«يا ابن عَابِسٍ، ألا أخبرك بأفضل ما تعوَّذَ به المتعوِّذون؟» قال: قلتُ: بلى، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} الفلق: 1، و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} الناس: 1، هاتين السورتين».
رواه أحمد برقم: (17297) ورقم: (17389) واللفظ له.
والنسائي برقم: (5432)، والبيهقي في شُعب الإيمان برقم: (2339)، وابن أبي شيبة برقم: (558)، من حديث ابن عَابِسٍ الجُهَنِي -رضي الله عنه-.
ورواه الطبراني في المعجم الكبير برقم: (943) عن عُقبة بن عامر الجُهَنِي -رضي الله عنه-.
وقد قال الشيخ الألباني: أنَّ ابن عَابِسٍ هو عُقبة نفسه، كما سيأتي بيانه، والله أعلم.
وهكذا جاء عند النسائي في الكبرى برقم (7798)، بلفظ: «يا ابن عامر»، وهكذا جَعَلَهَ السيوطي في الجامع الصغير برقم (4358)، والفتح الكبير برقم (4732)، من حديث عُقبة بن عامر -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (2593)، سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (1104).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«المتعوِّذُونَ»:
أي: المعتصِمُون من الشرور. التنوير شرح الجامع الصغير (4/ 354).
شرح الحديث
قوله: «ألا أخبرك بأفضل ما تعوَّذَ به المتعوذون؟»:
قال المناوي -رحمه الله-:
قوله: «ألا أخبرك» أي: أُعْلِمُك. فيض القدير (3/ 99).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«ألا» حرف عَرْض، وهو الطلب برفق ولين. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (25/ 389).
وقال المباركفوري رحمه الله-:
قال الباجي: وقد عُلم أنه يُورِدُ ذلك على سبيل التنبيه لهم على الإصغاء إليه، والإقبال على ما يُخْبِرُ به، والتفرُّغ لِفَهْمِه. مرعاة المفاتيح (6/ 377).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «ألا أخبرك بأفضل ما يتعوَّذ به المتعوذون» أي: ما اعْتصَم به المعتصمون من الشُّرور كُلها. التنوير شرح الجامع الصغير (4/ 354).
قوله: «قال: قلتُ: بلى، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} الفلق: 1، و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} الناس: 1، هاتين السورتين»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«قُلْتُ: بَلَى» أي: أخبرني، تقدَّم أن (بَلَى) حرف إيجاب، فإذا قيل: ما قام زيد، وقلتَ في الجواب: بَلَى، فمعناه: إثبات القيام، وإذا قيل: أليس كان كذا؟ وقلتَ: بَلَى، فمعناه: التقرير والإثبات.
ولا تكون إلا بعد نفي، إما في أول الكلام، وإما في أثنائه. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (40/ 478).
وقال المناوي -رحمه الله-:
قوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} الفلق: 1، و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} الناس: 1، زاد في رواية: «ولن يتعوَّذ الخلائق بمثلهما»، سُمِّيَتَا بالمعوِّذَتين لأنهما عَوَّذَتَا صاحبهما، أي: عصَمَتَاه من كُلِّ سوء. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 395).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
وقوله: «هاتين السورتين» مفعول لفعل مُقدَّر، أي: أعني هاتين السورتين. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (39/ 387)
وقال الكنكوهي -رحمه الله-:
فإنَّ في أول السورتين استعاذة عن شَرِّ كل ما خلقه الله تعالى، ولا ينْدُر من ذلك شيء، مناسبته برب الفلق لا يخفى لطفه، فإنه فالق كل شيء، وفارق كل مختلطين، فعساه يفرق بينه وبينه. الكوكب الدري على جامع الترمذي (4/ 19).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
وإنما اختُصَّا بذلك لاشتمالهما على الجوامع في المستعاذ به، والمستعاذ منه، أما الأول فلأن الافتتاح برب الفلق مُؤْذِنٌ بطلب فيض رباني، يُزيل كل ظُلْمَة في الاعتقاد، أو العمل أو الحال؛ لأن الفلق الصبح، وهو وقت فَيَضَان الأنوار، ونزول البركات، وقَسْم الأرزاق؛ وذلك مناسب للمستعاذ منه.
وأما الثاني: لأنه في الأولى ابتدأ في ذكر المستعاذ منه بالعام: وهو شرّ كل مخلوق حيّ، أو جماد، فيه شرٌّ في البدن أو المال أو الدنيا أو الدِّين، كإحراق النار، وقتل السُّمّ.
ثم بالخاص اعتناء به لخفاء أمره؛ إذ يلحق الإنسان من حيث لا يعلم، كأنه يُغتال به، وهو القمر إذا غاب؛ لأن الظُّلْمة التي تعْقُب ذلك تكون سببًا لصعوبة التحرُّز من الشرّ المسبب عنها، ثم نفْث الساحرات في عُقَدِهنَّ الْمُوجِب لسَرَيان شرِّهِنَّ في الروح على أبلغ وجه وأخفاه، فهو أدق من الأول، ثم بِشَرِّ الحاسد في وقت الْتِهَاب نار حسَدِه فيه؛ لأنه حينئذٍ يسعى في إيصال أدق المكائد الْمُذْهِبة للنفس والدِّين، فهو أدق وأعظم من الثاني.
وفي الثانية خصَّ شرَّ الْمُوَسْوِس في الصدور من الجِنَّة والناس؛ لأن شرّه حينئذٍ يُعادل تلك الشرور بأسرها؛ لأنها إذا كانت في صدر المستعيذ ينشأ عنهما كل كفر وبدعة وضلالة، ومن ثم زاد التأكيد والمبالغة في جانب المستعاذ به؛ إيذانًا بعظمة المستعاذ منه، وكأنه قيل: أعوذُ من شرّ الْمُوَسْوِس إلى الناس بمن رباهم بنعمه، وملَكَهُم بقَهْرِه وقُوَّته، وهو إلههم ومعبودهم الذي يستعيذون به ممن سواه، ويعتقدون أن لا ملجأ لهم إلا إياه، وختم به؛ لأنه مختص به تعالى، بخلاف الأوَّلَيْن، فإنهما قد يطلقان على غيره. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (6/496- 497).
وقال الشيخ عطية سالم -رحمه الله-:
بالنظر إلى مضمون السورتين: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} الفلق:1، فالمستعاذ به ربُّ الفلق، والمستعاذ منه: {شَرِّ مَا خَلَقَ} الفلق: 2، على سبيل العموم، ثم يرجع إلى التفصيل {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَب} الفلق: 3، {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي العُقَد} الفلق: 4، {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَد} الفلق: 5، تلك الشرور الأربعة كلها جاء أمامها {أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} صفة الربوبية جاءت قبل تلك الشرور الأربعة.
بينما سورة الناس وهي خاتمة المصحف: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ} الناس: 1-3، فاشتملت على ثلاث صفات لله -سبحانه-، والتي تستعيذ بها كلها {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} الناس: 4.
انظر إلى هذا الإعجاز، ثلاث صفات لله -سبحانه-، تقف أمام شر واحد ألا وهو: {الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ}؛ لأن هذا هو الذي أفسد الناس، وهو الذي يُفسد عليهم عقائدهم ومعاملاتهم وأخلاقهم، ولا يُوجَد شر بين الخليقة إلا من جهته. شرح الأربعين النووية (54/ 5).