الجمعة 28 رمضان 1446 هـ | 28-03-2025 م

A a

«إنَّ إبراهيم حرَّم مَكة، ودَعا لأهلها، وإِنّي حرَّمتُ المدينة كما حرَّم إبراهيم مكة، وإِني دعوتُ في صاعها ومُدِّها بمثلَيْ ما دَعا به إبراهيم لأهل مكة»


رواه البخاري برقم (2129)، ومسلم برقم: (1360) واللفظ له، من حديث عبد الله بن زيد -رضي الله عنه-. 


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«حرَّم»:
أي: جعلها مُحَرَّمَةً مُعظَّمةً وأهلُها تَبَعٌ لها في الحُرمة. تحفة الأحوذي (4/ 550).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
أي: جعلها حرامًا ممتنعة على الناس من الأذى والفساد والنهب والقتل، وغير ذلك من أنواع الشرور، وجعل ذلك حرامًا على الناس أن يفعلوه، وإنْ كان في غيرها أيضًا حرامًا؛ إلا أنَّ لها مزيد تحريم في أشياء في غيرها، كالصيد والشجر والعشب والملتجِئ إلى الحرم. الشافي في شرح مسند الشافعي (5/ 175).

«صاعِها»:
أي: في صاع المدينة، وهو كيل يَسَع أربعة أمداد. عمدة القاري، للعيني (10/ 250).
وقال الزرقاني-رحمه الله-:
«صاعِها»:
أي: أنَّ الله بارك فيما يُكال في صاع المدينة، فحذف المقدَّر لفهم السامع، وهو من باب ذكر المحل، وإرادة الحال. شرح موطأ الإمام مالك (4/ 270).

«مُدِّها»:
أي: مدِّ المدينة، والمدُّ رطْل وثلث رطْل عند أهل الحجاز، ورطلان عند أهل العراق...، وقيل: إنَّ أصل المدّ مُقَدّر بأن يمد الرجل يديه فيملأ كفيه طعامًا. عمدة القاري، للعيني (10/ 250).
وقال الزرقاني-رحمه الله-:
«مُدِّها»: أي: أنَّ الله بارك فيما يُكال في مُدِّ المدينة، فحذف المقدَّر لفهم السامع، وهو من باب ذكر المحل، وإرادة الحال. شرح موطأ الإمام مالك (4/ 270).


شرح الحديث


قوله: «إنَّ إبراهيم حرَّم مَكة»:
قال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: «إنَّ إبراهيم حرَّم مكة» وقد تقدَّم أنَّ اللهَ حرَّم مكة يوم خلق السماوات والأرض، وقال تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} النمل: 91.
وفى الحديث الآخر: «ولم يحرمها الناس» أي: لم يعرفها الناس من قِبَل أنفسهم، كما حرَّم الجاهلية أشياء.
وأما إبراهيم فيحتمل: أنَّ تحريمه إياها بإعلام الله له أنه حرَّمها، فتحريمه لها بتحريم الله، لا من قِبَل اجتهاده ورأيه، أو وكَّلَ اللهُ إليه تحريمها، فكان عن أمر الله، فأضيف إلى الله مرة لذلك، ومرة إلى إبراهيم بحكمه، أو لأنه كما جاء في الحديث: «دعا لها، فكان تحريم الله لها بدعوته». إكمال المعلم (4/ 479).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
إنْ قيل: كيف قال: «إنَّ إبراهيم حرَّم مكة» وسيأتي في المتفق عليه من حديث ابن عباس: «إنَّ هذا البلد حرَّمه الله يوم خلق السماوات والأرض»؟
فالجواب: أنَّ الله تعالى قضى بتحريمه، وأجرى الحُكم بذلك على لسان إبراهيم -عليه السلام-. كشف المشكل (2/ 192).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«إنَّ إبراهيم حرَّم مكة» حرَّمها الله على لسانه، أو فوَّض ذلك إليه فجعلها حرمًا.
