«قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو بمكةَ وأرادَ الخروجَ، ولم تكنْ أمُّ سلمةَ طافتْ بالبيت وأرادتِ الخروجَ، فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إذا أُقيمتْ صلاةُ الصبحِ، فطوفي على بعيرِكِ، والناسُ يصلون، فَفَعَلَتْ ذلك، فلم تُصلِّ حتى خَرَجَتْ».
رواه البخاري برقم: (1626)، من حديث أُمِّ سلمة -رضي الله عنها-، وعند النسائي برقم: (2926) بلفظ: «ما طفت طواف الخروج، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: إذا أُقيمت الصلاة فطُوفي على بعيرك من وراء الناس»، صحيح سنن النسائي برقم: (2926).
شرح مختصر الحديث
.
شرح الحديث
قوله: «ولم تكن أم سلمة طافت بالبيت وأرادت الخروج»:
قال القسطلاني -رحمه الله-:
لأنها كانت شاكية. إرشاد الساري (3/ 176-177).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
وقد عُلِمَ من هذه الرواية: أنَّ القصة لطواف الوداع، ويدل عليه أيضًا: رواية النسائي عنها قالت: «يا رسول الله، والله ما طُفت طواف الخروج». مرعاة المفاتيح (9/ 125).
قوله: «قال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إذا أقيمت صلاة الصبح فطوفي على بعيرك»:
قال ابن بطال -رحمه الله-:
قال المهلب: فيه جواز دخول الدواب التي تؤكل لحومها، ولا ينجس بولها المسجد إذا احتيج إلى ذلك، وأما دخول سائر الدواب فلا يجوز وهو قول مالك.
وفيه: أن راكب الدابة ينبغي له أن يتجنب ممر الناس ما استطاع، ولا يخالط الرجَّالة، وكذلك ينبغي أن تخرج النساء إلى حواشي الطرق، وقد استنبط بعض العلماء من هذا الحديث: طواف النساء بالبيت من وراء الرجال؛ لعلة التزاحم والتناطح، قال غيره: طواف النساء من وراء الرجال هي السنة؛ لأن الطواف صلاة، ومن سنة النساء في الصلاة أن يكنّ خلف الرجال، فكذلك الطواف. شرح صحيح البخاري (2/112).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وتُعُقِّب (يعني: ابن بطال) بأنه ليس في الحديث دلالة على عدم الجواز مع عدم الحاجة، بل ذلك دائر على التلويث وعدمه، فحيث يخشى التلويث يمتنع الدخول، وقد قيل: إن ناقته -صلى الله عليه وسلم- كانت مُنَوَّقة، أي: مدربة معلمة، فَيُؤْمَنُ منها ما يُحْذَرُ من التلويث وهي سائرة، فيحتمل أن يكون بعير أم سلمة كان كذلك. فتح الباري (1/ 557).
وقال الكماخي -رحمه الله-:
القول بأنَّ الناقة مُنَوَّقَةٌ لم يثبت، إنما أبداه الحافظ احتمالًا، ترجَّى أنَّ بعير أم سلمة كذلك ممنوع. المهيأ في كشف أسرار الموطأ (2/ 436).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
وقد روي عن عمر أنه نهى عن الطواف بالبيت راكبًا على فرس ونحوها، فروى سفيان عن عمرو بن دينار قال: طاف رجل بالبيت على فرس، فمنعوه، فقال: أتمنعوني؟ فكتب في ذلك إلى عمر بن الخطاب، فكتب عمر: أن امنعوه.
وإنما منع عمر من ذلك مبالغة في صيانة المسجد؛ ولئلا يؤذي الراكب الماشين في الطواف، -والله سبحانه وتعالى أعلم-. فتح الباري (3/ 367).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
ويستنبط منه: أن الجماعة في الفريضة ليست فرضًا على الأعيان؛ إلا أن يقال: كانت أم سلمة حينئذٍ شَاكِية فهي معذورة، أو الوجوب يختص بالرجال. فتح الباري (2/ 254).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
اعلم أنه اتفق الجمهور على كراهة ابتداء الطواف ومنعه عند إقامة المكتوبة، وأما قطع الطواف للمكتوبة أو لصلاة الجنازة أو لغيرهما من الأعذار فاختلف العلماء فيه. مرعاة المفاتيح (9/126).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
اختلف العلماء فيمن طاف بالبيت راكبًا ومحمولًا، فقال مالك: إن كان من عذر أجزأهما، وإن كان من غير عذر أعادا جميعًا، وإن رجع المحمول إلى بلده كان عليه أن يهدي دمًا.
