الخميس 27 رمضان 1446 هـ | 27-03-2025 م

A a

«اخْتَتَنَ إبراهيمُ النبيُّ -عليه السلام-، وهو ابنُ ثمانينَ سنةً ‌بِالْقَدُّومِ».


رواه البخاري برقم: (3356)، ومسلم برقم: (2370) واللفظ له، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«اخْتَتَنَ»:
قَطَعَ غُرْلَتَه، وَهِي الجلْدَةُ الَّتِي يَقْطعُها الخاتِنُ. تاج العروس، للزبيدي (34/ 479).
وقال النفراوي -رحمه الله-:
والختان: هو ‌قطع ‌الجِلدة ‌الساترة ‌للحشفة بحيث ينكشف جميعها. الفواكه الدواني (1/ 394).

«بِالْقَدُّومِ»:
قيل: هي قرْية بالشَّام، ويروى بغَيرِ ألف ولام، وقيل: القَدوم بالتخفيف، والتشديد: قَدُوم النَّجار. النهاية، لابن الأثير (4/ 27).


شرح الحديث


قوله: «اخْتَتَنَ إبراهيم النبي -عليه السلام-»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«اختتن» بهمزة وصل مكسورة، «إبراهيم» الخليل، أي: قطع قُلْفَة ذَكر نفسه، والختان: اسم لفعل الخاتن، وقيل: مصدر، ويسمى به محل الختن أيضًا، ومنه خبر: «إذا التقى الختانان». فيض القدير (1/ 207).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«اختتن إبراهيم النبي» أي: نفسه -عليه الصلاة والسلام- بأمر الملك العلام، حيث قال تعالى: {وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} البقرة: 124. مرقاة المفاتيح (9/ 3636).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
قال ابن القصار: الخِتان سُنة عند مالك والكوفيين، وقال الشافعي: هي فرض، والدليل لقول مالك والكوفيين: قوله -عليه السلام-: «الفطرة خمس»؛ فذكر الختان في ذلك، والفطرة السنة؛ لأنه جعلها من جملة السنن فأضافها إليها، ولما أسلم سلمان لم يأمره النبي -عليه السلام- بالاختتان، ولو كان فرضًا لم يترك أمره بذلك.
واحتج الشافعي بقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} النحل: 123، وكان من مِلَّتِهِ الختان؛ لأنه ختن نفسه بالقدوم. قيل له: أصل الملة: الشريعة والتوحيد، وقد ثبت أن في ملة إبراهيم فرائض وسننًا؛ فأُمِرَ أن يتبع ما كان فرضًا ففرضًا، وما كان سنة فسنة، وهذا هو الاتباع، فيجوز أن يكون اختتان إبراهيم من السنن.
وقد رُوِيَ عن النبي -عليه السلام- أنه قال: «الختان سنة للرجال، ومكرمة للنساء»، والختان علامة لمن دخل في الإسلام، فهي من شعائر المسلمين. شرح صحيح البخاري (9/ 68).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
مَن هنا شرع الختان في العرب في ولد إسماعيل، وفي اليهود ولد إسحاق بن إبراهيم، وتقدم الكلام في الاختتان بأول الكتاب، وقد قيل: إن هذا من الكلمات التي ابتلاه الله بها. إكمال المعلم (7/ 341).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قد تقدم أن إبراهيم أول من اختتن، وأن ذلك لم تزل سنة عامة معمولًا بها في ذُرِّيَّته وأهل الأديان المنتمين إلى دينه، وهو حكم التوراة على بني إسرائيل كلهم، ولم تزل أنبياء بني إسرائيل يختتنون حتى عيسى -عليه السلام-، غير أن طوائف من النصارى تأَوَّلوا ما جاء في التوراة من ذلك بأن المقصود: زوال غلفة القلب، لا جلدة الذَّكَر، فتركوا المشروع من الختان بضرب من الهذيان، وليس هذا بأول جهالاتهم، فكم لهم منها وكم! ويكفيك من ذلك: أنهم زادوا على أنبيائهم في الفهم، وغلَّطوهم فيما عملوا عليه، وقضوا به من الحكم. المفهم (6/ 183).
