«مَن كانت له مَظْلِمَة لأخيه من عِرضه أو شيءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ منه اليوم، قبل أن لا يكون دينارٌ ولا درهمٌ، إنْ كان له عمل صالح أُخِذَ منه بقدْر مَظْلِمَتِه، وإن لم تكن له حسنات أُخِذَ من سيئات صاحبه فحُمِلَ عليه».
رواه البخاري برقم: (2449)، ورقم: (6534)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«مَظْلِمة»:
بكسر اللام على المشهور، اسمٌ لما أخذه الظالم، أو تعرَّض له من مالٍ أو عرض، ونحوه. مرقاة المفاتيح (8/ 3201).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«مظلِمة» بكسر اللام أشهر من فتحها، وضَمِّها. منحة الباري بشرح صحيح البخاري (5/ 224).
وقال المطرِّزي -رحمه الله-:
المظْلِمَةُ: الظُّلم...، واسمٌ للمأخوذِ في قولهم: عند فلانٍ مظْلِمَتِي وظُلَامَتِي، أي: حقِّي الَّذي أُخِذَ منِّي ظُلْمًا. المغرب في ترتيب المعرب (ص: 299).
«فَلْيَتَحَلَّلْهُ»:
أي: فَلْيَسْأَلْهُ أنْ يجعله في حِلٍّ؛ وليطلب منه بَراءة ذمَّته قبل يوم القيامة. عمدة القاري (23/ 112).
شرح الحديث
قوله: «مَن كانت له مَظلِمة لأخيه من عِرْضه أو شيء»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
اللام في قوله: «له» بمعنى (على) أي: مَن كانت عليه مظلمة لأخيه، وفي رواية لمالك عن المقبري بلفظ: «مَن كانت عنده مظلِمة لأخيه»، والترمذي من طريق زيد بن أبي أنيسة عن المقبري: «رحم الله عبدًا كانت له عند أخيه مظلِمة». فتح الباري (5/ 101).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«مَن كانت له مظلِمة» بكسر اللام، وفي الرقاق وفي رواية لمالك عن المقبري: «مَن كانت عنده مظلِمة لأحدٍ»، ولأبي ذر: «لأخيه» إرشاد الساري (4/ 258).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «مَن كانت له مظلِمة»: اسم ما أخذه الظالم، أو تعرَّض له. مرقاة المفاتيح (8/ 3201).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- أيضًا:
قوله: «لأخيه» أي: في الدِّين. مرقاة المفاتيح (8/ 3201).
قوله: «من عِرضه»:
قال القسطلاني -رحمه الله-:
بكسر العين المهملة: موضع الذَّمِّ والمدح منه، سواء كان في نفسه، أو أَصله، أو فرعه. إرشاد الساري (4/ 258).
وقال العيني -رحمه الله-:
العِرض: موضع المدحِ والذِّم من الإنسان، سواء كان في نفسه أو في سَلفِه أو من يلزمه أمره، وقيل: هو جانبه الذي يصونه من نفسه وحسبه ويحامي عنه أن ينتقص ويثلب، وقال ابن قتيبة: عِرض الرَّجل نفسه وبدنه لا غير.عمدة القاري(12/110)
وقال الكوراني -رحمه الله-:
أفرد العِرْض بالذِّكْر اهتمامًا به؛ لما في الحديث: «عرض المؤمن كَدَمِهِ».
وكان الظاهر: عليه مظلمة؛ إلا أنه أتى باللام إشارة إلى أن وبالها لا يتعداه؛ كقوله تعالى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} الإسراء: 7، مع قوله في موضع آخر: {وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} فصلت: 46. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (5/ 123).
قوله: «أو شيء»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
أي: من الأشياء، وهو من عطف العام على الخاص، فيدخل فيه المال بأصنافه، والجراحات، حتى اللطمة ونحوها، وفي رواية الترمذي: «من عرض أو مال». فتح الباري (5/ 101).