قال: ولو طاف بصبي وسعى بين الصفا والمروة أجزأه عن نفسه وعن الصبي إذا نوى ذلك، وهو قول الليث في الطواف والسعي عنده بمنزلة الطواف.
وقال مالك: في المريض يطاف به محمولًا ثم يفيق أحب إليَّ أن يُعِيد ذلك الطواف، وذكر ابن القاسم عنه قال: يطوف لنفسه من أراد أن يطوف بالصبي، ثم يطوف بالصبي، ولا يركع عنه ولا شيء على الصبي في ركعتيه.
قال: ومن طاف بالبيت محمولًا من غير عذر قال ابن القاسم: أرى أن يعيد، فإن رجع إلى بلاده عاد فطاف وأهراق دمًا، وإن طاف راكبًا أعاد، وإن طال فعليه دم، وإن سعى بالصبي من لم يسعَ بين الصفا والمروة فهو أخف من الطواف بالبيت ويجزئه، ولا بأس أن يسعى لنفسه والصبي معه سعيًا واحدًا ويجزئهما جميعًا على راحلته.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن طاف راكبًا من غير عذر فعليه أن يعيد إن كان بمكة، وإن رجع إلى الكوفة فعليه دم، وإن طاف راكبًا من عذر أجزأه، وكذلك المحمول عند محمد بن الحسن فقال: لو طاف بأمه حاملًا لها أجزأه عنه وعنها، وكذلك لو استأجرت امرأة رجلًا يطوف بها حاملًا كان الطواف لهما جميعًا والأجر له.
وقال الشافعي: طاف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين الصفا والمروة راكبًا من غير مرض، ولكنه أحبَّ أن يُشرف للناس يسألونه، وليس أحد مثله، وأكثر ما طاف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ماشيًا؛ فمن طاف راكبًا من غير عِلَّة فلا إعادة عليه ولا فدية، ولا أحب لمن طاف ماشيًا أن يركب، فإن طاف راكبًا أو حاملًا من عذر أو غيره فلا دم عليه.
وحجته... أن النبي -صلى الله عليه وسلم- طاف بالبيت على راحلته يستلم الركن بمحجنه.
قال ابن جريج: وأخبرني أبو الزبير عن جابر قال: «طاف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع بالبيت، وبين الصفا والمروة على راحلته؛ ليراه الناس، وليشرف لهم إنِ الناس غَشُوْهُ.
وقال أبو ثور: إذا كان الرجل مريضًا فطاف محمولًا أو على دابة أجزأه ذلك، وإن طاف راكبًا أو محمولًا من غير علة ولا عذر لم يجزه ذلك، وكان عليه أن يعيد، وكان بمنزلة من صلى وهو صحيح قاعدًا.
قال أبو عمر: أما من صلى وهو صحيح قادر على القيام جالسًا فصلاته باطلة بإجماع من العلماء- إذا كان إمامًا أو منفردًا، فكيف يقاس على هذا الأصل ما فرقت السُّنَّة بينهما بما ذكرنا من حديث ابن عباس وغيره: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طاف على راحلته ولم يقل: إن طوافي ذلك لعذر، ولا نقل ذلك من يُوْثَقُ بنقله، ومعلوم أن التَّأسِّي به مباح أو واجب؛ حتى يتبين أنه له خصوص بما لا دفع فيه من الخبر اللازم، إلا أنه قد روي في حديث... عن ابن عباس: «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدم مكة وهو يشتكي؛ فطاف على راحلته، كلما أتى الركن استلمه بِمِحْجَن، فلما فرغ من طوافه أناخ فصلى». الاستذكار (4/213-214).
قوله: «والناس يصلون، ففعلتْ ذلك، فلم تُصلِّ حتى خرجت»:
قال النووي -رحمه الله-:
إنَّما طافت في حال صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ ليكون أَستر لها، وكانت هذه الصلاة صلاة الصبح، -والله أعلم-. شرح مسلم (9/ 20).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
الاحتراز عن طواف النساء مع الرجال مهما أمكن: أحسنُ، حيث أجاز لها في حال إقامة الصلاة التي هي حالة اشتغال الرجال بالصلاة، لا في حال طواف الرجال، -والله تعالى أعلم-. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (25/ 206).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«فلم تُصَلِّ» أي: ركعتي الطواف، «حتى خرجت» أي: من المسجد، أو من مكة، ثم صلت. منحة الباري بشرح صحيح البخاري (4/115).
