«اللهم اجعل بالمدينة ضِعْفَي ما جعلتَ بمكة من البركة».
رواه البخاري برقم: (1885) واللفظ له، ومسلم برقم: (1369) من حديث أنس -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«ضِعْفَي»:
ضِعف الشيء مثلُه، وضعفاه مِثْلاه، وأضعافه أمثاله. النهاية لابن الأثير (3/ 89) والمصباح المنير، الفيومي (2/ 361).
«البركة»:
البركة في كلام العرب: النماء والزيادة والتكثير من الله تعالى للخير. الاقتضاب في غريب الموطأ، اليفرني (1/ 195).
شرح الحديث
قوله: «اللهم اجعل بالمدينة»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
«المدينة» هي عَلَم بالغلبة لمدينته -صلى الله عليه وسلم- التي هاجر إليها، فلا يتبادر عند إطلاق لفظها إلا هي. سبل السلام (1/ 628).
وقال الشيخ عبد الكريم الخضير -حفظه الله-:
«المدينة» هذا اللفظ إذا أُطلق يراد به مدينة النبي -عليه الصلاة والسلام- طيبة، مُهَاجَر النبي -عليه الصلاة والسلام-، هذا على الإطلاق، وبعضهم يدلِّس إذا اشتهرت المدينة النبوية بشيء يمتاز عن غيره، ووُجد في غيرها ما هو دونه من السلع، بعضهم ينادي هذا نعناع المدينة، هذا وُجد، فإذا شممتَه ما وجدت رائحة نعناع المدينة، فإذا نوقش قال: نعم، هذا نعناع المدينة، أنا أقصد الرياض، أو الخَرْج أو القصيم..، فالمدينة إذا أُطلقت يراد بها المدينة النبوية. شرح بلوغ المرام (ص: 114).
قوله: «ضَعفَي ما جعلتَ بمكة»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ضِعفَي ما جعلتَ بمكة» أي: مِثْلَيه في الأقوات، وهو لا ينافي كون مكة أفضل منها باعتبار مضاعفة الحسنات، فإنَّ الأول: ارتفاق حسي دنيوي، والثاني: أخروي معنوي. مرقاة المفاتيح (5/ 1885).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«ضِعفَي» تثنية ضِعْف بالكسر، قال في القاموس: مِثْله، وضِعْفاه مِثْلاه، أو الضعف المثل، إلى ما زادوا، يقال: لك ضعفه، يريدون مثليه، وثلاثة أمثاله؛ لأنه زيادة غير محصورة، وقول الله تعالى: {يُضَاعَف لَها العَذَابُ ضِعْفَيْنِ} الأحزاب: 30، أي: ثلاثة أعذبة، ومجاز يضاعَف، أي: يُجعل إلى الشيء شيئان حتى يصير ثلاثة. اهـ.
وقال الفقهاء في الوصية بضعف نصيب ابنه مثلاه، وبضعفيه ثلاثة أمثاله، عملًا بالعرف في الوصايا، وكذا في الأقارير نحو: له عليَّ ضعف درهم، فيلزمه درهمان، لا العمل باللغة. إرشاد الساري (3/ 340-341).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
وفي ملحق الرواية الأولى «مثل ما دعا به إبراهيم» أي: وزيادة.
فإن الدعاء بالمثل لا يمنع بمثلين، فقد يكون دعا بمثل أولًا، ثم دعا بالمثلين. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (5/ 447).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
جاء في رواية: «اللهم اجعل بالمدينة ضِعفَي ما بمكة من البركة» وهو لا ينافي مضاعفة المثوبة بمكة المختصة بها دون أهل المدينة. مرقاة المفاتيح (5/ 1878).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
استدل بعض الناس على أنَّ المدينة أفضل من مكة بدعاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- للمدينة بضعف دعائه لمكة.
وقال آخرون ممن يرى أنَّ مكة أفضل من المدينة: لو كان تضعيف الدعاء للمدينة دليلًا على فضلها على مكة، لكانت الشام واليمن أفضل من مكة؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد كرَّر الدعاء للشام واليمن مرات، وهذا لا يقوله مسلم، روى ابن عمر: أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: «اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا، قالها ثلاثًا»، وهذا اعتراض غير لازم؛ لأن الأمة مجمعة أن مكة أفضل من الشام واليمن وجميع الأرض غير المدينة.
