الجمعة 28 رمضان 1446 هـ | 28-03-2025 م

A a

«جُزُّوا ‌الشَّوارِبَ، وأَرْخُوا اللِّحَى، خالِفُوا المجوسَ».


رواه مسلم برقم: (260)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. وفي رواية لمسلم: «خالفوا المشركين» برقم: (567)، من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-. 


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«جُزُّوا»:
الجزُّ: وهو بالجيم والزاي الثقيلة: قصُّ الشعر والصوف إلى أن يبلغ الجلدَ. كشف اللثام شرح عمدة الأحكام، للسفاريني (1/ 356).

«الشَّوَارِبَ»:
جمع شارب، وهو ‌الشعر ‌الذي ‌يسيل ‌على ‌الفَم، قال أبو حاتم: ولا يكاد يُثنّى، وقال أبو عبيدة: قال الكلابيّون: شاربان باعتبار الطرفين. المصباح المنير، للفيومي (1/ 308).

«أَرْخُوا»:
بقطع الهمزة والخاء المعجمة، ورُوي: أرجوا -بجيم بمعنى الأول، وأصله: أرجئوا - بهمزة؛ فخُفِّفَت بمعنى: أَخِّرُوها، ومعنى الكل: تركها على حالها. مجمع بحار الأنوار، للفتني (3/629).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
يتناول ترك الأخذ من طولها، ولا تعرض له لعرضها. شرح الإلمام بأحاديث الأحكام (3/320).

«اللِّحَى»:‌
بكسر ‌اللام ‌وحُكي ‌ضَمها ‌وبالقصر ‌والمد ‌جمع ‌لحية ‌بالكسر ‌فقط، وهي: اسْمٌ لِمَا نبت على الخدين والذقن. فتح الباري، لابن حجر (10/ 350).
وقال ابن منظور -رحمه الله-:
اللحية: اسمٌ يَجمع ما نبت على الخدّين والذّقَن، والجمع لِحّى -أي: بالكسر-، ولُحىً -أي: بالضمّ- مثلُ ذُرْوَة وذُرىً. لسان العرب (15/ 243).


