الجمعة 28 رمضان 1446 هـ | 28-03-2025 م

A a

«‌عن همام بن الحارث: أنَّ رجلًا جَعَلَ يمدحُ عثمانَ، فَعَمِدَ المقدادُ فَجَثَا على ركبتَيْهِ، وكان رجلًا ضخمًا، فَجَعَلَ يَحْثُو في وجهِهِ الحَصْبَاءَ، فقال له عثمانُ: ما شَأْنُكَ؟ فقال: إنَّ رسولَ اللهِ -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: إذا رأيتم المدَّاحِينَ، فاحْثُوا في وُجُوهِهِم التُّرابَ».


رواه مسلم برقم: (3002)، من حديث المقداد بن الأسود -رضي الله عنه-.


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«فَعَمَدَ»:
عَمَدَ: بفتح الميم ويُكْسَر أي: قَصَدَ. مرقاة المفاتيح (7/ 2793).

«فَجَثَا»:
يقال: جَثَا يَجْثُو جُثُوًّا إذا جلس على ركبتيه، وأما (جذا) بالذّال المعجمة، بأن يجلس على أطراف أصابعه، وقد وقع في بعض الروايات: «‌فجذا» بذال معجمة. المعلم بفوائد مسلم (3/ 55).

«‌ضَخْمًا»:
أي: عظيم الجُثَّة، سمينًا، والضَّخْمُ الغليظ من كل شيء. عمدة القاري (5/ 195).

«الحَصْبَاءُ»:
الْحَصْبَاء والحَصْبَةُ: صَغِير الْحِجَارَة. كشف المشكل(4/ 27).

«احْثُوا»:
أي: ارْمُوا. يقال: ‌حَثَا ‌يَحْثُو حَثْوًا، ويَحْثِي حثيًا؛ يريد به الخيبة، وألا يُعْطُوا عليه شيئًا، ومنهم من يُجْرِيْهِ على ظاهره، فيرمي فيها التراب. النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 339).

«الْمَدَّاحِينَ»:
المدَّاح: الَّذِي يتَكَرَّر مِنْهُ الْمَدْح، وَهُوَ الَّذِي قد جعله عَادَة لَهُ، وَمثل ذَلِك لَا يسلم من الْكَذِب. كشف المشكل(4/ 27).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«الْمَدَّاحِينَ» أي: الذين صناعتهم الثناء على الناس. فيض القدير (1/ 362).


شرح الحديث


قوله: «أن رجلًا جعل يمدح عثمان»:
قال السهارنفوري -رحمه الله-:
لعله كان يمدحه بغير ما هو فيه، أو كان مدحه ليعطيه شيئًا، وإن كان حقًّا، واستحيا عثمان أن يواجهه بما يسوؤهُ مع حصول المقصود بنهي الغير، ويمكن أن يكون مدْحُه حقًّا غير داخل فيما يُنهى عنه، إلا أنّ المِقداد ذهب بالرواية على عموم النهي، إِمّا لفهمه منه العموم، أو سدًّا لباب المديح، وإن كان يَعلم أن كل مدحة ليس خطأً. بذل المجهود في حل سنن أبي داود (13/ 234).

قوله: «فعمد المقداد فجثا على ركبتيه، وكان رجلًا ضخمًا»:

قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«‌فَجَثَا‌» أي: برك «‌عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَكانَ» المقداد «‌رَجُلًا ضَخْمًا» أي: عظيم الجثّة، وكأنَّ الراوي ذكر هذا لبيان أنه مع كونه جسيمًا تكبَّد مشقة الجثو على ركبتيه؛ اهتمامًا بشأن تنفيذ أمره -صلى الله عليه وسلم-. البحر المحيط الثجاج (45/ 287).