فلما تقرر هذا لم يكن تكرير الدعاء للشام واليمن موجبًا لفضلهما على مكة؛ لأنه لم يقصد بالدعاء لهما التفضيل على مكة، وإنما قصد التفضيل لهما على نجد، وإنما كان يصح هذا الاعتراض لو قُرن بالدعاء للشام واليمن ثلاث مرات الدعاء لمكة أقل من ذلك، وإنما في حديث ابن عمر الشام واليمن أفضل من نجد خاصة؛ لتكريره الدعاء للشام واليمن دون نجد، فكذلك تكريره الدعاء للمدينة دون مكة، فوجب فضلها على مكة، والله أعلم. شرح صحيح البخاري (4/554- 555).
قوله: «من البركة»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«من البركة» الدنيوية والأخروية. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 224).
وقال المناوي -رحمه الله- أيضًا:
«من البركة» الدنيوية، بدليل قوله في الخبر الآتي: «اللهم بارك لنا في مُدِّنا وصَاعِنا»، أو الأخروية، أو هما، على ما مرَّ، لكن هذا في غير ما خرج بدليل، كتضعيف الصلاة بمكة على المدينة. فيض القدير (2/ 150).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
«البركة» أي: كثرة الخَيْر، وهذا مُجمَلٌ فسَّره: «اللهمَّ بارِكْ لَنا في صَاعِنَا ومُدِّنَا»، فَعُرف منه أنها البرَكة الدُّنيوية، حتى لا يُقال: إنَّ مقتَضى إطلاق البركة أنْ يكون ثَواب صلاة المدينة ضعْفَي ثَواب الصَّلاة بمكة، أو المراد عُموم البركة، لكنْ خُصَّت الصَّلاة ونحوُها بدليلٍ خارجيٍّ. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (6/ 340).
وقال النووي -رحمه الله-:
والظاهر مِن هذا كله أنَّ البركة في نفس المكيل في المدينة، بحيث يكفي الْمُدُّ فيها لمن لا يكفيه في غيرها، والله أعلم. شرح النووي على مسلم (9/ 142).
وقال الشيخ عبد الكريم الخضير -رحمه الله-:
ولا شك أنَّ مثل هذه البركة تعود إلى أمور الدنيا، وهذا ظاهر، وقد تعود إلى أمور الآخرة، وقد يتيسر للإنسان من التعبد في المدينة أكثر مما يتيسر له من التعبد بمكة، والعالِم يتيسر له من التحديث والتأليف والتعليم ما لم يتيسر له بمكة، فالبركة ظاهرة في المدينة، وعلى كل حال مكة أفضل من المدينة عند جماهير أهل العلم، وليس المقام مقام بسط الأدلة، فهي موجودة، وذَكَرها واستوعبها ابن عبد البر في التمهيد، ورجح رأي الجمهور، وخرج عن مذهبه في هذا. شرح كتاب الحج من صحيح مسلم (27/ 19).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «من البركة» أي: من بركة الدنيا؛ بقرينة قوله في الحديث الآخر: «اللهم بارك لنا في صاعِنا ومُدِّنا».
ويحتمل: أن يريد ما هو أعم من ذلك، لكن يُستثنى من ذلك ما خرج بدليل، كتضعيف الصلاة بمكة على المدينة. فتح الباري (4/ 98).
وقال محمد الخضر الشنقيطي -رحمه الله- معقِّبًا على ابن حجر:
قلتُ: هذا كله انتصار منه لمذهبه، فالظاهر هو الاحتمال الثاني الذي هو العموم، ولا سبيل إلى تخصيصه بالحديث الذي ذكره؛ لأن القاعدة الأصولية: أن ذكر الخاص بعد ذكر العام مقرونًا بحكمه، لا يفيد التخصيص، فأحرى إذا لم يذكر بعده، ولم يعلم هل هو متقدِّم عليه أو متأخِّر؟ واستثناء ما خرج بدليل... إلخ، غير مسلّم؛ لأن الدليل الذي ذكر لم يثبت تأخيره عن هذا الحديث.
