الجمعة 28 رمضان 1446 هـ | 28-03-2025 م

A a

«تَلَقَّت الملائكة رُوح رَجُلٍ ممن كان قبلكم، قالوا: أَعَمِلتَ من الخير شيئًا؟ قال: كُنْتُ آمُر فِتْيَاني أن يُنْظِروا ويَتَجَاوَزُوا عن الـمُوْسِر، قال: قال: فَتَجَاوَزُوا عنه».
قال أبو عبد الله: وقال أبو مالك عن رِبْعِي: «كُنْتُ أُيَسِّر على الـمُوْسِر، وأُنْظِر الـمُعْسِر»، وتابعه شُعبة، عن عبد الملك، عن رِبْعِي، وقال أبو عَوَانَة: عن عبد الملك،
عن رِبْعِي: «وأُنْظِرُ الـمُوسِر، وأَتَجاوَزُ عن الـمُعسِر»، وقال نُعَيْمُ بن أبي هِنْد، عن رِبْعِي: «فأَقْبَلُ من الـمُوسر، وأَتَجاوَزُ عن الـمُعْسر».


رواه البخاري برقم: (2077)، ومسلم برقم: (1560)، من حديث حذيفة -رضي الله عنه-.


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«تَلَقَّت»:
أي: استقبَلَت. الكواكب الدراري، للكرماني (9/200).

«فِتْيَاني»:
بكسر أوَّله جمع فتى، وهو الخادم حُرًا كان أو مملوكًا. فتح الباري، لابن حجر(4/308).

«يُنْظِرُوا»:
بضم أوَّله، وكسر ثالثه: أن يُمْهِلُوا الْمُعْسِر. منحة الباري بشرح صحيح البخاري، لزكريا الأنصاري (4/505).
والإنْظَار: التأخير والإِمهال. لسان العرب (5/219).

«ويَتَجَاوَزُوا»:
الجَوَاز: التَّساهل والتّسامح في البيع والاقتضاء. النهاية، لابن الأثير (1/315).
أي: يُسَاهِلُوه في القضاء، ولا يُشَاحِحُونَه فيه.التنوير شرح الجامع الصغير، للصنعاني (5/385).

«الـمُوْسِر»:
الميسرة: السَّعة والغِنى. لسان العرب، لابن منظور (5/296).

«أُيَسِّر»:
بضم الهمزة وتشديد السين: من التيسير، من باب التَّفعيل، وقيل: من أَيْسَر يُوْسِر إيْسَارًا، وليس بصحيح؛ لأن القاعدة الصرفية أن يقال: أَوْسَرَ.
وفي المطالع: «أُيَسِّرُ على الْمُوسِرِ» أي: أُسَامحه وأعامله بالْمُيَاسَرة والمساهَلة. عمدة القاري، للعيني (11/190-191).

«الـمُعْسِر»:
المعْسِر: نقيض الموسر، وأَعْسَر فهو مُعْسِر: صار ذا عُسْرَة، وقِلَّة ذات يد، وقيل: افْتَقَر. لسان العرب، لابن منظور (4/564).

«فأَقْبَلُ»:
بالهمزة المفتوحة، وبالقاف ساكنةً، وبالباء الموحّدة المفتوحة، من القبول. المفهم للقرطبي (4/437).


شرح الحديث


قوله: «تَلَقَّت الملائكة رُوح رجل ممن كان قبلكم»:
قال الكوراني -رحمه الله-:
أي: استقبَلَت بأمر الله بعد فراقه من الجسد. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (4/376).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «تلقَّت الملائكة» أي: استقبلَت رُوحه عند الموت.
وفي رواية عبد الملك بن عُمير عن رِبْعي في ذِكر بني إسرائيل: «أنّ رجلًا كان فيمن كان قبلكم أتاه الْمَلَكُ ليقبض رُوحَه». فتح الباري (4/308).
وقال الشيخ موسى شاهين-رحمه الله-:
«تلقَّت الملائكة رُوح رَجُل» أي: استقبلتها، و(ال) في «الملائكة» للعهد، والمراد بهم ملائكة قبض الروح، «ممن كان قبلكم» أي: من بني إسرائيل. المنهل الحديث في شرح الحديث (2/248).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«ممن كان قبلكم» أي: من الأمم السابقة. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (27/397).