وقال المظهري -رحمه الله-:
الخِتَانُ واجبٌ عند الشافعي، سنةٌ عند أبي حنيفة -رحمة الله عليهما-، وكشفُ العورة عند الخاتِن دليلٌ على وجوبه؛ لأن كَشْفَها محرَّمٌ، والخِتَانُ لا بد له من الكَشْفِ، وتَرْكُ الواجب للسنة غيرُ جائزٍ، فإذا كان كذلك فلا يكون إلا واجبًا. المفاتيح في شرح المصابيح (6/ 52).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
وقد استدلَّ بعضُ الشافعية بقريب من هذا، فقالوا: إنَّه يجوزُ له كشفُ العورة، ولو لم يكنْ واجبًا لما جاز، وهذا لا يمكنُ أن يُجعلَ الحديثُ دالًّا عليه، بل هو أجنبي عنه؛ إذْ إبراهيمُ -صلى الله عليه وسلم- هو الخاتنُ لنفسه، فلا كشفَ عورة محرَّمٌ حينئذٍ، وإنما هو دليل مستقل، إن صحَّ فإنَّه قد نُقِضَ عليهم بكشف العورة للتداوي، مع أنَّه غيرُ واجب، وأجاب بعضهم عنه. شرح الإلمام بأحاديث الأحكام (3/ 391).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
الحديث مَسُوْقٌ للحثِّ على الاختتان، وبيان أنه من شرع إبراهيم، ولعله لم يفعله إلا في هذه السِّنِّ العالية؛ لأنه لم يؤمر به قبل ذلك ويؤخذ منه أنه لا يترك الختان، وإن علت السِّنُّ. التنوير شرح الجامع الصغير (1/445).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
ينبغي أن يُبحَثَ عن العلة المناسبة لشرعية الختان أو وجوبه، فيمكن أن يُحالَ ذلك على ما ذُكر من أمر النجاسة، وأنَّ البول ينزل إلى ما بين القلفة والحشفة؛ وذلك في حكم الظاهر، فيؤدي إلى بطلان الصلاة، ومن هذا نُقل عن بعضهم: أنَّه يختنُ وإن أدى إلى الهلاك؛ لأنه يؤدي إلى بطلان صلاة العمر، وإذا كان قد يقتلُ بترك صلاة واحدة؛ فَلَأَنْ يقتل بترك صلاة العمر أولى...
وربما ادُّعِيَ أنَّ الختان شُرعَ لتحصل لذة النكاح التي هي سببٌ للمطلوب شرعًا من كثرة النسل، وهذا يُنازَعُ فيه، وقيل: إن جماعَ الأقلف أَلَذُّ، وهذا أمر مشكوك فيه من الجانبين، أعني: ترجيح اللذة في أحدهما على الآخر.
ويمكن أن يعلَّلَ بأمرٍ ظَنِّيٍّ، وهو أن القلفة قد تؤثِّرُ في احتباسِ المني في خروجه، وعدمِ سرعة بروزه؛ وذلك مُضِرّ بعد تهيُّئهِ وبروزه عن مقرِّه، وقريب من هذا ما قيل: إن الحكمةَ تقتضي منعَ اللواط؛ كما اقتضته الشرائع، أو ما هذا معناه؛ وذلك من حيثُ إن في الرَّحم قوةً جاذبة، فتستفرغُ ما برز عن مقرِّه من المني، ولا يكاد يتخلف منه شيء في المجاري، وليست هذه القوة للدبر، فربما تخلف منه شيء، فأورث عللًا وأمراضًا؛ ولهذه العلة كان الضعفُ الحادث عن النكاح في الفرج أكبرَ من الضعف الحادث عن خروج المني بالاحتلام. شرح الإلمام بأحاديث الأحكام (3/ 392-394).
وقال الكماخي -رحمه الله-:
وقيل: في الختان خواص، منها: نضارة الوجه، ونماء البدن كالشجر إذا انقطع فضله وغصنه الزائد، يحصل لها النماء.
فإن قيل: ما معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: «أول من اختتن إبراهيم -عليه السلام-»، وفي الخبر: «ولد الأنبياء -عليهم السلام- مختونين»؟
الجواب: أقول: إنه -عليه السلام- ولد مختونًا، ولكنه ختن نفسه، لِيُقْتَدَىْ به؛ لأنه مُقْتَدَىْ الأمم، ومتبوع الملل، كما في (خواتم الكلم). المهيأ في كشف أسرار الموطأ (1/ 175).