«وإني حرَّمت المدينة» على أحد الوجهين، ويدل للأول حديث أبي هريرة عند البخاري: «حرَّم ما بين لَابَتَي المدينة على لساني حرامًا». التنوير شرح الجامع الصغير (3/ 133).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
«إنَّ إبراهيم حرَّم مكة»، وفي رواية: «إنَّ الله حرَّم مكة» ولا منافاة، فالمراد: أنَّ الله حكم بحرمتها، وإبراهيم أظهر هذا الحكم على العباد. سبل السلام (1/ 628).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«إنَّ إبراهيم حرَّم مكة» أي: أظهر حرمتها بأمر الله، فلا يُسفك فيها دم إنسان، ولا يُظلم فيها أحد، ولا يُصاد صيدُه، ولا يُختلى خَلَاه. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 215).
وقال المغربي -رحمه الله-:
قوله: «إِنَّ إِبراهيم حرَّم مكة» هكذا في هذه الرواية، وفي رواية ابن عباس: «إنَّ الله حرَّم مكة»، والجمع بين الروايتين: أنَّ التحريم من الله تعالى قضى به، وأظهر حرمته على لسان إبراهيم -عليه السلام-، أو أنَّ إبراهيم حرَّمه بأمر الله تعالى، فصحَّ نسبة التحريم إلى الله، وإلى إبراهيم جميعًا.
ووقع في رواية ابن عباس: «لم يحرمها الناس»، والمعنى: أنَّ تحريمها شرع من الله تعالى، لا لمجرد اختيار الناس، وتعظيمهم لما لا يستحق التعظيم؛ رجوعًا إلى الهوى كما فعلوا في كثير من الحجارة التي عبدوها من دون الله -سبحانه-، وقيل: إنَّ المعنى: أنَّ حُرمتها مستمرة من أول الخلق، ليست مما اختصت به شريعة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وقيل: المعنى: من تحريم إبراهيم أنه سأل الله تعالى تحريمها، فكان تحريمها بدعوته؛ ولذلك أضيف إليه.
والمراد بالتحريم: هو تأمين أهلها من أن يُقاتَلوا، وتأمين من استعاذ بها، كما قال تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} آل عمران: 97، وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} العنكبوت: 67. البدر التمام شرح بلوغ المرام (5/ 280).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
لا يُعارض حديث: «إنَّ الله حرَّم هذا البلد يوم خلق السماوات والأرض»؛ لأن معنى الأول: أنَّ إبراهيم أعْلَم الناس بذلك، والثاني ما سبق من تقدير الله. فتح الباري (3/ 440).
وقال ابن حجر -رحمه الله- أيضًا:
ولا معارضة بين هذا وبين قوله الآتي في الجهاد وغيره من حديث أنس: «إنَّ إبراهيم حرم مكة»؛ لأن المعنى: أنَّ إبراهيم حرَّم مكة بأمر الله تعالى، لا باجتهاده، أو أنَّ الله قضى يوم خلق السماوات والأرض أنَّ إبراهيم سيُحرِّم مكة، أو المعنى: أنَّ إبراهيم أول من أظهر تحريمها بين الناس، وكانت قبل ذلك عند الله حرامًا، أو أول من أظْهَره بعد الطوفان. فتح الباري (4/ 43).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «إنَّ الله حرَّم مكة، ولم يحرمها الناس» يعني: أنه حرَّمها ابتداءً من غير سبب يُعزى إلى أحدٍ، ولا مقدمة، ولا لأحد فيه مَدْخَل؛ لا نبي ولا عالم، ولا مجتهد.
وأكد ذلك المعنى بقوله: «ولم يحرمها الناس»، لا يقال: فهذا يعارضه قوله في الحديث الآخر: «اللهم إنَّ إبراهيم حرَّم مكة، وإني أحرِّم المدينة»؛ لأنا نقول: إنما نَسب الحكم هنا لإبراهيم؛ لأنه مبلِّغه، وكذلك نسبته لنبينا -صلى الله عليه وسلم-، كما قد ينسب الحكم للقاضي؛ لأنه مُنَفّذُه، والحكم لله العلي الكبير، بحكم الأصالة والحقيقة. المفهم (3/ 474).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله- أيضًا:
قوله -صلى اللَّه عليه وسلَّم-: «إنَّ إبراهيم حرَّم مكة» أي: بلَّغ حكم تحريمها، وعلى ذلك يُحمل قول نبينا -صلى الله عليه وسلم-: «وإني أحرِّم ما بين لَابَتَي المدينة»، وَقَد دَلَّ على صِحَّةِ هذا التَّأوِيلِ قولُه -صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ الله حرَّم مكة، ولم يحرّمها الناس». المفهم (3/ 479).
