«إنَّ اللهَ -تبارك وتعالى- إذا أراد قبْضَ رُوح عبدٍ بأرضٍ، جَعلَ له فيها -أو قال: بها- حاجة».
رواه أحمد برقم: (15539)، واللفظ له، والترمذي برقم: (2146)، والبخاري في الأدب المفرد برقم:(780)، وابن حبان برقم: (6151)، من حديث أبي عَزَّة يسار بن عبد الله الهُذلي البصري -رضي الله عنه-.
ورواه أحمد -أيضًا- برقم: (21984)، من حديث مَطَرِ بْنِ عُكَامِسٍ -رضي الله عنه- ولفظه: «إذا قضى الله لعبد أن يموت بأرض جعل له إليها حاجة».
سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (1221)، صحيح الأدب المفرد برقم: (780)، مشكاة المصابيح برقم: (110).
شرح مختصر الحديث
.
شرح الحديث
قوله: «إنَّ اللهَ -تبارك وتعالى- إذا أرادَ قبْضَ رُوح عبدٍ بأرضٍ»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«إذا أراد الله قبضَ عبدٍ» أي: قبض رُوح إنسان، «بأرض» غير التي هو فيها. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 67).
وقال المناوي -رحمه الله- أيضًا:
قوله: «بأرضٍ» أي: غير التي هو فيها، وفي رواية للترمذي: «إذا أراد الله لعبد أن يموت بأرض». فيض القدير (1/ 267).
قوله: «جعَلَ له فيها -أو قال: بها- حاجة»:
قال السندي -رحمه الله-:
أي: ليذهب إليها، فيموت بها. حاشية السندي على مسند أحمد (3/522).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
أي: فيأتيها، ويموت فيها، إشارة إلى قوله تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَي أَرْضٍ تَمُوتُ} لقمان: 34. مرقاة المفاتيح (1/ 184).
وقال المناوي -رحمه الله-:
ليُقْبَر بالبقعة التي خُلق منها. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 67).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«جعل الله» أي: أظْهَر له «إليها حاجة» من تجارةٍ، أو زيارةٍ، أو غير ذلك؛ ليأتي بها، فيموت فيها. شرح المصابيح (1/ 128).
قال المناوي -رحمه الله-:
«جعل له إليها حاجة»، زاد في رواية الحاكم: «فإذا بلغ أقصى أثره، توفَّاه الله بها، فتقول الأرض يوم القيامة: يا رب، هذا ما استودَعْتَني». فيض القدير (1/ 417).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
هو فرد من أفراد وقوع ما قدَّره اللهُ من أفعال العباد باختيارهم؛ فإنَّه تعالى قدَّر وفاة زيدٍ بالأرض الفلانية مثلًا، فمشى إليها مختارًا، كان ما قدَّره اللهُ تعالى، فلا منافاة بين تقديره تعالى، واختيار عبده.التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 540).
وقال المناوي -رحمه الله-:
وقد مرَّ المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بقبرٍ يُحفَر، فقال: لمن؟ قيل: لحَبَشِي فقال: «لا إله إلا الله! سِيْقَ من أرضه وسمائه، حتى دُفن بالبقعة التي خُلق منها».
وفي ضمنه: إعلامٌ بأنَّ العبد لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا، وأنَّه لا رادَّ لقضائه بالنقض، ولا مُعقِّب لحكمه بالرَّد. فيض القدير (1/ 267).
وقال المظهري -رحمه الله-:
يعني: إذا كان الرجلُ في بلدةٍ، وقُدِّر أنْ يموتَ في بلدٍ آخرَ، أوقعَ الله تعالى في قلبه مَيْلًا إلى قصْدِ ذلك البلد، أو أَظهرَ له إليه حاجةً من تجارةٍ، أو زيارةٍ، أو ما أشبه ذلك؛ ليأتيَ ذلك البلدَ ليموتَ فيه؛ يعني: كلُّ شيء يكون كما قدَّره الله تعالى، لا يَقْدِر أحدٌ أن يغيرَه.المفاتيح في شرح المصابيح(1/ 216).
