هو جائز؛ لما تقدم من حديث: «احلقوه كله، أو اتركوه كله» وإنما الأولى والمستحب: تركه؛ اتباعًا لهدي النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم-، فإنه ما كان يحلقه إلا للنسك، فليُتَنَبَّه -والله تعالى أعلم-. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (32/ 102).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
والقزع مكروه؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى غلامًا حلق بعض شعره وترك بعضه، فنهاهم عن ذلك، وقال: «احلقوه كله، أو اتركوه كله» إلا إذا كان فيه تشبه بالكفار فهو محرم؛ لأن التشبه بالكفار محرم؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مَن تشبه بقوم فهو منهم». الشرح الممتع (1/167).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده (أي: هذا الحديث):
منها: ما ترجم له المصنف -رحمه الله تعالى- (النسائي)، وهو بيان جواز حلق الرأس...
ومنها: أن حلق بعض الرأس، وترك بعضه على أي شكل كان من قُبُلٍ أو دُبُر منهي عنه، وأن الجائز في حق الصبيان أن تحلق رؤوسهم كلها، أو تترك كلها.
ومنها: ما قاله الشوكاني -رحمه الله تعالى- في النيل (نيل الأوطار): في الحديث ردٌّ على من كَرهَ حلق الرأس. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (38/ 7-8).


ابلاغ عن خطا