«أَعْفُوا اللِّحَى، وخُذُوا الشواربَ، وغَيِّروا شَيْبَكُم، ولا تَشَبَّهُوا باليهودِ والنَّصارى».
رواه أحمد برقم: (8672) واللفظ له، وابن حبان برقم: (5473)، والبيهقي في الشعب برقم: (5978) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (1067).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«اللِّحَى»:
بكسر اللام وحُكي ضَمها وبالقصر والمد جمع لحية بالكسر فقط، وهي: اسْمٌ لِمَا نبت على الخدين والذقن. فتح الباري، لابن حجر (10/ 350).
وقال ابن منظور -رحمه الله-:
اللحية: اسمٌ يَجمع ما نبت على الخدّين والذّقَن، والجمع لِحّى -أي: بالكسر-، ولُحىً -أي: بالضمّ- مثلُ ذُرْوَة وذُرىً. لسان العرب (15/ 243).
«أعفوا اللحى»:
أي: أتركوها حتى تطول. معجم الفروق اللغوية، للعسكري (ص: 310).
«شيبكم»:
الشَّيْبُ والْمَشِيبُ: بياض الشَّعر. المفردات، للراغب (ص: 469).
وقال أبو حيان -رحمه الله-:
يقال: شِيْبًا: جمع أشيب، وهو أبيض الرأس. تحفة الأريب بما في القرآن من الغريب (ص: 182).
شرح الحديث
قوله: «أعفوا اللِّحَى»:
قال الخطابي -رحمه الله-:
قوله: «أعفوا اللحى» يريد وفِّروها؛ من قولك: عفا النبت إذا طَرَّ وكثُر. أعلام الحديث (3/ 2154).
وقال ابن قرقول -رحمه الله-:
قوله: «أَعْفُوا اللِّحَى» أي: وفِّروها وكثِّروها. مطالع الأنوار على صحاح الآثار (5/ 57).
وقال الشيخ محمد بن سالم المجلسي -رحمه الله-:
«وأعفوا اللحى» أي: اتركوها موفَّرة، ومعنى تُوَفَّر: تترك على حالها دون نقص؛ لأنها وجه الإنسان وزينته، ويمنع حلقها. لوامع الدرر في هتك أستار المختصر (1/ 385).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«وأعفوا اللِّحَى» -بهمزة قطع مفتوحة-: من الإعفاء، وإعفاؤها: توفيرها وتكثيرها، أي: أنبتوها وأطيلوها. الكوكب الوهاج(5/ 303).
وقال الغزالي -رحمه الله-:
وقد اختلفوا فيما طال منها (أي: اللحية)؛ فقيل: إن قبض الرجل على لحيته، وأخذ ما فضل عن القبضة؛ فلا بأس، فقد فعله ابن عمر وجماعة من التابعين، واستحسنه الشعبي وابن سيرين، وكرهه الحسن وقتادة وقالا: تركها عافية أحب؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «أعفوا اللحى»، والأمر في هذا قريب إن لم ينته إلى تقصيص اللحية وتدويرها من الجوانب، فإن الطول المفرط قد يُشَوِّهُ الخلقة، ويُطْلِقُ ألسنة المغتابين بالنبذ إليه؛ فلا بأس بالاحتراز عنه على هذه النية.
وقال النخعي: عجبتُ لرجل عاقل طويل اللحية كيف لا يأخذ من لحيته، ويجعلها بين لحيتين؛ فإن التوسط في كل شيء حسن؛ ولذلك قيل: كلما طالت اللحية تشمَّر العقل. إحياء علوم الدين (1/ 143).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
والصواب: أن يقال: إن قوله -عليه السلام-: «أعفوا اللحى» على عمومه إلا ما خُصَّ من ذلك. شرح صحيح البخاري (9/ 147).
وقال النووي -رحمه الله-:
والصحيح: كراهة الأخذ منها مطلقًا؛ بل يتركها على حالها كيف كانت؛ للحديث الصحيح: «أعفوا اللحى». المجموع شرح المهذب (1/ 290).
