الجمعة 28 رمضان 1446 هـ | 28-03-2025 م

A a

«السَّفَرُ قِطْعَةٌ من العذابِ، يمنعُ أَحدَكُم نومَهُ وطعَامَهُ وشرابَهُ، فإذا قضى أحدُكُم نَهمتَهُ، فَلْيُعَجِّلْ إلى أهلِهِ».


رواه البخاري برقم: (3001) واللفظ له، ومسلم برقم: (1927)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«السَّفَرُ»:
سفر: السين والفاء والراء: أصل واحد يدل: على الانكشاف والجلاء، من ذلك السَّفَرُ؛ سمي بذلك لأن الناس يَنْكَشِفُونَ عن أماكنهم. مقاييس اللغة، لابن فارس (3/ 82).
وقال الأزهري -رحمه الله-:‌
وسُمّي ‌السّفر ‌سفرًا؛ ‌لأنه ‌يُسفر عن وجوه المسافرين وأخلاقهم فيظهر ما كان خافيًا منها. تهذيب اللغة، للأزهري (12/279).
والسفر: قطْعُ المسافة. الصحاح، للجوهري (2/ 685).

«قِطْعَةٌ»:
أي: جزء. التوشيح شرح الجامع الصحيح، للسيوطي (3/ 1361).

«العَذَابُ»:
أصله في كلام العرب: الضرب، ثم استُعمِل في كلّ عقوبة مؤلمةٍ، واستُعِير للأمور الشاقة فقيل: «السفر قطعة من العذاب». المصباح المنير، للفيومي (ص: 207).
وقال ابن الجوزي-رحمه الله-:
والعذاب: الألم المستمر، والمسافر يتأذى بالمشي والركوب والسهر وغير ذلك. كشف المشكل(3/ 457).

«نَهمتَه»:
أي: حاجته. شرح المصابيح، لابن الملك (4/ 362).
والنَّهْمَةُ: بُلوغ الهِمَّة في الشَّيْء. النهاية، لابن الأثير (5/ 138).
ومنه: النهم من الجوع... بفتح نون وسكون هاء: الحاجة. مجمع بحار الأنوار، للفَتَّنِي (4/ 812).
قال الجوهري -رحمه الله-:
وقد نُهِمَ بكذا فهو مَنْهومٌ، أي: مولعٌ به. الصحاح (5/ 2047).


