«كُنَّا قعودًا في المسجدِ مع أبي هريرةَ -رضي الله عنه- فأذَّنَ المؤذنُ، فقام رجلٌ من المسجدِ يمشي فَأَتْبَعَهُ أبو هريرة -رضي الله عنه- بَصرَهُ حتى خرج من المسجدِ، فقال أبو هريرة -رضي الله عنه-: «أما هذا فقد عصى أبا القاسمِ -صلى الله عليه وسلم-».
رواه مسلم برقم: (655)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«قعودًا»:
أي: قاعدين. شرح المصابيح، لابن الملك (5/ 506).
وقال الجوهري -رحمه الله-:
يقال: قعد قعودًا ومعقدًا، أي: جلس. الصحاح (2/ 525).
والقعود: نقيض القيام، قعد للجلوس وللصلاة وللعدوِّ وغير ذلك. شمس العلوم، نشوان الحميري (8/ 5573).
«عصى»:
العِصيانُ: خلاف الطاعة، عصى العبد ربه: إذا خالف أمره، وعصى فلان أميره يَعْصِيه عَصْيًا وعِصْيانًا ومَعْصِيَةً: إِذا لم يُطِعْهُ. لسان العرب، ابن منظور (15/ 67).
شرح الحديث
قوله: «كُنّا قعودًا في المسجد مع أبي هريرة -رضي الله عنه-»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
قوله: «كُنَّا قعودًا في المسجد» النبوي. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (9/ 102).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
قوله: «كُنَّا قعودًا في المسجد» الظاهر: أنه المسجد النبوي، -والله تعالى أعلم-. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (14/ 251).
قوله: «فأذَّن المؤذِّن، فقام رجل من المسجد يمشي»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
قوله: «فأذّن المؤذِّن» للصلاة، «فقام رجل» من المسلمين من بيننا -ولم أر من ذكر اسمه- فخرج «من المسجد» حالة كونه «يمشي». مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (5/ 190-191).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«فقام رجل» ... في رواية أبي داود -رحمه الله-: «فخرج رجل حين أذن المؤذن بالعصر». البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (14/ 251).
قوله: «فأتبعه أبو هريرة -رضي الله عنه- بَصره حتى خرج من المسجد»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
قوله: «فأتبعه» أي: فأتبع ذلك الخارج، وألحقه «أبو هريرة -رضي الله عنه- بَصره» أي: نظر إليه بعينه لا يلتفت عنه، «حتى خرج» الرجل «من المسجد» واستتر عنهم؛ لبعده عنهم. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه(5/ 190-191).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله: «فأتبعه أبو هريرة -رضي الله عنه- بَصره» وإنما أتبعه بَصره؛ لينظر هل هو يمشي ليكون في جهة أخرى من المسجد أم ماذا يريد؟ فلما خرج تبين له أنه أراد الخروج من المسجد. شرح رياض الصالحين (6/ 558-559).