شرح الحديث


قوله: «جُزُّوا ‌الشَّوَارِبَ»:
قال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «جُزُّوا ‌الشَّوَارِبَ» كذا الرواية الصحيحة عند الكافَّة، ووقع: خذوا الشوارب، وكأنه تصحيف. المفهم (1/ 515).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«جُزُّوا الشَّوَارِبَ» -بضم الجيم، وتشديد الزاي-: أمرٌ مِن جَزّ الصوفَ يجُزّه، من باب نصر: إذا قطعه. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج(6/ 484).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وأما الشارب فهو الشعر النابت على الشفة العليا، واختُلِفَ في جانبيه وهما السبالان، فقيل: هما من الشارب، ويشرع قَصُّهما معه، وقيل: هما من جملة شعر اللحية.
وأما القصّ فهو الذي في أكثر الأحاديث، كما هنا، وفي حديث عائشة وحديث أنس كذلك كلاهما عند مسلم، وكذا حديث حنظلة عن ابن عمر في أول الباب، وورد الخبر بلفظ: الحلق، وهي رواية النسائي، عن محمد بن عبد الله بن يزيد، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن ابن المسيّب، عن أبي هريرة، ورواه جمهور أصحاب ابن عيينة بلفظ: القص، وكذا سائر الروايات عن شيخه الزهري، ووقع عند النسائي، من طريق سعيد المقبري، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- بلفظ: تقصير الشارب.
نعم وقع الأمر بما يُشعِر بأن رواية الحلق محفوظة، كحديث العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة عند مسلم بلفظ: «جُزُّوا الشوارب»، وحديث ابن عمر بلفظ: «أحفوا الشوارب»، وبلفظ: «أنهكوا الشوارب».
فكلُّ هذه الألفاظ تدل على أن المطلوب: المبالغة في الإزالة؛ لأن الْجَزّ، وهو بالجيم والزاي الثقيلة: قصّ الشعر والصوف إلى أن يبلغ الجلد، والإحفاء بالمهملة والفاء: الاستقصاء، ومنه: «حتى أحفوه بالمسألة».
قال أبو عبيد الهروي: معناه: أَلْزِقُوا الْجَزَّ بالبشرة.
وقال الخطابي: هو بمعنى الاستقصاء، والنَّهْكُ بالنون والكاف: المبالغة في الإزالة...
وقال ابن بطال: النَّهْكُ: التأثير في الشيء، وهو غير الاستئصال. قال النووي: المختار في قصّ الشارب: أنه يقصه حتى يبدو طرف الشفة، ولا يُحْفِه من أصله، وأما رواية: «أحفوا» فمعناها: أزيلوا ما طال على الشفتين.
قال ابن دقيق العيد: ما أدري هل نقله عن المذهب أو قاله اختيارًا منه لمذهب مالك؟
قلتُ: صَرَّح في شرح المهذَّب بأن هذا مذهبنا.
وقال الطحاويّ: لم أَرَ عن الشافعيّ في ذلك شيئًا منصوصًا، وأصحابه الذين رأيناهم، كالْمُزَنيّ والربيع، كانوا يُحفون، وما أظنهم أخذوا ذلك إلا عنه.
وكان أبو حنيفة وأصحابه يقولون: الإحفاء أفضل من التقصير، وقال ابن القاسم عن مالك: إحفاء الشارب عندي مُثْلَة، والمراد بالحديث: المبالغة في أخذ الشارب حتى يبدو حرف الشفتين، وقال أشهب: سألتُ مالكًا عمن يُحْفِيْ شاربه، فقال: أرى أن يُوْجَعَ ضربًا، وقال لمن يحلق شاربه: هذه بدعة ظهرت في الناس. انتهى.
وأغرب ابن العربيّ، فنقل عن الشافعي: أنه يَستَحِبّ حلق الشارب، وليس ذلك معروفًا عند أصحابه.
قال الطحاويّ: الحلق هو مذهب أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد. انتهى.
وقال الأثرم: كان أحمد يُحفي شاربه إحفاء شديدًا، ونصَّ على أنه أولى من القصّ.
وقال القرطبيّ: وقصُّ الشارب: أن يأخذ ما طال على الشفة، بحيث لا يؤذي الآكل، ولا يجتمع فيه الوسخ، قال: والْجَزّ والإحفاء هو القصُّ المذكور، وليس بالاستئصال عند مالك، قال: وذهب الكوفيون إلى أنه الاستئصال، وبعض العلماء إلى التخيير في ذلك.
قلتُ: هو الطبريّ، فإنه حَكَى قول مالك، وقول الكوفيين، ونقل عن أهل اللغة: أن الإحفاء: الاستئصال، ثم قال: دلّت السنة على الأمرين، ولا تعارض؛ فإن القص يدل على أخذ البعض، والإحفاء يدل على أخذ الكل، وكلاهما ثابت، فيتخير فيما شاء.
وقال ابن عبد البر: الإحفاء مُحْتَمِل لأخذ الكل، والقصّ مفسَّرُ المراد، والمفسَّر مُقَدَّم على الْمُجْمَل. انتهى.
قلتُ: ويرجح قول الطبري ثبوت الأمرين معًا في الأحاديث المرفوعة، فأما الاقتصار على القصّ، ففي حديث المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- قال: «ضِفْتُ النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان شاربي وَفَى (بتخفيف الفاء، ومعناه: طال وكثُر)، فقصّه على سواك» أخرجه أبو داود، واختُلِف في المراد بقوله: «على سواك»؛ فالراجح: أنه وَضَعَ سواكًا عند الشفة تحت الشعر، وأخذ الشعر بالمقصّ، وقيل: المعنى: قصَّه على أَثَرِ سواك، -أي: بعدما تسوَّك-، ويؤيد الأول ما أخرجه البيهقيّ في هذا الحديث، قال فيه: «فوضع السواك تحت الشارب، وقَصَّ عليه».
