«مَلْعونٌ مَن أَتى امرأتَهُ في دُبُرِها».
رواه أحمد برقم: (9733) وأبو داود برقم: (2162)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (5889)، صحيح الترغيب، والترهيب برقم: (2432).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«مَلْعونٌ»:
أي: مطرود عن رحمة الله تعالى. التنوير، الصنعاني (5/ 285).
وأصل اللعن: الطرد والإبعاد من الله تعالى، ومن الخلقِ: السب والدعاء. النهاية، ابن الأثير (4/ 255).
وقال الصاحب ابن عباد -رحمه الله-:
أصل اللعن: الطرد، ثم يوضع في معنى السَّبَ والتعذيب. المحيط في اللغة (1/ 99).
واللَّعْن: الطرد والإبعاد من الخير، واللَعْنَةُ الاسم، والجمع لِعانٌ ولَعَنات، والرجل لَعين ومَلْعون، والمرأة لَعين أيضًا. الصحاح، الجوهري (6/ 2196).
«أَتى»:
أَتَى زوجته إتْيَانًا، كِنَايَةٌ عن الجِماع. المصباح المنير، الفيومي (1/ 3).
«دُبُرِها»:
دُبُرُ كُل شَيء: خِلافُ قُبُلِه. المحيط في اللغة، الصاحب ابن عباد (2/ 345).
وقال ابن فارس -رحمه الله-:
دَبَرَ: الدال والباء وَالراء أَصل هذا الْبَاب أَنَّ جُلَّهُ فِي قِياس واحد، وهو آخِرُ الشيء وَخَلْفُهُ خِلَافُ قُبُلِهِ. مقاييس اللغة (2/ 324).
شرح الحديث
قوله: «مَلْعونٌ من أَتى امرأتَهُ في دُبُرِها».
قال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «مَلْعونٌ» يلعنه الله تعالى. التنوير شرح الجامع الصغير (9/ 568).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
قوله: «مَلْعونٌ»... والملعون: الذي تبرأ الله تعالى منه وأبعده من رحمته وثوابه. شرح سنن أبي داود (9/ 515)
قوله: «من أتى امرأتَهُ في دُبُرها»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
وفي نسخة: امرأة، وهي أعمُّ من امرأته. شرح سنن أبي داود (9/ 515)
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: (أي: في رواية) «من أتى امرأةً» حليلته أو غيرها. التنوير شرح الجامع الصغير (9/ 568).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «من أَتى امرأتَهُ في دُبُرِها» وفي نسخة امرأة، والأول أبلغ. مرقاة المفاتيح (5/ 2094)
وقال المناوي -رحمه الله-:
قوله: «من أَتى امرأتَهُ في دُبُرِها» أي: جامعها فيه فهو من أعظم الكبائر إذا كان هذا في المرأة، فكيف بالذكر؟! وما نسب إلى مالك -رحمه الله- في كتاب السر من حل دبر الحليلة، أنكره جمعٌ. فيض القدير (6/ 4).
وقال العَزِيزي -رحمه الله-:
قوله: «من أَتى امرأتَهُ في دُبُرِها» أي: جامعها فيه فهو من الكبائر وما ينسب إلى مالك في كتاب السر ومحمد بن كعب القرظي وإلى أصحاب مالك -رحمهم الله- من حله فباطل، وهم مبرؤن منه؛ لأن الحكمة في خلق الأزواج طلب النسل، فغير موضع النسل لا يناله مالك النكاح هذا هو الحق.