وقال النووي -رحمه الله-:
قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ هذا البلد حرَّمه الله يوم خلق السماوات والأرض»، وفي الأحاديث التي ذكرها مسلم بعد هذا: «إنَّ إبراهيم حرَّم مكة»، فظاهرها الاختلاف، وفي المسألة خلاف مشهور ذكره الماوردي في الأحكام السلطانية، وغيره من العلماء في وقت تحريم مكة، فقيل: إنها ما زالت محرَّمة من يوم خلق الله السماوات والأرض، وقيل: ما زالت حلالًا كغيرها إلى زمن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-، ثم ثبت لها التحريم من زمن إبراهيم، وهذا القول يوافق الحديث الثاني، والقول الأول يوافق الحديث الأول، وبه قال الأكثرون، وأجابوا عن الحديث الثاني بأن تحريمها كان ثابتًا من يوم خلق الله السماوات والأرض، ثم خفي تحريمها، واستمر خفاؤه إلى زمن إبراهيم، فأظهره وأشاعه، لا أنه ابتدأه، ومن قال بالقول الثاني أجاب عن الحديث الأول بأن معناه: أنَّ الله كتب في اللوح المحفوظ، أو في غيره، يوم خلق الله تعالى السماوات والأرض: أنَّ إبراهيم سيحرِّم مكة بأمر الله تعالى، والله أعلم. شرح النووي على مسلم (9/ 124).
وقال النووي -رحمه الله- أيضًا:
قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ إبراهيم حرَّم مكة» هذا دليل لمن يقول: إنَّ تحريم مكة إنما هو كان في زمن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-.
والصحيح: أنه كان يوم خلق الله السماوات والأرض، وقد سبقت المسألة مستوفاة قريبًا.
وذكروا في تحريم إبراهيم احتمالين:
أحدهما: أنه حرَّمها بأمر الله تعالى له بذلك لا باجتهاده، فلهذا أضاف التحريم إليه تارة، وإلى الله تعالى تارة.
والثاني: أنه دعا لها فحرَّمها الله تعالى بدعوته، فأُضيف التحريم إليه لذلك. شرح النووي على مسلم (9/ 134).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«إنَّ إبراهيم حَرَّمَ» بأمر الله «مكَّةَ» أي: حرَّم صيدَها، وقطْعَ نباتها، والقتال فيها، على ما مر.
وفيه: تحريم مكة والمدينة بالمعنى السابق، واختلفوا في ابتداء تحريم مكة، فالجمهور على أنها محرَّمة من يوم خلق السماوات والأرض، كما جاء في الصحيحين بذلك.
وقيل: إن إبراهيم أول مَن حرَّمها؛ للحديث المذكور، وأجاب الجمهور بأن تحريمها كان ثابتًا بما ذُكر، ثم خفي فأظهره إبراهيم، لا أنه ابتدأه.
وجواب الثاني عما استدل به الجمهور بأن معنى قوله: «إنَّ إبراهيم حَرَّمَ» أنه تعالى كتب في اللوح المحفوظ يوم خلق السماوات والأرض: أن إبراهيم سيُحرِّم مكة بأمر الله تعالى بعيد. فتح العلام بشرح الإعلام بأحاديث الأحكام (ص: 396).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
المراد من تحريم مكة: تأمين أهلها من أن يُقاتَلوا، وتأمين من يدخلها؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} آل عمران: 97، وتحريم صيدها، وقطع شجرها، وعضد شوكها. سبل السلام (1/628- 629).
وقال الشيخ عبد القادر شيبة الحمد -رحمه الله-:
«حرَّم مكة» أي: أعلن أنها بلد حرام، لا يجوز انتهاكها بقتال أهلها، أو تنفير صيدها. فقه الإسلام شرح بلوغ المرام (4/ 83).
