«إذا أَدْرَكَ أحدُكُم سجدةً من صلاةِ العصرِ قبل أنْ تغربَ الشمسُ، فَلْيُتِمَّ صلاتَهُ، وإذا أَدْرَكَ سجدةً من صلاةِ الصبحِ، قبل أنْ تَطْلُعَ الشمسُ، فَلْيُتِمَّ صلاتَهُ».
رواه البخاري برقم: (556) واللفظ له، ومسلم برقم: (608) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
شرح الحديث
قوله: «إذا أَدْرَكَ أحدكم سجدةً من صلاةِ العصرِ قبلَ أن تغربَ الشمسُ فَلْيُتِمَّ صلاتَه»:
قال ابن الملقن -رحمه الله-:
الإدراك: البلوغ إلى الشيء، والوصول إليه واللحوق به، والمراد بالسجدة: الركعة -كما أسلفناه-، وعليه تنطبق ترجمة البخاري حيث عبر بالركعة، وأورده بلفظ السجدة، وبوَّب على موضع الاتفاق؛ ليقيس عليه موضع الاختلاف، وهو الصحيح -كما ستعلمه-.
ونقل القرطبي عن الشافعي في أحد قوليه، وأبي حنيفة: أن السجدة ها هنا حقيقة على بابها، قال: وأصحاب ذلك على قولهما أنه يكون مدركًا بتكبيرة الإحرام... قدَّم ذِكْر السجدة في رواية البخاري هنا؛ لأنها هي السبب الذي به الإدراك، وأخرت في رواية أخرى فقال: «مَن أدرك من الصبح سجدة» تقديمًا للاسم الذي يدل على الصلاة؛ دلالة تتناول كل أوصافها، بخلاف السجدة فإنها دالَّة على البعض، فقدم الأعم. التوضيح لشرح الجامع الصحيح(6/ 199- 205).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
المراد بهذا الإدراك: إدراك فضيلة الجماعة، وأما ما فاته فلا بد من قضائه.
واختلف العلماء فيما يأتي بعد تسليم الإمام: هل هو أول صلاته أو آخرها؟ فمذهب الشافعي: أن ما يدركه أول صلاته، ومذهب أحمد: أنه آخرها.
والمراد بالسجدة: الركعة. الإفصاح (6/ 158).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
معنى السجدة في هذا الحديث: الركعة بركوعها وسجودها، والصلاة قد تسمى سجودًا، كما سميت ركوعًا، كقوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ} الإنسان: 26، أي: صَلِّ، وقوله: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} البقرة: 43، يريد المصلين، والركعة إنما يكون تمامها بسجودها، فسُمِّيت على هذا المعنى سجدة. أعلام الحديث (1/ 438-439).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
قوله -صلى الله عليه وسلم-: «من أدرك سجدة» يريد ركعة، فكنى بذكر السجدة عنها؛ إذ لا يكون مدركًا سجدة إلا بعد إدراك ركعة، وقد جاء حديث أبي هريرة هذا بلفظ آخر عنه أنه قال: «من أدرك ركعة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك العصر».
ومعلوم أن الرسول لم يرد الركوع خاصة حتى يكون معه سجود، فمرّة عبر بالسجود عن الركوع، ومرّة اقتصر على ذكر الركوع، وأئمة الفتوى متفقون على أن من لم يدرك الركعة لم يدرك السجدة. شرح صحيح البخاري (2/ 182).
قوله: «وإذا أَدْرَكَ سجدةً من صلاةِ الصبحِ قبلَ أنْ تَطْلُعَ الشمسُ فَلْيُتِمَّ صلاتَهُ»:
قال ابن الأثير -رحمه الله-:
جاء في رواية: «فقد أدرك الصبح»، وفي رواية: «فليتم صلاته» وكلاهما بمعنى، إلا أن أحدهما كناية، والآخر صريح.
فإن أدرك الصبح لم يرد به أن تلك الركعة التي أدركها قبل طلوع الشمس أجزأته عن صلاته الصبح؛ إنما يريد أنها أجزأته عن الأداء؛ وإن خرج الوقت بدخوله في الركعة الثانية إلا أنها إنما تجزئه عن الصلاة إذا صلى الركعة الثانية وإن كانت الشمس غاربة؛ وبهذا القدر استغني عن التصريح به بقوله: «فقد أدرك الصبح».