وقال المظهري -رحمه الله-:
«أو شيء» تعميم بعد التخصيص؛ أي: من شيءٍ آخرَ، كأخْذ ماله، أو المنع من الانتفاع به. شرح المصابيح (5/ 359).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«أو شيء» من الأشياء، كالأموال والجراحات حتى اللطمة، وهو من عطف العام على الخاص. إرشاد الساري (4/ 258).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«أو شيء» أي: أمر آخر، كأخذ ماله، أو المنع من الانتفاع به، أو هو تعميم بعد تخصيص. مرقاة المفاتيح (8/ 3201).
قوله: «فَلْيَتَحَلَّلْهُ منه اليوم قبل أن لا يكون دينارٌ ولا درهمٌ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فليتحلله» أي: فليطلب الظالم حِلَّ ما ذُكِر، «منه» أي: من المظلوم، في النهاية: يقال: تَحَلَّلْتَه واسْتَحْلَلْتَه إذا سألته أن يجعلك في حِلٍّ.
«اليوم» أي: في أيام الدنيا؛ لمقابلته بقوله: «قبل أن لا يكون» أي: لا يُوجد «دينار ولا درهم» وهو تعبير عن يوم القيامة، وفي التعبير به: تنبيهٌ على أنه يجب عليه أن يتحلَّل منه، ولو بذل الدينار والدرهم في بذل مظلمته؛ لأن أخذ الدينار والدرهم اليوم على التحلل أهون من أخذ الحسنات، أو وضع السيئات على تقدير عدم التحلُّل. مرقاة المفاتيح (8/ 3201).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«فَلْيَتَحَلَّلْه منه» أي: لِيَطلبْ من أخيه حِلَّه «اليومَ» أراد به: حياة الدنيا «قبلَ أن لا يكونَ دينارٌ ولا درهمٌ» أي: قبلَ يومِ القيامة؛ لأن الدينارَ والدرهمَ لا يُوجدان فيه. شرح المصابيح (5/ 359).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«فَلْيَتَحَلَّلْهُ منه اليومَ» نصب على الظرفية، والمراد من اليوم: أيام الدنيا؛ لمقابلته بقوله: «قبل أن لا يكون دينار ولا درهم»؛ فيُؤخذ منه بدل مظلمته وهو يوم القيامة، والمراد بالتحلل: أن يسأله أن يجعله في حِلٍّ ولْيَطْلُبْهُ ببراءة ذمته. إرشاد الساري (4/ 258).
وقال الدهلوي -رحمه الله-:
قوله: «فَلْيَتَحَلَّلْهُ» أي: يجعله في حِلٍّ بالاستعفاء عن صاحب الحق؛ فإن لم يمكن التحلل ففي الغيبة يتوب ويستغفر اللَّه، ويستغفر للمغتاب له كما مر، وفي الأموال مجملًا أو مفصلًا قولان. لمعات التنقيح (8/ 362).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
عندي الأرجح: أنَّ التحلّل جائز في الحقوق كلّها، مالِهَا وعِرْضِها -كما مال إليه القرطبيّ-؛ لإطلاق النصوص في ذلك، مثلُ قوله -عزَّ وجلَّ-: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} الشورى: 40، وقوله: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} النور: 22، فهذه الآيات قد عمّمت، ولم تخصّ حقًّا دون حقّ.
وقد أخرج البخاريّ في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من كانت له مظلمة لأحد من عِرضه أو شيء، فَلْيَتَحَلَّلْه منه اليوم، قبل أن لا يكون دينار، ولا درهم، إن كان له عمل صالح أُخِذَ منه بقَدْر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أُخِذَ من سيئات صاحبه، فحُمِل عليه» فهذا الحديث أصرح النصوص في هذه المسألة؛ إذ نصَّ على العِرْض، ثم عمّم جميع الحقوق بقوله: «أو شيء».
والحاصل: أنَّ التحلُّل مشروع مطلقًا، فتبصَّر، ولا تكن أسير التقليد. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (40/ 623).
وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله-:
إنْ لم يتمكَّن من تحلُّله من العِرْض، فَلْيَدْعُ له، ولْيَسْتَغْفِرْ له. الحلل الإبريزية (2/ 335).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
قوله: «فَلْيَتَحَلَّلْهُ منه» يريد: فَلْيَسْتَوْهِبْهُ منه؛ ولْيَطْلُبْ إليه تحليله له، ومعناه: أن يقطع دعواه عنه، ويترك مظلمته؛ وذلك أن ما حرَّمه الله تعالى من الغيبة، واستباحة العِرْض، لا يمكنه تحليله له، وإباحة المحظور منه في حق الدِّين، وإنما يقع التحليل في ذلك بأن يقطع دعواه عنه، فيما ناله من الضرر، ولحقه من الأذى في نفسه، وقد رُوينا عن ابن سيرين أنَّ رجلًا جاءه فقال: يا أبا بكر، اجعلني في حِلٍّ، فقد اغتبتك، فقال: إني لا أُحِلُّ ما حرمه الله، ولكن ما كان من قِبَلِنَا، فأنت منه في حِلٍّ.
قلتُ: وإذا وقع التحليل من حقوق المال، فإنما يصح ذلك في أمر معلوم، يقف عليه الْمُسْتَحَلُّ منه، فإن كان مجهولًا لم يصح التحليل.
وقال بعض العلماء: إنما يصح ذلك في المنافع التي هي أعراض، مثل: أن يكون قد غصبه دارًا فسكنها، أو دابة فركبها، أو ثوبًا فلبسه، أو كانت أعيانًا فتَلِفَتْ، فإذا تَحَلَّلَهُ منها صح التحليل فيها، فإن كانت الدار قائمة، والدراهم في يده حاصلة، لم يصح فيها التحليل إلا أن يهب أعيانها به، فتكون هبة مستأنفة. أعلام الحديث (2/ 1216-1217).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
قام الإجماع على أنه إذا بيَّن ما ظلمه به، فأبرأه، فهو نافذ.
واختلفوا فيمن بينهما ملابسة أو معاملة، ثم حلَّل بعضهم بعضًا من كل ما جرى بينهما من ذلك، فقال قوم: إن ذلك براءة له في الدنيا والآخرة، وإن لم يُبيِّن مقداره.
وقال آخرون: إنما تصح البراءة إذا بيَّن له، وعرف ما له عنده، أو قارب ذلك بما لا مُشَاحَّة في مثله، وهذا الحديث حجة لهذا؛ لأن قوله -عليه السلام-: «أُخِذَ منه بقدر مظلمته» يدل أنه يجب أن يكون معلوم القدر مُشَارًا إليه.
وكان ابن المسيب لا يُحلِّل أحدًا، وكان ابن يسار يُحلِّل من العرض والمال.
قال مالك: أما من المال فنعم، وأما من العِرْض فإنما السبيل على الذين يظلمون الناس.
قال الداودي: أَحْسِبُ مالكًا أراد إنْ أصاب من عِرْض رجلٍ لم يَجُزْ لِوَارِثِه أن يُحَلِّلَه.
قال ابن التين: وأراه خلافًا لقول مالك؛ لأنه قال: إنْ مات ولا وفاء عنده فالأفضل أن يُحَلِّلَه، وأما من ظلم أو اغتاب فلا.
وكان بعضهم يُحَلِّلُ من ظلمه، ويَتَأَوَّل: (الحسنة بعشر أمثالها)، وكان القاسم يُحَلِّلُ من ظلمه. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (15/ 591-592).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
فحللها له، أي: حلله منها، بأن قال: جعلتك في حِلٍّ منها، بمعنى: أبْرَأْتُك منها.
وهل يُبيِّن مظلمته؟ أي: هل يحتاج إلى بيانها؛ ليصح تَحَلُّلُهُ منها أو لا؟ مشهور من مذهب الشافعي: احتياجه إلى ذلك. منحة الباري بشرح صحيح البخاري (5/ 224).