قوله: «فجعل يحثو في وجهه الحصباء»:
قال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
كأن هذا الرجل أكثر من المدح حتى صدق عليه أنه مدَّاح؛ ولذلك عَمِل المقداد بظاهر ذلك الحديث، فحثا في وجهه التراب، ولعل هذا الرجل كان ممن اتخذ المدح عادة وحِرْفة، فصدق عليه: مدَّاح، وإلا فلا يصدق ذلك على من مدح مرة أو مرتين، أو شيئًا أو شيئين.
وقد بيَّن الصحابي بفعله: أن مراد النبي -صلى الله عليه وسلم- من هذا الحديث: حمله على ظاهره، فعاقب المدَّاحَ برمي التراب في وجهه، وهو أقعد بالحال، وأعلم بالمقال.
وقد تأوله غير ذلك الصحابي تأويلات؛ لأنَّه رأى أن ظاهره جفاء، والنبي -صلى الله عليه وسلم- لا يأمر بالجفاء.
فقيل: إن معناه: خَيِّبوهم، ولا تعطوهم شيئًا؛ لأنَّ من أُعطي التراب لم يُعْطَ شيئًا، كما قد جاء في الحديث الآخر: «إذا جاء صاحب الكلب يطلب ثمنه فامْلأ كفَّه ترابًا» أي: خيِّبْهُ ولا تُعْطِهِ شيئًا.
وقيل: إن معناه: أعطِهِ، ولا تبخل عليه؛ فإنَّ مآل كل ما يُعطى إلى التراب، كما قال:
وكل الذي فوق التراب ترابُ.
وقيل: معناه: التنبيه للممدوح على أن يتذكر أن المبدأ والمنتهى التراب، فليعرضه على نفسه؛ لئلا يُعْجَبَ بالمدح، وعلى المدَّاح لئلا يُفْرِطَ ويُطْرِيْ بالمدح، وأشبَهُ المحامِلِ بعد المحمل الظاهر: الوجه الأول، وما بعده ليس عليه مُعَوَّل. المفهم (6/629).

قوله: «فقال له عثمان: ما شأنك؟»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري- رحمه الله -:
«‌فقال له» أي: للمقداد «‌عثمان» بن عفان «‌ما شأنك؟» وشغلك يا مقداد ترمي الرجل بالحصباء. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (26/ 445).