قوله: «أما هذا فقد عصى أبا القاسم -صلى الله عليه وسلم-»:
قال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «أما هذا» «أما» للتفصيل يقتضي شيئين فصاعدًا، والمعنى: أما من ثبت في المسجد، وأقام الصلاة فيه، فقد أطاع أبا القاسم، وأما هذا فقد عصى. الكاشف عن حقائق السنن (4/ 1137).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
قوله: «أما هذا» الرجل الخارج من المسجد بعد الأذان... «فقد عصى» وخالف «أبا القاسم» محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، أي: خالفه في سنته وشريعته؛ فإن الخروج من المسجد بعد الأذان ليس من شريعته، فدل هذا الأثر بمنطوقه على كراهية الخروج من المسجد بعد الأذان. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (5/ 191).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «أما هذا فقد عصى أبا القاسم» محمول على أنه حديث مرفوع إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ بدليل ظاهر نسبته إليه في معرض الاحتجاج به، وما كان يليق بواحد منهم للذي علم من دينهم وأمانتهم، وضبطهم وبعدهم عن التدليس ومواقع الإيهام، وكأنه سمع ما يقتضي تحريم الخروج من المسجد بعد الأذان فأطلق لفظ المعصية، فإذا ثبت هذا استثمر منه: أَنَّ من دخل المسجد لصلاة فرض فأذن مؤذن ذلك الوقت، حرم عليه أن يخرج منه لغير ضرورة حتى يصلي فيه تلك الصلاة؛ لأن ذلك المسجد تعين لتلك الصلاة، أو لأنه إذا خرج قد يمنعه مانع من الرجوع إليه أو إلى غيره فتفوته الصلاة. المفهم (2/ 281).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
يُشبه أنْ يكون أبو هريرة رضي الله عنه- سمع من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهيًا عن الخروج بعد الأذان، ثم إنَّ الأذان إنما هو استدعاء للغائبين، فإذا خرج الحاضر فقد فعل ضد المراد. كشف المشكل (3/ 594).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «أما هذا فقد عصى أبا القاسم -صلى الله عليه وسلم-» جعل أئمة الحديث مثل هذا له حكم الرفع، كما هو معروف في أصول الحديث، ودلّ أنه يحرم الخروج من المسجد بعد الأذان حتى يصلي المكتوبة. التحبير لإيضاح معاني التيسير (6/161).
وقال القاضي عياض-رحمه الله-:
قوله: «أما هذا فقد عصى أبا القاسم -صلى الله عليه وسلم-» تشديد في الخروج من المسجد بعد النداء لغير ضرورة؛ من تجديد طهر أو غيره. إكمال المعلم (2/ 628).
وقال النووي -رحمه الله-:
قوله في الذي خرج من المسجد بعد الأذان: «أما هذا فقد عصى أبا القاسم -صلى الله عليه وسلم-» فيه كراهة الخروج من المسجد بعد الأذان حتى يصلي المكتوبة إلا لعذر، -والله أعلم-. شرح صحيح مسلم(5/ 157-158).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «فقد عصى أبا القاسم -صلى الله عليه وسلم-» كأنه علم أَنَّ خروجه ليس لضرورة تبيح له الخروج لحاجة الوضوء مثلًا، ثم هو محمول على الرفع؛ لأن مثله لا يُعْرَف إلا من جهته -صلى الله عليه وسلم-. حاشية السندي على سنن ابن ماجه (1/ 249).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
إذا خرج من المسجد بعد الأذان ولا عذر له في خروجه مع كونه متطهرًا؛ لقد أشعر بأنه إنما كره صلاة الجماعة، فكانت معصية للنبي -صلى الله عليه وسلم-. الإفصاح عن معاني الصحاح (8/ 202)
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
ويحتمل: أنْ يكون معنى هذا النهي -والله أعلم-: لئلا يشبه فعل الشيطان في هروبه؛ لئلا يسمع النداء. شرح صحيح البخاري (2/ 235).
وقال ابن الهمام -رحمه الله-:
وهذا مُقيَّد بما بعده من أنْ لا يكون صلى، وليس ممن تنتظم به جماعة أخرى، فإن كان خرج إليهم -وفيه قيد آخر، وهو أن يكون مسجد حيِّهِ أو غيره- وقد صلوا في مسجد حيِّهِ، فإن لم يصلوا في مسجد حيَّهِ فله أن يخرج إليه، والأفضل ألا يخرج. فتح القدير (1/ 474).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
أجمعوا على القول بهذا الحديث لمن لم يُصَلِّ وكان على طهارة، وكذلك إذا كان قد صلى وحده إلا لما لا يعاد من الصلوات... فإذا كان ما ذكرنا فلا يحل له الخروج من المسجد بإجماع إلا أن يخرج للوضوء وينوي الرجوع...
وقد كره جماعة من العلماء: خروج الرجل من المسجد بعد الأذان إلا للوضوء لتلك الصلاة بنية الرجوع إليها، وسواء صلى وحده أو في جماعة أو جماعات.