وقال الشيخ عطية سالم -رحمه الله-:
قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ إبراهيم حرَّم مكة» هنا إسناد التحريم إلى إبراهيم -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام-، وهناك إسناد التحريم إلى الله -سبحانه وتعالى-، والحديثان كلاهما صحيح.
وقد جمع العلماء بين هذين الخبرين: بأن الله قد حرَّمها فعلًا يوم خلق السماوات والأرض، وأخبر ملائكته بذلك، ولكن العمل بهذا التحريم لم يكن إلا زمن إبراهيم -عليه السلام-، فيكون تحريم الله سابقًا تكريمًا، وتحريمه في زمن إبراهيم -عليه السلام- تعليمًا، وإنما التكليف حصل بتحريم إبراهيم -عليه السلام-، أو أنَّ إبراهيم أظهر تحريمها بعد أن نسيه الناس وتوالت عليه القرون الطويلة، والذي يهمنا أنَّ حُرمة مكة أمر مقطوع به. شرح بلوغ المرام (171/ 5).

قوله: «ودَعا لأهلها»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
«ودعا لأهلها» حيث قال: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِن الثَّمَرَاتِ} البقرة: 126، وغيرها من الآيات. سبل السلام (1/ 628).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«وَدَعَا لأهْلِهَا» ولها، بقوله تعالى: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ} الآية، البقرة: 126. فتح العلام بشرح الإعلام بأحاديث الأحكام (ص: 396-397).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«وَدَعَا لِأَهْلِهَا» أي: بالبركة. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (24/ 496).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«ودعا» إبراهيم -عليه السلام- «لأهلها» أي: لأهل مكة، بقوله: { وَارْزُقْ ‌أَهْلَهُ ‌مِنَ ‌الثَّمَرَاتِ} البقرة: 126. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (15/ 90).
وقال الشيخ عبد القادر شيبة الحمد -رحمه الله-:
«ودعا لأهلها» أي: سأل اللَّه -عز وجل- أن يُبارك لهم في طعامهم وشرابهم، وحيث قال فيما ذكر اللَّه -عز وجل- عنه: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} الآية، البقرة: 126.
وكما قال -عز وجل- عن إبراهيم أنه قال: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} إبراهيم: 37. فقه الإسلام شرح بلوغ المرام (4/83- 84).
وقال الشيخ حمزة محمد قاسم -رحمه الله-:
إنَّ إبراهيم دعا لمكة أن يسوق الله تعالى إليها وفود الحُجَّاج والمعتمرين، وأن تأتيها الأرزاق من كل حدَب وصَوْب...، فاستجاب الله دعوته، وشرع للناس حج بيته في الأديان الحنيفية كلها. منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري (4/ 196).

قوله: «وإِنّي حرَّمتُ المدينة، كما حرَّم إبراهيم مكة»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«وإني حرَّمتُ المدينة» أي: جعلتها حرامًا. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 216).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«وإني حرَّمتُ المدينة» هي عَلَم بالغلبة لمدينته -صلى الله عليه وسلم- التي هاجر إليها، فلا يتبادر عند إطلاق لفظها إلا هي. سبل السلام (1/ 628).
وقال الشيخ عبد الكريم الخضير -حفظه الله-:
«المدينة» هذا اللفظ إذا أُطلق يراد به مدينة النبي -عليه الصلاة والسلام- طيبة، مُهَاجَر النبي -عليه الصلاة والسلام-، هذا على الإطلاق، وبعضهم يدلِّس إذا اشتهرت المدينة النبوية بشيء يمتاز عن غيره، ووُجد في غيرها ما هو دونه من السلع، بعضهم ينادي هذا نعناع المدينة، هذا وُجد، فإذا شممتَه ما وجدت رائحة نعناع المدينة، فإذا نوقش قال: نعم، هذا نعناع المدينة، أنا أقصد الرياض، أو الخَرْج أو القصيم..، فالمدينة إذا أُطلقت يراد بها المدينة النبوية. شرح بلوغ المرام (ص: 114).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«وإنِّي حَرَّمْت» بأمر الله «المدينَة» أي: حرَّمت صيدها، وقطع شجرها، «كما حَرَّمَ إبراهيم مكَّةَ». فتح العلام بشرح الإعلام بأحاديث الأحكام (ص: 397).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله -عليه السلام-: «وإني حرَّمتُ المدينة، كما حرَّم إبراهيم مكة» مذهب مالك: أنَّ المدينة حَرَم لهذه الأحاديث، وأنكره أبو حنيفة، واحتجوا له بأن هذا مما يعمُّ، فلا يقبل فيه خبر الواحد، وبقوله -عليه السلام- في الحديث الآخر: «ما فَعل النُّغَير يا أبا عمير؟».