وقال الكشميري -رحمه الله-:
قوله: «فلم تُصَلِّ حتى خرجت»... إلخ، لا أدري ماذا أراد به، خروجَها من الحرم أو مكة أو المسجد الحرام؟ ولو تعيَّنَ لنفعنا في مسألة الأوقات المكروهة؛ لكونها بين يدي النبيِّ -صلى الله عليه وسلّم-. فيض الباري على صحيح البخاري (3/ 225).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وموضع الحاجة من هنا: قوله في آخره: «فلم تُصَلِّ حتى خرجت» أي: من المسجد، أو من مكة، فدل على جواز صلاة الطواف خارجًا من المسجد؛ إذ لو كان ذلك شرطًا لازمًا لما أقرها النبي -صلى الله عليه وسلم- على ذلك، وفي رواية حسان عند الإسماعيلي: «إذا قامت صلاة الصبح فطوفي على بعيرك من وراء الناس وهم يصلون، قالت: ففعلتُ ذلك ولم أصلِّ حتى خرجتُ» أي: فصليتُ...، وفيه ردٌّ على من قال: يحتمل أن تكون أكملت طوافها قبل فراغ صلاة الصبح، ثم أدركتهم في الصلاة، فصلت معهم صلاة الصبح، ورأت أنها تجزئها عن ركعتي الطواف، وإنما لم يَبُتّ البخاري الحكم في هذه المسألة لاحتمال كون ذلك يختص بمن كان له عذر؛ لكون أم سلمة كانت شاكية، ولكون عمر إنما فعل ذلك لكونه طاف بعد الصبح، وكان لا يرى التنفل بعده مطلقًا حتى تطلع الشمس. فتح الباري (3/487).
وقال ابن المنذر -رحمه الله-:
واختلفوا فيمن نسي ركعتي الطواف حتى خرج من الحرم، أو رجع إلى بلده، فقال عطاء والحسن البصري والشافعي وأصحاب الرأي: يركعهما حيث شاء، من حلٍّ أو حرم.
وقال سفيان الثوري: يركعهما حيث شاء ما لم يخرج من الحرم.
قال مالك: إن لم يركعهما حتى يرجع إلى بلده فعليه هدي.
وأقولُ كما قال عطاء، وليس ذلك بأكثر من صلاة المكتوبة التي ليس على من تركها إلا قضاؤها حيث كان، -والله أعلم-. الإشراف على مذاهب العلماء (3/288-289).
وقال العيني -رحمه الله-:
وهو (أي: مذهب: يركعهما حيث شاء من حلٍّ أو حرم) موافق لحديث أم سلمة هذا؛ لأنه ليس فيها أنها صلتهما في الحرم، أو في الحل. عمدة القاري (9/ 270).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
وحُجة مالك في إيجاب الدم في ذلك قول ابن عباس: «من نسي من نسكه شيئًا فليهرق دمًا»، وركعتا الطواف من النسك.
وحُجة من أسقط الدم في ذلك: أنها صلاة تُقضى متى ذُكِرَتْ؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها»، وليستا بأوكد من المكتوبة، ولا مدخل للدم عندهم. الاستذكار (12/ 170).
وقال الكماخي -رحمه الله-:
قال مالك: إن تباعد ورجع إلى بلده فعليه دم، وتعَقَّبَه ابن المنذر بأن ذلك ليس أكبر من صلاة مكتوبة، وليس على من تركها غير قضائها حيث ذكرها، وهو مردود بأنَّ للحج متعلقات وأحكام تخصه، لا دخل فيها للقياس. المهيأ في كشف أسرار الموطأ (2/ 435-436).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
فيه دلالة على أن الطواف راكبًا ليس من خصوصياته -عليه الصلاة والسلام-. مرقاة المفاتيح (5/ 1795).
وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله-:
فيه فوائد:
جواز الطواف راكبًا؛ لحاجة تكون، كحال أُمّ سلمة.