قوله: «وهو ابن ثمانين سنة»:
قال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: «وهو ابن ثمانين سنة» كذا في كتاب مُسلم، وقد جاء هذا الحديث من رواية مالك والأوزاعي، وفيه: «‌اختتن ‌إبراهيم وهو ابن مائة وعشرين سنة، ثم عاش بعد ذلك ثمانين سنة» إلَّا أن مالكًا ومن تبعه أوقفوه على أبي هريرة.
وكذا ذكره في الموطأ من رواية القعنبي وبعض رواة الموطأ، ولم يكن الحديث عند غير واحد منهم رواة الموطأ.
وذكر غيره عكس هذا: أنه اختتن وهو ابن ثمانين سنة، كما قال مسلم، وعاش مائة وعشرين سنة. إكمال المعلم (7/ 341-342).
وقال النووي -رحمه الله-:
وهو ابن ثمانين سنة هو الصحيح، ووقع في الموطأ وهو ابن مائة وعشرين سنة موقوفًا على أبي هريرة وهو متأوّل أو مردود. شرح مسلم (15/ 122).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وأكثر الروايات على ما وقع في حديث الباب: أنه -عليه السلام- اختتن وهو ‌ابن ‌ثمانين ‌سنة، وقد حاول الكمال ابن طلحة في جزء له في الختان الجمع بين الروايتين فقال: نقل في الحديث الصحيح أنه اختتن لثمانين، وفي رواية أخرى صحيحة: أنه اختتن لمائة وعشرين، والجمع بينهما: أن إبراهيم عاش مائتي سنة منها ثمانون سنة غير مختون، ومنها مائة وعشرين، وهو مختون، فمعنى الحديث الأول: اختتن لثمانين مضت من عُمره.
والثاني: لمائة وعشرين بقيت من عمره، وتعقبه الكمال ابن العديم في جزء سماه: الملحة في الرد على ابن طلحة بأن في كلامه وهمًا من أوجه:
أحدها: تصحيحه لرواية مائة وعشرين وليست بصحيحة، ثم أوردها من رواية الوليد عن الأوزاعي عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعة، وتعقَّبه بتدليس الوليد، ثم أورده من فوائد ابن المقري من رواية جعفر بن عون عن يحيى بن سعيد به موقوفًا، ومن رواية علي بن مسهر وعكرمة بن إبراهيم كلاهما، عن يحيى بن سعيد كذلك.
ثانيها: قوله: في كل منهما لثمانين، لمائة وعشرين، ولم يرد في طريق من الطرق باللام، وإنما ورد بلفظ: «اختتن وهو ابن ثمانين»، وفي الأخرى: «وهو ابن مائة وعشرين»، وورد الأول أيضًا بلفظ: «على رأس ثمانين» ونحو ذلك.
ثالثها: أنه صرح في أكثر الروايات أنه عاش بعد ذلك ثمانين سنة، فلا يوافق الجمع المذكور: أن المائة وعشرين هي التي بقيت من عمره.
ورابعها: أن العرب لا تزال تقول: خَلَوْنَ إلى النصف، فإذا تجاوزت النصف، قالوا: بَقِيْنَ، والذي جمع به ابن طلحة يقع بالعكس، ويلزم أن يقول فيما إذا مضى من الشهر عشرة أيام: لعشرين بَقِيْنَ، وهذا لا يعرف في استعمالهم.
ثم ذكر الاختلاف في سن إبراهيم، وجزم بأنه لا يثبت منها شيء؛ منها: قول هشام بن الكلبي، عن أبيه قال: دعا إبراهيم الناس إلى الحج، ثم رجع إلى الشام، فمات به وهو ابن مائتي سنة، وذكر أبو حذيفة البخاري أحد الضعفاء في المبتدأ بسند له ضعيف: أن إبراهيم عاش مائة وخمسًا وسبعين سنة.