قوله: «قالوا: أَعَمِلْتَ من الخير شيئًا؟»:
قال الكرماني -رحمه الله-:
قوله: «أَعَمِلْتَ» وفي بعضها بدون همزة الاستفهام لفظًا. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (9/200).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «أَعَمِلْتَ من الخير شيئًا؟» وفي رواية بحذف همزة الاستفهام، وهي مقدَّرة. فتح الباري (4/308).
وقال الشيخ موسى شاهين-رحمه الله-:
وقد قيل: إن هذا السؤال في القبر، ففي الكلام حذف، والتقدير: فقُبض، فأُدْخِل القبر، فقالوا.
ويحتمل: أن يكون بعد البعث، والتقدير: فبُعث، فأَرْسَلَ الله له ملائكة يسألونه، فقالوا. المنهل الحديث في شرح الحديث (2/249).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«أَعَمِلْتَ» أي: هل عمِلْتَ في حياتك «من الخير شيئًا» ولو قليلًا؟ الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (17/216).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
زاد في رواية عبد الملك بن عمير عن رِبْعِي في ذكر بني إسرائيل: «فقال: ما أعلم، قيل: انْظُر».إرشاد الساري (4/21).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-::
«فقالوا: أَعَمِلْتَ من الخير شيئًا؟ قال: لا. قالوا: تذكَّر» ظاهر هذه الرواية أنَّ السائلِين ملائكةٌ تلْقَى الأرواح عند الموت، وكأنهم رأوا منزلته في الجنة، أو أن القَبَضَة كانوا ملائكة الرحمة، ولم يروا من الخير عملًا يؤهِّله لذلك، فسألوا.
وفي رواية: «رَجُلٌ لقي ربه، فقال: ما عَمِلت؟ قال: ما عَمِلْتُ من الخير، إلا أني كنتُ...»، وظاهر هذه الرواية: أن السائل هو الله تعالى؛ لإظهار المنَّة والرحمة، فالسؤال سؤال استِنْطَاق وتقرير.
وفي رواية: «أنَّ رجلًا مات فدخل الجنة، فقيل له: ما كنتَ تعمل؟ فإمّا ذَكر -أي: من تلقاء نفسه- وإما ذُكِّر -أي: ذَكَّره غيرُه-، فقال: ...».
وفي رواية: «أتى الله بعبد من عباده، فقال له: ماذا عَمِلتَ في الدنيا؟» وفي رواية: أن هذا القول عند الحساب.
ولا تَعَارض، فقد يُسْألُ الرَّجل ويُجيب في كل هذه المواطن، ومن السائلين المختلفين. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (6/276).
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
وقوله: «قال: ما عَمِلْتُ مِنَ الخير» «ما» هذه نافية، و «عملتُ» بتاء المتكلّم؛ أي: لم أعمل من الخير شيئًا. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (27/402).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
«فلم يوجد له شيء من الخير» هذا العموم مخصَّص قطعًا بأنه كان مؤمنًا، ولولا ذلك لما تجاوَز عنه، فـ{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} النِّساء: 48، وهل كان قائمًا بفرائض دِينه من الصلاة والزكاة وما أشبهها؟ هذا هو الأليق بحاله؛ فإن هذا الحديث يشهد بأنه كان ممَّن وُقِيَ شُحَّ نفْسِه. وعلى هذا: فيكون معنى هذا العموم: أنه لم يُوجَد له من النوافل إلا هذا.
ويحتمل: أن يكون له نوافل أُخر، غير أن هذا كان الأغلب عليه، فنُودي به، وجُوزي عليه، ولم يذْكُر غيره اكتفاءً بهذا، والله أعلم.
ويحتمل أن يكون المراد بالخير: المال، فيكون معناه: أنه لم يوجد له فِعل برٍّ في المال إلا ما ذَكَر من إِنْظَار الْمُعْسِر، والله أعلم. المفهم (14/ 70).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
قوله أي: (القرطبي): (هذا هو الأَلْيَق بِحَاله) فيه نظر لا يخفى؛ لأنه ينافيه قوله: «لم يعمل خيرًا قط»، فالظاهر أن النفي على عمومه عَدا الإيمان، فيكون المعنى: أنه لم يعمل خيرًا زائدًا على الإيمان، والله تعالى أعلم.
قال: ويَحْتَمِل: أن يكون له نوافل أُخَرُ، غير أن هذا كان الأغلب عليه، فنُودي به، وجُوزي عليه، ولم يذكر غيره اكتفاء بهذا.
قلتُ: هذا الاحتمال أبْعَدُ من الذي قبله، فتأمّله بالإنصاف، والله تعالى أعلم.
قال: ويَحْتَمِل: أن يكون المراد بالخير: المال، فيكون معناه: أنه لم يوجد له فعل برٍّ في المال إلا ما ذُكر من إنْظَارِ المعسر. انتهى كلام القرطبيّ.
قلتُ: هذا الاحتمال أيضًا مثل سابِقِه؛ لأنه لا دليل على هذا التخصيص، فتَبَصَّر.
والحاصل: أن الأظهر إجراؤُه على عمومه، والله تعالى أعلم. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (27/397-398).