وقد قيل: إنْ القذر في النجو أكثر من دم الحيض. السراج المنير شرح الجامع الصغير (4/ 237).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وكتاب السِّر وقفتُ عليه في كراسة لطيفة، من رواية الحارث بن مسكين عن عبد الرحمن بن القاسم عن مالك -رحمه الله-، وهو يشتمل على نوادر من المسائل، وفيها كثير مما يتعلق بالخلفاء؛ ولأجل هذا سُمي كتاب السر، وفيه هذه المسألة (تجويز إتيان المرأة في دبرها) وقد رواه أحمد بن أسامة التجيبي -رحمه الله-، وهذبه ورتبه على الأبواب، وأخرج له أشباهًا ونظائرَ في كل باب. التلخيص الحبير (3/ 393).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وممن نُسب إليه هذا القول (تجويز إتيان المرأة في دبرها) سعيد بن المسيِّب، ونافع، وابن الماجشون من أصحابنا -رحمهم الله-، وحكي عن مالك -رحمه الله- في كتاب يُسمَّى كتاب السرِّ، ونُسب الكتاب إلى مالك -رحمه الله-، وحذاق أصحابه ومشايخهم ينكرونه، وقد حكى العُتبِيُّ -رحمه الله- إباحة ذلك عن مالك -رحمه الله-، وأظنه من ذلك الكتاب المنكَر نَقَلَ، وقد تواردت روايات أصحاب مالك -رحمه الله- عنه بإنكار ذلك القول وتكذيبه لمن نقل ذلك عنه، وقد حكينا نصَّ ما نقل عن مالك -رحمه الله- من ذلك في جزء كتبناه في هذه المسألة سَمَّيناه: (إظهار إدبار من أجاز الوطء في الأدبار) وذكرنا فيه غاية أدلة الفريقين، ومتمسكاتهم من الكتاب والسُّنة على طريقة التحقيق والتحرير والنقل والتحبير، ومن وقف على ذلك قضى منه العَجب العُجاب، وعلم أنه لم يكتب مثله في هذا الباب، وجمهور السلف والعلماء وأئمة الفتوى على تحريم ذلك. المفهم (4/ 157).
وقال الدماميني -رحمه الله-:
لكن ناقله عنه (أي: مالك)كاذب مُفْتَرٍ، وقد قال ابن وهب: سألتُ مالكًا، فقلتُ له: حَكَوا عنك أنك تراه؟ قال: معاذَ اللهِ، وتلا: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} البقرة: 223، وقال: لا يكون الحرثُ إلا في موضع الزرع، وإنما نُسب هذا إليه في كتاب السر، وهو كتاب مجهول، لا يجوز اعتمادُ النقلِ منه أصلًا. مصابيح الجامع (8/ 169).
وقال أبو عبد الله القُرطبي -رحمه الله-:
وما نُسب إلى مالك وأصحابه من هذا باطل، وهم مبرؤون من ذلك؛ لأن إباحة الإتيان مختصة بموضع الحرث؛ لقوله تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} البقرة:223؛ ولأن الحكمة في خلق الأزواج بث النسل، فغير موضع النسل لا يناله مالك النكاح، وهذا هو الحق.
وقد قال أصحاب أبي حنيفة: إنه عندنا ولائط الذّكر سواء في الحكم؛ ولأن القذر والأذى في موضع النجو أكثر من دم الحيض، فكان أشنع، وأما صمام البول فغير صمام الرَّحم. تفسير القرطبي (3/ 94).
وقال أبو عبد الله القرطبي -رحمه الله- أيضًا:
وهذا هو الحق المتبع والصحيح في المسألة، ولا ينبغي لمؤمن بالله واليوم الآخر أن يعرج في هذه النازلة على زلة عالم بعد أن تصح عنه، وقد حذرنا من زلة العالم، وقد روي عن ابن عمر خلاف هذا، وتكفير من فعله، وهذا هو اللائق به -رضي الله عنه-، وكذلك كذب نافع من أخبر عنه بذلك، كما ذكر النسائي، وقد تقدم، وأنكر ذلك مالك واستعظمه، وكذب من نسب ذلك إليه. تفسير القرطبي (3/ 95).
وقال النووي -رحمه الله-:
واتفق العلماء الذين يعتد بهم: على تحريم وطء المرأة في دُبرها حائضًا كانت أو طاهرًا... قال أصحابنا: لا يحل الوطء في الدُّبر في شيء من الآدميين ولا غيرهم من الحيوان في حال من الأحوال. شرح مسلم (10/ 6).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
وأما الدبر: فلم يبح قط على لسان نبي من الأنبياء، ومن نسب إلى بعض السلف إباحة وطء الزوجة في دبرها، فقد غلط عليه، وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مَلْعونٌ من أَتى امرأتَهُ في دُبُرِها» ...، وقد قال تعالى: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} البقرة: 222، قال مجاهد -رحمه الله-: سألت ابن عباس -رضي الله عنهما- عن قوله تعالى: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} البقرة: 222، فقال: تأتيها من حيث أمرت أن تعتزلها يعني في الحيض.
وقال علي بن أبي طلحة -رحمه الله-، يقول: في الفرج، ولا تَعُده إلى غيره.
وقد دلت الآية على تحريم الوطء في دُبرها من وجهين:
أحدهما: أنه أباح إتيانها في الحرث، وهو موضع الولد لا في الحش الذي هو موضع الأذى، وموضع الحرث هو المراد من قوله تعالى: {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} البقرة: 222 الآية.