شرح الحديث


قوله: «السفر قطعة من العذاب»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «السفر قطعة من العذاب» أي: جزء منه، والمراد بالعذاب: الألم الناشئ عن المشقة لما يحصل في الركوب والمشي من ترك المألوف. فتح الباري (3/ 623).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
«السفر قطعة من العذاب» أي: لما فيه من المشقات والأنكاد، ومكابدة الأضداد، والامتناع من الراحات واللذات. المفهم (3/ 766).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
سئل إمام الحرمين -رحمه الله- حين جلس موضع أبيه: لِمَ كان «السفر قطعة من العذاب»؟ فأجاب على الفور: لأن فيه فراق الأحباب. فتح الباري (3/ 624).
وقال ابن حجر -رحمه الله- أيضًا:
قوله: «قطعة من العذاب» لأنَّ الرجل يشتغل فيه عن صلاته وصيامه. فتح الباري (3/ 623).
وقال الباجي -رحمه الله-:
يريد -والله أعلم- تعبه ومشقته، والتألم فيه لشدة الحر والبرد والمطر، قال الله -عزَّ وجلًّ-: {إِنْ كَانَ بِكُم أَذَىً مِن مَطَرٍ} النساء: 102، ومنع ما يمنع من النوم والطعام والشراب على الوجه المعتاد، وهذا يقتضي أن استجادته وإصلاحه ليس بمحظور؛ لأن ذلك يمنع منه السفر، وأما وجوده فلا يمنعه السفر؛ لأنه لا بد منه، -والله أعلم-. المنتقى شرح الموطأ (7/ 305).
وقال المناوي -رحمه الله-:
قوله: «السفر قطعة من العذاب» أي: جزء منه؛ لما فيه من التعب ومعاناة الريح والشمس والبرد والخوف والخطر وأكل الخشن وقلة الماء والزاد وفراق الأحبة، ولا يناقضه خبر «سافروا تغنموا»؛ إذ لا يلزم من الغُنْم بالسفر ألا يكون من العذاب لما فيه من المشقة، وقيل: السفر سقر، وقيل فيه:
وإن اغتراب المرء من غير خُلَّة *** ولا همة يسمو بها لعجيب
وحسب الفتى ذلًّا وإن أدرك العلا *** ونال الثريا أن يقال: غريب...
ومما عُلِمَ أن المراد: العذاب الدنيوي، وأما ما قيل: من أن المراد: العذاب الأخروي؛ بسبب الإثم الناشئ عن المشقة فيه، فناشئ عن عدم تأمل قوله «يمنع أحدكم... إلخ»؛ فإن قلتَ: لمَ عبَّر بالعذاب دون العقاب؟، قلتُ: لكون العذاب أعم؛ إذ العذاب الألم كما تقرَّر، وليس كل مؤلم يكون عقابًا على ذنب. فيض القدير (4/140-141).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «السفر قطعة من العذاب» أي: نوع من عذاب النار، وهو المذكور في قوله تعالى: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} المدثر: 17 ، أي: سأُكَلِّفه عقبةً شاقَّة المصعد، قال البيضاوي -رحمه الله-: هو مثل لما يلقى من الشدائد، والصحيح: أَنَّه على حقيقته. مرقاة المفاتيح (4/1681).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله: «السفر قطعة من العذاب» ويعني ذلك: عذاب الضمير وعذاب الجسم، ولاسيما الذي كان في الزمن السابق؛ حيث يسافرون على الإبل، ويكون فيها مشقات كبيرة؛ حَرٌّ في الصيف، وبرد في الشتاء. شرح رياض الصالحين (4/ 621-622).
وقال الدكتور موسى شاهين -رحمه الله-:
قوله: «السفر قطعة من العذاب» كثير المشاق مهما تيسَّرت وسائله، فيه فراق الأهل والوطن والمعارف، وفيه ترك الأموال والممتلكات، وفيه يصبح الإنسان غريبًا، عُرْضة للأخطار؛ لهذه المشاق الجسيمة والنفسية خفف الله عن الأمة الإسلامية بعض فرائضها؛ فأباح الفطر للصائم المسافر مع القضاء، ورخَّص للمصلي أن يقصر الصلاة الرباعية، وأن يصليها ركعتين في ثواب أربع ركعات، صدقة تصدق الله تعالى بها على عباده المسلمين. المنهل الحديث في شرح الحديث (1/ 83).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
قوله: «قطعة من العذاب» وهذا في الأسفار التي هي غير واجبة، ألا تراه يقول: «فإذا قضى نهمته فليعجل إلى أهله»، وإنما أشار إلى السفر الذي يختاره الإنسان لا أَربَ له فيه، ونهمة من تجارة، أو ضرب في الأرض للتقلب والجوَلَان، دون السفر الواجب من حج أو غزو أو نحوهما. أعلام الحديث (2/ 915-916).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
والظاهر: أن النَّهمة بمعنى: الحاجة مطلقًا، وأنَّ الحكم عام. مرقاة المفاتيح (6/ 2514).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
وليس كون «السفر قطعة من العذاب» بمانع أن يكون فيه منفعة ومصحة لكثير من الناس؛ لأن في الحركة والرياضة منفعة، ولا سيما لأهل الدعة والرفاهية، كالدواء المرِّ الْمُعْقب للصحة، وإنْ كان في تناوله كراهية. شرح صحيح البخاري (4/ 455).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
فيه: حجة لمن ذهب إلى تغريب الزاني سنة بعد الجلد؛ إذ سماه عذابًا، وقد قال -عزَّ وجلَّ-: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} النور: 2، وروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أَنَّه قال في البكر: «إذا زنى جُلِدَ مائة، وغُرِّبَ سنة». أعلام الحديث (2/ 915).