قوله: «قال: كُنْتُ آمُرُ فِتْيَاني»:
قال الفيّوميّ -رحمه الله-:
الفتى: العبد، وجَمْعُه في القِلَّة: فِتْية، وفي الكثرة: فِتْيان، والأَمَة: فَتاةٌ، وجمْعُها: فتياتٌ، والأصل فيه أن يقال للشابّ الْحَدَث: فَتًى، ثم استُعير للعبد وإن كان شيخًا مجازًا؛ تسميةً باسم ما كان عليه. المصباح المنير (2/462).
وقال النوويّ -رحمه الله-:
قوله: «فِتْيَاني» معناه: غِلْمَاني، كما صرح به في الرواية الأخرى. شرح النووي على صحيح مسلم (10/224).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
«كنت آمر فِتْيَاني» بكسر الفاء: جمع فتى؛ وهو الشاب، والمراد: الغلمان والخُدَّام. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (4/376).

قوله: «أن يُنْظِروا ويَتَجَاوَزُوا عن الـمُوْسِر»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
كذا وقع في رواية أبي ذر والنسفي، وهو لا يخالف الترجمة، وللباقين: «أن يُنْظِرُوا الْمُعْسِر، ويَتَجَاوَزُوا عن الْمُوسِر»، وكذا أخرجه مسلم عن أحمد بن يونس شيخ البخاري فيه.
وظاهره غير مطابق للترجمة، ولعل هذا هو السِّر في إيراد التعاليق الآتية؛ لأن فيها ما يطابق الترجمة.فتح الباري (4/308).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
والتَّجَاوُز والتَّجَوُّز: المسامحة في الاقتضاء، كما في الرواية الأخرى. إكمال المعلم (5/229).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
قوله: «أن يُنْظِرُوا» أي: المُعْسِر، «ويَتَجَاوَزُوا عن الموسر» ومعناه: الإبطاء والإمهال والتأخير والتجاوز، المساهلة في الطلب، وعدم المضايقة والمناقشة، ويدل عليه الرواية بعد: «أُيَسِّر على الموسر».
فإن قلتَ: ذكر في الرواية بعده: «كنتُ أُنْظِرُ الموسر، وأَتَجَاوَزُ عن المعسر» عكس الأول.
قلتُ: الكل صحيح؛ تارة يُنْظِر، وتارة يَتَجاوَز.
فإن قلتَ: ما معنى الإنظار مع الموسر؟
قلتُ: يُنْظِرُهُ من وقت إلى آخر، مع تمكُّنه منه؛ مُحَاسَنَةً في الأخلاق. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (4/376-377).
وقال الكشميري -رحمه الله-:
الظاهرُ مع التَّجاوُزِ لفظ: «المعْسِرِ» فَيُحْمَلُ ذكر المُوسِرِ على تصرُّف من أحد الرواة؛ لأن المُعْسِرَ هو الذي يَحْتَاجُ إلى التجاوز عنه دون المُوسِر؛ ولذا ترى في لفظ نُعَيْم بن أبي هِنْدٍ عن رِبْعِي عنده: «فأَقْبَلُ من المُوسِر، وأَتَجَاوَزُ عن المُعْسِر»، فلا ينبغي في مثل هذه المواضع تراجِم مختلفة، وإنما يَفْعَلُ مثله حيث لا يُمْكِنُ الترجيح فيه، كما في قوله: «إذا أمَّن الإِمامُ فأمِّنُوا»، وفي لفظٍ: «إذا أمَّن القارئ»... إلخ.
فالفصلُ فيه مُشْكِلٌ؛ فإن الإِمامَ مختصٌّ بالصلاة، والقارئ يكون في الخارج أيضًا، ولا يتبيَّن لفظ النبيِّ -صلى الله عليه وسلّم- من غيره، فإن فيهما معنىً صحيحًا، بخلاف الاختلاف في المُعْسِرِ والمُوسِرِ. فيض الباري على صحيح البخاري (3/ 410).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-::
والتَّجَاوُزُ: المسامحة في الاقتضاء والاستيفاء، أعني: في الكَمِّ والكَيْفِ، فيتسامح في الكَمِّ بالتنازل عن جزء الدَّين، ويتسامح في كيفية الأداء بالتَّقسيط، وتأخير السداد، وهو على هذا يصلح أن يُعامَل به المُوسر والمُعسر، ومن هنا جاءت رواية التجاوز عن الموسر، وجاءت رواية: التجاوز عن المعسر. فتح المنعم شرح صحيح مسلم(6/277).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
ومعنى: «يُنْظِرُوا»: يُؤخِّروا.
وفيه: أنه إن أَنْظَرَهُ أو وَضَعَ عنه ساغ ذلك، وهو شرع مَن قَبْلنا، وشرْعُنا لا يُخالِفُه، بل نَدَبَ إليه.