وكذلك كرهوا قعوده في المسجد والناس يصلون؛ لئلا يتشبَّه بمن ليس على دين الإسلام، وسواء صلى أو لم يُصَلِّ، والذي عليه مذهب مالك -رحمه الله-: أنَّه لا بأس بخروجه من المسجد إذا كان قد صلى تلك الصلاة في جماعة...
قال مالك -رحمه الله- دخل أعرابي المسجد وأذن المؤذن؛ فقام بحل عقال ناقته ليخرج؛ فنهاه سعيد بن المسيب -رحمه الله- فلم يَنْتَهِ، فما سارت به غير يسير حتى وقعت به فأصيب في جسده، فقال سعيد -رحمه الله- قد بلغنا أنه من خرج بين الأذان والإقامة لغير الوضوء فإنه يصاب. التمهيد (24/ 213-214).
وقال ابن رشد -رحمه الله-:
قول سعيد -رحمه الله-: وقد بلغني أنه من خرج بعد المؤذن خروجًا لا يرجع إليه أصابه أمر سوء، معناه: أن ذلك بلغه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ إذ لا يقال مثله بالرأي، وهي عقوبة مُعَجَّلة من الله -عزَّ وجلَّ - للخارج بعد الأذان من المسجد على أن لا يعود إليه؛ لإيثاره تعجيل حوائج دنياه على الصلاة التي حضر وقتها، قال -عزَّ وجلَّ-: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} الشورى: 30، وأمّا إن خرج راغبًا عنها، وآبيًا من فعلها فهو منافق، وقد قال سعيد بن المسيب -رحمه الله-: بلغني أنه لا يخرج أحد من المسجد بعد النداء إلا أحد يريد الرجوع إليه- إلا منافق. البيان والتحصيل (17/ 105).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
وأما الخروج بعد الأذان لغير عذر، فمنهي عنه عند أكثر العلماء...، ويروى عن إبراهيم النخعي -رحمه الله- أنه قال: يخرج ما لم يأخذ المؤذن في الإقامة، فمفهومه: جواز الخروج قبل الإقامة، وقد حمله الترمذي -رحمه الله- على العذر... وهذا كله إذا أذن المؤذن في وقت الصلاة، فإذا أذن قبل الوقت، فإن كان لغير الفجر فلا عبرة بهذا الأذان؛ لأنه غير مشروع، وإن كان للفجر فيجوز الخروج من المسجد بعد الأذان قبل طلوع الفجر للمؤذن...
وغير المؤذن في معناه، فإن حكم المؤذن في الخروج بعد الأذان من المسجد كحكم غيره في النهي عند أكثر العلماء -رحمهم الله-، ونص عليه أحمد وإسحاق وقال: لا نعلم أحدًا من السلف فعل خلاف ذلك. فتح الباري (3/595-596).
وقال محمود خطاب السُّبْكي رحمه الله-:
وإلى تحريم الخروج من المسجد بعد الأذان ذهبت الحنابلة، وقالت المالكية: بالكراهة عَقِب الأذان وقبل الإقامة، ويحرم بعدها، وذهبت الحنفية والشافعية إلى الكراهة أيضًا. المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود(4/ 218).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
ورخص فقهاء أهل الكوفة -منهم: سفيان وغيره- في أن يخرج المؤذن من المسجد بعد أذانه للأكل في بيته. فتح الباري (3/ 596).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
استدل العلماء -رحمهم الله- بهذا الحديث على أنه يحرم الخروج من المسجد بعد الأذان لمن تلزمه الصلاة إلا لعذر، فمن العذر: أن يكون حاقنًا، يعني: يحتاج إلى بول، أو حاقبًا يحتاج إلى غائط، أو معه ريح محتبسة يحتاج إلى أن ينقض الوضوء، أو أصابه مرض يحتاج إلى أن يخرج معه، أو كان إمامًا لمسجد آخر، أو مؤذنًا في مسجد آخر.