قوله: «إذا رأيتم المدَّاحين، فاحثوا في وجوههم التراب»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: «‌إذا لقيتم» هو أعمُّ من رواية مسلم: «‌إذا رأيتم»؛ فإن الرؤية لا تحصل للأعمى، بخلاف اللَّقْيِ، فإنه يشمل الأعمى وغيره، «‌المدَّاحين» من أَبْنِيَةِ المبالغة، فإنها لا تحصل إلا من كَثُرَ منه المدح حتى صار عادة له، بخلاف المادح، فإنه يطلق على من مدح ولو مرة. شرح سنن أبي داود (18/ 476).
وقال الصنعاني -رحمه الله- في رواية: «أحثوا في أفواه المدَّاحين»:
التعبير هنا بالأفواه، وفي الأول بالوجوه، إما لتعدُّد صدور الحديث منه -صلى الله عليه وسلم- فاختلاف العبارات تفننًا وإعلامًا بأن المراد مقابلتهم بالخيبة، وإما تعبيرًا من بعض الرواة لما ظن أنَّ أحد اللفظين في معنى الآخر. التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 411).
وقال ابن قتيبة -رحمه الله-:
أُرِيْدَ به: المدَّاحون بالباطل كالرجل يلقى الرجل فيستنزل ما عنده بتقديم مدحه، ويجعل ذلك ذريعة إلى ما أمَّلَهُ منه، كما يفعل الشعراء، فيقولون: أنت أسرع من الريح، وأشد إقدامًا من السيل، وأهيب من الليل، وأجرأ من الليث.
وإنما كره هذا لأنه كذب؛ ولأنه داعية إلى العجب والكبر؛ ولذلك قال عمر: «المدح هو الذبح»، ولم يُرِدْ به من مدح رجلًا بما فيه، فقد مُدح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الشعر، وفي الخطب، وفي المخاطبة، فلم يحثُ في وجوه المدَّاحين التراب، ولا أمر بذلك، كقول أبي طالب فيه:
وَأَبْيَضُ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ *** ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ.
وَكقول العَبَّاس:
مِنْ قَبْلِهَا طِبْتَ فِي الْظِّلالِ وَفِي *** مُسْتَوْدَعٍ حَيثُ يُخْصَفُ الْوَرَقُ.
وكمدح حسان بن ثابت في كثير من شعره، وكعب بن زهير، وهذا يكثر جدًّا، وكان أبو بكر يقول عند المدحة: «‌اللهم اغفر لي ما لا يعلمون، واجعلني خيرًا مما يظنون». ولم يبلغنا أنه ولا أن غيره حثا في وجه مادح ترابًا.
وقد مَدَحَتِ الأنبياء أنفسها، فقال يوسف -عليه السلام-: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} يوسف: 55.
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر»، ومَدْحُ الرجلِ نفسه أكثر من مدح غيره له، وإذا جاز أن يمدح نفسه بما فيه جاز أن يمدح غيره.
ومدح النبي -صلى الله عليه وسلم- الأنصار، فقال: «أنا والله ما علمتكم إلا تَقِلُّون عند الطمع، وتكثرون عند الفزع».
وروى إبراهيم عن عبد الله أنه قال: «‌إذا أثنيت على الرجل بما فيه في وجهه لم تزُكَهِّ»، وقال علي بن الحسين: «‌لا يقول رجل في رجل من الخير ما لم يعلم؛ إلا أوشك أن يقول فيه من الشر ما لم يعلم».
وقال وهب: «‌إذا سمعت الرجل يقول فيك من الخير ما ليس فيك، فلا تأمن أن يقول فيك من الشر ما ليس فيك».
وهذه أشياء تدل على أن المدَّاحين الذين أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بِحَثْوِ التراب في وجوههم هم الكذابون.
وأما حثو التراب في وجوههم فله معنيان:
أحدهما: أنه أراد بذلك التغليظ عليهم في رَدِّ ما أتوا به، ولم يُرِدْ إيقاع الفعل، كما قال في شارب الخمر: «وفي الرابعة إن شرب فاقتلوه»، ولم يرد أن يقتل، ولكن غَلَّظَ عليه ليتناهى الناس عن ذلك، وكما قال: «من قتل عبده قتلناه»، ولم يُرِدْ بذلك إلا تغليظ الوعيد.
