«إذا ابْتَلَى اللهُ العبدَ المسلِمَ ببلاءٍ في جسدِهِ، قال اللهُ: اكْتُبْ له صالِحَ عملِهِ الذي كان يعملُهُ، فإنْ شَفَاهُ غَسَّلَهُ وَطَهَّرَهُ، وإنْ قَبَضَهُ غَفَرَ له وَرَحِمَهُ».
رواه أحمد برقم: (12503)، ورقم: (13712)، وابن أبي شيبة برقم: (10831)، من حديث أنس -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (258)، صحيح الترغيب والترهيب برقم: (3422).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«غَسَّلَهُ»:
بالتشديد ويُخفَّف، أي: نظَّفه من الذنوب. مرقاة المفاتيح (3/ 1140).
«قَبَضَهُ»:
أي: أمَاتَهُ. المصباح المنير (2/ 488).
شرح الحديث
قوله: «إذا ابْتَلَى اللهُ العبدَ المسلِمَ ببلاءٍ في جسدِهِ»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
«إذا ابتلى» الابتلاء: الامتحان والاختبار. التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 487).
وقال المناوي -رحمه الله-:
فيجب على العبد أنْ يشكر الله على البلاء؛ لأنه في الحقيقة نعمة لا نقمة؛ لأن عقوبة الدنيا منقطعة، وعقوبة الآخرة دائمة، ومن عُجِّلت عقوبته في الدنيا، لا يعاقب في العُقبى. فيض القدير (2/ 280).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
فإنَّ خَلْقَ المرض الذي يحصل به ذُل العبد لربه، ودعاؤه لربه، وتوبته من ذنوبه، وتكفيره خطاياه، ويرقُّ به قلبه، ويذهب عنه الكبرياء والعظمة. منهاج السنة النبوية (3/ 176).
وقال الساعاتي -رحمه الله-:
ليس الأمر قاصرًا على الابتلاء في الجسد، بل مثله كل من كان يعمل طاعة فمُنع منها بأي مانع قهري، وكانت نيته أن يدوم عليها لولا المانع. الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني (5/ 144).
قوله: «قال اللهُ: اكْتُبْ له صالِحَ عملِهِ الذي كان يعملُهُ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
في نسخة: قيل للمَلَك الموكل، أي: صاحب يمينه: «اكتُب له صالح عمله» أي: مثله «الذي كان يعمل»، والظاهر من الحديث: أنه يكتب له نفس العمل، وقيل: ثوابه، والأول أبلغ؛ فإنه يشمل التضاعف. مرقاة المفاتيح (3/ 1140).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «اكتُب» أي: قال للملَك الكاتب للحسنات، «الذي كان يعمله» أي: يعتاد عمله في صحته. حاشية السندي على مسند أحمد (3/242).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
المعنى: اكتُب له مثل عمله حين كان صحيحًا. شرح المشكاة (4/ 1348).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
مَن كانت له عادة من عمل صالح، ومنعه الله منه بالمرض أو السفر وكانت نيته أنْ لو كان صحيحًا أو مقيمًا أن يدوم عليه، فإنَّ الله يتفضل عليه بأن يكتب له ثوابه، فأما من لم يكن له تنفُّل ولا عمل صالح، فلا يدخل في معنى الحديث؛ لأنه لم يكن يعمل في صحَّته أو إقامته بما يُكتب له في مرضه أو سفره؟! التوضيح لشرح الجامع الصحيح (27/ 263).
وقال ابن الملقن -رحمه الله- أيضًا:
فكذلك كل مرض من غير الزَّمَانة، وكُل آفة من سفر وغيره تمنع من العمل الصالح المعتاد، فإنَّ الله تعالى قد تفضَّل بإجراء أجره على من مُنع ذلك العمل...
ثم هو ليس على عمومه، وإنما هو لمن كانت له نوافل وعادة من عمل صالح، فمنعه الله تعالى منها بالمرض أو السفر، وكانت نيته لو كان صحيحًا أو مقيمًا أن يدوم عليها، ولا يقطعها، فإن الله -سبحانه- يتفضَّل عليه بأن يكتب له أجر ثوابها حين حبَسَه عنها.
فأما من لم يكن له نفل، ولا عمل صالح، فلا يدخل في معنى هذا الحديث، كما نبَّه عليه ابن بطال، فإنه لم يمنعه مرضه من شيء، فكيف يُكتب له ما لم يكن يعمله؟
ومما يدل على أنَّ الحديث في النوافل ما روى معمر، عن عاصم بن أبي النجود، عن خيثمة، عن عبد الله بن عمرو قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ العبد إذا كان على طريقة حسنة من العبادة، ثم مرض، قيل للمَلَك الموكل به: اكتُب له مثل عمله إذا كان طَلَقًا حتَّى أطلقه، أو أكْفِته إليَّ (أي: أُمِيتُهُ)»، وأخرجه أحمد بلفظ: «ما من أحد من الناس يُصاب ببلاء في جسده إلا أمر الله الملائكة الذين يحفظونه، يقول: اكتبوا لعبدي في كل يوم وليلة ما كان يعمل من خير ما كان في وثاقي»، وأخرجه الحاكم في مستدركه أيضًا وقال: «ما من مسلم» بدل: «ما من أحد»، وقال: صحيح على شرط الشيخين، وقوله: «إذا كان على طريقة حسنة من العبادة» لا يقال إلا في النوافل، ولا يقال ذلك لمؤدي الفرائض خاصة؛ لأن المريض والمسافر لا تسقط عنهما صلوات الفرائض، فسنة المريض الجلوس في الصلاة إن لم يطق القيام، والإيماء إن لم يطق الجلوس، وسنة المسافر القصر، ولم يبقَ أنْ يُكتب لهما إلا أجر النوافل، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: «ما من امرئ يكون له صلاة بالليل يغلبه عنها نوم إلا كُتب له أجر صلاته، وكان نومه صدقة عليه» وهذا لا إشكال فيه.