والجواب عن الأول: أنَّ الحديث شهر عند أهل النقل وكثُر، واتُّفق على صحته، وقد يكون بيانه -عليه السلام- بيانًا شافيًا، ولكن اكتفى الناس بنقل الآحاد فيه؛ استغناء ببعض عن بعض.
وحديث النُّغير أجاب بعض أصحابنا فيه بجوابين:
أحدهما: أنه يمكن أن يكون قبل تحريم المدينة.
والثاني: يمكن أن يكون أدخله من الحل، ولم يُعِده في حرم المدينة.
قال: وهذا الجواب لا يلزم عندي على أصولهم، وقد ذكرنا من قولهم: إن الحلال إذا دخل الحرم بالصيد وجب عليه إطلاقه.
واختُلف عندنا إذا صاد الصيد في حرم المدينة، فالمشهور ألا يُجزَّأ عليه؛ لأن إثبات الحرمة لا يوجب إثبات الجزاء، والأصل براءة الذمة.
وقال ابن نافع: فيه الجزاء، وقاسه على حرم مكة.
ومثل قول ابن نافع هذا قال ابن أبي ذئب وابن أبي ليلى، وحكى القاضي أبو الحسن ابن القصار عن بعض أصحابنا: أنه لا يُشبَّه بمذهب مالك.
واختلف قول الشافعي في ذلك، وكافة الناس على خلاف هذا القول، كما أنهم مخالفون لأبي حنيفة في إباحة صيدها، وقطع شجرها، وحلها، وقد روي عن مالك كراهة أكله، قال: وليس كالذي يُصاد بمكة.
قال بعض شيوخنا: وعلى القول فيه بالجزاء يكون حرامًا. إكمال المعلم (4/479- 480).
وقال المغربي -رحمه الله-:
قوله: «وإني حرَّمتُ المدينة» فيه التأويل كما تقدم، والأظهر هنا أن تحريمها كان سبب دعائه -صلى الله عليه وسلم- لها، ولأهلها، وكونه فيهم حيًّا وميتًا.
وفيه: دلالة على أنَّ المدينة لها حرم كمكة في تحريم الاصطياد، وقطع النبات الأخضر، وغير ذلك، وقد اختلف العلماء في ذلك، فذهب الهادي والشافعي وغيرهم إلى أن للمدينة حرمًا كحَرَم مكة في جميع ما ذُكر، وذهب أبو حنيفة وزيد بن علي والناصر إلى أن حرَم المدينة مخالِفٌ حرم مكة في الأحكام، وتسميته حرمًا مجازٌ، ويُرَد عليهم بقوله في حديث أنس: «لا يقطع شجرها، ولا يُحدَثُ فيها حَدثٌ»، وفي رواية عند مسلم: «لا يُقطع عِضَاهُها، ولا يُصاد صيدُها»، فإن هذا صريح في المذهب الأول.
واختلفت الأحاديث في تحديده، ففي حديث أنس عند البخاري: «المدينة حرم من كذا إلى كذا»، وفي حديث أبي هريرة عنده أيضًا قال: «حُرِّمَ ما بين لابَتَي المدينة على لساني»، قال: «وأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- بني حارثة، وقال: أراكم يا بني حارثة قد خرجتم من الحرم، ثم التفت، فقال: بل أنتم فيه»، وفي حديث علي -رضي الله عنه- عنده: «حُرِّم ما بين عَائِر إلى كذا»، وفي رواية عند مسلم: «مِن عَيْرٍ إلى ثور»، وفي رواية: «ما بين مَأْزِمَيهَا» أي: جبَلَيها، وفي رواية: «ما بين حَرَّتَيْها وحِماها وحِمى المدينة ثلاثة أجبُل، مما يلي حَرَّتَها الغربية، والحَرَّتين المراد بهما: الغربية والشرقية، والمدينة بينهما، وهو حدٌّ للحرم مِن المشرق والمغرب، وما بين جبليها بيان لحَدِّهِ من الجنوب والشمال، وللمدينة أيضًا حَرَّةٌ من القبلة، وحَرَّةٌ من الشام، لكنهما يرجعان إلى الشرقية والغربية، ويتصلان بهما. البدر التمام شرح بلوغ المرام (5/ 281-282).