وأخرج ابن أبي الدنيا من مرسل عبيد بن عمير في وفاة إبراهيم وقصته مع ملك الموت، ودخوله عليه في صورة شيخ فأضافه، فجعل يضع اللقمة في فيه فتتناثر، ولا تثبت في فيه، فقال له: كم أتى عليك؟ قال: مائة وإحدى وستون سنة، فقال إبراهيم في نفسه وهو يومئذٍ ابن ستين ومائة: ما بقي أن أصير هكذا إلا سنة واحدة، فكره الحياة، فقبض ملك الموت حينئذٍ روحه برضاه.
فهذه ثلاثة أقوال مختلفة يتعسر الجمع بينها، لكن أرجحها: الرواية الثالثة، وخطر لي بعد أنه يجوز الجمع بأن يكون المراد بقوله: «وهو ابن ثمانين»: أنه من وقت فارق قومه وهاجر من العراق إلى الشام، وأن الرواية الأخرى: «وهو ابن مائة وعشرين»، أي: من مولده، أو أن بعض الرواة رأى مائة وعشرين فظنها إلا عشرين أو بالعكس -والله أعلم-.
قال المهلب: ليس اختتان إبراهيم -عليه السلام- بعد ثمانين مما يوجب علينا مثل فعله؛ إذ عامة من يموت من الناس لا يبلغ الثمانين، وإنما اختتن وقت أوحى الله إليه بذلك وأمره به، قال: والنظر يقتضي أنه لا ينبغي الاختتان إلا قرب وقت الحاجة إليه؛ لاستعمال العضو في الجماع، كما وقع لابن عباس حيث قال: كانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك، ثم قال: والاختتان في الصغر لتسهيل الأمر على الصغير؛ لضعف عضوه، وقِلَّةِ فهمه.
قلتُ: يستدل بقصة إبراهيم -عليه السلام- لمشروعية الختان، حتى لو أُخِّرَ لِمَانِعٍ حتى بلغ السن المذكور لم يسقط طلبه، وإلى ذلك أشار البخاري بالترجمة، وليس المراد: أن الختان يشرع تأخيره إلى الكبر حتى يحتاج إلى الاعتذار عنه، وأما التعليل الذي ذكرهُ من طريق النظر؛ ففيه نظر، فإن حكمة الختان لم تنحصر في تكميل ما يتعلق بالجماع، بل وَلِمَا يُخْشَى من انحباس بقية البول في الغُرْلَة (الجلدة الزائدة التي تقطع في الختان)، ولا سيما للمستجمر؛ فلا يؤمن أن يسيل فينجس الثوب أو البدن، فكانت المبادرة لقطعها عند بلوغ السن الذي يؤمر به الصبي بالصلاة أَلْيَقَ الأوقات، وقد بينت الاختلاف في الوقت الذي يشرع فيه فيما مضى. فتح الباري (11/ 89 -90).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- معلقًا:
هذا الذي ذكره الحافظ من وجه الجمع لا يخفى ما فيه من التكلُّف والتعسُّف، فالحقُّ أنَّ ما في الصحيح أصح، وهو أنه -عليه السَّلامُ- اختتن وهو ابن ثمانين سنة، وما عداه من الروايات مرجوحة، فلا يُلتفت إليها -والله تعالى أعلم-. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (38/ 105).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
هذا الإخبارُ من الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن فعل إبراهيمَ -عليه السلام- من فائدتِهِ -بعدَ تعظيم قدر إبراهيم -عليه السلام- في الأنفس؛ بسبب احتمال هذه المشقة العظيمة مع كِبر السن والمباشرة باليد بالآلة المعينة فيه أَيضًا-: تحريكٌ للنفس، وبعثٌ لها على الاقتداء في امتثال أوامر الله تعالى، وطلب رضاه، وإن شقَّ على الأنفس، وصَعُبَ على الأبدان؛ وذلك من صلاح المكلفين، وهو عِلَّةٌ مناسبة لهذا الإخبار. شرح الإلمام بأحاديث الأحكام (3/ 394).