والمعنى الآخر: أن يقال للمادح بالباطل: بفيك التراب، والعرب تقول للمتكلم بالباطل، وبالأمر الذي يفحش أو يقبح: بفيك التراب، والتراب لفيك، وَبِفِيكَ الْكَثْكَثُ والإِثْلِبُ (دُقاقُ التراب وفُتاتُ الحجارة، وقيل: التراب مع الحجر) قال الشاعر:
أَنْكَحْتَ عَبْدَينِ تَرْجُوْ فَضْلَ مَالِهِمَا *** بِفِيكَ مِمَّا طَلَبْتَ التُّرْبُ وَالْحَجَرُ.
ونحو هذا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «الولد للفراش، وللعاهر الحجر»، ولم يُرِدْ أنه يدفع إليه حجر، وإنما أراد: أنه لا شيء له إلا ما يهينه، ولا ينفعه، فيقال له إذا طالب بالولد: الحجر لك. وما أكثر ما يستعمل الناس هذا، فيقال لمن طالب بما لا يجب له: لك الحجر. المسائل والأجوبة (ص: 145-149).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
المدَّاحون هم الذين اتخذوا مدح الناس عادة، وجعلوه بضاعة، يستأكلون به الممدوح ويفتنونه.
فأما من مدح الرجل على الفعل الحسن، والأمر المحمود يكون منه- ترغيبًا له في أمثاله، وتحريضًا للناس على الاقتداء به في أشباهه؛ فليس بمدَّاح، وإن كان قد صار مادحًا بما تكلم به من جميل القول فيه.
وقد استعمل المقداد الحديث على ظاهره، وحمله على وجهه في تناول عين التراب بيده، وحَثْيِهِ في وجه المادح.
وقد يتأول أيضًا على وجه آخر، وهو أن يكون معناه: الخيبة والحرمان، أي: من تعرض لكم بالثناء والمدح فلا تعطوه واحرموه، كنَّى بالتراب عن الحرمان، كقولهم: ما له غير التراب، وما في يده غير التَّيْرب (التراب)، وكقوله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا جاءك يطلب ثمن الكلب فاملأ كَفَّهُ ترابًا»، وكقوله: «وللعاهر الحجر»، ومثله كثير في الكلام. معالم السنن (4/111).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
للعلماء فيه خمسة أقوال:
أحدها: هذا وهو حمله على ظاهره، واستعمله المقداد راوي الحديث.
والثاني: الخيبة والحرمان، كقولهم لمن رجع خائبًا: رجع وكفه مملوءة ترابًا.
والثالث: قالوا له: بفيك التراب، والعرب تستعمل ذلك لمن تكره قوله.
والرابع: أن ذلك يتعلق بالممدوح، كأن يأخذ ترابًا فيذرّه بين يديه، يتذكر بذلك مصيره إليه، فلا يطغى بالمدح الذي سمعه.
والخامس: المراد بِحَثْوِ التراب في وجه المادح: إعطاؤه ما طلب؛ لأن كل الذي فوق التراب تراب، وبهذا جزم البيضاوي، وقال: شبه الإعطاء بالحثي على سبيل الترشيح والمبالغة في التقليل والاستهانة.
قال الطيبي: ويحتمل: أن يُرَاد: دفعه عنه، وقطع لسانه عن عرضه بما يرضيه من الرضخ، والدافع قد يدفع خصمه بحثي التراب على وجهه استهانة به. فتح الباري (10/ 478).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
معنى الحديث: أنه ينبغي للممدوح أن يقوم عن مجلس المادح، ويُثِيْر -مِنْ أثار الرباعي بالمثلثة- بقيامه التراب عليه، ذَكَرَهُ الأُبي، وقال: إنه أبعد التأويلات.
ويبدو أن أولى التأويلات هو الثاني، كما ذكره القرطبي آنفًا، والمقصود: الحث على منعه من المدح وعدم تشجيعه على ذلك، وهو الذي اختاره أكثر السلف. ا. هـ، من التكملة. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (26/ 447).
وقال المناوي -رحمه الله-:
ومَن حمله على ظاهره، ورماهم بالتراب فما أصاب. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 43).
وقال محمد المباركفوري -رحمه الله-:
قلتُ: الأولى أن يحمل الحديث على ظاهره، كما حمله عليه رواية المقداد بن الأسود، وإلا فالأولى أن يتأول على أن يكون معناه: الخيبة والحرمان، وأما ما سواه من التأويل ففيه بُعْدٌ، كما لا يخفى -والله أعلم-. تحفة الأحوذي (7/ 62).