وقال النووي -رحمه الله-:
قوله -صلى الله عليه وسلم-: «وإني حرَّمت المدينة، كما حرَّم إبراهيم مكة»
، وذكر مسلم الأحاديث التي بعده بمعناه، هذه الأحاديث حُجَّة ظاهرة للشافعي ومالك وموافقيهما في تحريم صيد المدينة وشجرها.
وأباح أبو حنيفة ذلك، واحتجَّ له بحديث: «يا أبا عمير ما فعل النُّغير؟» وأجاب أصحابنا بجوابين:
أحدهما: أنه يحتمل: أن حديث (النُّغير) كان قبل تحريم المدينة.
والثاني: يحتمل: أنه صاده من الحِلِّ لا من حرم المدينة.
وهذا الجواب: لا يلزمهم على أصولهم؛ لأن مذهب الحنفية أن صيد الحلِّ إذا أدخله الحلال إلى الحرم ثبت له حكم الحرم، ولكن أصلهم هذا ضعيف، فيُردُّ عليهم بدليله، والمشهور من مذهب مالك والشافعي والجمهور: أنه لا ضمان في صيد المدينة وشجرها، بل هو حرام بلا ضمان، وقال ابن أبي ذئب وابن أبي ليلى: يجب فيه الجزاء، كحرم مكة، وبه قال بعض المالكية وللشافعي قول قديم: أنه يُسْلَبُ القاتلُ؛ لحديث سعد بن أبي وقاص الذي ذكره مسلم بعد هذا، قال القاضي عياض: لم يقل بهذا القول أحد بعد الصحابة إلا الشافعي في قوله القديم، والله أعلم. شرح النووي على مسلم (9/ 134).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
المراد من تحريم المدينة: تحريم صيدها، وقطع شجرها، ولا يُحْدثُ فيها حَدَثٌ.
وفي تحديد حرم المدينة خلاف، ورد تحديده بألفاظ كثيرة، ورجَّحتُ رواية: «ما بين لابتيها»؛ لتوارد الرواة عليها. سبل السلام (1/628- 629).

قوله: «وإِني دعوتُ في صاعها ومُدِّها بمثلَي ما دَعا به إبراهيم لأهل مكة»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
«وإني دعوتُ في صاعها ومُدِّها» أي: فيما يكال بهما؛ لأنهما مكيالان معروفان. «بمثل ما دعا إبراهيم لأهل مكة» متفق عليه. سبل السلام (1/628- 629).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«بِمثْلَي مَا دَعَا إِبراهيم لأَهْلِ مَكَّةَ» بأن دُعِي به مرتين، أو دعا دعاءين، رواه الشيخان. فتح العلام بشرح الإعلام بأحاديث الأحكام (ص: 397).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
أراد به الدعاء بالبركة على الأقوات، وإنما خَصَّ الصاع والْمُدَّ؛ لأن أكثر أقواتهم التمر، وهو مَكِيل. شرح المصابيح (3/ 365).
وقال الزرقاني -رحمه الله-:
وهل يختص بالْمُدِّ المخصوص، أو يَعُمُّ كل مُدٍّ تعارفه أهل المدينة في سائر الأعصار زاد أو نقص، وهو الظاهر؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- أضافه إلى المدينة تارة، وإلى أهلها أخرى، ولم يضفه إلى نفسه الزكية، فدل على عموم الدعوة، لا على خصوصه بِمُده -صلى الله عليه وسلم- كما أفاده بعض العلماء. شرح الزرقاني على الموطأ (4/343- 344).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
هذا -أي دعاء النبي لصاع ومدِّ المدينة- من فصيح كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبلاغته.