وفيه: إباحة كسْب العبد؛ لقوله: «آمُر فِتْيَاني».
وفيه: توكيلهم على التقاضي. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (14/136-137).
وقال البِرْماوي -رحمه الله-:
«أن يُنْظِرُوا»؛ أي: يُمهِلوا الـمُعسِر، «ويَتَجَاوَزُوا» أي: تتسامَحوا في الاستيفاء. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (7/15).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«ويَتَجَاوَزُوا» أي: يتسامَحُوا في الاستيفاء «عن الموسر»، متعلِّق بـ «يَتَجَاوَزُوا»، ويحتمل تعلُّقه بـ «ويُنْظِرُوا» على جهة التنازع. منحة الباري بشرح صحيح البخاري (4/505).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
«عن الموسر» متعلِّقٌ بـ «يتجَاوَزوا»، لكنْ هذا يُخالف الترجمة بمن أَنْظَر مُوسِرًا، فيقتضي أنَّ «عن الموسِر» يتعلَّق بـ «يُنظِروا» أيضًا، ولا يخفى ما فيه. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (7/ 15).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
والظاهر: أن صِلة «يُنْظِرُوا» محذوف، وهو عن المعسر، ولفظ «عن الموسر» متعلق بالتجاوز، لكن البخاري جعله متعلِّقًا بهما، بدليل الترجمة بالموسر، حيث قال: (باب من أَنْظَرَ مُوسِرًا). الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (9/200).
وقال العيني -رحمه الله-:
قلتُ: لو وقف الكرماني على رواية أبي ذر والنسفي التي ذكرناها في أول الباب لما احتاج إلى هذا التكلُّف. عمدة القاري (11/190).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
والإنظار: هو تأخير وقت السداد، وهو يصلح أن يُعامَل به الموسر والمعسر، وإذا كانت روايات مسلم لم تأتِ بإنظار الموسر، فإن روايات البخاري جاءت به، ففي بعضها: «أَنْظِرُوا الموسر»، وفي بعضها: «أن يُنْظِرُوا، ويَتَجَاوَزُوا عن الموسر»؛ ولهذا ترجم البخاري: (باب من أَنْظَرَ مُوسِرًا)، ثم (باب من أَنْظَرَ مُعسرًا). فتح المنعم شرح صحيح مسلم (6/277).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
فإن قلتَ: ما حَدُّ الموسر؟
قلتُ: الإيسار أمر اعتباري يختلف باختلاف الأحوال:
فقيل: إنه الذي يملك نصاب الزكاة.
وقيل: من لا تحلُّ له الزكاة.
وقيل: من يجد فاضلًا عن ثوبه ومسكنه وخادمه ودَيْنِه، وقُوتَ يومه.
وقيل: الغني العرفي، والمعسر في مُقابِلِه. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (9/201).
وقال الدَّمَامِيني -رحمه الله-:
«أُيَسِّرُ على الموسر، وأُنْظِرُ المعسر»: فيه: دليل على جواز الصدقة على الغني، ويُكتَب له أجرُها.
وقال ابن المنير -رحمه الله-: وفيه: دليل على أن الإحسان بالمال بقصدٍ جميلٍ يُثاب عليه العبد، سواء كان مع غنيٍّ أو فقير، إلا أن إِنْظَار المُعسر واجب، والتيسير على المُعسر مندوب، ومتى عَلِمَ صاحبُ الحق عُسْر الْمِدْيَان(كثير الدَّين)حرمت عليه مطالبته، وإن لم يثبت عُسره عند الإمام. مصابيح الجامع (5/10).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
واختُلف في الموسر، فقيل: مَن عنده مؤنته ومؤنة من تلزمه نفقته، والمرجَّح: أن الإيسار والإعسار يرجعان إلى العُرف، فمن كان حاله بالنسبة إلى مثله يعدّ يسارًا فهو مُوسر، وعكسه. إرشاد الساري (4/22).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-::
وقال الشافعي: قد يكون الشخص بالدرهم غنيًا يَكْسَبه، وقد يكون فقيرًا بالألف مع ضعْفِه من نفسه، وكثرة عياله.
والمعتمَد هنا في الإنظار: أن الموسر والمعسر يرجعان إلى العُرف. المنهل الحديث في شرح الحديث (2/249).