وأما قوله: «فليتم صلاته» فإنه صريح في الإجزاء، ألا تراه كيف أبان عن الوصف الذي به يحصل الإجزاء، وهو الإتمام والمجيء بالركعة الأخرى في الصبح والثلاث في العصر، ولم يحتج هنا أن يقول: «فقد أدرك»؛ لأنه إذا أمره بإتمام الصلاة مع وقوع بعضها في وقتها، وبعضها في غير وقتها؛ فقد أجاز له ذلك وأمضاه؛ ولذلك قد جاء في بعض الروايات بتقديم الصبح على العصر وفي بعضها بالعكس، فأما تقديم الصبح؛ فلأنها أول صلاة يبتدئ بها الإنسان في أول يومه وأول أعماله؛ ولأن هذا الحكم الذي تعرض لذكره هو مقرون بطلوع الفجر، وكان الابتداء به أولى؛ لأن الطلوع قبل الغروب.
وأما تقديم صلاة العصر في الذكر، فلأن لها شرفًا على غيرها، بقوله -صلى الله عليه وسلم-: «الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وُتِرَ أهله وماله».
فلذلك جعلها الأكثرون الصلاة الوسطى؛ لأن حفظ وقتها ومعرفته فيه صعوبة، وليس كوقت غيرها من باقي الصلوات؛ ألا ترى أن كل واحدة من الصلوات يُدْرَكُ وقتها الخاص والعام؟ فإن الصبح وقتها بطلوع الفجر ما لم تطلع الشمس، والظهر بالزوال، والمغرب بمغيب الشمس، والعشاء بمغيب الشفق وهذه حدود يشترك فيها كل بصير.
وأما العصر فيحتاج في معرفة وقتها إلى معرفة الظل وزيادته ونقصانه، وحفظ مقدار ظل الزوال، لبسطه من الظل، وهذا إنما يعرفه الخواص من العارفين بالأوقات، فحيث كانت بهذه الصفة من الإشكال؛ قدمها في الذكر اهتمامًا بشأنها، وتحفيزًا على المحافظة عليها.
وهذا الوجه من ألطف ما قيل في تعليق قول من ذهب إلى أنها الصلاة الوسطى، وأن التخصيص بالمحافظة عليها؛ إنما كان لهذا السبب الذي ذكرناه. الشافي في شرح مسند الشافعي (1/ 376- 377).
وقال النووي -رحمه الله-:
أجمع المسلمون على أن هذا ليس على ظاهره، وأنه لا يكون بالركعة مدركًا لكل الصلاة، وتكفيه وتحصل براءته من الصلاة بهذه الركعة، بل هو متأول، وفيه إضمار تقديره: فقد أدرك حكم الصلاة، أو وجوبها، أو فضلها.
قال أصحابنا: يدخل فيه ثلاث مسائل:
إحداها: إذا أدرك من لا يجب عليه الصلاة ركعة من وقتها لزمته تلك الصلاة؛ وذلك في الصبي يبلغ، والمجنون والمغمى عليه يفيقان، والحائض والنفساء تطهران، والكافر يسلم؛ فمن أدرك من هؤلاء ركعة قبل خروج وقت الصلاة لزمته تلك الصلاة.
وإن أدرك دون ركعة كتكبيرة ففيه قولان للشافعي -رحمه الله تعالى-: أحدهما: لا تلزمه؛ لمفهوم هذا الحديث، وأصحهما عند أصحابنا: تلزمه؛ لأنه أدرك جزءًا منه فاستوى قليله وكثيره؛ ولأنه يشترط قدر الصلاة بكمالها بالاتفاق، فينبغي أن لا يفرق بين تكبيرة وركعة.
وأجابوا عن الحديث: بأن التقييد بركعة خرج على الغالب؛ فإن غالب ما يمكن معرفة إدراكه ركعة ونحوها، وأما التكبيرة فلا يكاد يحس بها.
وهل يشترط مع التكبيرة أو الركعة إمكان الطهارة فيه؟
وجهان لأصحابنا: أصحهما أنه لا يشترط.
المسألة الثانية: إذا دخل في الصلاة في آخر وقتها فصلى ركعة، ثم خرج الوقت كان مدركًا لأدائها، ويكون كلها أداء، وهذا هو الصحيح عند أصحابنا.
وقال بعض أصحابنا: يكون كلها قضاء، وقال بعضهم: ما وقع في الوقت أداء وما بعده قضاء، وتظهر فائدة الخلاف في مسافر نوى القصر وصلى ركعة في الوقت وباقيها بعده.
فإن قلنا: الجميع أداء فله قصرها، وإن قلنا: كلها قضاء أو بعضها وجب إتمامها أربعًا إن قلنا: إن فائتة السفر إذا قضاها في السفر يجب إتمامها، هذا كله إذا أدرك ركعة في الوقت.