قال تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} البقرة: 223، وإتيانها في قبلها من دُبرها مستفاد من الآية أيضًا؛ لأنه قال: {أَنَّى شئتم}، أي: من أين شئتم من أمام أو من خلف، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} البقرة: 223، يعني: الفرج، وإذا كان الله حرم الوطء في الفرج لأجل الأذى العارض، فما الظن بالحش الذي هو محل الأذى اللازم مع زيادة المفسدة بالتعرض لانقطاع النسل، والذريعة القريبة جدًّا من أدبار النساء إلى أدبار الصبيان.
وأيضًا: فللمرأة حق على الزوج في الوطء، ووطؤها في دُبرها يفوت حقها، ولا يقضي وطرها، ولا يحصل مقصودها.
وأيضًا: فإن الدبر لم يتهيأ لهذا العمل، ولم يخلق له، وإنما الذي هيئ له الفرج، فالعادلون عنه إلى الدبر خارجون عن حكمة الله وشرعه جميعًا.
وأيضًا: فإن ذلك مضر بالرجل؛ ولهذا ينهى عنه عقلاء الأطباء من الفلاسفة وغيرهم؛ لأن للفرج خاصية في اجتذاب الماء المحتقن وراحة الرجل منه، والوطء في الدبر لا يعين على اجتذاب جميع الماء، ولا يخرج كل المحتقن لمخالفته للأمر الطبيعي.
وأيضًا: يضر من وجه آخر، وهو إحواجه إلى حركات متعبة جدًّا لمخالفته للطبيعة.
وأيضًا: فإنه محل القذر والنجو، فيستقبله الرجل بوجهه ويلابسه.
وأيضًا: فإنه يضر بالمرأة جدًا، لأنه وارد غريب بعيد عن الطباع، منافر لها غاية المنافرة.
وأيضًا: فإنه يحدث الهم والغم، والنفرة عن الفاعل والمفعول.
وأيضًا: فإنه يسود الوجه، ويظلم الصدر، ويطمس نور القلب، ويكسو الوجه وحشة تصير عليه كالسيماء يعرفها من له أدنى فراسة.
وأيضًا: فإنه يوجب النفرة والتباغض الشديد، والتقاطع بين الفاعل والمفعول، ولا بد.
وأيضًا: فإنه يفسد حال الفاعل والمفعول فسادًا لا يكاد يرجى بعده صلاح، إلا أَنْ يشاء الله بالتوبة النصوح.
وأيضًا: فإنه يذهب بالمحاسن منهما، ويكسوهما ضدها، كما يذهب بالمودة بينهما، ويبدلهما بها تباغضًا وتلاعنًا.
وأيضًا: فإنه من أكبر أسباب زوال النعم، وحلول النقم، فإنه يوجب اللعنة والمقت من الله تعالى وإعراضه عن فاعله وعدم نظره إليه، فأي خير يرجوه بعد هذا، وأي شر يأمنه، وكيف حياة عبد قد حلت عليه لعنة الله تعالى ومقته، وأعرض عنه بوجهه، ولم ينظر إليه.
وأيضًا: فإنه يذهب بالحياء جملة، والحياء هو حياة القلوب، فإذا فقدها القلب، استحسن القبيح واستقبح الحسن، وحينئذٍ فقد استحكم فساده.
وأيضًا: فإنه يحيل الطباع عما ركبها الله تعالى، ويخرج الإنسان عن طبعه إلى طبع لم يركب الله تعالى عليه شيئًا من الحيوان، بل هو طبع منكوس، وإذا نكس الطبع انتكس القلب والعمل والهدى، فيستطيب حينئذٍ الخبيث من الأعمال والهيئات، ويفسد حاله وعمله وكلامه بغير اختياره.
وأيضًا: فإنه يورث من الوقاحة والجُرأة ما لا يورثه سِواه.
وأيضًا: فإنه يُورث من المَهانة والسِّفال والحقَارة ما لا يُورثه غيره.
وأيضًا: فإنه يكسو العبد من حلة المقت والبغضاء، وازدراء الناس له، واحتقارهم إياه، واستصغارهم له ما هو مشاهد بالحسِّ، فصلاة الله وسَلامُه على من سَعادة الدنيا والآخرة في هديه واتباع ما جاء به، وهلاك الدنيا والآخرة في مخالفة هديه وما جاء به. زاد المعاد (4/ 235-242).