واعترضه ابن المنير، وقال: هذا تحجير واسع؛ بل يدخل فيه الفرائض التي شأنه أن يعمل بها وهو صحيح إذا عجز عنها فعلًا؛ لأنه قام به عزمًا أن لو كان صحيحًا، حتَّى صلاة الجالس في الفرض لمرضه يُكتب له به أجر صلاة القائم.
وقال ابن التين: هذا مجازاة على النية، فنيَّة المؤمن خير من عمله، كما قيل.
قلتُ: وقد ورد أيضًا، ويُحتمل: إنَّ تكلُّف المريض أو المسافر أقل العمل كان أفضل من عمله وهو صحيح مقيم. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (18/137- 139).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
لا يقال هذا: إلا في النوافل، ولا يقال ذلك لمؤدي الفرائض خاصة؛ لأن المريض والمسافر لا يسقط عنهما صلوات الفرائض؛ فسُنة المريض الجلوس، وسُنة المسافر قصر الصلاة، فلم يبقَ أن يُكتب للمريض والمسافر إلا أجر النوافل. شرح صحيح البخاري (5/ 155).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قال ابن بطال: وهذا كله في النوافل، وأما صلاة الفرائض فلا تسقط بالسفر والمرض، والله أعلم.
وتعقبه ابن المنير: بأنه تَحَجَّرَ واسعًا، ولا مانع من دخول الفرائض في ذلك، بمعنى: أنه إذا عجز عن الإتيان بها على الهيئة الكاملة أن يُكتب له أجر ما عجز عنه، كصلاة المريض جالسًا يُكتب له أجر القائم، انتهى. وليس اعتراضه بجيد؛ لأنهما لم يتواردا على محلٍّ واحد. فتح الباري (6/ 137).
قوله: «فإنْ شَفَاهُ غَسَّلَهُ وَطَهَّرَهُ»:
قال القاري -رحمه الله-:
«فإنْ شفاه» أي: الله -عز وجل- «غسَّله» بالتشديد ويُخفَّف، أي: نظَّفه «وطهَّره» من الذنوب؛ لأن المرض كفَّرَها، والواو تفسيرية، أو تأكيدية، أو تنويعية. مرقاة المفاتيح (3/ 1140).
وقال الدهلوي -رحمه الله-:
قوله: «غسَّله» بالتشديد والتخفيف. لمعات التنقيح (4/ 40).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «غسَّله وطهَّره» بمرضه عما كان عليه من الأوزار، ويكون الأمر بعد ذلك مُستأنَفًا. حاشية السندي على مسند أحمد (3/242).
قوله: «وإنْ قَبَضَهُ غَفَرَ له وَرَحِمَهُ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وإنْ قبضه» أي: أمر بقبضه وأماته «غفر له» من السيئات، «ورَحِمَه» بقبول الحسنات، أو تفضَّل عليه بزيادة المثوبات. مرقاة المفاتيح (3/ 1140).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «غفر له ورحمه» أي: فالعبد المسلم في خير، إنْ عاش، وإنْ مات، والله تعالى أعلم. حاشية السندي على مسند أحمد (3/242).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
فينبغي للعبد أنْ يجتهد في الطاعات أيام صحته، فإنَّ عمله يُكتب له عند تعطُّله عنه...، وهذا من أعظم كرم الرَّب على العبد. التنوير شرح الجامع الصغير (9/ 507).
وقال الشيخ عبد الرحمن ابن سعدي -رحمه الله-:
هذا من أكبر مِننِ الله على عباده المؤمنين: أنَّ أعمالهم المستمرة المعتادة إذا قطعهم عنها مرض أو سفر كُتبت لهم كلها كاملة؛ لأن الله يعلم منهم أنه لولا ذلك المانع لفعلوها، فيعطيهم تعالى بنياتهم مثل أجور العاملين، مع أجر المرض الخاص، ومع ما يحصل به من القيام بوظيفة الصبر، أو ما هو أكمل من ذلك من الرضا والشكر، ومن الخضوع لله والانكسار له...
ويدخل في هذا الحديث: أنَّ من فعل العبادة على وجهٍ ناقصٍ وهو يعجز عن فعلها على الوجه الأكمل، فإنَّ الله يكمل له بنيته ما كان يفعله لو قدر عليه؛ فإن العجز عن مكملات العبادات نوع مرض، والله أعلم.
ومن كان من نيته عمل خير، ولكنه اشتغل بعمل آخر أفضل منه، ولا يمكنه الجمع بين الأمرين: فهو أولى أن يكتب له ذلك العمل الذي منعه منه عمل أفضل منه، بل لو اشتغل بنظيره، وفضل الله تعالى عظيم. بهجة قلوب الأبرار (ص: 83).
وللاستفادة من الراوية الأخرى ينظر (هنا)