«أَحْصُوا هلالَ شعبانَ لرمضانَ، ولا تَخْلِطُوا برمضانَ، إلا أنْ يُوَافِقَ ذلك صيامًا كان يَصُومُهُ أحدُكُمْ، وصُومُوا لرؤيتِهِ، وأَفْطِرُوا لرؤيتِهِ، فإنْ غُمَّ عليكم، فإنَّها ليستْ تُغْمَى عليكم العِدَّةُ».
رواه الترمذي برقم: (687) مختصرًا، والدارقطني برقم: (2174) واللفظ له، والبيهقي في السنن الكبرى برقم: (7941)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (199)، سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (565).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«أحصوا»:
بفتح الهمزة: أمرٌ من الإحصاء وهو: العَدُّ؛ أي: عُدُّوا أيامه لتعلموا دخول رمضان. شرح المصابيح لابن الملك (2/ 511).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
والإحصاء: الإفراط في التقصي والاستئثار. كشف المشكل(4/ 451).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
الإحصاء: الإحاطة بالشيء حصرًا وتعدادًا. الميسر في شرح مصابيح السنة (2/ 438).
«لا تخلطوا»:
أي: لا تخلطوا أول أيام رمضان بآخر يوم أو يومين من شعبان. جامع الأحاديث للسيوطي (1/ 492).
يقال: خلط الشيء بالشيء: مَزَجَهُ به. شمس العلوم لنشوان الحميري (3/ 1899).
«غُمَّ»:
أي: إن غُطِّي عليكم الأمر فلم تروا الهلال. حلية الفقهاء لابن فارس (ص: 107).
والغيم: المزن والسحاب من أسماء الغيم، الواحدة غمامة، والجميع: غَيْمٌ. غريب الحديث لإبراهيم الحربي (1/ 17).
أي: ستره الغمام. مشارق الأنوار للقاضي عياض (2/ 135).
يقال: غُمَّ علينا الهلال: إذا حال دون رؤيته غيم أو نحوه، من غَمَمْتُ الشيء إذا غَطَّيْتُه. النهاية لابن الأثير (3/ 388).
شرح الحديث
قوله: «أحصوا هلال شعبان لرمضان»:
قال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «أحصوا هلال شعبان لرمضان» أحصى الرجل: إذا علِم وعَدَّ عددًا، يعني: اطلبوا هلال شعبان واعلموه، وعُدُّوا أيامه؛ لتعملوا دخول رمضان. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 16).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «أحصوا» أي: عُدُّوا، والإحصاء أبلغ في الضبط؛ لما فيه من إفراغ الجهد في العَدِّ. الكاشف عن حقائق السنن (5/ 1582).
وقال السيوطي -رحمه الله-:
قال العراقي: يحتمل أنَّ المراد: «أحصوا» استهلاله حتى تكملوا العِدَّة إن غُمَّ عليكم، ويدل عليه الزيادة التي عند الدارقطني. والمراد: تراؤوا هلال شعبان، وأحصوه ليُرَتَّبَ رمضان عليه بالاستكمال، أو الرؤية. قوت المغتذي على جامع الترمذي (1/ 259).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«أحصوا» -بفتح الهمزة-: أَمْرٌ من الإحصاء، وهو في الأصل: العَدُّ بالحصى، أي: عُدُّوا «هلال شعبان» أي: أيامه، «لرمضان» أي: لأجل رمضان أو للمحافظة على صوم رمضان... مرقاة المفاتيح (4/ 1377).
قال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
«أحصوا هلال شعبان» أي: اجتهدوا في إحصائه وضبطه، بأنْ تتحرَّوا مطالِعَهُ، وتتراؤوا منازله؛ «لرمضان» أي: لأجل أن تكونوا على بصيرة في إدراك هلال رمضان على حقيقته، حتى لا يفوتكم منه شيء.