وقال المَغرِبي -رحمه الله-:
قوله: «مَلْعونٌ من أَتى امرأتَهُ في دُبُرِها»...، والحديث فيه دلالة على تحريم الإتيان في دبر المرأة، وقد ذهب إلى هذا العترة جميعًا، وأكثر الفقهاء قالوا: لقوله تعالى:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} البقرة: 223، فشبههن بالحرث، والحرث المطلوب منه نبات الزرع، فكذلك النساء يكون الغرض مِن إتيانهن هو طلب التناسل لا قضاء الشهوة، وهذا لا يكون إلا في القبل، وهذا وإن لم يكن فيه تعرض لتحريم مَا عدا القبل، إلا أنه يفهم من قوله: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} البقرة: 222، أن الإباحة وقعت لذلك المحل، فيبقى ما عداه على التحريم؛ إذ الأصل هو تحريم المباشرة إلا ما أحل بالعقد، وهذا بيان لما حل بالعقد عليهن، فيوقف عليه، ولا يقاس غيره عليه؛ لعدم المشابهة في كونه محلًّا للزرع، وأما تحليل الاستمتاع فيما عدا الفرج فهو مأخوذ من دليل آخر، كما ورد في إباحة الاستمتاع بما عدا الفرج في حق الحائض...، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده -رضي الله عنه- بلفظ: سُئل عن الرجل يأتي المرأة في دبرها، فقال: «هي اللوطية الصغرى» وأخرجه النسائي، أيضًا وأعله، والمحفوظ عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه- من قوله، كذا أخرجه عبد الرزاق وغيره.
وذهبت الإمامية إلى حله في الزوجة وفي الأمة، بل وفي المملوك. البدر التمام شرح بلوغ المرام (7/ 199).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «مَلْعونٌ من أَتى امرأتَهُ في دُبُرِها» ...، يدل على تحريم إتيان النساء في أدبارهن، وإلى هذا ذهبت الأمة إلا القليل للحديث هذا؛ ولأن الأصل تحريم المباشرة إلا ما أحله الله، ولم يحل تعالى إلا القبل. سبل السلام (2/ 202).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
لم يختلف الفقهاء في الرتقاء التي لا يُوصل إلى وطئها أنه عيب ترد منه، إلا شيئًا جاء عن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- من وجه ليس بالقوي: أنه لا تُرد الرَّتقاء، ولا غيرها، والفقهاء كلهم على خلاف ذلك؛ لأن المسيس هو المبتغى بالنكاح، وفي الإجماع هذا دليل على أنَّ الدبر ليس بموضع وطء، ولو كان موضع وطء ما ردت من لا يوصل إلى وطئها في الفرج. الاستذكار (5/ 423).
وقال الشافعي -رحمه الله-:
وإباحة الإتيان في موضع الحرث يشبه أن يكون تحريم إتيان في غيره، فالإتيان في الدُّبر حتى يبلغ منه مبلغ الإتيان في القبل محرم بدلالة الكتاب ثم السُّنة. الأم (6/ 244).
وقال النووي -رحمه الله-:
ولو وطئ زوجته أو أَمته في دبرها، فالمذهب أن واجبه التعزيز، وقيل: في وجوب الحد قولان، كوطء الأخت المملوكة. روضة الطالبين (10/ 91).
وقال الحطاب الرعيني المالكي -رحمه الله-:
ولوطئه زوجته أو أمته في دبرها، فإنه ليس بزنا، ولا حد عليه في ذلك؛ لأنه قد قيل بإباحته، وإن كان القول بذلك شاذًّا أو ضعيفًا ويجب عليه الأدب على المعروف. مواهب الجليل في شرح مختصر خليل (6/ 291).
وقال ابن كثير -رحمه الله-:
وأما إتيان النساء في الأدبار، فهو اللوطية الصغرى، وهو حرام بإجماع العلماء، إلا قولًا واحدًا شاذًا لبعض السلف، وقد ورد في النهي عنه أحاديث كثيرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. تفسير ابن كثير (3/ 446).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
الكبيرة الخامسة والستون بعد المائة: إتيان الزوجة أو السّرية في دُبرِها (ثم ذكر الأحاديث)
تنبيه: وعدَّ هذا (أي: من الكبائر) هو ما صرح به غير واحد، وهو ظاهر؛ لما علمتَ من هذه الأحاديث الصحيحة أنه كُفر، وأن الله تعالى لا ينظر لفاعله، وأنه اللواطية الصُّغرى، وهذا من أقبح الوعيد وأَشَدِّهِ.