وقال النووي -رحمه الله-:
هذا الحديث قد حمله على ظاهره المقداد الذي هو راويه، ووافقه طائفة، وكانوا يحثون التراب في وجهه حقيقة، وقال آخرون: معناه: خَيِّبُوْهم فلا تعطوهم شيئًا لمدحهم، وقيل: إذا مدحتم، فاذكروا أنكم من تراب، فتواضعوا، ولا تعجبوا، وهذا ضعيف. شرح صحيح مسلم (18/ 128).
وقال المظهري -رحمه الله-:
الحَثْوُ في التراب بمنزلة الصَّبِّ في الماء؛ يعني: إذا رأيتم مَن يمدحُكم اجعلوهم محرومين عن العطاء، وامنعُوهم عن المدح، فإن مَن مَدَحَ أحدًا فهو عَدُوُّه؛ لأنه يجعلُه مغرورًا متكبرًا، ومن جعلَ أحدًا مغرورًا متكبرًا فلا يستحقُّ الإعزاز.
وقيل: معنى هذا الحديث: الأمرُ بدفع المالِ إليهم؛ يعني: المالُ حقيرٌ كالتراب، فاقطَعُوا به ألسنةَ الْمَدَّاحين؛ كي لا يهْجُوكم ويذمُّوكم إن لم تُعْطُوهم. المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 176).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«إذا رأيتم المدَّاحين» وهم الذين اتخذوا مدح الناس عادةً وبضاعة يستأكلون به الممدوح، ويفتنونه، «فاحثوا ‌في ‌وجوههم ‌التراب» كنَّى به عن الحرمان؛ أي: فلا تعطوهم شيئًا.
وقيل: يُؤخَذ التراب ويُحثى؛ أي: يُرمى به في وجه المادح عملًا بالظاهر.
وقيل: معناه: الأمر بدفع المال إليهم؛ إِذِ المال شيء حقير كالتراب؛ أي: أعطوهم إياه، واقطعوا به ألسنتهم؛ لئلا يهجوكم ويذمُّوكم.
أما إذا مَدَحَ رجلًا على فعلٍ حسن ترغيبًا له على أمثاله، وحثًّا للناس على الاقتداء به في أشباهه، فغير مدَّاح. شرح المصابيح (5/ 240).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«إذا رأيتم المدَّاحين» أي: الذين صناعتهم الثناء على الناس.
والمدح -كما في الصحاح-: الثناء الحسن، قال التبريزي: من قولهم: تَمَدَّحَتِ الأرض إذا اتَّسَعَتْ، فكان معنى مَدَحْتَهُ: وسعته شكرًا.
«فاحثوا ‌في ‌وجوههم ‌التراب» الحثو في التراب بمنزلة الصب في الماء، والمراد: زجر المادح، والحث على منعه من المدح لإيرائه الغرور والتكبر، أو أنه يُخيَّب ولا يُعطى.
أو معناه: أعطوهم قليلًا يشبه التراب لقلته وخِسَّتِهِ، أو اقطعوا ألسنتهم بالمال؛ فإنه شيء حقير كالتراب، وهذا يُؤْذِنُ بذم الاحتراف بالشعر، وقيل: لا تُؤَاخِ شاعرًا؛ فإنه يمدحك بثمن، ويهجوك مجانًا، قال بعضهم:
الكلب والشاعر في منزل *** فليت أني لم أكن شاعرا
هل هو إلا باسط كفه *** يستطعم الوارد والصادرا. فيض القدير (1/ 362).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
«المدَّاحين» المراد بالمدَّاح: من اتخذ مدح الناس حرفة ليتأكل به، ولا يراعي الحق في ذلك، ولا يميِّز بين من يستحق، ومن لا يستحق، وهو مذموم مكروه؛ لأنه يتضمن الكذب من المادح، ومداخلة العجب من الممدوح. لمعات التنقيح (8/ 148).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«المدَّاحين»: جمع مداح، اسم فاعل للمبالغة، من مدحه -كمنعه- مدحًا: أحسن الثناء عليه، وظاهره: في كل مدح إلا ما خصصه الشارع، كالمزكي للشاهد، والراوي، ومنه: تراجم العلماء في كتب التاريخ والرجال، إن حمل المدح على العموم، وإلا فإن الظاهر أنه أريد به المدح في الوجه ومواجهة الممدوح، ويحتمل: أنه أريد بالمداح الجاهل لمدحه مكتسبًا لحاجة، كما يقتضيه تفسير النهاية؛ وذلك كشعراء الأمراء.
