الخميس 27 رمضان 1446 هـ | 27-03-2025 م

A a

«‌لا ‌تجعلوا ‌بيوتَكُم ‌مقابرَ، إنَّ الشيطانَ يَنْفِرُ من البيتِ الذي تُقرأُ فيه سورةُ البقرةِ».


رواه مسلم برقم: (780)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«سورة»:
السُّورة: قِطْعَة من القُرآن معينة بمبدأ ونهاية لا يتغيران، مُسماة باسم مخصوص، تشتمل على ثلاث آيات فأكثر في غرض تامٍّ ترتكز عليه معاني آيات تلك السورة، ناشئ عن أسباب النزول، أو عن مقتضيات ما تشتمل عليه من المعاني المتناسبة. التحرير والتنوير، لابن عاشور (1/ 84).

«الشيطان»
كل عاتٍ مُتَمَرِّد من الجن ‌والإنس ‌والدوابِّ ‌فهو ‌شيطان. مجاز القرآن، لأبي عبيدة (1/ 32).
وقال أبو هلال العسكري -رحمه الله-:
إن الشيطان هو الشِّرِّير من الجن؛ ولهذا يقال للإنسان إذا كان شِرِّيرًا: شيطان، ولا يقال: جِنِّيٌّ؛ لأن قولك: شيطان يفيد الشر، ولا يفيده قولك: جِنِّيٌّ، وإنما يفيد الاستتار؛ ولهذا يقال على الاطلاق: لعن الله الشيطان، ولا يقال: لعن الله الجني، والجني اسم الجنس، والشيطان صفة. معجم الفروق اللغوية (ص: 307).

«يَنْفِرُ»:
أي: يخرج ويَشْرُدُ. مرقاة المفاتيح (4/ 1460).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
أي: يَيْأَسُ من إغواء أهله وتَسْوِيْلِهِم؛ لما يرى من جِدِّهم في الدِّين، ورسوخهم في الإسلام. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/ 522).