فإن كان دون ركعة، فقال بعض أصحابنا: هو كالركعة، وقال الجمهور: يكون كلها قضاء، واتفقوا على أنه لا يجوز تعمد التأخير إلى هذا الوقت، وإن قلنا: إنها أداء، وفيه احتمال لأبي محمد الجويني على قولنا: أداء، وليس بشيء.
المسألة الثالثة: إذا أدرك المسبوق مع الإمام ركعة كان مدركًا لفضيلة الجماعة بلا خلاف، وإن لم يدرك ركعة بل أدركه قبل السلام بحيث لا يحسب له ركعة، ففيه وجهان لأصحابنا: أحدهما: لا يكون مدركًا للجماعة؛ لمفهوم قوله -صلى الله عليه وسلم-: «من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام فقد أدرك الصلاة».
والثاني وهو الصحيح، وبه قال جمهور أصحابنا: يكون مدركًا لفضيلة الجماعة؛ لأنه أدرك جزءًا منه، ويجاب عن مفهوم الحديث بما سبق. شرح مسلم (5/ 105-106).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
فيه بيان أن طلوع الشمس على مَن قد صلّى من الفجر ركعة لا يقطع عليه صلاته، كما قال من فرق في ذلك بين غروب الشمس من أجل أن غروبها يوجب عليه الصلاة، وبين طلوعها من أجل أن طلوعها يحرم عليه الصلاة، والقياس إذا نازعه النص كان ساقطًا. أعلام الحديث (1/ 439).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
جمهور العلماء على أن من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس يُتِمَّها، وانفرد أبو حنيفة فقال: تبطل بطلوعها، ويستقبلها بعد ارتفاعها، ووافقنا في العصر أنه يتمها بعد الغروب؛ لأن العصر يقع آخرها في وقت صالح للابتداء بالصلاة بخلاف الطلوع، وهذا فرق صوري، والشارع سوَّى بينهما، فلا معنى لهذا الفرق...، وعند أبي حنيفة: أنه إذا قعد مقدار التشهد وطلعت تبطل أيضًا، وخالفه صاحباه. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (6/ 204).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
وهذا الحديث عند الفقهاء خرج مخرج العموم، ومعناه الخصوص؛ لنهيه -عليه السلام- أن يتحرى بالصلاة طلوع الشمس وغروبها، فالمراد به: أصحاب الضرورات؛ لأنهم لا يلزمهم صلاة إلا أن يدركوا منها ركعة، أو يدركوا من الصلاتين المشتركتين الأولى منهما، وركعة من الثانية، وهم: المغمى عليه والمجنون يفيقان، والحائض تطهر، والكافر يسلم، والصبي يبلغ، كل هؤلاء عند مالك: يصلون الصلاة التي يدركون منها ركعة بسجدتيها في آخر وقتها، فإن لم يدركوا منها ركعة بسجدتيها بعد الفراغ مما يلزمهم من الطهارة لم يجب عليهم أن يصلوا.
وقال الشافعي مثله في أحد قوليه، واختلف قوله فيهم إذا أدركوا ركعة من العصر، فقال: يعيدون الظهر والعصر، وكذلك لو أدركوا مقدار تكبيرة الإحرام من العصر، فوافقه أبو حنيفة في أنهم إن أدركوا من وقت صلاة مقدار تكبيرة الإحرام فقد أدركوها.
واحتج أصحاب الشافعي فقالوا: إنما أراد الرسول بذكر الركعة: البعض من الصلاة، فكأنه قال: من أدرك عمل بعض الصلاة في الوقت، والدليل على ذلك قوله: «من أدرك ركعة»، وقال مرة أخرى: «من أدرك سجدة»؛ فدل أنه أراد البعض، والتكبير بعض الصلاة.
وقال ابن القصار: فالجواب أن هذا ينقض عليه أصله في الجمعة؛ لأنه يقول: من لم يدرك ركعة بسجدتيها من الجمعة؛ فلم يدركها.
والحجة لقول مالك: قوله -عليه السلام-: «من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر»؛ فدل هذا الكلام أنه لا يكون مدركًا بإدراك أقل من ركعة؛ إذ لو كان أقل من ركعة بمنزلتها لم يكن لتخصيصها بركعة معنى، وتكبيرة الإحرام لا تسمى ركعة، ويبين صحة هذا قوله: «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة»، وهذا يلزم من قال: إنه إن أدرك ركعة من العصر قبل غروب الشمس وجب عليه أن يصلي الظهر والعصر؛ لأنه -عليه السلام- إنما جعل من أدرك ركعة من العصر قبل غروب الشمس مدركًا لصلاة واحدة وهي العصر، فلا يجوز أن يكون مدركًا لغيرها، ولا يجوز أن يجب عليه غير ما أوجبه الرسول، وقد اتفقنا أنه لو بلغ الصبي وأسلم الكافر، وطهرت الحائض في وقت المغرب لم تلزمهم صلاة الصبح، فكذلك صلاة الظهر؛ لأنه لم يدرك من وقتها شيئًا، وأيضًا فإن الشافعي يقول: إن صلاة الظهر تفوت قبل دخول وقت العصر، فإن فاتت فلا قضاء لما فات وقته.