قوله: «يمنع أحدَكم نومَه وطعَامه وشرابَه»:
قال الدماميني -رحمه الله-:
«أحدَكم طعامَه وشرابَه ونومَه» بنصب الجميع؛ لأن منع يتعدى إلى مفعولين، فأحدَكم أحدُهما، وطعامَه: المفعولُ الآخر، وشرابَه: معطوفٌ عليه، ونومَه: إما على طعامه أو على شرابه؛ على الخلاف. مصابيح الجامع (4/ 235).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
قوله: «يمنع أحدَكم نومَه وطعَامه وشرابَه» يريد أنه يمنعه الطعام في الوقت الذي يريد أن يأكل فيه؛ لشغله بمسيره، ويمنعه النوع الذي يستوفقه منه لعيشه وغذائه، والنوم -كذلك أيضًا- يمنعه في وقته، واستيفاء القدر الذي يحتاج إليه لجمامه وراحته. أعلام الحديث (2/ 915-916).
وقال النووي -رحمه الله-:
قوله: «يمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه» معناه: يمنعه كمالها ولذيذها. شرح مسلم (13/ 70).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «يمنع أحدكم» كأنه فصله عما قبله بيانًا لذلك بطريق الاستئناف؛ كالجواب لمن قال: لما كان كذلك؟ فقال: «يمنع أحدكم نومه...» إلخ، أي: وجه التشبيه: الاشتمال على المشقة، وقد ورد التعليل في رواية سعيد المقبري، ولفظه: «السفر قطعة من العذاب؛ لأن الرجل يشتغل فيه عن صلاته وصيامه»؛ فذكر الحديث.
والمراد بالمنع في الأشياء المذكورة: منع كمالها لا أصلها، وقد وقع عند الطبراني بلفظ: «لا يهنأ أحدكم بنومه ولا طعامه ولا شرابه». فتح الباري (3/ 623).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«أحدكم نومه وطعامه وشرابه» المراد منه: منع كمال الْتِذَاذ المسافر بها؛ لكونها مقارنة بالمشقَّة. شرح المصابيح (4/ 361).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
قوله: «يمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه» فامتناع هذه الثلاثة التي هي أركان الحياة مع ما ينضاف إليها من شُقَّة السفر وتعبه؛ هو العذاب الذي أشار إليه. شرح صحيح البخاري (4/ 454).
وقال الدِّهْلوي -رحمه الله-:
والتخصيص بمنع النوم والطعام والشراب للرفق بهم، وإلا ففي السفر يفوت كثير من الأمور الدينية والدنيوية؛ كالجمعة والجماعات، وحقوق الأهل والقرابات. لمعات التنقيح (6/ 630).

وقوله: «فإذا قضى أحدكم نهمته»:
قال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: «فإذا قضى أحدكم نَهمتَه» من وجهه، النَّهمة -بفتح النون-: بلوغ الهمة والإرادة. إكمال المعلم (6/ 353).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
و«النَّهمة» -بفتح النون-: بلوغ الغرض، والوصول إلى المقصود. المفهم (3/ 766).