ويُؤخذ منه مسألة لم نرها لأحد من أئمتنا، وهي أنه يُسنُّ، بل يجب -عملًا بالقاعدة المشهورة: أنَّ الأمر للوجوب حقيقة، إلا أن يَرِدَ ما يصرفه عن ذلك-: على الناس على الكفاية التحرِّي والاجتهاد في الإحاطة بهلال شعبان؛ لما فيه من المصلحة التي هي إدراك رمضان من غير أن يفوت منه شيء، وذكر بعض أصحابنا: أنَّ من فروض الكفايات رؤية الهلال في كل شهر؛ لما يترتب على ذلك من المصالح العامة، وهذا غير ما في الحديث؛ لأن الذي فيه الإحصاء: هلال شعبان؛ لأجل رمضان، والذي قال بذلك البعض من إحصاء كل هلال؛ لأجل نفسه، وما يرتبط به من الآجال والتعاليق ونحوها. فتح الإله شرح المشكاة (6/458).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«أحصوا هلال شعبان لرمضان» الهلال: غُرَّة القمر، والإحصاء هنا: من الحفظ، من قولك: أحصيتُ الشيء إذا حفظته، أي: احفظوا ليلة رؤيته لتعرفوا أول رمضان بيقين، أو من الإحصاء وهو: التَّعدَاد، أي: أحصوا عِدَّة شعبان، وذلك بعد معرفة ليلة هلاله. التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 426).
قوله: «ولا تخلطوا برمضان»:
قال ابن الملقن -رحمه الله-:
وقد دل أن الكراهة على تعمُّد الصيام بحال رمضان. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (13/ 69).
وقال العيني -رحمه الله-:
الحكمة في النهي عن التقديم بصوم يوم أو يومين، هي: أن لا يختلط صوم الفرض بصوم نفل قبله ولا بعده؛ تحذيرًا مما صنعت النصارى في الزيادة على ما افترض عليهم برأيهم الفاسد. عمدة القاري (10/ 272).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
الحكمة في النهي عن الصوم ليتقوَّى بالفطر؛ ليدخل في رمضان بقوة ونشاط. شرح سنن أبي داود (10/ 301).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قال العلماء: معنى الحديث: لا تستقبلوا رمضان بصيام على نية الاحتياط لرمضان...والحكمة فيه: التقوِّي بالفطر لرمضان؛ ليدخل فيه بقوَّة ونشاط، وهذا فيه نظر؛ لأن مقتضى الحديث: أنه لو تقدمه بصيام ثلاثة أيام أو أربعة جاز، وسنذكر ما فيه قريبًا، وقيل: الحكمة فيه: خشية اختلاط النفل بالفرض، وفيه نظر أيضًا؛ لأنه يجوز لمن له عادة -كما في الحديث-، وقيل: لأن الحكم عُلِّق بالرؤية؛ فمن تقدَّمه بيوم أو يومين فقد حاول الطعن في ذلك الحكم، وهذا هو المعتمد. فتح الباري (4/ 128).
قوله: «إلا أن يوافق ذلك صيامًا كان يصومه أحدكم»:
قال ابن الأثير -رحمه الله-:
يريد أن يكون عليه نذر صوم أيام الخميس مثلًا؛ فكان يوم الشك يوم الخميس، أو كان من عادته أن يصوم يوم الاثنين مثلاً تطوعًا، فأبين أن يوم الشك كان يوم الاثنين، فإنه يصوم ذلك اليوم استصحابًا لعادته أو لنذره. الشافي في شرح مسند الشافعي (3/ 171).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
ومعنى الاستثناء: أن مَن كان له وردٌ فقد أُذِنَ له فيه؛ لأنه اعتاده وألِفَهُ، وتَرْكُ المألوف شديد، وليس ذلك من استقبال رمضان في شيء، ويلتحق بذلك: القضاء والنذر؛ لوجوبهما، قال بعض العلماء: يستثنى القضاء والنذر بالأدلة القطعية على وجوب الوفاء بهما؛ فلا يبطل القطعيُّ بالظن. فتح الباري (4/ 128).
وقال الرملي -رحمه الله-:
«إلا أن يوافق ذلك صيامًا كان يصومه أحدكم» ولا أن يوافق نذرًا؛ أي: بأن صامه عن نذر؛ أي: أو قضاء أو كفارة؛ فإنه يصح صومه قياسًا على الورد. فتح الرحمن بشرح زبد ابن رسلان (ص: 486).
وقال العيني -رحمه الله-:
فدل على أن ما بعد النصف من شعبان إلى رمضان حكمه في الصوم كحكم الصوم في سائر الأزمان المباح صومه. نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار (8/ 465).