وأخرج البزار، من حديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أبصر رجلًا، فقال: «ائتوني بِمِقَصّ وسواك؛ فجعل السواك على طرفه، ثم أخذ ما جاوزه».
وأخرج الترمذيّ من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-، وحسّنه: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقُصّ شاربه».
وأخرج البيهقيّ والطبرانيّ من طريق شُرَحبيل بن مسلم الخولانيّ، قال: رأيتُ خمسة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقُصّون شواربهم: أبو أمامة الباهليّ، والمقدام بن معدي كرب الكِنْديّ، وعتبة بن عوف السّلَميّ، والحجاج بن عامر الثُّمَاليّ، وعبد الله بن بُسْر.
وأما الإحفاء، ففي رواية ميمون بن مهران، عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-، قال: ذَكَرَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المجوسَ، فقال: «إنهم يُوفُون سِبَالهم (والسِّبال: جمع سَبَلة بالتحريك؛ وهي الشارب) ويَحلِقون لحاهم، فخالفوهم، قال: فكان ابن عمر يستعرض سَبَلته، فيجزُّها كما يجز الشاة أو البعير»، أخرجه الطبريّ، والبيهقيّ، وأخرجا من طريق عبد الله بن أبي رافع، قال: «رأيتُ أبا سعيد الخدريّ، وجابر بن عبد الله، وابن عمر، ورافع بن خديج، وأبا أسيد الأنصاريّ، وسلمة بن الأكوع، وأبا رافع: يُنهِكون شواربهم، كالحلق»، لفظ الطبري، وفي رواية البيهقي: «يقصون شواربهم، مع طرف الشفة»، وأخرج الطبري من طرق، عن عروة، وسالم، والقاسم، وأبي سلمة، أنهم كانوا يَحلِقون شواربهم.
وعلّق البخاريّ أثر ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه كان يُحفي شاربه، حتى يُنظر إلى بياض الجلد، ويأخذ هذين -يعني: بين الشارب واللحية-. انتهى.
قلتُ: لكن كلُّ ذلك محتمل لِأَنْ يراد: استئصال جميع الشعر النابت على الشفة العليا، ومحتمل لِأَنْ يُراد: استئصال ما يلاقي حمرة الشفة من أعلاها، ولا يستوعب بقيتها، نظرًا إلى المعنى في مشروعية ذلك، وهو مخالفة المجوس، والأمن من التشويش على الآكل، وبقاء زُهومة المأكول فيه، وكل ذلك يحصل بما ذكرنا، وهو الذي يجمع مفترق الأخبار الواردة في ذلك، وبذلك جزم الداوديّ في شرح أثر ابن عمر المذكور، وهو مقتضى تصرف البخاري، لأنه أورد أثر ابن عمر، وأورد بعده حديثه، وحديث أبي هريرة، في قص الشارب، فكأنه أشار إلى أن ذلك هو المراد من الحديث.
وعن الشعبي: أنه كان يقص شاربه حتى يَظهر حرف الشفة العليا، وما قاربه من أعلاه، ويأخذ ما يزيد مما فوق ذلك، وينزع ما قارب الشفة من جانبي الفم، ولا يزيد على ذلك، وهذا أعدل ما وقفت عليه من الآثار.
وقد أبدى ابن العربي لتخفيف شعر الشارب معنى لطيفًا، فقال: إن الماء النازل من الأنف، يتلبَّد به الشعر؛ لما فيه من اللزوجة، ويعسر تنقيته عند غسله، وهو بإزاء حاسّة شريفة، وهي الشمّ، فشُرع تخفيفه؛ ليتم الجمال، والمنفعة به.
قلتُ: وذلك يحصل بتخفيفه، ولا يستلزم إحفاءه، وإن كان أبلغ.
وقد رجّح الطحاوي الحلق على القصّ بتفضيله -صلى الله عليه وسلم- الحلق على التقصير في النسك، ووهَّى ابن التين الحلق بقوله -صلى الله عليه وسلم-: «ليس منا من حَلَق»، وكلاهما احتجاج بالخبر في غير ما ورد فيه، ولا سيما الثاني.
ويؤخذ مما أشار إليه ابن العربي: مشروعية تنظيف داخل الأنف، وأخذ شعره إذا طال -والله أعلم-.
وقد رَوَى مالك عن زيد بن أسلم، أن عمر -رضي الله عنه- كان إذا غَضِب فَتَل شاربه، فدل على أنه كان يوفِّره، وحَكَى ابن دقيق العيد عن بعض الحنفية أنه قال: لا بأس بإبقاء الشوارب في الحرب إرهابًا للعدوّ، وزَيَّفَه (أي: ضعَّفه). فتح الباري (10/346-348)، ويُنظر: معالم السنن، للخطابي (4/ 211)، وغريب الحديث، للخطابي (2/ 360)، والمجموع شرح المهذب، للنووي (1/ 287)، والمفهم، للقرطبي(1/ 512)، والتمهيد، لابن عبد البر (13/ 205).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
الأفضل قصُّ الشارب كما جاءت به السنة، إما حفًّا بأن يُقصَّ أطرافه مما يلي الشفة حتى تبدو، وإما إحفاءً بحيث يقص جميعه حتى يحفيه.‌
وأما ‌حلقه: ‌فليس ‌من ‌السُّنة، وقياس بعضهم مشروعية حلقه على حلق الرأس في النسك قياس في مقابلة النص، فلا عبرة به؛ ولهذا قال مالك عن الحلق: إنه بدعة ظهرت في الناس؛ فلا ينبغي العدول عما جاءت به السنة، فإن اتباعها الهدي والصلاح والسعادة والفلاح. مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (11/ 128- 129).