‌قوله: «بِالْقَدُّومِ».
قال الأصبهاني -رحمه الله-:
يروى هذا الحرف بتشديد الدَّال. ورواه شعيب عن أبي الزناد بتخفيف الدال.
فمن رواه بالتشديد قال: أراد أنه اختتن بمكان يقال له: ‌القَدُّومُ، ومن رواه بالتخفيف قال: هو القَدُومُ الذي ينجر به الحطب.
وقيل: اسم المكان: قدوم بغير ألف ولام؛ لأنه معرفة. شرح صحيح البخاري (4/ 389).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
كذا رويناه مخففًا هنا، وفسرها بعضهم بآلة النَّجَّار، وهو قول محمد بن الموَّاز وغيره، وقيل: هو موضع يثقل ويخففه آخرون، حكى الباجي فيه الوجهين، وبالتخفيف رواه بعض رواة البخاري، وضبطه المروزي بالتشديد، وأنكر يعقوب بن أبي شيبة فيه التشديد.
وقال الهروي: هو مَقِيل له، وقيل: قرية بالشام، ولم يحك فيه غير التخفيف، وحكى أبو عبيد البكري قَدُومُ مخفف ثنية بالسَّرَاة، وقاله ابن دريد، قال: والمحدثون يشددونه.
قال البكري: وأما في حديث إبراهيم فمشدد، ورواه أبو الزناد بالتخفيف، وهو قول أكثر اللغويين، وحكاه البخاري عن سعيد.
واختلفت الرواية فيه عن أبي الزناد في حديث أبي هريرة بالتخفيف والتشديد، وحكى البكري عن محمد بن جعفر اللغوي، أن (قدوم) المكان مشدد معرفة، لا يدخله الألف واللام.
قال: ومن رواه في حديث إبراهيم مخففًا فإنما عنى الآلة التي يُنْجَرُ بها. إكمال المعلم (7/ 341).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
اختَلَف الرواة ‌في ‌تخفيف ‌دال ‌القدوم، ‌وتشديدها، واختلفوا أيضًا في معناها، فالذي عليه أكثر الرواة: التخفيف، ويعني به: آلة النَّجَّار، وهو قول أكثر أهل اللغة في آلة النجارة، ورواه بعضهم مشدَّدًا، وفسَّره بعض اللغويين بأنه موضع معروف بالشام، ومنهم من قال: بالسَّرَاة، وحُكي عن أبي جعفر اللُّغوي: قدُّوم: المكان مشدَّد معرفة، لا يدخله الألف واللام.
قال: ومن رواه في حديث إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- مخففًا، فإنما يعني بها: الآلة التي يُنْجَر بها، وفي الصحاح: القدوم الذي يُنحت به مخففًا، قال ابن السِّكيت: لا تقل: قدُّوم بالتشديد، والجمع: قُدُم، قال الأعشى -من المتقارب-:
أَقَامَ بِهِ شَاهَبُورُ الجنُو *** دِ حَوْلَينِ يَضرِبُ فِيهَا القُدُمْ
وجمع القُدُم: قدائم، مثل: قُلُص وقلائص، والقدوم أيضًا: اسم موضع مخفَّف.
ويحصل من أقوالهم: أن القدوم إذا أريد به الآلة فهو مخفف، وإذا أريد به الموضع ففيه التشديد والتخفيف، ويَحْتَمِل أن يراد بالقدوم في الحديث: الآلة والموضع. المفهم (6/ 182).
وقال النووي -رحمه الله-:
رُواةُ مُسلم متفقون على تخفيف «القَدُوم»، ووقع في روايات البخاريّ الخلاف في تشديده، وتخفيفه، قالوا: وآلة النَّجَّار يقال لها: قَدُوم بالتخفيف، لا غير، وأما «الْقَدُّوم» مكان بالشام، ففيه التخفيف، فمن رواه بالتشديد أراد القرية، ومن رواه بالتخفيف يَحْتَمِل القرية والآلة، والأكثرون على التخفيف، وعلى إرادة الآلة، وهذا الذي وقع هنا. شرح مسلم (15/ 122).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
والصحيح: أنَّ القَدُّوم في الحديث: الآلة؛ لما رواه البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو قالا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن عبد الله، حدثنا أبو عبد الرحمن المقري، حدثنا موسى بن علي، قال: سمعتُ أبي يقول: إن إبراهيم الخليل أمر أن يختن وهو ابن ثمانين سنة، فعجل فاختتن بقدوم، فاشتد عليه الوجع، فدعا ربه، فأوحى الله إليه: إنك عَجِلْتَ قبل أن نأمرك بالآلة، قال: يا ربّ كرهتُ أنْ أُؤخر أمرك، قال: وختن إسماعيل وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وختن إسحاق وهو ابن سبعة أيام. تحفة المودود بأحكام المولود (ص: 155- 154).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قال المهلب: القدوم بالتخفيف: الآلة، كقول الشاعر:
على خطوب مثل نحت القدوم.
وبالتشديد الموضع، قال: وقد يتفق لإبراهيم -عليه السلام- الأمران، يعني: أنه اختتن بالآلة، وفي الموضع. فتح الباري (11/ 90).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
وفي هذا الحديث: الحث على الختان على اختلاف بين الناس في وجوبه. الإفصاح عن معاني الصحاح (6/ 304).


ابلاغ عن خطا