وقال البغوي -رحمه الله-:
والعمل على هذا عند أهل العلم، كرهوا استقبال شهر رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يوافق صومًا كان يصومه رجلٌ، أو صامه عن قضاء، أو نذر عليه.شرح السنة(6/237)
قوله: «وصوموا لرؤيته»:
قال الشافعي -رحمه الله-:
وبهذا كله نأخذ، والظاهر من أمر رسول الله -والله أعلم-: أن لا يُصَام حتى لا يُرَى الهلال، ولا يُفْطَر حتى يُرَى الهلال؛ لأن الله جعل الأهِلَّة مواقيت للناس والحج، وقدرها يتم وينقص، فأمرهم الله أن لا يصوموا حتى يروا الهلال، على معنى: أن ليس بواجب عليكم أن تصوموا حتى تروا الهلال، وإن خفتم أن يكون قد رآه غيركم فلا تصوموا حتى تروه على أن عليكم صومه. اختلاف الحديث (ص183).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
فأحال على الرؤية، ونحن نرى الشهر يكون مرة ثلاثين، ومرة تسعة وعشرين؛ فعُلِم أن قوله: «الشهر تسع وعشرون»: أن ذلك قد يكون في بعض الأحوال. شرح صحيح البخاري (4/ 28).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله:
أما قوله -صلى الله عليه وسلم-: «صوموا لرؤيته» فمعناه: صوموا اليوم الذي يلي ليلة رؤيته من أوله، ولم يُرِدْ: صوموا من وقت رؤيته؛ لأن الليل ليس بموضع صيام، وإذا رُئِيَ الهلال نهارًا فإنما هو لليلة التي تأتي، هذا هو الصحيح -إن شاء الله-. التمهيد (2/ 47).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
ثم لما ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- الحكم في النهي عن صومه إلا لمن وافق صومه- قيد ذلك الحكم بقضية مُطَّرِدة، فقال: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته»؛ فكان ذلك زيادة في البيان وتأكيده. الشافي في شرح مسند الشافعي (3/ 171).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
في هذا الحديث من الفقه: وجوب الصوم برؤية هلال رمضان... إلا أنه إذا رأى هلال رمضان عَدْلٌ واحد، وجب عليه صيامه وعلى الناس بقوله، وهو مذهب الشافعي وأحمد، وأبو حنيفة يفرق بين الليلة المعتمة المصحية. الإفصاح عن معاني الصحاح (7/ 198).
وقال النووي -رحمه الله-:
قوله -صلى الله عليه وسلم-: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» المراد: رؤية بعض المسلمين، ولا يشترط رؤية كل إنسان؛ بل يكفي جميعَ الناس رؤيةُ عدلين، وكذا عدل على الأصح؛ هذا في الصوم. شرح مسلم (7/ 190).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
فتبين أن ديننا لا يحتاج إلى حساب ولا كتاب، كما يفعله أهل الكتاب من ضبط عباداتهم بمسير الشمس وحُسْباناتها، وأن ديننا في ميقات الصيام معلق بما يُرَى بالبصر وهو رؤية الهلال، فإن غُمَّ أكملنا عِدَّة الشهر ولم نحتجْ إلى حساب. فتح الباري (3/ 67).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
ظاهره: إيجاب الصوم حين الرؤية متى وُجِدَت ليلًا أو نهارًا؛ لكنه محمول على صوم اليوم المستقبل، وبعض العلماء: فرَّق بين ما قبل الزوال أو بعد، وخالف الشيعة الإجماع فأوجبوه مطلقًا، وهو ظاهر في النهي عن ابتداء صوم رمضان قبل رؤية الهلال؛ فيدخل فيه صورة الغيم وغيرها. فتح الباري (4/ 121).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«لرؤيته» اللام فيه للتوقيت، والمراد برؤيته: رؤية بعض المسلمين له. منحة الباري بشرح صحيح البخاري (4/ 349).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«صوموا لرؤيته» أي: هلال رمضان المدلول عليه بالسياق، أي: لوقت الرؤية، وقد عُلِمَ أن الصوم الشرعي هو الإمساك عن المفطرات نهارًا مع تبييت النية؛ فلا يَرِدُ أنه يلزم الصوم عند الرؤية وحالها، وقيل: اللام بمعنى: بعد. التنوير شرح الجامع الصغير (7/ 17)
وقال الكنكوهي -رحمه الله-:
فإن لفظة: «صوموا» عامَّة خُوطِب بها كل من يصلح للخطاب حيث ما كان، وترك فاعل الرؤية؛ فهي مطلقة تتحقق بتحقق الفرد الواحد أيضًا؛ فكان المعنى: يا أيها المؤمنون كلهم صوموا إذا وجد الرؤية، وأنت تعلم أن رؤية أصحاب بلد رؤية فأمروا بالصيام عند ذلك، ولعل الوجه في قوله -صلى الله عليه وسلم- ذلك البناء على الاتفاق ما أمكن؛ فإن اتفاق الأمة في العادات والعبادات مقصود ما أمكن زمانًا أو مكانًا أو بحسبهما معًا، وهذا التقرير موقوف على مزيد تدبُّر في مباني الأحكام. الكوكب الدري على جامع الترمذي (2/ 34).