قوله: «وَأَرْخُوا اللِّحَى»:
قال محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«وَأَرْخُوا» -بقطع الهمزة، وبالخاء المعجمة-: أمرٌ من الإرخاء، أي: أطيلوها، ورُوي بلفظ: «أرجئوا» -بالجيم، والهمزة- أي: أَخِّروها، وبلفظ: «وفّروا» من التوفير، وهو الإبقاء، وتقدّم بلفظ: «أحفوا»، و«أوفوا»، و«أعفوا»، وكلّ هذه الروايات بمعنى واحد، وهو تركها على حالها، وعدم التعرّض لها بحلق، ولا تقصير. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (6/ 484- 485).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وكُرِهَ قصُّها (أي: اللحية) وحلقها، وتحذيفها، وقد جاء الحديث بذم فاعل ذلك، وسُنة بعض الأعاجم: حلقها وجزها وتوفير الشوارب، وهي كانت سبرة الفُرْس (الهيئة)، وأما الأخذ من طولها وعرضها فحسن، ويكره الشهرة في تعظيمها وتحليتها كما تُكْرَهُ في قصها وجزِّها، وقد اختلف السلف هل لذلك حدّ؟ فمنهم من لم يُحَدِّد إلا أنه لم يتركها لِحَدِّ الشهرة ويأخذ منها، وكره مالك طولها جدًّا، ومنهم من حدد، فما زاد على القبضة فيُزال، ومنهم من كره الأخذ منها إلا في حج أو عمرة. إكمال المعلم (2/ 63-64).
وقال النووي -رحمه الله-:
قوله -صلى الله عليه وسلم-: «أحفوا الشوارب، وأعفوا اللحى»، وفي الرواية الأخرى: «وأوفوا اللحى» هو بقطع الهمزة في «أحفوا، وأعفوا، وأوفوا»، وقال ابن دريد: يقال أيضًا: حَفَا الرجل شاربه يَحفوه حَفْوًا: إذا استأصل أخذ شعره، فعلى هذا تكون همزة «أحفوا» همزة وصل، وقال غيره: عفوت الشعر، وأعفيته لغتان، قال: وأما «أوفوا» فهو بمعنى: «أعفوا»: أي: اتركوها وافيةً كاملةً لا تقُصّوها، قال: وأما قوله: «وأرخوا» فهو أيضًا: بقطع الهمزة، وبالخاء المعجمة، ومعناه: اتركوها، ولا تتعرضوا لها بتغيير.
وذكر القاضي عياض: أنه وقع في رواية الأكثرين كما ذكرنا، وأنه وقع عند ابن ماهان: «أرجوا» بالجيم، قيل: هو بمعنى الأول، وأصله: أرجئوا بالهمز، فحذفت الهمزة تخفيفًا، أي: فهو كقوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} الأحزاب: 51، ومعناه: أَخِّروها، واتركوها، وجاء في رواية البخاري: «وَفّروا اللّحَى»، فحصل خمس روايات: «أعفوا»، و«أوفوا»، و«أرخوا»، و«أرجوا»، و«وفروا»، ومعناها كلها: تركها على حالها، هذا هو الظاهر من الحديث الذي تقتضيه ألفاظه، وهو الذي قاله جماعة من أصحابنا وغيرهم من العلماء... والمختار: ترك اللحية على حالها، وأن لا يُتَعَرَّض لها بتقصير شيء أصلًا، والمختار في الشارب: ترك الاستئصال، والاقتصار على ما يبدو به طرف الشفة. شرح صحيح مسلم (3 / 151).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
معنى ‌الإعفاء: التكثير، وهو التوفير لتكثر، وهو معنى: «أوفوا» في الرواية الأخرى؛ أي: اجعلوها وافية، فالأمر بالإعفاء من باب إقامة المسبب في الأمر مقام السبب؛ لأن ترك قصها سبب لكثرتها، فوضع إعفاؤها وهو المسبب موضع ترك قصها، وهو السبب.
وإن صح أن يكون إعفاؤها من باب: أعفيتُ فلانًا من كذا؛ أي: تركته من طلبه منه، أو ما يقرب منه، فيكون ‌الإعفاء بمعنى: ترك قصها، فلا يكون من باب إقامة المسبب مقام السبب... لم نعلم أن أحدًا ذهب إلى أن «أعفوا اللحى» إذا كان بمعنى كثروها وأوفوها؛ أنه يدخل تحته ‌معالجتها بما ينبت الشعر أو يُطوِّله؛ كما يفعله بعض من ينتمي إلى التصوف من المتأخرة، وإن كان اللفظ يحتمله على هذا التقدير، وكان الصارف عنها أحد وجوه:
منها: قرينة السياق في قوله -عليه السلام-: «قص الشارب وإعفاء اللحية»، فإنه يُفْهَمُ منه مقابلة القص من الشارب بالإعفاء في اللحية، ولا مدخل للعلاج في هذا، والسياق يرشد إلى إيضاح المبهمات، وتعيين المحتملات.
وثانيها: (قوله في الحديث): «خالفوا المجوس»، والمنقول عن المجوس قص اللحى. شرح الإلمام بأحاديث الأحكام (3/ 317).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وأغرب ابن السَّيِّدِ فقال: حَمَل بعضهم قوله: «أعفوا اللِّحَى» على الأخذ منها بإصلاح ما شذّ منها طولًا وعرضًا، واستشهد بقول زُهير -من الوافر-:
عَلَى آثَارِ مَنْ ذَهَبَ الْعَفَاءُ
وذهب الأكثر إلى أنه بمعنى: وَفِّرُوا، أو أكثِرُوا، وهو الصواب. فتح الباري (10/351).