«قبل أن لا يكون دينارٌ ولا درهمٌ»:
قال ابن الملك -رحمه الله-:
لأن الدينارَ والدرهمَ لا يُوجدان فيه -أي: يومِ القيامة-. شرح المصابيح (5/ 359).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«..دينار ولا درهم» يُقضى منه ما عليه، ولا تسمح النفس بالعفو؛ لأنه يوم يحتاج فيه كلٌّ إلى ماله عند الناس. التنوير شرح الجامع الصغير (6/ 243).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
في الدنيا يمكن أنْ يتحلل الإنسان من المظالم التي عليه بأدائها إلى أهلها، أو استحلالهم منها. لكن في الآخرة ليس هناك شيء إلا الأعمال الصالحة، فإذا كان يوم القيامة أقتص من الظالم للمظلوم من حسناته؛ يُؤخذ من حسناته التي هي رأس ماله في ذلك اليوم، فإن بقي منه شيء وإلا أُخذ من سيئات المظلوم، وحمُلت على الظالم -والعياذ بالله-، فازداد بذلك سيئات إلى سيئاته. شرح رياض الصالحين (2/ 509).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
قوله: «قبل ألا يكون دينارٌ ولا درهمٌ» (يكون) من كان التّامة، أي: قبل ألا يُوجد، أو قبل ألا يُغني دينار ولا درهم، ويعني: يوم القيامة. المنهل الحديث في شرح الحديث (2/ 332).
وقال الشيخ حمزة محمد قاسم-رحمه الله-:
أي: قبل أن يأتي ذلك اليوم الذي لا يملك فيه نقوداً يستطيع بها أن يرد للمظلوم حقه المالي الذي ظلمه فيه فيحاكمه إلى ربه عز وجل. منار القاري شرح مختصر البخاري(3/365)
وقال الشيخ عبد القادر شيبة الحمد -رحمه الله-:
وهذا الحديث الصحيح يُثبِتُ أنَّ التحلُّل من إثم غيبة من اغتاب الإنسان لا يكفي فيه مجرد الاستغفار له، بل لا بد من أن يطلب منه أن يعفو عنه، وأن يسامحه. فقه الإسلام شرح بلوغ المرام (10/ 283).
قوله: «إنْ كان له عمل صالح أُخِذَ منه بقدْر مظلمته»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«إنْ كان له عمل صالح» أي: بأن يكون مؤمنًا ظالمًا غير معفو من مظلومه، «أُخِذَ» بصيغة المجهول، أي: عملُه الصالح «منه» أي: من صاحبه الظالم على غيره.مرقاة المفاتيح (8/ 3201).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «إنْ كان» استئناف، كأنه لما قيل: «فَلْيَتَحَلَّلْهُ منه اليوم قبل أن يكون لا يكون دينار ولا درهم» ويُؤخذ منه بدل مظلمته، توجَّه لسائل أن يسأل: فما يُؤخذ منه بدل مظلمته؟ قيل: «إنْ كان...» إلخ. شرح المشكاة (10/ 3254).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«إنْ كان له عمل صالح» هذا استئنافُ جوابٍ عمَّن قال: فكيف الحالُ إذا لم يكن دينار ولا درهم هناك؟ أُخِذَ منه بقَدْر مَظلمته. شرح المصابيح (5/ 359).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«إن كان له» أي: الظالم «عمل صالح أُخِذَ منه» أي: من ثواب عمله الصالح. إرشاد الساري (4/ 258).
وقال الشيخ موسى شاهين-رحمه الله-:
«إنْ كان له عمل صالح» الجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًا، كأن سائلًا سأل: من أين يُؤخذ هذا البدل يوم لا دينار ولا درهم؟ فقيل: إن كان له عمل صالح... إلخ. المنهل الحديث في شرح الحديث (2/ 332).
قوله: «بقدْر مَظْلِمَتِه»:
قال القسطلاني -رحمه الله-:
التي ظلمها لصاحبه. إرشاد الساري(4/ 258).
وقال الملا على القاري-رحمه الله-:
«بقدْر مظلمته» ومعرفة مقدار الطاعة والمعصية، كَمِّيَّةً وكيفيَّةً مُفوَّض علمها إلى الله سبحانه. مرقاة المفاتيح (8/ 3201).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
«بقدر مظلمته» استدل به ابن بطال وتبعه غيره على أنه لا يسقط ما لم يُبيِّن له -أي: لمن ظلمه- مقدار ما ظلمه؛ لأنّ أخذ ذلك المقدار لا يمكن إلا بعد العلم.