ثم قال: واستدل به على تفضيل المدينة على مكة وهو ظاهر من هذه الجهة، لكن لا تلزم من حصول أفضلية المفضول في شيء من الأشياء ثبوت الأفضلية له على الإطلاق، وأما مَن ناقض ذلك بأنه يلزم أن يكون الشام واليمن أفضل من مكة؛ لقوله في الحديث الآخر: «اللهم بارك لنا في شامنا» وأعادها ثلاثًا، فقد تُعقِّب بأن التأكيد لا يستلزم التكثير المصرَّح به في حديث الباب.
وقال ابن حزم: لا حجة في حديث الباب لهم؛ لأن تكثير البركة بها لا يستلزم الفضل في أمور الآخرة.
وردَّه عياض بأن البركة أعم من أن تكون في أمور الدين والدنيا؛ لأنها بمعنى النماء والزيادة، فأما في الأمور الدينية فلِما يتعلق بها من حق الله تعالى من الزكاة، والكفارات، ولا سيما في وقوع البركة في الصاع والمُدّ، وقال النووي: الظاهر أن البركة حصلت في نفس المكيل؛ بحيث يكفي الْمُدّ فيها ما لا يكفيه في غيرها، وهذا أمر محسوس عند مَن سكنها، وقال القرطبي: إذا وُجدت البركة فيها في وقت حصلت إجابة الدعوة، ولا يستلزم دوامها في كل حين، ولكل شخص.
قلتُ: الحق أن هذا الحديث واضح في تفضيل المدينة على مكة، إلا إذا قال المعارض: إن دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- لم تُستجب؛ لأنها إذا كانت مستجابة كان معلومًا بالبديهة أن البركة شاملة لأمور الدين والدنيا، فالبركة لغة: النماء والزيادة والسعادة، وقد قال تعالى: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} هود: 73، فلا يمكن أن يقال: إن البركة خاصة بالْمُد والأقوات، فأول ما تدخل فيه بركة المدينة النماء في عبادتها، وزيادة ثوابها على غيرها، وسعادة أهلها بها، وبهذا يحصل فضل المدينة على مكة، هذا ما ظهر لي، والله تعالى أعلم. كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري (14/ 250-251).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«من البركة» أي: الدنيوية؛ إذ هو مجمل، فسَّره الحديث الآخر: «اللهم بارك لنا في صاعنا ومُدّنا» فلا يقال: إن مقتضى إطلاق البركة أن يكون ثواب صلاة المدينة ضعفَي ثواب الصلاة بمكة، أو المراد عموم البركة، لكن خُصت الصلاة ونحوها، بدليل خارجي، فاستدلّ به على تفضيل المدينة على مكة، وهو ظاهر من هذه الجهة، لكن لا يلزم من حصول أفضلية المفضول في شيء من الأشياء ثبوت الأفضلية على الإطلاق، وأيضًا لا دلالة في تضعيف الدعاء للمدينة على فضلها على مكة؛ إذ لو كان كذلك للزم أن يكون الشأم واليمن أفضل من مكة؛ لقوله في الحديث الآخر: «اللهم بارك لنا في شأمنا ويمننا» أعادها ثلاثًا، وهو باطل؛ لما لا يخفى، فالتكرير للتأكيد، والمعنى واحد، قال الأُبِّي: ومعنى ضعف ما بمكة أن المراد ما أشْبَع بغير مكة رَجلًا أشبع بمكة رجلين، وبالمدينة ثلاثة.
فالأظهر في الحديث أن البركة إنما هي في الاقتيات.
وقال النووي: في نفس المكيل؛ بحيث يكفي الْمُدُّ فيها من لا يكفيه في غيرها، وهذا أمر محسوس عند من سكنها. إرشاد الساري (3/ 340-341).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
خبر «اللهم اجعل بالمدينة ضعفَي ما بمكة من البركة» يدل على الفضيلة لا الأفضلية، وقد صح في فضيلة مكة أحاديث أيضًا، منها خبر: «والله إنكِ لخير أرض الله وأحبُّ أرض الله إلى الله»، وخبر: «ما أطيبكِ وأحبك إليَّ، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنتُ غيرك»، ومنها خبر أنه -عليه السلام- قال لهم في حجة الوداع: «أيُّ بلد تعلمونه أعظم حرمة؟» قالوا: لا، إلا بلدنا.. الحديث، وفي رواية: أن ابن عمر وجابرًا يشهدان أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سأل الناس: «أيُّ بلد أعظم حرمة؟» فأجابوا بأنه مكة.