قوله: «خالفوا المجوس»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«خَالِفُوا الْمَجُوسَ» بيان للمعنى الحامل على الأمر بالجزّ، والإرخاء، أي: لأنهم يتركون شواربهم، ويحلقون لحاهم، فيجب مخالفة هديهم. البحر المحيط الثجاج (6/ 485).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «خَالِفُوا المشركين والمجوس» دليل على اجتناب التَّشبه بهم. المفهم (1/ 515).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ» في حديث أبي هريرة عند مسلم: «خَالِفُوا الْمَجُوسَ»، وهو المراد في حديث ابن عمر، فإنهم كانوا يقصون لحاهم، ومنهم من كان يحلقها. فتح الباري (10 / 349).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
قوله: «وخالفوا المجوس»، وجاء: «وخالفوا المشركين» أي: فإنهم يطيلون الشارب، ويحلقون اللحى، وهذا أمر استحباب في الشارب واللحية، والأمر بالمخالفة دليل على اجتناب التشبه بهم في كل شيء ما لم يَرِدْ نصٌّ في التقرير (أي: بالتقرير في موافقتهم). فتح القريب المجيب على الترغيب والترهيب (11/ 153).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
هذا الحديث فيه دليلٌ على اجتناب التشبّه بالمشركين والمجوس ونحوهم من الكَفرة والمنافقين والفسقة وأهل المعاصي؛ لأن التشبه بهم يُلحق بهم، ويُدخِل في زمرتهم، فقد أخرج أبو داود في سننه بإسناد حسن، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ تَشَبَّه بقوم فهو منهم»؛ وذلك لأن المشاركة في الهدي الظاهر تُوْرِث تناسبًا وتشاكلًا بين المتشابهين في الباطن، ويقود ذلك إلى محبتهم وموالاتهم، وذلك منافٍ لمقتضى الإيمان؛ لأن الله تعالى قال: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} الآية الممتحنة: 1. البحر المحيط الثجاج (6/ 483).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- أيضًا:
الحقّ أن حلق اللحية حرام، وهو الذي نصّ عليه الإمام الشافعيّ في الأمّ -كما قال ابن الرفعة-، وقال الأذرعيّ: الصواب تحريم حلقها جملة لغير علّة بها. انتهى.
وأما الأخذ من طولها إذا فحش فلا بأس به؛ كما ثبت ترخيص ذلك عن بعض السلف -رحمهم الله تعالى-.
والحاصل: أن ترك اللحية على حالها، وعدم التعرّض لها هو الصواب؛ لظواهر النصوص، كقوله -صلى الله عليه وسلم-: «أعفوا»، و«أوفوا»، و«وفّروا»، وإن ترخّص أحد في أخذ ما زاد على القبضة اتّباعًا لما ثبت عن بعض السلف، كابن عمر وغيره، فلا بأس به؛ لأن ابن عمر -رضي الله عنهما- مع شدّة اتّباعه للسنّة، وهو الذي رَوَى حديث: «أعفوا اللحى» كان يأخذ من لحيته ما زاد على القبضة، فلولا أن عنده حجةً على هذا لَمَا فعله. البحر المحيط الثجاج (6/ 474).

وللاستفادة من الرواية الأخرى ينظر (هنا


ابلاغ عن خطا