قوله: « قال: فَتَجَاوَزُوْا عنه»:
قال الكرماني -رحمه الله-:
قوله: «فتَجَاوَزُوا» بلفظ الأمر، وهو قول الله تعالى.الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (9/200).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«فتَجَاوَزُوا» بفتح الواو، وفي نسخة: بكسرها على الأمر، فيكون من قوله تعالى لملائكته. منحة الباري بشرح صحيح البخاري (4/505).

قوله: «قال أبو عبد الله»:
قال القسطلاني -رحمه الله-:
قوله: (قال أبو عبد الله) أي: البخاري. إرشاد الساري (4/22).

قوله: «وقال أبو مالك»:
قال الكرماني -رحمه الله-:
«أبو مالك» سعد بن طارق الأشجعي. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (9/200).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
هذا أَسْنَدَهُ مسلم عن أبي سعيد الأشج: ثنا أبو خالد الأحمر، عن أبي مالك -سعد بن طارق- عن ربعي، عن حذيفة. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (14/133).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
وهذا وصله مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الأشج، قال: حدّثنا الأحمر، عن أبي مالك، عن رِبْعِي، عن حذيفة -رضي الله عنه- بلفظ: «أتى الله بعبد من عباده آتاه الله مالًا، فقال له: ماذا عملتَ في الدنيا؟...». إرشاد الساري (4/22).