ويحتمل: أن يُرَاد به: المبالغون في المدح والإطراء، كما تقتضيه صيغة (فعَّال)، أو المراد بالمدَّاحين: الذين يمدحون من لا يستحق ذلك، كما يقضي به: تقريره -صلى الله عليه وسلم- لعمه العباس، ولكعب بن زهير على مدحهما له، ولم يقل لهما إلا خيرًا؛ إما لأنهما لم يقولا إلا حقًّا، وما بالغا في المدح، بل ما بلغا ما يستحقه من الثناء، أو لأنهما لم يطلبا عليه مكافأة.
فإن قلتَ: قد مدح -صلى الله عليه وسلم- جماعة من أصحابه مُعَيَّنِيْن، قلتُ: لا يدخل في ذلك؛ لأنه إخبار عن مقاماتهم عند الله، والذي يقوى عند النظر: أنه لم يُرِدْ -صلى الله عليه وسلم- إلا المرتزقة بالمدح والثناء المبالغين في الإطراء؛ كشعراء الملوك الذين ملؤوا الدنيا زورًا وكذبًا ونفاقًا. التنوير شرح الجامع الصغير (1/410).
وقال الغزالي -رحمه الله-:
والمدح يدخله ست آفات؛ أربع ‌في ‌المادح، واثنتان في الممدوح:
فأما المادح:
فالأولى: أنه قد يُفْرِطُ فينتهي به إلى الكذب، قال خالد بن معدان: (‌مَن مدح إمامًا أو أحدًا بما ليس فيه على رؤوس الأشهاد بعثه الله يوم القيامة يتعثر بلسانه).
والثانية: أنه قد يدخله الرياء؛ فإنه بالمدح مظهر للحب، وقد لا يكون مُضْمِرًا له، ولا معتقدًا لجميع ما يقوله، فيصير به مرائيًا منافقًا.
الثالثة: أنه قد يقول ما لا يتحقَّقُه، ولا سبيل له إلى الاطلاع عليه، وروي أن رجلًا مدح رجلًا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له -عليه السلام-: «ويحك، قطعت عنق صاحبك، لو سمعها ما أفلح، ثم قال: إن كان أحدكم لا بد مادحًا أخاه، فليقل: أَحْسِب فلانًا، ولا أزكي على الله أحدًا، حسيبه الله، إن كان يرى أنه كذلك».
وهذه الآفة تتطرق إلى المدح بالأوصاف المطلقة التي تعرف بالأدلة، كقوله: إنه متقٍ وورع وزاهد وخيِّر، وما يجري مجراه، فأما إذا قال: رأيته يصلي بالليل، ويتصدق ويحج، فهذه أمور مُسْتَيْقَنَة، ومن ذلك قوله: إنه عدل رضا؛ فإن ذلك خفي؛ فلا ينبغي أن يجزم القول فيه إلا بعد خبرة باطنة.
سمع عمر -رضي الله عنه- رجلًا يثني على رجل، فقال: أسافرت معه؟ قال: لا. قال: أخالطته في المبايعة والمعاملة؟ قال: لا. قال: فأنت جاره صباحه ومساءه؟ قال: لا. فقال: والله -الذي لا إله إلا هو- لا أراك تعرفه.
الرابعة: أنه قد يُفرِح الممدوح، وهو ظالم أو فاسق؛ وذلك غير جائز، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله تعالى يغضب إذا مُدِحَ الفاسق».
وقال الحسن: من دعا لظالم بطول البقاء فقد أحب أن يُعصى الله تعالى في أرضه.
والظالم الفاسق ينبغي أن يُذَمَّ لِيَغْتَمَّ، ولا يمدح ليفرح.
وأما الممدوح فيضره من وجهين:
أحدهما: أنه يُحْدِثُ فيه كبرًا وإعجابًا، وهما مهلكان.
قال الحسن -رضي الله عنه-: كان عمر -رضي الله عنه- جالسًا ومعه الدرة، والناس حوله؛ إذ أقبل الجارود بن المنذر، فقال رجل: هذا سيد ربيعة، فسمعها عمر ومن حوله، وسمعها الجارود، فلما دنا منه خفقه بالدرة، فقال: ما لي ولك يا أمير المؤمنين؟ قال: ما لي ولك. أما سمعتها؟ قال: سمعتها، فَمَهْ؟ قال: خشيت أن يخالط قلبك منها شيء، فأحببتُ أن أطأطئ منك.
الثاني: هو أنه إذا أثنى عليه بالخير فرح به، وفتر ورضي عن نفسه، ومن أعجب بنفسه قلَّ تَشَمَّرُهُ، وإنما يَتَشَمَّرُ للعمل من يرى نفسه مقصرًا، فأما إذا انطلقت الألسن بالثناء عليه ظن أنه قد أدرك. إحياء علوم الدين (3/ 159-160).
قال ابن حجر -رحمه الله-:
وقد ضبط العلماء المبالغة (في المدح) الجائزة من المبالغة الممنوعة، بأن الجائزة يصحبها شرط أو تقريب، ‌والممنوعة ‌بخلافها، ‌ويُستثنى ‌من ‌ذلك: ‌ما ‌جاء ‌عن المعصوم، فإنه لا يحتاج إلى قيد كالألفاظ التي وصف النبي -صلى الله عليه وسلم - بها بعض الصحابة.(فتح الباري10/٤٧٨)