وقال الشيخ فيصل بن المبارك -رحمه الله-:
في هذا الحديث: دليل على أنه لا يجب صوم رمضان إلا برؤية هلاله، أو إكمال عدة شعبان ثلاثين يومًا. تطريز رياض الصالحين (ص: 688).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فصوموا» أي: انووا الصيام وبِيْتُوا على ذلك، أو صوموا إذا دخل وقت الصيام، وهو من فجر الغد، «لرؤيته» الضمير للهلال وإن لم يسبق له ذكر؛ لدلالة السياق عليه، واللام للتوقيت. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (12/ 332).
قوله: «وأفطروا لرؤيته»:
قال الشافعي -رحمه الله-:
ولا تفطروا حتى تروه؛ لأن عليكم إتمامه. اختلاف الحديث (ص: 183).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
ولا يحل للصائم أن يفطر حتى يرى هلال شوال. الإفصاح عن معاني الصحاح (7/ 198).
وقال النووي -رحمه الله-:
وأما الفطر فلا يجوز بشهادة عدل واحد على هلال شوال عند جميع العلماء، إلا أبا ثور فجوَّزَه بعدل. شرح مسلم (7/ 190).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«وأفطروا لرؤيته»، أي: هلال شوال، والرؤية مضافة إلى المفعول، وقد حذف الفاعل، أي: لرؤيتكم إياه، ويكفي رؤية من يكمل به نصاب شهادته من واحد على قول -كما اخترناه في حاشية الضوء- أو اثنين. التنوير شرح الجامع الصغير (7/ 17).
قوله: «فإن غُمَّ عليكم»:
قال الشافعي -رحمه الله-:
يعني: فيما قبل الصوم من شعبان، ثم تكونوا على يقين من أن يكون لكم الفطر؛ لأنكم قد صمتم كمال الشهر. اختلاف الحديث (ص: 183).
وقال النووي -رحمه الله-:
معناه: حال بينكم وبينه غيم يقال: غُمَّ وَأُغْمِيَ وَغُمِّيَ وَغُمِيَ بتشديد الميم وتخفيفها، والغين مضمومة فيهما. ويقال: غُبِّيَ بفتح الغين وكسر الباء. وكلها صحيحة وقد وَغَيَّمَتْ وَأَغَامَتْ وَتَغَيَّمَتْ وَأَغَمَّتْ وفي هذه الأحاديث دلالة لمذهب مالك والشافعي والجمهور، أنه لا يجوز صوم يوم الشك ولا يوم الثلاثين من شعبان عن رمضان إذا كانت ليلة الثلاثين ليلة غيم.شرح مسلم(7/١٩٠)
قوله: «فإنها ليست تغمى عليكم العدة»:
قال ابن عبد البر -رحمه الله-:
وفيه: أن اليقين لا يزيله الشك، ولا يزيله إلا يقين مثله؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- أمر الناس ألا يَدَعُوا ما هم عليه من يقين شعبان إلا بيقين رؤية، واستكمال العدة، وأن الشك لا يعمل في ذلك شيئًا؛ ولهذا نهى عن صوم يوم الشك؛ اطراحًا لإعمال الشك، وإعلامًا أن الأحكام لا تجب إلا بيقين لا شك فيه، وهذا أصل عظيم من الفقه؛ ألّا يدع الإنسان ما هو عليه من الحال المتيقنة إلا بيقين من انتقالها. التمهيد (2/ 44).