قوله: «كُنْتُ أُيَسِّر على الـمُوْسِر، وأُنْظُر الـمُعْسِر»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قال ابن التين -رحمه الله-: رواية من روى «وأُنْظِرُ الموسر» أولى من رواية من روى: «وأُنْظِرُ المعسر»؛ لأن إنظار المعسر واجب.
قلتُ: ولا يلزم من كونه واجبًا أن لا يُؤجَر صاحبُه عليه، أو يُكَفَّر عنه بذلك من سيئاته. فتح الباري (4/308).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«كنتُ أُيَسِّرُ على الموسر» بضم الهمزة، وتشديد السين من التيسير. إرشاد الساري (4/22).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«فكنتُ أَتَيَسَّرُ على الموسر» أي: أُيَسِّر عليه في الدَّفْع. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (6/277).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وفي حديث الباب والذي قبله: أن اليسير من الحسنات إذا كان خالصًا لله كفَّر كثيرًا من السيئات.
وفيه: أنَّ الأجر يحصل لمن يأمر به، وإن لم يتولَّ ذلك بنفسه، وهذا كله بعد تقرير أنَّ شَرْعَ مَن قبْلَنا إذا جاء في شَرْعِنا في سياق المدح كان حسنًا عندنا. فتح الباري (4/309).
وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله-:
وهذا هو المشروع: ليِّنٌ مع المعسر يتجاوز، ومع الموسر كذلك يقْبَل، ومع المعسرين أكثر، يَرْفُق بهم، ويتسامح أكثر. الحلل الإبريزية (2/193).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «وقال أبو عَوانة عن عبد الملك...» إلخ، وصله المؤلف في ذكر بني إسرائيل مطولًا، وهو كما قال: «أُنْظِرُ الموسر، وأَتَجاوَزُ عن المعسر»، وفي آخره قول أبي مسعود: هكذا سَمِعْتُ. فتح الباري (4/308).

قوله: «أُنْظِر الـمُوسِر، وأَتَجاوَزُ عن الـمُعسر»:
قال الكوراني -رحمه الله-:
«فأُنْظِرُ الموسر» من الإنظار، وهو الإمهال، «وأتجاوَز عن المعسر» أي: لا يطالبه إلى الميسرة، أو يُبْرِئه من الدَّين. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري(6 /323).

قوله: «وقال نُعَيْمُ بن أبي هِنْد عن رِبْعِي»:
قال القسطلاني -رحمه الله-:
قوله: «نُعَيْمُ بن أبي هِنْد» بضم النون، وفتح العين، مصغرًا الأشْجَعِي.إرشاد الساري (4/22).
وقال العيني -رحمه الله-:
«نُعيم»، بضم النون «ابن أبي هند» الأشجعي، وهو نُعيم بن النعمان بن أَشْيَم، وهو ابن عم سالم بن أبي الجَعْد، وابن عم أبي مالك الأشجعي، مات سنة عشر ومائة. عمدة القاري (11/191).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «وقال نُعيم بن أبي هند...» إلخ، وصله مسلم من طريق مغيرة بن مِقْسَم عنه. فتح الباري (4/308).