ويقول أبو حنيفة فيمن عدا المغمى عليه: إنهم إن أدركوا العصر في وقتها لم يقضوا صلاة الظهر؛ لأن بينها وبين العصر وقتًا تفوت فيه.
وفي حديث أبي هريرة من الفقه حجة لما ذهب إليه عامة الفقهاء: أنه من نام عن صلاة الصبح أو نسيها، فأدرك منها ركعة قبل طلوع الشمس وركعة بعدها أنه يتمها، وكذلك العصر، هذا قول مالك، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وعامة العلماء.
وخالف بعض هذا الحديث أبو حنيفة؛ فقال: إن أدرك ركعة من العصر قبل مغيب الشمس أنه يتمها بعد مغيب الشمس، ولا يصلي غير عصر يومه في ذلك الوقت، ولا يجوز أن يقضي فيه صلاة فائتة غيرها، وإذا أدرك ركعة من الصبح قبل طلوع الشمس بطلت صلاته، واستقبلها بعد ارتفاع الشمس، وأصحاب الضرورات عنده إذا لم يدركوا إلا ذلك الوقت لم يلزمهم شيء، واحتج بأن العصر يقع آخرها في وقت يصلح للإنسان أن يبتدئ الصلاة فيه، وليس هكذا طلوع الشمس؛ لأنه ليس وقتًا للصلاة، وقالوا: ألا ترى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أخر الصلاة حين نومه عن الصبح من أجل انتباهه عند طلوع الشمس، ولم يصلها حتى ارتفعت، وهذا رُدَّ لحديث أبي هريرة؛ لأنه -عليه السلام- قال: «من أدرك ركعة من صلاة العصر قبل غروب الشمس فليتم صلاته، ومن أدرك ركعة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته»؛ فسوَّى بين العصر والصبح في أن حكمهما واحد في الإتمام بعد غروب الشمس وبعد طلوعها، وقد يجوز أن يبتدئ قضاء الفرض في وقت لا يجوز أن تؤخَّر الصلاة إليه، فكذلك يجوز أن يقع آخر صلاته في وقت لا يجوز أن يبتدئ الصلاة فيه، وعِلَّتُهُم تُقْلَبُ عليهم؛ فيقال: إن العصر قد ابتدأها في وقت لا يجوز أن يفعلها فيه، وصلاة الصبح ابتدأها في وقتها، فإذا جاز ذلك في العصر فالصبح أولى.
قال المهلب: وإنما أدخل حديث ابن عمر وأبي موسى في هذا الباب بقوله: «ثم أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس، فأعطينا قيراطين قيراطين»؛ ليدل على أنه قد يستحق بعمل البعض أجر الكل، مثل الذي أعطي من العصر إلى الليل أجر النهار كله لمستأجريه أولى، فمثل هذا الذي أعطي على كل ركعة أدرك وقتها أجر الصلاة كلها في آخر الوقت، وأما احتجاجهم بأن الرسول أخر الصلاة في الوادي حين انتبه حتى ارتفعت الشمس، فلا حجة لهم فيه؛ لأنه قد ثبت أنهم لم يستيقظوا يومئذٍ حتى أيقظهم حر الشمس، ولا يكون لها حرارة إلا والصلاة جائزة ذلك الوقت. شرح صحيح البخاري (2/ 182-185).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
وفيه من الفقه: أن الله تعالى رفق بعبيده رفقًا ظهر لِمُتَأَمِّلِهِ؛ فإنه لما شرع لكل صلاة وقتًا تؤتى بها فيه كان من حيث التقدير متسعًا لأمثال فعل تلك الصلاة، فإذا ترك العبد فضيلة أول الوقت ثم زاد به التأخير حتى لم يَبْقَ من الوقت مقدار فعل الصلاة فقد ضايق الأمر، أو عرض عبادته لخطر الفوات، إلا أنه أحسن حالًا ممن أخر ذلك حتى لم يَبْقَ من وقت الصلاة إلا مقدار ركعة؛ فإنه من غير شك يصلي باقي صلاته بعد فوت الوقت، إلا إنه سبحانه رفق بعبده فاحتسب له بأول فعله في الوقت وأجرى آخرها مجرى أولها؛ فإن عرض هذا في وقت لضرورة نادرًا؛ فليكن داعيًا إلى الحذر من مثله فيما بعد. الإفصاح عن معاني الصحاح (6/ 158).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
وأما تخصيص هاتين الصلاتين بالذِّكر من بين سائر الصلوات فعنه جوابان:
أحدهما: أنه ليس هذا الحكم خاصًّا لهما، بل يعم جميع الصلوات عند أكثر العلماء؛ فإنه قد جاء في حديث آخر عن أبي هريرة مما اتفق على إخراجه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة».