وهذا لا يُعَوَّل عليه؛ لأنّ الإبراء عن المجهول جائز، وأمّا معرفة ما يُؤخذ من حسناته فَعِلْم الله كافٍ في ذلك، قال الله تعالى: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} المجادلة: 6.
فإن قلتَ: ما معنى أخذ العمل؟ قلتُ: يُؤخذ من حسناته، ويُضاف إلى حسنات المظلوم، ويُجعل في ميزانه، أو ثواب عمله، ويضاف إلى عمل المظلوم.
فإن قلتَ: تحليل الحرام حرام؟ قلتُ: ما المراد ذلك؛ بل إسقاط الحرمة، وإبراء الظالم. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (5/ 123).
وقال الدماميني -رحمه الله-:
«إنْ كان له عمل صالح أُخذ منه بقدْر مظلمته» قال المهلب: اختلف فيمن كانت بينه وبين آخر معاملة فحلَّله، فقيل: ذلك براءة له في الدارين، وإن لم يُبيِّن قدره، وقيل: لا بد من العلم بقدره وإلا فلا تصح البراءة.
قال: والحديث حجة لهذا القول؛ لأن قوله -عليه الصلاة والسلام-: «أُخِذَ منه بقدر مظلمته» يدل على أنه يجب أن يكون معلومَ القدر، ووهَّمه ابن المنير؛ لأن التقدير ذُكر حيث يقتص المظلوم من الظالم، فيأخذ بقدر حقه، وهذا متفق عليه؛ إذ لا يتجاوز المظلوم قدرَ حقه أصلًا، وإنما الكلام إذا أسقط الحق هل يُشترط معرفته بقدره أو لا؟ والحديث يدل على عدم الاشتراط؛ لأنه أطلق التحلل من غير تعرض إلى معرفة القدر، وهو أصل مالك -رحمه الله- في صحة هبة المجهول؛ خلافًا لغيره. مصابيح الجامع (5/ 355-356).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
قال المهلب: إن بيَّن فهو أطيب وأصح في التحلُّل؛ لأنه يعرف مقدار ما يُحلِّله منه معرفة صحيحة.
وقد اختلف العلماء فيمن كانت بينه وبين أحد معاملة وملابسة، ثم حلَّل بعضهم بعضًا من كل ما جرى بينهما من ذلك، فقال قومٌ: إنَّ ذلك براءة له في الدنيا والآخرة، وإن لم يُبيِّن مقداره.
وقال آخرون: إنما تصح البراءة إذا بيَّن له، وعرف ما له عنده، أو قارب ذلك، بما لا مُشَاحَّة في مثله.
قال المهلب: وهذا الحديث حجة لهذا القول؛ لأن قوله -عليه السلام-: «أُخِذَ منه بقدر مظلمته» يدل أنه يجب أن يكون معلوم القَدر مشارًا إليه. شرح صحيح البخاري (6/ 577).
قوله: «وإن لم تكن له حسنات أُخذ من سيئات صاحبه فحُمِلَ عليه»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وإنْ لم تكن» أي: لم تُوجد «له حسنات» أي: باقية أو مُطلقًا «أُخذ من سيئات صاحبه» أي: المظلوم «فحُمل عليه» بصيغة المجهول مُخفَّفًا أي: فوُضِعَ على الظالم. مرقاة المفاتيح (8/ 3201).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«وإن لم يكن له حسناتٌ أُخِذَ من سيئات صاحبه فحُمِل عليه» يحتمل: أن يكون المأخوذُ نفسَ الأعمال بأن يتجسَّد فيصير كالجوهر، وأن يكون ما أُعِدَّ له من النّعَم والنِّقَم إطلاقًا للسبب على المسبب، وهذا لا ينافي قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} الأنعام: 164؛ لأن الظالمَ في الحقيقة مَجْزِيٌّ بوِزْرِ ظلمِه، وإنما أُخِذَ من سيئات المظلوم تخفيفًا له، وتحقيقًا للعدل. شرح المصابيح (5/ 360).