شرح الحديث


قوله: «‌لا ‌تجعلوا ‌بيوتكم ‌مقابر»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
قوله: «لَا» ناهية؛ ولذا جَزَمَ بها قولَه: «تَجْعَلُوا»، ولفظ ابن حبّان في صحيحه: «لا تتخذوا بيوتكم مقابر». البحر المحيط الثجاج (16/ 161).
وقال القاضي أبو يعلى الفراء -رحمه الله-:
فلولا أن المقبرة لا يُقْرَأُ فيها لم يُشَبِّه ‌البيت الذي لا يُقْرَأُ فيه بالمقبرة. الروايتين والوجهين (1/ 212).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
أي: لا تجعلوا بيوتكم كالمقابر خالية عن الذكر والطاعة، واجعلوا لها نصيبًا من القراءة والصلاة. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/ 522).
وقال ابن قرقول -رحمه الله-:
قوله: «لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ» تَأَوَّله البخاري: لا تجعلوها كالمقابر التي لا تجوز الصلاة فيها، وكذلك تَرْجَمَ عليه باب (كراهية الصلاة في المقابر)، وقال غيره: بل معناه: اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تجعلوها قبورًا؛ لأن العبد إذا مات وصار في قبره لم يصلِّ ولم يعمل، وهذا أولى؛ لقوله في الحديث الآخر: «اجْعَلُوا مِنْ صَلَاتِكُمْ في بُيُوتكُمْ وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا». مطالع الأنوار على صحاح الآثار (5/ 297).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
ومنه الحديث: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر» أي: لا تجعلوها لكم كالقبور، فلا تُصَلُّوا فيها؛ لأن العبد إذا مات وصار في قبره لم يُصَلِّ، ويَشْهَدُ له قوله: «اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تتخذوها قبورًا»، وقيل: معناه لا تجعلوها كالمقابر التي لا تجوز الصلاة فيها، والأول أَوْجَهُ. النهاية في غريب الحديث والأثر (4/ 4).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«لا تجعلوا بيوتكم مقابر» أي: كالمقابر في خُلُوِّها عن الذِّكْر والطاعة، بل اجعلوا لها من القرآن نصيبًا، أو معناه: لا تَدْفِنُوا موتاكم فيها. شرح المصابيح (3/ 17).
وقال المظهري -رحمه الله-:
«لا تجعلوا بيوتَكم مقابرَ» يعني: لا تتركوا بيوتَكم خاليةً من تلاوة القرآن، بل اقرؤوا في بيوتكم القرآنَ؛ فإن كلَّ بيت لا يُقرَأ فيه القرآن يُشْبِهُ المقابرَ في عدم قراءة القرآن. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 70).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وترجم البخاري على هذا الحديث: (كراهية الصلاة في المقابر)، كأنه استدل من قوله: «ولا تجعلوها قبورًا»؛ لأنها لا تجوز فيها الصلاة، وهذه استثارة في الفقه بعيدة، والذي عليه الناس في تأويل الحديث ما قدَّمناه، وأن مراده: لا تجعلوها كالقبور التي لا يُصَلِّي مَن فيها، ولم يُرد زائدًا عليها. إكمال المعلم (3/ 145).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
يحتمل أن يكون قوله -صلى الله عليه وسلم- مختصًا بصلاة الليل، وإن كان ظاهرُ لَفْظِهِ يقتضي العموم؛ وذلك لأنه قال هذا القول بعد أن قام بهم ليالي من رمضان، فلما رآهم يجتمعون إليه، ويَتَنَحْنَحُونَ ليخرج إليهم قال: «ما زال بكم الذي رأيتُ مِن صَنِيعِكُم حتى خشيتُ أن يُكْتَبَ عليكم، ولو كُتِبَ عليكم ما قمتم به، فصَلُّوا أيها الناس في بيوتكم...» الحديث، فاكتفى عن ذكر صلاة الليل بما دل عليه صيغة الحال.
ومن الدليل على صحة ما ذهبنا إليه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقعد في مصلاه حتى تطلع الشمس، ثم يركع ركعتين، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «مَن قعد في مصلاه حين ينصرف من صلاة الصبح حتى يُسَبِّحَ ركعتي الضحى لا يقول إلا خيرًا غُفر له خطاياه»، وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا قدِم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين، وكان -صلى الله عليه وسلم- يأتي مسجد قُبَاء كل سبت ماشيًا وراكبًا فيصلي فيه ركعتين، ولو كانت صلاته هذه في البيت خيرًا لم يكن ليأخذ بالأدنى ويدع الأعلى والأفضل.
وإذ قد ثبت هذا فنقول: الظاهر أنه أَمَرَهُم بالصلاة في بيوتهم لِمَعَانٍ ثلاثٍ، أو لبعض تلك المعاني:
أحدها -وهو آكد الوجوه-: أنه أَحَبَّ أن يُصَلُّوا في بيوتهم؛ عملًا بالرخصة التي منَّ الله تعالى بها على هذه الأُمَّة، ومخالفةً لأهل الكتاب، فإنه لم يكن لهم أن يُصَلُّوا إلا في كنائسهم وبِيَعِهِم.
والثاني: أَحَبَّ أن يَتَنَفَّلُوا في بيوتهم؛ لتشملها بركة الصلاة، فيرتحل عنها الشيطان، وينزل فيها الخير والسكينة، ولهذا المعنى قال -صلى الله عليه وسلم-: «إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لِبَيْتِهِ نصيبًا من صلاته؛ فإن الله جاعِلٌ في بيتِه من صلاته خيرًا».
والثالث: أنه رأى النافلة في البيت أفضل؛ حذرًا من دواعي الرياء وطلب المحمدة الذي جُبِلَ عليه الإنسان، ونظرًا إلى سلامته مِن العوارض والموانع التي تصيبه في المسجد، بخلاف البيت؛ فإنه يخلو هنالك بنفسه، فيَسُدَّ مداخِلَ تلك الآفات والعوارض.
فعلى الوجه الأول والثاني إذا أدى الإنسان بعضَ نوافله في البيت فقد خرج مِن عُهْدَةِ ما شُرع له، وعلى الوجه الثالث فإنه إذا تمكن من أداء نافلته في المسجد عارية عن تلك القوادح والعوارض لم تَتَأَخَّر صلاتُه تلك عن صلاته في البيت فضيلة، وأرى في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يَنْصِبُهُ إلا إياها» (أي الصلاة) إشارة إلى هذا المعنى، وهو ألا يشوب قصدَه ذلك شيءٌ آخر، فلا يزعجه إلا القصد المجرد لخروجه إلى الصلاة سالمًا عن الآفات التي أشرنا إليها. الميسر في شرح مصابيح السنة (1/ 215).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
ويحتمل أن يكون معناه: لا تجعلوا بيوتكم أوطانًا للنوم لا تُصَلُّون فيها؛ فإن النوم أخو الموت، وأما مَن أَوَّلَهُ على النهي عن دفن الموتى في البيوت فليس بشيء، وقد دُفن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيته الذي كان يسكنه أيام حياته، أقول: هو شيء، وَدَفْنُ الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيه لعله من خصائصه، سيما وقد رُوي: «الأنبياء يدفنون حيث يموتون»، قال صاحب التراجم: فَهِمَ البخاري من الحديث أن المقابر لا يُصلى فيها، فإنه شبَّه البيوتَ التي لا يُصلى فيها بالمقابر؛ فدلَّ بمفهومه على أن المقابر ليست محلًا للصلاة. قال: وفيه نظر؛ لأن الظاهر منه أن يكون المكلَّفُ بتركه الصلاة في بيته كالميت في قبره، وليس فيه ما يتعلق بصلاة المكلَّف في المقابر، ويدل عليه لفظ: «قبور»، ولو أراد ما ظنه البخاري لقال: ولا تتخذوها مقابر. والله أعلم. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (4/ 94).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وقال ابن التين: تَأَوَّلَهُ البخاري على كراهة الصلاة في المقابر، وتَأَوَّلَهُ جماعة على أنه إنما فيه الندب إلى الصلاة في البيوت؛ إذ الموتى لا يُصَلُّون، كأنه قال: لا تكونوا كالموتى الذين لا يُصَلُّون في بيوتهم وهي القبور، قال: فأما جواز الصلاة في المقابر أو المنع منه فليس في الحديث ما يؤخذ منه ذلك.
قلتُ: ‌إن ‌أراد ‌أنه ‌لا ‌يؤخذ ‌منه ‌بطريق ‌المنطوق ‌فمُسَلَّم، وإن أراد نفي ذلك مطلقًا فلا، فقد قدَّمنا وجه استنباطه. (استَنْبَطَ من قوله في الحديث: «ولا تتخذوها قبورًا» أن القبور ليست بمحل للعبادة، فتكون الصلاة فيها مكروهة)...
وقال التوربشتي: حاصل ما يحتمله أربعة معان، فذكر الثلاثة الماضية، ورابعها: يحتمل أن يكون المراد أنَّ مَن لم يُصَلِّ في بيته جَعَلَ نفسَه كالميت، وبيتَه كالقبر.
قلتُ: ويؤيده ما رواه مسلم: «مَثَلُ البيت الذي يُذكر اللهُ فيه والبيت الذي لا يُذكر اللهُ فيه كمثل الحيِّ والميت».
وقال الخطابي: فأما مَن تَأَوَّلَهُ على النهي ‌عن ‌دفن ‌الموتى ‌في البيوت فليس قوله بشيء، وقد دُفِنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته الذي يسكنه أيام حياته.
قلتُ: ما ادَّعى أنه تأويلٌ هو ظاهر لفظ الحديث، ولا سيما إن جعل النهيَ حُكمًا منفصلًا عن الأمر، وما استدل به على ردِّه تعقَّبَهُ الكرماني فقال: لعل ذلك من خصائصه، وقد رُوي أن الأنبياء يُدفنون حيث يموتون.