وجاء في حديث عبد اللَّه بن عمر مما أخرجه النسائي: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من أدرك ركعة من صلاة من الصلوات؛ فقد أدركها كلها إلا أنه يقضي ما فاته».
والجواب الثاني: أن هاتين الصلاتين هما طرفا النهار أولًا وآخرًا، وآخر وقتيهما هو طلوع الشمس وغروبها، وهو ظاهر لا لبس فيه، بحيث إن المصلي إذا صلى بعض الصلاة وطلعت عليه الشمس أو غربت؛ عرف خروج الوقت، فلو لم يعين -صلى الله عليه وسلم- هذا الحكم وعرف المصلي أن صلاته تجزئه؛ لظن فوات الصلاة وبطلانها بخروج الوقت، وليس كذلك آخر أوقات باقي الصلوات، فإنها لا تعرف حقيقة إلا بعد الاعتبار والتدقيق، فإذا صلى المصلي بعض صلاة الظهر آخر وقتها؛ ودخل عليه وقت العصر ولم يتم صلاته، فإنه لا يحس بدخول وقت العصر ما لم يهتبر الظل، وكذلك صلاة المغرب وصلاة العشاء، إذا أخر صلاة العشاء إلى آخر الليل؛ فإنه لا يكاد يدرك أول جزء يطلع من الفجر؛ لأنه إذا لم يضئ له الشرق ويتسع؛ لم يكد يدرك طلوعه، وحيث كانت صلاة الفجر وصلاة العصر مخالفتين لها في الصلوات بهذا الوصف الذي ذكرناه؛ خصصهما بالذكر -واللَّه أعلم-.
ولأنها قد جاء لهاتين الصلاتين من الفضيلة ما لم يأتِ لغيرهما؛ لقوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} النور: 36، وقوله -عز من قائل-: {وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} آل عمران: 41.
وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «فإن استطعتم أن لا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا»، ثم قرأ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} ق: 39، وقد سماهما صلاة البردين والعصرين، وحث عليهما في غير موضع، وقال: «يتعاقب فيها ملائكة الليل وملائكة النهار» ونحو ذلك؛ ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، فلو لم يبين لهم صحة صلاة من أدرك ركعة من هاتين الصلاتين؛ لظن أن الصلاة تفسد بدخول هذين الوقتين وهو يصلي، فعرفهم ذلك ليزول هذا الوهم، والذي ذهب إليه الشافعي العمل بهذا الحديث في هاتين الصلاتين وفي غيرهما من الصلوات: أنه متى أدرك المصلي من وقت الصلاة ركعة، أتم ما بقي منها وإن خرج الوقت، وإليه ذهب: مالك وأحمد وإسحاق.
وكان أبو ثور يقول: إنما ذلك لمن نام أو سها، ولو تعمد ذلك أحد كان مخطئًا مذمومًا بتفريطه.
وقد روي ذلك عن الشافعي، وهو غير مشهور من مذهبه.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: يَصِحُّ ذلك في العصر دون الصبح، فإذا أدرك ركعة من صلاة الصبح وطلعت الشمس، فسدت صلاته وعليه القضاء ولا يلزمه ذلك.
قال الشافعي: ومن أخر العصر حتى صار كل شيء مثليه في الصيف أو قدر ذلك في الشتاء، فقد فاته الاختيار، ولا يجوز أن يقال: قد فاته وقت العصر مطلقًا، واحتج بهذا الحديث.
وفي هذا الحديث: دليل على أن من أدرك من وقت الصلاة مقدار ركعة من المعذورين كالمجنون إذا أفاق، والصبي إذا بلغ، والنفساء والحائض إذا طهرت؛ فإن الصلاة تجب عليه، وللأئمة في ذلك خلاف مذكور في كتب الفقه. الشافي في شرح مسند الشافعي (1/378-380.