وقال النووي -رحمه الله- أيضًا:
معناها كلها (أي: الروايات الواردة في اللحية): تركها على حالها، هذا هو الظاهر من الحديث الذي تقتضيه ألفاظه، وهو الذي قاله جماعة من أصحابنا وغيرهم من العلماء... والمختار: ترك اللحية على حالها، وألا يتعرض لها بتقصير شيء أصلًا. شرح مسلم (3/ 151).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
والصواب: أن قوله: «أعفوا اللحى» على عمومه إلا ما خُصَّ من ذلك؛ وقد روي عنه حديث في إسناده نظر: أن ذلك على الخصوص، وأن من اللحى ما الحق فيه ترك إعفائه؛ وذلك ما تجاوز طوله أو عرضه عن المعروف من خلق الناس، وخرج عن الغالب فيهم. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (28/ 117).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
ولو أخذ ما زاد على القبضة لم يكره، نصَّ عليه (أي: أحمد)...، وكذلك أخذُ ما تطاير منها، وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه: «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يأخذ من لحيته: من عَرضها وطُولها»، رواه الترمذي، وقال: حديث غريب، فأما حلقُها فمثل حلقِ المرأة رأسَها، وأشدّ؛ لأنه من الْمُثْلة المنهيِّ عنها، وهي محرَّمة. شرح عمدة الفقه (1/ 223).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «كان (أي: النبي -صلى الله عليه وسلم-) يأخذ من لحيته» هذا لا ينافي قوله -صلى الله عليه وسلم-: «أعفوا اللحى»؛ لأن المنهي عنه هو قصها كفعل الأعاجم، أو جعلها كذنب الحمام، والمراد بالإعفاء: التوفير منه كما في الرواية الأخرى، والأخذ من الأطراف قليلًا، لا يكون من القصِّ في شيء. الكاشف عن حقائق السنن (9/ 2930).
وقال المناوي -رحمه الله-:
ثم إن فعله هذا لا يناقض قوله: «أعفوا اللحى»؛ لأن ذلك في الأخذ منها لغير حاجة، أو لنحو تزين، وهذا فيما إذا احتيج إليه؛ لِتَشَعُّثٍ أو إفراط يتأذى به. فيض القدير (5/ 193).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
لم نعلمْ أنَّ أحدًا ذهب إلى أنَّ «أعفوا اللحى» إذا كان بمعنى: كثِّروها وأوفوها؛ أنه يدخل تحته معالجتُها بما يُنبت الشعرَ أو يطوِّلُه؛ كما يفعله بعضُ من ينتمي إلى التصوُّف من المتأخرة. شرح الإلمام بأحاديث الأحكام (3/ 317).
وقال العيني -رحمه الله-:
قال الطبري: فإن قلتَ: ما وجه قوله: «أعفوا اللحى»؟ وقد علمتَ أن الإعفاء الإكثار، وأن من الناس من إذا ترك شعر لحيته اتباعًا منه لظاهر قوله: «أعفوا اللحى» فيتفاحش طولًا وعرضًا، ويسمج (أي: يقبح) حتى يصير للناس حديثًا ومثلًا، قيل: قد ثبتت الحجة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، على خصوص هذا الخبر، وأن اللحية محظور إعفاؤها، وواجب قصها على اختلاف من السلف في قدر ذلك وحَدِّه، فقال بعضهم: حدُّ ذلك: أن يزاد على قدر القبضة طولًا، وأن ينتشر عرضًا فيقبح ذلك. عمدة القاري (22/ 46).
وقال الأُبّي -رحمه الله-:
في الحديث: «إن الله تعالى زين بني آدم باللحى»، وإذا كانت زينة فالأحسن تحسينها بالأخذ منها طولًا وعرضًا، وتحديد ذلك بما زاد على القبضة؛ كما كان ابن عمر يفعل ذلك، وهذا فيمن تزيد لحيته، وأما من لا تزيد لحيته فيأخذ من طولها وعرضها بما فيه تحسين؛ فإن الله تعالى جميل يحب الجمال.
فإن قلتَ: تحسينها بالأخذ منها طولًا وعرضًا منافٍ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «أعفوا اللحى».
قلتُ: الأمر بالإعفاء إنما هو لمخالفة المشركين؛ لأنهم كانوا يحلقونها، ومخالفتهم تحصل بعدم أخذ شيء ألبتة، أو بأخذ اليسير الذي فيه تحسين؛ فالصواب ما ذكرنا. إكمال إكمال المعلم (2/ 66).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
الأمرُ بإعفائها؛ بمعنى: تكثيرها أو تركها، ويمنعُ من نتفها وحلقها؛ كما يفعله من يريد بقاءَ الْمُرُودة، وتحسينَ الصورة بعدم اللحية، وقد استثنى بعضهم: إذا نبتت للمرأة لحية، وقال: إنه يستحب لها حلقها، -والله أعلم-. شرح الإلمام بأحاديث الأحكام (3/ 319).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
وكان ابن عمر إذا قصر من لحيته في حج أو عمرة يقبض على لحيته ويأخذ من طرفها ما خرج عن القبضة، وابن عمر روى: «أعفوا اللحى»، وفهم من معناه: ما يأخذ من لحيته، وإذا كان هذا في اللحية فالسّبَال (طرف الشارب مما يلي اللحية) أولى بالأخذ؛ لكونه متصلًا بالشارب. شرح سنن أبي داود (16/ 562).