وقال النووي -رحمه الله-:
اعلم أنَّ مَدح الإنسان والثناء عليه بجميل صفاته، قد يكون في حضور الممدوح، وقد يكون بغير حضوره، فأما الذي في غير حضوره، فلا مَنْع منه إلا أن يجازف المادح، ويدخل في الكذب، فيحرم عليه بسبب الكذب لا لكونه مدحًا، ويستحب هذا المدح الذي لا كذب فيه إذا ترتب عليه مصلحة، ولم يَجُرْ إلى مفسدة بأن يبلغ الممدوح فيفتتن به، أو غير ذلك.
وأما المدح في وجه الممدوح: فقد جاءت فيه أحاديث تقتضي إباحته أو استحبابه، وأحاديثٌ تقتضي المنع منه.
قال العلماء: وطريق الجمع بين الأحاديث: أن يقال: إن كان الممدوح عنده كمال إيمان، وحسن يقين، ورياضة نفس، ومعرفة تامة، بحيث لا يفتتن، ولا يغتر بذلك، ولا تلعب به نفسه، فليس بحرام ولا مكروه، وإن خِيف عليه شيء من هذه الأمور كُرِهَ مَدحُه كراهة شديدة. الأذكار (ص: 276).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
وفي الجملة: المدح والثناء على الرَّجل مكروه؛ لأنه قلَّما يَسلم المادح عن كذب يقوله في مَدحه، وقلَّما يسلم الممدوح من عُجبٍ يدخله. مرقاة المفاتيح (7/ 3031).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
الظاهر أن المراد به: زَجر المادح، والحث على منعه منه؛ وذلك إذا أطرى، أو اتخذه مكسبًا، وجعله وصلة إلى ما يتوقع من الممدوح.
وقيل: المراد به: أن يُخيَّب المادح، ولا يُعطى شيئًا على مدحه، وقيل: معناه: أعطوهم عطاء قليلًا، فشبهه لقلته بالتراب. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (3/ 238).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
الْمَدْحُ: وَرَدَ فيه الذَّمُّ «احثوا في وَجْهِ المدَّاحِيْنَ التُّرابَ»، ويُحْمَلُ على المذمومِ منه، فإنَّ الإكثارَ من المدحِ فيه مفسدَةُ التخطي إلى الكذب، والوقوع فيه، ومفسدةُ فسادِ نفسِ الممدوحِ، بما يحدث عنده من الكِبْرِ، والفخرِ، فاليسيرُ منه عند مسيسِ الحاجة إليه ترغيبٌ للممدوح ممَّا مُدِحَ به، وتذكيرٌ له بنعمة الله عليه ليشكُرَها، فيتحرَّزُ من المفسدة، ويفعل المصلحةَ، حيثُ تؤْمَنُ الفتنةُ للممدوحِ.
قال بعض المتكلمين في هذا المعنى: وعلى الجملة: فلا ينبغي لعاقل أن يخطرَ بقلبه، ولا يجري على جوارحه إلَّا ما يَجلبُ صلاحًا، أو يَدرأ فسادًا، فإن سَنَحَ له غيرُ ذلك، فلْيَدْرَأْهُ ما استطاع. شرح الإلمام بأحاديث الأحكام (5/100- 101).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري- رحمه الله -:
والحاصل: أنّ المدح بغرض تشجيع الممدوح على أفعال الخير جائز كما ذكره الخطابي؛ لأن ذلك ثابت عن النبي -صلى الله عليه وسلم - بمناسبات كثيرة، والمدح المكروه هو ما خِيف فيه أنْ يُفتتن الممدوح بالعُجب أو ما قصد به التّملق وأكل الأموال بالباطل وبما أن الفَرق بينهما دقيق رُبّما لا يُدركه المرء فالأحوط ما ذكرهٌ البغوي -رحمه الله تعالى- من الاجتناب عنه في كُل موضعٍ مُشتبه، والله سبحانه وتعالى أعلم.الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم(26/٤٤٤)
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي-رحمه الله-:
وعندي أنّ المعنى الصحيح هو الذي عمل المقداد -رضي الله عنه-، وهو أخْذ التُّراب ورَميه في وجه المدّاح؛ لأنه ظاهر الحديث، ولا يُعدل عن الظاهر إلا لموجب، والله تعالى أعلم.البحر المحيط الثجاج، شرح صحيح مسلم(26/٢٨٧)


ابلاغ عن خطا