وقال الخطابي-رحمه الله-:
ومعنى أخذ الحسنات والسيئات: أن يجعل ثواب الحسنات لصاحب المظلمة، ويجعل عقوبة السيئات على الظالم بدل حقه.
وكان بعض أهل العلم يقول: إذا اغتاب رجلًا فإن كان بلغ المقول فيه ذلك؛ فلا بد من أن يستحله، وإن كان لم يبلغه الخبر؛ فإنه يستغفر الله، ولا يخبره. أعلام الحديث (2/ 1216-1217).
وقال السيوطي -رحمه الله-:
«أُخِذَ من سيئات صاحبه فحُمِل عليه» لا يُعارِض هذا قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} الأنعام: 164؛ لأن عقوبته بحمل سيئات الغير إنما هو بجنايته لا بجناية الغير، فقُوْبِلَتْ الحسنات بالسيئات على اقتضاء عدل الله في عباده. التوشيح شرح الجامع الصحيح (4/1708- 1709).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
ولا تعارُض بين هذا وبين قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} الإسراء: 15؛ لأنه إنما يُعاقَب بسبب فعله وظلمه، ولم يُعاقَب بغير جناية منه، بل بجنايته، فقُوْبِلَتِ الحسنات بالسيئات على ما اقتضاه عدل الله تعالى في عباده. فتح الباري (5/ 102).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«وإن لم يكن له حسنات أُخِذَ من سيئات صاحبه» الذي ظلمه «فحُمِل عليه» أي: على الظالم عقوبة سيئات المظلوم. إرشاد الساري (4/ 258).
وقال البرماوي -رحمه الله-
«فحُمل عليه» أي: عُوقِب الظَّالم به، ولا تعارُض بين هذا وبين قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} الإسراء: 15؛ لأنه إنما يُعاقَب بسبَب فعله وظُلمه وجِنايته، فلمَّا دفَع لغُرمائه حسناته ولم يَبْق منها بقيةٌ أُخِذ قدر سيئاته، فعُوقِبَ بها.اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح(7/ 451).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وقد ردَّتِ المبتدعة هذا الحديث، وقالوا: يعارضه قوله: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} الإسراء: 15، وقد غَلِطوا في النظر والتأويل، وهذا إنما عُوقِب بوزره وظلمه أخاه...
فمعنى أَخْذِ الحسنات، وطرح السيئات: نوع من العقوبات التي أعدَّها الله للظالمين، وزيادة في ثواب المظلومين الصابرين، لا أنه مُؤاخذ بذنب لم يعمله من ذنوب غيره، ولا أُحْبِطَتْ حسناته لسيئاته، ولا دُفِعَتْ لغيره، بل زيد المظلوم على أجره مثل ثواب حسنات ظالمه، فضلًا من الله تعالى، هذا مذهب أهل السنة والجماعة، وعليه يتأول ظاهر هذا الحديث، حتى لا يجد ملحد فيه مطعنًا، ولا له به حجة. إكمال المعلم بفوائد مسلم (8/ 50-51).
وقال الشيخ حمزة محمد قاسم-رحمه الله-:
فقه الحديث: دلَّ هذا الحديث على أن الظالم إذا أراد أن يتوب إلى الله توبة صادقة، وكانت عليه حقوق مالية للمظلومين أن يتحلل منهم قبل كل شيء، يُبرئ ذمته من حقوقهم بإعادة حقوقهم إليهم، أو استسماحهم بعد أن يُبيِّن لهم الشيء الذي ظلمهم فيه، حتى يكونوا على معرفة تامة به، ولتبرأ ذمته من تلك المظلمة المعينة؛ لأن صحة البراءة، والتحلل يتوقفان على إعادة الحق إليهم، أو مسامحتهم في الشيء المعين الذي ظلموا فيه؛ وذلك أمر قام الإِجماع عليه، كما أفاده الحافظ.
أما البراءة والتحلل من المجهول فهو محل خلاف بين أهل العلم. منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري (3/ 366).