فقول الجلال البًلقيني -رحمه الله- في عَدِّ ذلك كبيرة : فيه نظر، وقد صرَّح شيخ الإسلام العلائي -رحمه الله- بأن ذلك ينبغي أن يُلحق باللواط؛ لأنه ثبت في الحديث لعن فاعله. الزواجر عن اقتراف الكبائر (2/ 46-47).
وقال ابن نجيم -رحمه الله-:
استحلال اللواطة بزوجته كُفر عند الجمهور. الأشباه والنظائر (ص: 160).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
وطء المرأة في دبرها حرام بالكتاب والسنة، وهو قول جماهير السلف والخلف؛ بل هو اللوطية الصغرى، وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إن الله لا يستحيي من الحق لا تأتوا النساء في أدبارهن» وقد قال تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} البقرة:223، والحرث هو موضع الولد؛ فإن الحرث هو محل الغرس والزرع، وكانت اليهود تقول: إذا أتى الرجل امرأته من دبرها جاء الولد أحول فأنزل الله هذه الآية؛ وأباح للرجل أن يأتي امرأته من جميع جهاتها؛ لكن في الفرج خاصة، ومتى وطئها في الدبر وطاوعته عزرا جميعًا؛ فإن لم ينتهيا وإلا فرق بينهما؛ كما يفرق بين الرجل الفاجر ومن يفجر به والله أعلم. مجموع الفتاوى (32/ 266).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
والدليل على أنه لا يجوز (إتيان المرأة في دبرها) من خمسة أوجه:
أحدها: أنه سيأتي في المتفق عليه من حديث جابر -رضي الله عنه-: كانت اليهود تقول: إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول، فنزلت: {نِسَاؤكُم حَرْثٌ لَكُم} البقرة: 223، فقد بان المقصود من {أَنَّى}.
والثاني: أنَّ لفظة {أَنَّى} يختلف معناها على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون بمعنى كيف.
والثاني: بمعنى متى.
والثالث: بمعنى من أين، فإن قلنا: هي بمعنى كيف فسبب الآية يؤكده، والمعنى: كيف شئتم مقبلة أو مدبرة، وعلى كل حال، إلا أن الإتيان يكون في الفرج، وهذا تفسير ابن عباس -رضي الله عنه- ومجاهد -رحمه الله- في خلق كثير، وإن قلنا: إنها بمعنى متى، فالمعنى: أي وقت شئتم، وهذا تفسير ابن الحنفية والضحاك، وإن قلنا: إنها بمعنى من أين، فالمعنى: إن شئتم من بين يديها، وإن شئتم من ورائها، وهذا يرجع إلى القول الأول...
والثالث: أن الآية دلت على موضع الإتيان بقوله: {فَأْتُوا حَرْثَكُم} البقرة: 223، وموضع الزرع إنما هو مكان الولد؛ لأن الولد مشبه بالنبات، فلم يجز أن يقع الوطء في محل لا يكون منه ولد.
والرابع: أنه قد روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- النهي عن هذا: عمر وعلي وابن مسعود وجابر وعبد الله بن عمر وابن عباس والبراء بن عازب وعقبة بن عامر وخزيمة بن ثابت وأبو هريرة، وفي لفظ حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: «ملعون من أتى النساء في أدبارهن» وقد ذكرت هذه الأحاديث بأسانيدها في كتاب (تحريم المحل المكروه) وذكرت هناك نهي جماعة من الصحابة عنه، منهم ابن مسعود وأبي بن كعب وأبو الدرداء وابن عباس وأبو هريرة، ومن التابعين الحسن ومجاهد وعكرمة، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد، ولا يصح عن مالك -رحمهم الله-.
والخامس: أن تحريم إتيان الحائض كان لعلة الأذى، والأذى ملازم لهذا المحل لا يفارقه. كشف المشكل (2/ 583-584).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
وهذا الحديث يستدل به وبالأحاديث الكثيرة الواردة في هذا الباب على أنه يحرم إتيان النساء في أدبارهن، وتعقب بأن الأحاديث الواردة في هذا الباب كلها ضعيفة، ويجاب عنه: بأن الأحاديث وإن كان كل واحد منها تكلم فيه، إلَّا أنه يقوي بعضها بعضًا، فيصير مجموعها حجةً في ذلك.