وقال الباجي -رحمه الله-:
ويحتمل عندي أن يريد: أن تُعْفَى اللحى من الإحفاء؛ لأن كثرتها أيضًا ليس بمأمور بتركه، وقد روى ابن القاسم عن مالك: لا بأس أن يؤخذ ما تطاير من اللحية وشَذَّ، قيل لمالك: فإذا طالت جدًّا قال: أرى أن يؤخذ منها وتُقَصّ، وروي عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة: أنهما كانا يأخذان من اللحية ما فضل عن القبضة، -والله أعلم وأحكم-. المنتقى شرح الموطأ (7/ 266).
قوله: «وخذوا الشّوارب»:
قال ابن الشجري -رحمه الله-:
«الشَّوَارِبَ» جمع شارب، وهو الشّعر النابت على الشّفة العليا، وإنما سمّوه شاربًا؛ لأنه أوّل ما يَرِدُ الماء إذا شرب الشارب. أمالي ابن الشجري (2/ 473).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
ووقع عند بعضهم: «خذوا الشوارب» ومعنى ذلك عند مالك: قصُّه. إكمال المعلم (2/ 62).
وقال الإمام مالك -رحمه الله-:
يُؤخذ من الشارب حتى يبدو طرف الشفة، وهو الإطار، ولا يَجُزُّه، فيُمثِّل بنفسه. الموطأ (2/ 922).
وقال النووي -رحمه الله-:
المختار في الشارب: ترك الاستئصال، والاقتصار على ما يبدو به طرف الشفة، -والله أعلم-. شرح مسلم (3/ 151).
قوله: «وغيروا شيبكم»:
قال ابن بطال -رحمه الله-:
ومعناه: غيروا الشيب الذي هو نظير شيب أبي قحافة، وأما من كان أشمط (مَن خالط سوادَ شعرِه بياضٌ)؛ فهو الذي أمره النبي -عليه السلام- ألا يغيره. شرح صحيح البخاري (9/ 152).
وقال المظهِري -رحمه الله-:
يعني: ترك خضاب الشعر الأبيض عادة اليهود، فاخضبوا الشعر الأبيض حتى لا تكونوا متشبهين باليهود في ترك الخضاب. المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 51).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قال بعض العلماء: يحتمل أن يكون النهي اختص بالحالة التي يختلط الشعر الأبيض فيها بالأسود؛ لما في اختلاف اللونين من قبح التضاد، ومشابهة الموافقة بأهل النفاق، فأما إذا ابيضَّ كله وصار اللون واحدًا فلا يغير، واحتمل أن يكون تغيير الشيب يختص بمن شاب في الكفر، ثم أسلم ليشيب في الإسلام بعد التغيير، قلتُ: ويؤيده قضية أبي قحافة أول ما أسلم -كما تقدم-، واحتمل أن يكون مختصًّا بأهل الجهاد؛ إظهارًا للهيبة وترهيبًا للعدو.
قلتُ: وهذا هو الظاهر، وعليه عمل غالب الأمة في الأعصار والأمصار. مرقاة المفاتيح (7/ 2829- 2830).
قوله: «ولا تشبهوا باليهود والنصارى»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«ولا تشبهوا باليهود والنصارى» أي: فيما يتعلق بتغيير الشيب؛ فيحتمل أن المراد: أنهم لا يغيرونه أصلًا أو أنهم يغيرون بغير ما أُذِنَ فيه، وهو الحناء والْكَتَم...
وفيه: ندب مخالفة اليهود والنصارى مطلقًا؛ فإن العِبرة بعموم اللفظ. فيض القدير (4/ 408).
وقال الصنعاني رحمه الله-:
«ولا تشبهوا باليهود والنصارى» فإنهم لا يختضبون، أو أنهم يخضبون بغير ما أُذِنَ فيه وأبيح به الخضاب...
والمراد في الأحاديث كلها: شيب اللحية، ويحتمل: مطلق الشّيب؛ فيشمل الرأس وغيره من الشعر. التنوير شرح الجامع الصغير (7/ 444).