وهذا إجماع من الصحابة أنها أفضل البلاد، وأقرهم -عليه السلام-، هذا ونقل القاضي عياض وغيره الإجماع على تفضيل ما ضم الأعضاء الشريفة حتى على الكعبة المنيفة، وأن الخلاف فيما عداه.
ونقل عن أبي عقيل الحنبلي أن تلك البقعة أفضل من العرش، وصرح الفاكهاني بتفضيلها على السماوات، قال: بل الظاهر المتعين تفضيل جميع الأرض على السماء؛ لحلوله -عليه الصلاة السلام- بها، وحكاه بعضهم عن الأكثرين؛ لخلق الأنبياء منها، ودفنهم فيها.
وقال النووي: والجمهور على تفضيل السماء على الأرض، أي: ما عدا ما ضم الأعضاء الشريفة، ومحل الخلاف فيما عدا الكعبة، فهي أفضل من بقية المدينة اتفاقًا، ما عدا موضع قبره المقدس، ومحل نفسه الأنفس -صلوات الله وسلامه عليه- ما دام الصبح تنفس، والليل إذا عسعس. مرقاة المفاتيح (2/ 588).
وقال الدماميني -رحمه الله-:
«اللهم اجعل بالمدينة ضِعْفَيْ ما جعلتَ بمكةَ من البركة» استدل به بعضُهم على أن المدينة أفضلُ من مكة.
واعتُرض بمنع دلالةِ تضعيفِ الدعاء للمدينة على فضلها على مكة؛ إذ لو كان كذلك لكانت اليمنُ والشامُ أفضلَ من مكة، فهو باطل؛ لأنه كرر الدعاء للشام واليمن حيث قال: «اللَّهُمَّ بَاِركْ لَنَا في شَامِنَا، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا في يَمَنِنَا»، قالوا: وفي نَجْدِنا، قال: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا في يَمَنِنَا، قالَها ثلاثًا».
وردَّه ابنُ بطال: بأن اللازم في هذا الحديث تفضيلُ الشام واليمن على نجد، لا على مكة، نعم، لو قَرن بالدعاء لهما ثلاثًا الدعاء لمكة أقل، لأمكن، مع أن الإجماع يرده.
قال ابن المنير: وجهُ غلطِ المعترضِ أنه ظنَّ التكرارَ تضعيفًا في المقدار المدعُوِّ به، وليس كذلك، إنما التكرارُ تأكيد، والمعنى واحد، وأما حديثُ المدينة، فقد نص فيه على زيادة المقدار، فقال: «ضِعْفَي ما جعلتَ بمكةَ من البركة»، فهذا نصٌّ في عين المسألة.
ثم قال: ومن أعظم فضائل المدينة عندي: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يستعيذ بالله من الحَوْرِ بعد الكَوْر؛ أي: من النقصان بعدَ الزيادة، فلو كانت مكة أفضلَ من المدينة، والمدينةُ آخرَ المسكنين؛ للزم النقصانُ بعدَ الزيادة، والأمرُ على الضد، إنما كان -عليه السلام- يزيدُ فضلُه عند الله، ولا ينقص، فدل على أن المدينة أزيدُ فضلًا مصابيح الجامع (4/304- 305).
وقال المباركفوري -رحمه الله-:
قال القاضي أبو محمد: في هذا دليل على فضل المدينة على مكة؛ لأن تضعيف الدعاء لها إنما هو لفضلها على ما قصر عنها.
قال الباجي: والذي عندي أن وجه الدليل من ذلك أن إبراهيم دعا لأهل مكة بما يختص دنياهم، فقال: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} هود: 73، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا لأهل المدينة بمثل ذلك، ومثله معه، فيحتمل: أن يريد به وبدعاء آخر معه، وهو لأمر آخرتهم، فتكون الحسنات تضاعف للمدينة بمثل ما تضاعف بمكة، فإنما معنى فضيلة إحدى البقعتين على الأخرى في تضعيف الحسنات.