قوله: «فليعجل إلى أهله»:
قال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: «فليعجل إلى أهله» يحتمل أن يريد: تعجيل الأوبة، أو تعجيل السير، والأول أظهر، وعلى الوجه الثاني يكون الإسراع بالدواب وأعمالها لذلك؛ لضرورة قيامه على أهله وحاجتهم إليه. إكمال المعلم (6/ 353).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
قوله: «فليعجل إلى أهله» فيه: حضٌّ وندبٌ على سرعة رجوع المسافر إلى أهله عند انقضاء حاجته. شرح صحيح البخاري (4/ 454).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «فليعجل إلى أهله» أي: يسرع بالرجوع إلى أهله؛ ليزول عذابه، ويطيب له طعامه وشرابه، وتزول مشقته. المفهم (3/ 766).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
«فإذا قضى أحدكم نَهمتَه فليرجع إلى أهله» لكي يتعوض من ألم ما ناله؛ من ذلك الراحة والدعة في أهله، والعرب تشبِّه الرجل في أهله بالأمير. شرح صحيح البخاري (4/ 454).
وقال النووي -رحمه الله-:
قوله: «فليعجل إلى أهله» ... في هذا الحديث: استحباب تعجيل الرجوع إلى الأهل بعد قضاء شغله، ولا يتأخر بما ليس له بمهم. شرح مسلم (13/ 70).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«فليعجِّل إلى أهله» وفيه: ترجيح الإقامة على الأسفار غير الواجبة. شرح المصابيح (4/ 362).
وقال الباجي -رحمه الله-:
وجُعِلَ ذلك مما يُبيح التعجيل في السير. المنتقى شرح الموطأ (7/ 305).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«فليُعجل» بضم التحتية، «الرجوع إلى أهله» محافظة على فضل الجمعة والجماعة، وأداء للحقوق الواجبة لمن يمونه. فيض القدير (4/ 141).
وقال المناوي -رحمه الله- أيضًا:
قوله: «فليعجل» -بضم المثناة التحتية وسكون العين-، «الرجوع إلى أهله» محافظة على فضل الجمعة والجماعة، وراحة للبدن، «إن لنفسك عليك حقًّا». التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 70).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «فإذا قضى نَهمته فليعجل إلى أهله» أشار إلى السفر الذي له نهمة وأَرَبٌ من تجارة أو تقلُّب، دون السفر الواجب؛ كالحج والغزو. الكاشف عن حقائق السنن (8/ 2682).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
وفيه: الترغيب في الإقامة وترك الإكثار من السفر؛ لئلا تفوته الجمعات والجماعات، والحقوق الواجبة للأهل والولد والقرابات، وهذا في الأسفار التي هي غير واجبة. أعلام الحديث (2/ 915-916).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وفي الحديث: كراهة التغرُّب عن الأهل لغير حاجة، واستحباب استعجال الرجوع، ولا سيما من يخشى عليهم الضيعة بالغيبة؛ ولما في الإقامة في الأهل من الراحة المعينة على صلاح الدين والدنيا؛ ولما في الإقامة من تحصيل الجماعات، والقوة على العبادة. فتح الباري (3/ 623).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
في هذا الحديث من الفقه: أن المسافر...تكثر مؤنته، ويحتاج إلى حمل زاده ومائه، وقلَّ أنْ يمكنه إقامة فرائضه كاملة من جميع أقسامها، وأن يصلي الصلوات في جماعة، وأن يشتغل بالعلم والتعليم، كما كان في الحضَر، فلا ينبغي له أن يتعرَّض له إلا لحاجة، فإذا قضاها، فأولى أفعاله أن يسرع الكرَّة إلى أهله؛ ليكون مغتنمًا إنفاق عمره في الأربح فالأربح من أحوال أوقاته. الإفصاح عن معاني الصحاح (6/ 408).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
فليرجع الإنسان إلى الراحة، إلى أهله وبلده؛ ليقوم على أهله بالرعاية والتأديب وغير ذلك، وفي هذا: دليل على أن إقامة الإنسان في أهله أفضل من سفره؛ إلا أن يكون هناك حاجة، ووجهه: أن أهله يحتاجون إليه. شرح رياض الصالحين (4/ 622).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
ففيه: الترغيب في الإقامة، وتَرْك الإكثار من السَّفَر؛ لئلا تَفوتَه الجمُعة، والجماعات، والحُقوق الواجبة للأهل، والقَرابات، وهذا في غير الأسفار الواجبة. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (6/ 251).


ابلاغ عن خطا