قوله: «فأَقْبَلُ من الـمُوسر، وأَتَجاوَزُ عن الـمُعْسر»:
قال القاضي عياض -رحمه الله-:
وقوله: «أَقْبَلُ الميسور، وأتجاوز عن المعسور» قال شيوخنا: «أَقْبَلُ» بفتح الهمزة، وسكون القاف، وبعدها باء بواحدة مفتوحة، من المعسور.
و«الميسور» ههنا وصف لما يَسُرَ من الدَّين.
ووقع عند ابن أبي جعفر: «أُقِيل» بضم الهمزة، وكسر القاف، وياء باثنتين تحتها، من الإقالة.
ويتأول مكانهما الميسور في صاحب الشيء الميسور، وكذلك التجاوز عن المعسور والشيء المعسور؛ لأنه لا يقال للغريم: ميسور ولا معسور. إكمال المعلم (5/229-230).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
رواية الجماعة: أَقْبَلُ -بالهمزة المفتوحة، وبالقاف ساكنة، وبالباء بواحدة تحتها مفتوحة- من القبول.
والميسور: المتيسِّر.
ووقع لبعضهم: بضم الهمزة، وكسر القاف، وياء باثنتين تحتها، من الإقالة، وفيه بُعْدٌ؛ لأنه لا يستقيم المعنى حتى يكون الميسور بمعنى الموسر، ولا يعطيه قانون التصريف، ولا يعضده نقل. المفهم (4/438).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
وقوله: «أقبَلُ الْمَيْسُورَ، وَأتجَاوَزُ عن الْمَعْسُورِ» أي: آخذ ما تَيسّر، وأُسَامِح بما تعسّر. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (27/402).
وقال الدماميني -رحمه الله-:
قلتُ: وقد حكى القرافي وغيره: أنَّ إبراءَهُ أفضلُ من إنظاره، وجعلوا ذلك مما استُثني من قاعدة: كونِ الفرضِ أفضلَ من النافلة؛ وذلك أن إنظاره واجبٌ، وإبراءَهُ مستحبٌّ.
وانفصل عنه الشيخ تقي الدين السبكي بأن الإبراء يشتمل على الإنظار اشتمالَ الأخصِّ على الأعمِّ؛ لكونه تأخيرًا للمطالبة، فلم يَفْضُلْ ندبٌ واجبًا، وإنما فضل واجبٌ -وهو الإنظارُ الذي تضمنه الإبراء وزيادة، وهو خصوص الإبراء- واجبًا آخر، وهو مجردُ الإنظار.
ونازَعَه ولدُه القاضي تاجُ الدين السبكيُّ في (الأشباه والنظائر) في ذلك، فقال: وقد يقال: الإنظارُ هو تأخير الطلب مع بقاء العُلْقة، والإبراء زوالُ العُلْقة.
قلتُ: لو عبَّر بإزالة العُلقة، كان أحسن.
ثم قال: فهما قسمان لا يشتمل أحدُهما على الآخر، فينبغي أن يقال في التقدير: إن الإبراء يحصِّلُ مقصودَ الإنظار وزيادةً.
قال: وهذا كله بتقدير تسليم أن الإبراء أفضلُ، وغاية ما استدل عليه بقوله تعالى: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ} البقرة: 25، وهذا يحتمل: أن يكون افتتاح كلام، فلا يكون دليلًا على أن الإبراء أفضلُ، ويُتطرق من هذا إلى أن الإنظار أفضل؛ لشدة ما يقال: النظر من أَلَمِ الصبر مع تشوق القلب، وهذا فضلٌ ليس في الإبراء الذي انقطعَ فيه اليأس، فحصلت فيه راحةٌ من هذه الحيثية ليست في الإنظار، ومن ثم قال -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا كَانَ لَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ»، فانْظُرْ كيف وَزَّعَ أجرَه على الأيام، يكثُر بكثرتها، ويقلُّ بقلَّتِها، ولعل سرَّه ما أبديناه، فالمُنْظِرُ ينال كلَّ يوم عوضًا جديدًا، ولا يخفى أن هذا لا يقعُ بالإبراء؛ فإن أجره وإن كان أوفرَ يتعقبه وينتهي بنهايته، ولستُ أستطيع أن أقول: الإنظارُ أفضلُ على الإطلاق، وإنما قلتُ ما قلتُ على حدِّ: «سَبَقَ دِرْهَمٌ دِينارًا، وَسَبَقَ دِرْهَمٌ مِئَةَ ألْفٍ»، فليُنْظَر ما حركته من البحث؛ فإنه محتاج إلى مزيد تحرير. مصابيح الجامع (5/10- 12).


ابلاغ عن خطا