ويحتمل: أن يريد أن إبراهيم أيضًا دعا لأهل مكة بأمر آخرتهم، وعلم هو -صلى الله عليه وسلم- فدعا بمثل ذلك، وبمثله معه، فيعود إلى مثل ما قدمنا ذكره.
ويحتمل: أن يريد أن إبراهيم دعا لأهل مكة في ثمراتهم ببركة قد أجاب الله دعاءه فيه، وأنه -صلى الله عليه وسلم- دعا لأهل المدينة في ثمراتهم أيضًا بمثل ذلك ومثله معه، فلا يكون هذا دليلًا على فضل المدينة على مكة في أمر الآخرة، وإنما يدل على أن البركة في ثمارهم مثل البركة في ثمار مكة، إما لقرب تناولها، أو لكثرتها، أو للبركة في الاقتيات بها، أو ليوصل من يقتات بها في المدينة إلى مثلَي ما يتوصل به من يقتات في مكة بثمارها، انتهى...
قال الأُبِّي: ولا يعارض دعاءه بالبركة قوله في الحديث الآخر: «أصابهم بالمدينة جهد وشدة»؛ إذ لا منافاة بين ثبوت الشدة، وثبوت البركة فيها، وتخلفها عن البعض لا يضر بها، كذا أجاب شيخنا، والأظهر أن البركة في تحصيل القوت، وأن الْمُد بها يُشبع ثلاثة أمثاله بغيرها، فتكون الشدة في تحصيل الْمُد والبركة في تضعيف القوت به. انتهى. مرعاة المفاتيح (9/518- 519).
وقال ابن حزم -رحمه الله-:
«اللهم اجعل بالمدينة ضعْفَي ما جعلتَ بمكة من البركة»، وهذا لا حُجَّة فيه في فضل المدينة على مكة، وإنما فيه الدعاء للمدينة بالبركة، ونعم، هي والله مباركة، وإنما دعا إبراهيم لمكة بما أخبر به تعالى إذ يقول: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ} إبراهيم: 37، ولا شك في أن الثمار بالمدينة أكثر مما بمكة.
ولا شك في أن النبي -عليه السلام- لم يدع للمدينة بأن تهوي أفئدة الناس إليها أكثر من هويها إلى مكة؛ لأن الحج إلى مكة لا إلى المدينة، فصح أن دعاءه -عليه السلام- للمدينة بمثل ما دعا به إبراهيم لمكة ومثله معه، إنما هو في الرزق من الثمرات، وليس هذا من باب الفضل في شيء. المحلى بالآثار (5/ 325-326).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
أي: بركة حسية ومعنوية، وفي رواية: «وبارك لنا في مدينتنا» أي: في ذاتها من جهة سعتها، وسعة أهلها، وقد استجاب الله دعاءه -عليه الصلاة والسلام-؛ بأن وسَّع نفوس منافس المسجد وما حوله من المدينة، وكثَّر الخلق فيها، حتى عُدَّ من الفَرَس المعَدّ للقتال المهيأ بهما في زمن عمر أربعون ألف فرس، والحاصل أن المراد بالبركة هنا ما يشمل الدنيوية والأخروية والحسية. مرقاة المفاتيح (5/ 1874).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
ولعمري إنَّ دعاء حبيب الله -صلى الله عليه وسلم- استُجيب لها، وضاعف خيرها على غيرها؛ بأن جلب إليها في زمن الخلفاء الراشدين -رضوان الله عليهم- من مشارق الأرض ومغاربها، من كنوز كِسرى وقيصر وخاقان ما لا يُحصى ولا يُحصر.
وفي آخر الأمر بادر الدِّين إليها من أقاصي الأرض، وشاسع البلاد، وهذا معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: «مثله معه»، وينصر هذا الحديث حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- بعد هذا «أمرت بقرية تأكل القرى»، ومكة أيضًا من مأكولها كما سنقرر، والله أعلم. شرح المشكاة (6/ 2054-2055).