وفيه: استعارة بيِّنة؛ لأن الدعاء إنما هو للبركة في الطعام المكيل بالصاع والْمُدِّ، لا في الظروف، والله أعلم.
وقد يحتمل: على ظاهر العموم، أن يكون في الطعام والظروف.
وفي هذا الحديث دليل على أن الكيل إذا اختلف في البلدان في الكيل والوزن وجب الرجوع فيه إلى أهل المدينة.
وترجيح القائل بذلك قوله بدعاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لهم في مكيالهم وصاعهم ومُدِّهم.
وفيه: دلالة على صحة رواية من روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «المكيال مكيال أهل المدينة، والوزن وزن مكة».
وفي هذا أيضًا ما يدل على أن ما كان مَكيلًا بالمدينة مما ورد فيه الخبر بتحريم التفاضل لا يجوز فيه إلا الكيل، وقياس ذلك أن ما كان موزونًا عندهم، فالتفاضل في بعضه ببعض محرم، لا يجوز فيه إلا الوزن، والله أعلم.
وفي هذا الحديث: فضلٌ بيِّن للمدينة، وقد عارضه بعض من يفضِّل مكة؛ لما ذكره البخاري قال: حدثنا علي بن المديني، قال: حدثنا أزهر بن سعد السمان عن ابن عون عن نافع عن ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا»، قالوا: وفي نجدنا يا رسول الله؟ قال: «اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا»، قالوا: يا رسول الله، وفي نجدنا، فأظنه، قال في الثالثة: «هناك الزلازل والفتن، وبها يطلع قرن الشيطان».
دعاؤه -صلى الله عليه وسلم- للشام يعني لأهلها، كتوقيته لأهل الشام الجحفة، ولأهل اليمن يلملم، علمًا منه بأن الشام سينتقل إليها الإسلام، وكذلك وقَّت لأهل نجد قرْنًا، يعني علمًا منه بأن العراق ستكون كذلك، وهذا من أعلام نبوته -صلى الله عليه وسلم-. التمهيد (1/278- 279).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «وإني دعوتُ في صاعها ومُدِّها بمثلَي ما دعا به إبراهيم لأهل مكة» تفسيره ما جاء في حديث أنس وهو قوله: «اللهم اجعل بالمدينة ضعفَي ما بمكة من البركة».
وقوله: «في صاعها ومُدِّها» أي: في ذي صاعها، وذي مدَّها، يعني: فيما يُكال بالصَّاع والمدِّ.
ووجهُ البركة: تكثير ذلك، وتضعيفه في الوجود، أو في الشبع، وقد فعل الله تعالى كل ذلك بالمدينة، فانجلب الناس إليها من كل أرض وبلد، وصارت مستقر ملوكٍ، وجُلبت إليها الأرزاق، وكثرت فيها مع قلة أكل أهلها، وترك نهمهم، وإنما هي وجبة واحدة يأكلون فيها العُلقة ما يتبلَّغ به من الطعام من الطعام والكفِّ من التمر، ويُكتفى به، ثم لا يلزم أن يكون ذلك فيها دائمًا، ولا في كل شخص، بل تتحقق إجابة دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا وُجد ذلك في أزمان، أو في غالب أشخاص، والله تعالى أعلم. المفهم (3/479- 480).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
ويُستحب أن يُتخذ ذلك المكيال؛ رجاءً لبركة دعائه -صلى الله عليه وسلم-، والاستنان بأهل البلد الذين دعا لهم. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (15/ 110).
وقال الشيخ عبد الكريم الخضير -حفظه الله-:
«وإني دعوتُ في صاعها ومُدِّها» يعني: بالبركة فيما يُكال بالصاع والْمُدِّ، أن يُبارك فيه، ودعا -عليه الصلاة والسلام- بنقل الحُمَّى منها إلى الجُحْفَة، فدعا بمثلَي ما دعا به إبراهيم لأهل مكة.
والبركة ظاهرة بسبب الدعوة النبوية، يلمسها كل من يسكن في المدينة، أو يَفِدُ إلى المدينة، ولو قَصُرَت مدة إقامته. شرح بلوغ المرام (ص: 114).


ابلاغ عن خطا