ويستدل بقوله تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} البقرة: 223، فإن محل الحرث ليس إلَّا القبل.
وأما ما وقع من المناظرة بين الإِمام الشافعي وبين الإِمام محمد بن الحسن، وقد ذكره الشوكاني والحافظ ابن حجر، فالذي أظن أن ما ينسب إلى الإِمام الشافعي من الاعتراض على الاستدلال بالآية فيبعد عن جنابه؛ بأن الإِمام محمد بن الحسن لما استدل بالآية على تحريم الوطء في الدبر، قال له الإِمام الشافعي: لو وطئها بين ساقيها، أو في أعكانها، أو تحت إبطها، أو أخذت ذكره بيدها، أفيحرم ذلك؟ قال محمد بن الحسن: لا، قال الشافعي: فلم تحتج بما لا حجة فيه؟!
فهذا الكلام الذي دار بينهما لا يليق بصغار الطلبة فضلًا عن الإمامين الهُمامين؛ لأنه ظاهر أن هذه الأفعال ليس بوطء ولا إدخال، بل هو إلصاق البشرة بالبشرة، نعم لو اعترض عليه بأن الرجل لو أدخل في فمها لكان له ذلك، ولكننا نقول: إن الإدخال في الفم يحرم، كما يحرم الوطء في الدبر، ولا قائل بجوازه أحد، فظني أن قصة المناظرة غلط.
وأما إنكار بعض أهل الحديث ثبوت الحرمة بالأحاديث الواردة فيه، فمبني على اعتبار أنه لم يثبت في هذا الباب كل واحد واحد من الأحاديث، لا باعتبار مجموعها، فإن مجموعها مثبت لها.
ويستدل أيضًا بقوله تعالى: {قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} البقرة: 222، حرم وطء الحائض بعلة الأذى، وهذه العلة المصرحة مع ما فيه مفاسد كثيرة تدل على تحريم الوطء في الدبر بدلالة النص. بذل المجهود في حل سنن أبي داود (8/ 102-104).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
وتفصيل المذهب: أنَّ المزني حكى عن الشافعي -رحمه الله- في القديم أنه قال: ذهب بعض أصحابنا في إتيان النساء في أدبارهن إلى إحلاله وآخرون إلى تحريمه، ثم قال في آخر الباب: وقال الشافعي -رحمه الله-: ولا أرخص فيه، بل أنهى عنه، وحكى محمد بن عبد الله بن عبد الحكم عن الشافعي رحمه الله- أنه قال: ما صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في تحريمه ولا تحليله شيء، والقياس أنه حلال.
قال الربيع -رحمه الله-: كذب والذي لا إله إلا هو، وقد نص الشافعي على تحريمه في ستة كتب، وروي تحريمه عن علي وعبد الله وابن عباس وابن مسعود وأبي الدرداء ومجاهد، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وأحمد، وروي عن زيد بن أسلم ونافع إباحته، واختلف أصحاب مالك، فروي عنه أنه قال: ما أدركت أحدًا أقتدي به في ديني يشك في أنه حلال، ويقال: إنه نص عليه في كتاب السر، وأهل العراق من أصحابه ينكرون ذلك، والله أعلم. الشافي في شرح مسند الشافعي (4/ 409).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله: «مَلْعونٌ من أَتى امرأتَهُ في دُبُرِها»...، يستفاد من هذا الحديث: أنً إتيان المرأة في دُبرها من كبائر الذنوب؛ ولهذا رتب عليه اللعنة.
ومن فوائده أيضًا: التحذير من إتيان المرأة في الدُبر؛ وذلك لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- رتّب عليه اللعنة تحذيرًا للأمّة.
ومن فوائده: بيان الحكمة العظيمة في تحريم هذا الشيء وجعله من الكبائر؛ وذلك لأنَّه يحصل به مفسدة ويفوت به منفعة، المفسدة التي تحصل هي أن الإنسان يطأ زوجته في محل الأذى والقذر؛ لأن الدبر محل الأذى والقذر فيتلوث ذكره بهذا القذر والنتن والرائحة الكريهة، هذه تفوت به مصلحة وهي أن النطفة التي ينزلها في هذا المحل لو أنزلها في المحل الذي جعله الله تعالى لها لحصل بذلك ولد، أما هذا فإنه يذهب هباء، فلذلك كان تحريم وطء المرأة في دبرها موافقًا للحكمة تمامًا. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (4/ 536).
وللاستفادة من الرواية الأخرى ينظر (هنا) و (هنا)