وأما إذا خرج من هذا المسجد ليصلي في مسجد آخر فهذا فيه توقف، قد يقول قائل: فالحديث عام، وقد يقول قائل: إن الحديث فيمن خرج؛ لئلا يصلي مع جماعة، وأما من خرج من مسجد ليصلي في آخر فهذا لم يَفِرَّ من صلاة الجماعة، ولكنه أراد أن يصلي في مسجد آخر، وعلى كلٍّ: لا ينبغي أن يخرج حتى وإن كان يريد أن يصلي في مسجد آخر إلا لسبب شرعي، مثل: أن يكون في المسجد الثاني جنازة يريد أن يصلي عليها، أو يكون المسجد الثاني أحسن قراءة من المسجد الذي هو فيه، أو ما أشبه ذلك من الأسباب الشرعية، فهنا نقول: لا بأس أن يخرج. شرح رياض الصالحين (6/ 559).
وقال محمود خطاب السُّبْكي -رحمه الله-:
ومن الأعذار المبيحة أيضًا للخروج من المسجد بعد الأذان: ما أحدث أهل زماننا في المساجد من البدع كرفع الصوت بقراءة قرآن أو ذكر؛ لأنه يشوّش على المتعبدين، وكالتبليغ لغير حاجة إليه، وكأن يكون إمام الصلاة لابسًا للحرير أو الذهب، أو غير مؤدٍّ للصلاة على الهيئة التي كان عليها النبي -صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم- والخلفاء الراشدون من بعده، إلى غير ذلك من المخالفات التي ذِكْرُها يطول... فعن مجاهد بن جبر -رحمه الله- قال: كنت مع عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي اللَّه تعالى عنهما- فثوّب رجل -أي: قال: الصلاة خير من النوم- في الظهر أو العصر، فقال ابن عمر -رضي الله عنه- لمجاهد -رحمه الله-: اخرج بنا فإن هذه بدعة. المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود(4/ 218-219).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
مقصود البخاري بهذا الباب (باب: هل يخرج من المسجد لعلة؟): أنه يجوز لمن كان في المسجد بعد الأذان أو بعد الإقامة أن يخرج منه لعذر، والعذر نوعان:
أحدهما: ما يحتاج إلى الخروج معه من المسجد، ثم يعود لإدراك الصلاة فيه، مثل أن يذكر أنه على غير طهارة، أو ينتقض وضوؤه حينئذٍ، أو يدافعه الأخبثان، فيخرج للطهارة، ثم يعود فيلحق الصلاة في المسجد، وعلى هذا دل حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- الْمُخَرَّج في هذا الباب.
والثاني: أن يكون العذر مانعًا من الصلاة في المسجد كبدعة إمامه ونحوه، فيجوز الخروج منه أيضًا للصلاة في غيره، كما فعل ابن عمر -رضي الله عنه، روى أبو داود من حديث أبي يحيى القتات عن مجاهد قال: كنتُ مع ابن عمر، فثوَّب رجل في الظهر أو العصر، فقال: اخرج بنا؛ فإن هذه بدعة. فتح الباري (5/ 425-426).
وقال العيني -رحمه الله-:
وفيه: كراهة الخروج من المسجد بعد الأذان حتى يصلي المكتوبة إلا لعذر من انتقاض طهارة، أو فوات رفقة، أو كان مؤذنًا في مسجد آخر، ونحو ذلك. شرح أبي داود (2/ 504).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده (أي: هذا الحديث):
1. منها: بيان النهي عن الخروج من مسجد قد أُذِّن فيه قبل أداء الصلاة.
2. ومنها: أن هذا التحريم مقيَّد بمن لا عذر له...
3. ومنها: أن ظاهر الحديث يدل على تحريم الخروج من المسجد بعد الأذان؛ لأنه -وإن كان موقوفًا- لكنه في حكم المرفوع؛ إذ مثل هذا لا يقال من قِبَلِ الرأي، بل قد جاء ما يدلُّ على رفعه صريحًا. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (14/ 253).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
واعلم أن قول الصحابي: من فعل كذا فقد عصى الرسول، مما اختلف في أنه مرفوع أو موقوف، والصحيح الراجح: أنه مرفوع. مرعاة المفاتيح (3/ 523).