جواز الطواف والناس يصلون، للحاجة، كالمرأة.
جواز صلاة ركعتين خارج المسجد، ولقصة عمر، لكن في المسجد أفضل. الحلل الإبريزية من التعليقات البازية على صحيح البخاري (2/36).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
ومنها (أي: من فوائده): بيان كيفية طواف المريض، وهو أن يطوف راكبًا...
ومنها: أن من يطوف وقت صلاة الجماعة لعذر لا يطوف إلا من وراء الناس، فلا يطوف بين المصلين وبين البيت؛ لئلا يشغل الإمام والناس، فيؤذيهم. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (23/505).
وقال الشيخ عبد العزيز الراجحي -حفظه الله-:
في هذا الحديث فوائد، منها:
1. جواز الطواف راكبًا على بعير أو عربة إذا كان مريضًا أو معذورًا.
2. جواز الطواف من وراء الناس والناس يصلون- للمرأة أو للمسافر الذي جمع بين الصلاتين، فهو يطوف للوداع، فلو طاف في الأروقة فلا بأس، فإن ذلك لا يخفى على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذا يدل على أن ذلك أمر مستقر عندهم، وهذا الأخير هو المقصود بالترجمة.
3. جواز صلاة ركعتي الطواف خارج المسجد؛ كما فعل عمر، وكما فعلت أم سلمة. تعليقات الشيخ الراجحي على كتاب الحج من صحيح البخاري (ص: 77).
قوله في رواية النسائي: «فطوفي على بعيرِكِ من وراءِ الناسِ»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
إنَّما أمرها أنْ تطوف من وراء الناس؛ ليكون أَستر لها، ولا تقطع صفوفهم أيضًا، ولا يتأذَّوْن بدابَّتها. فتح الباري (3/ 481).
وقال ابن حجر -رحمه الله- أيضًا:
ووقع في حديث أُمّ سلمة: «طوفي من وراء الناس»، وهذا يقتضي منع الطواف في المطاف، وإذا حُوط المسجد امتنع داخله؛ إذ لا يُؤْمَنُ التلويث، فلا يجوز بعد التحويط، بخلاف ما قبله، فإنه كان لا يحرم التلويث كما في السعي، وعلى هذا: فلا فرق في الركوب إذا ساغ بين البعير والفرس والحمار. فتح الباري (3/ 490).
وقال النووي -رحمه الله-:
إنما أمرها -صلى الله عليه وسلم- بالطواف من وراء الناس لشيئين:
أحدهما: أن سنة النساء التباعد عن الرجال في الطواف. والثاني: أن قُربها يخاف منه تَأَذِّي الناس بدابتها. شرح مسلم (9/ 20).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وكونها من وراء الناس؛ لأن ذلك سنة طواف النساء مع الرجال؛ لئلا يختلطن بهم؛ ولئلا يضرّ مركبها أيضًا بالطائفين، وهذا يكون حكم الرجل إذا طاف راكبًا لهذه العلة. إكمال المعلم (4/ 348).
وقال العيني -رحمه الله-:
قال المهلب: لا يجب أن يطوف أحد في وقت صلاة الجماعة إلا من وراء الناس، ولا يطوف بين المصلين وبين البيت، فيشغل الإمام والناس ويؤذيهم، وتَرْكُ أذى المسلم أفضل من صلاة الجماعة، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مَن أكل من هذه الشجرة فلا يقرَبَنَّ مسجدنا». عمدة القاري (9/ 253).
وقال الباجي -رحمه الله-:
أما طواف النساء من وراء الرجال فهو للحديث الذي ذكرناه: «طوفي من وراء الناس...»، ولم يكن لأجل البعير، فقد طاف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على بعيره يستلم الركن بمحجنه؛ وذلك يدل على اتصاله بالبيت، لكن من طاف غيره من الرجال على بعير، فيستحب له إن خاف أن يؤذي أحدًا أن يبعد قليلًا، وإن لم يكن حول البيت زحام، وأَمِنَ أن يؤذي أحدًا فليقرب، كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأما المرأة فإن من سُنَّتِها أن تطوف وراء الرجال؛ لأنها عبادة لها تعلق بالبيت، فكان من سنة النساء أن يكُنَّ وراء الرجال كالصلاة. المنتقى شرح الموطأ (2/ 295)