وقال المباركفوري -رحمه الله-:
«جعل له إليها حاجة» أي: ليُسَافر إليها، فيتوفاه الله بها، ويُدفن فيها، إشارة إلى قوله تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَي أَرْضٍ تَمُوتُ} لقمان: 34.
وفي الحديث: دليل على سبق القضاء والقدر. مرعاة المفاتيح (1/ 198).
وقال الحكيم الترمذي -رحمه الله-:
إنَّما صار أجَلُهُ هناك؛ لأنَّه خُلق من تلك البقعة، وقد قال -عز وجل- في تنزيله الكريم: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} طه: 55، وإنَّما يُعاد المرءُ مِن حيثُ بدأ. نوادر الأصول في أحاديث الرسول (1/ 266).
وقال القرطبي -رحمه الله-:
فائدة هذا الباب: تنبيه العبد على التيقُّظ للموت، والاستعداد له بِحُسنِ الطاعة، والخروج عن المظلمة، وقضاء الدَّين، وإتيان الوصية بماله، أو عليه في الحضر، فضلًا عن أوان الخروج عن وطنه إلى سفر، فإنه لا يدري أين كُتبت مَنيَّتُه من بقاع الأرض، وأنشد بعضهم:
مَشَيْنَاها خُطىً كُتبَت علينا *** ومَن كُتبَتْ عليه خُطى مَشَاهَا
وأرزاقٌ لنا مُتَفرِّقاتٍ *** فمَن لم تأتهِ مَشيًا أتَاهَا
ومن كُتِبت مَنِيَّتُه بأرضٍ *** فليس يموت في أرض سِواها.
وقد روي في الآثار القديمة: أنَّ سليمان -عليه السلام- كان عنده رجل يقول: يا نبي الله، إنَّ لي حاجة بأرض الهند، فأسألك أن تأمر الريح أن يحملني إليها في هذه الساعة، فنظر سليمان إلى ملك الموت -عليه السلام-، فرأه يبتسم، فقال: مِمَّ تتبسم؟ قال: تعجبًا، إني أُمِرْتُ بقبْضِ رُوح هذا الرجل في بقية هذه الساعة بالهند، وأنا أراه عندك، فرُوي أن الريح حملته في تلك الساعة إلى الهند، فقبض روحه بها، والله أعلم. التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة (1/ 103).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
رُبّما أقامت -أي النَّفْس- بأرضٍ، وضرَبَت أوْتَادَها، وقالت: لا أبْرَحُ منها، فتَرمي بها مرامي القدر، حتى تموت في مكان لم يخطُر ببالها، كما روي أنَّ ملك الموت مرَّ على سليمان بن داود -عليهما السلام-، فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يُدِيمُ النظر إليه، فقال الرجل: من هذا؟ فقال: ملك الموت، فقال: كأنه يريدني، فمرْ الريح أن تحملني وتلقيني بالهند، ففعل، فقال ملك الموت: كان دَوَام نظري تعجبًا منه؛ إذ أُمِرْتُ أن أقبض روحه بالهند، وهو عندك.
وفي الطبراني الكبير عن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله -صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم-: «ما جعل الله مَنِيَّة عبد بأرضٍ، إلا جعل له فيها حاجة».إرشاد الساري (10/ 364).
وقال الشيخ الساعاتي -رحمه الله-:
في حديث الباب: دلالة على إثبات القدر، وأنَّ الله تعالى إذا أراد موت عبدٍ بأرضٍ جعل له إليها حاجة، فيذهب إليها ليموت بها؛ تنفيذًا لما قدّرهُ الله -عزّ وجلّ-، مِن أنَّ كل إنسان يُدفن في الأرض التي خُلق منها.الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني (7/ 71).