قلتُ: هذا الحديث رواه ابن ماجه مع حديث ابن عباس عن أبي بكر مرفوعًا: «ما قُبض نبيٌّ إلا دُفِن حيث يُقبض»، وفي إسناده حسين بن عبد الله الهاشمي وهو ضعيف، وله طريق أخرى مُرْسَلَة ذكرها البيهقي في (الدلائل)، وروى الترمذي في (الشمائل)، والنسائي في (الكبرى) من طريق سالم بن عبيد الأشجعي الصحابي عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- أنه قيل له: فأين يُدْفَنُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: «في المكان الذي قَبَضَ اللهُ فيه رُوحَهُ؛ فإنه لم يَقْبِضْ رُوْحَهُ إلا في مكان طيِّبٍ» إسناده صحيح، لكنه موقوف، والذي قبله أَصْرَح في المقصود، وإذا حُمل دفْنُه في بيته على الاختصاص لم يَبْعُد نهي غيره عن ذلك، بل هو متَّجِه؛ لأن استمرار الدفن في البيوت ربما صيَّرَها مقابر، فتصير الصلاة فيها مكروهة، ولفظ حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عند مسلم أصرح من حديث الباب، وهو قوله: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر»؛ فإن ظاهره يقتضي النهي عن الدفن في البيوت مطلقًا، والله أعلم. فتح الباري (1/ 530).
وقال العيني -رحمه الله-:
لَا يجوز حمل الْكَلَام على الْفَرِيضَة لَا كلِّهَا ولَا بعْضهَا؛ لِأَن الْحَث على النَّفْل فِي البيت؛ وذلك لكَونه أبْعَد من ‌الرِّيَاء، وأَصْوَن من المحبِطات، وليَتَبَرَّك بِهِ البيتُ، وتنزل الرَّحْمَة فِيهِ وَالْمَلَائِكَة، وتنفِر الشَّيَاطِين منه، على مَا دلّ عَلَيْهِ الحَدِيث الَّذِي أخرجه الطَّبَرَانِيّ الذِي ذَكرْنَاهُ عَن قريب (يُريد به حَدِيث عبد الرحمن بن سابط عَن أبيه، يرفعهُ: «‌نَوِّرُوا ‌بُيُوتكُمْ بِذكر الله تعالى، وَأَكْثرُوا فِيهَا تِلَاوَة الْقُرْآن، وَلَا تتخذوها قبورًا كَمَا اتخذها الْيَهُود وَالنَّصَارَى، فَإِن الْبَيْت الَّذِي يُقْرَأ فِيهِ الْقُرْآن يَتَّسِع على أَهله، وَيكثر خَيرُه، وتحضره الْمَلَائِكَة، وتُدْحَضُ عَنهُ الشَّيَاطِين، وَإِنَّ الْبَيْت الَّذِي لَا يُقْرَأ فِيهِ الْقُرْآن يضيق على أَهله، ويَقِلُّ خَيره، وتَنْفِرُ مِنْهُ الْمَلَائِكَة، وتحضر فِيهِ الشَّيَاطِين»). عمدة القاري شرح صحيح البخاري (4/ 187).
وقال الحوامدي -رحمه الله-:
وإنما قال هذا لأن القبور ليست محلًّا لقراءة القرآن، ولا للصلاة؛ ولهذا لم يرد حديث واحد بسند صحيح ولا حَسَنٍ مقبول أنه -صلى الله عليه وسلم- قرأ القرآن ولا شيئًا منه مرة واحدة في حياته كلها، مع كثرة زيارته للقبور، وتعليمه للناس كيفية زيارتها. حكم القراءة على الأموات (ص: 19).
وقال المباركفوري -رحمه الله-:
«لا تجعلوا ‌بيوتكم ‌مقابر» أي: خالية عن الذكر والطاعة فتكون كالمقابر، وتكونون كالموتى فيها، أو معناه: لا تدفنوا موتاكم فيها. تحفة الأحوذي (8/ 146).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قال العلماء: معنى ذلك: لا تتركوا الصلاة فيها، يعني: صَلُّوا في بيوتكم، وإنما سمَّى البيوت في حال عدم الصلاة فيها مقابر؛ لأن المقبرة لا تصح الصلاة فيها، كما جاء في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام»، وقال: «لا تُصَلُّوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها»، فالمقبرة لا تصح فيها صلاة النافلة ولا الفريضة، ولا سجدة التلاوة ولا سجدة الشكر، ولا أي شيء من الصلوات، إلا صلاة واحدة وهي صلاة الجنازة، إذا صلى على الجنازة في المقبرة فلا بأس، سواء كان ذلك قبل الدفن أم بعده، لكن بعد الدفن لا يُصَلَّى عليها في أوقات النهي. شرح رياض الصالحين (4/ 683).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
قال بعض العلماء: إن المراد ببعض الصلوات المطلوب صَلاتُهَا في البيوت إنما هو بعضٌ من الفرائض؛ ليقتدي به من لا يخرج إلى المسجد من النساء والمرضى، والجمهور على أن المراد به النوافل؛ لأن السِّرَّ في عمل التطوع أفضل، وهذا هو الأظهر، على أن رواية: «فإنَّ خيرَ صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة»، ورواية: «إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لِبَيْتِهِ نصيبًا من صلاته» ترجِّحان أن المراد صلاة النافلة، بل تكَادَان تكونان نصًّا في ذلك.
وعمَّم الإمام النووي خيرية الصلاة في البيوت في جميع النوافل، راتبة الفرائض والمطلقة، ولم يستثن إلا النوافل التي هي من شعائر الإسلام، وهي العيد والكسوف والاستسقاء، وكذا التراويح على الأصح، وبعضهم استحب الرواتب في المسجد، وقَصَرَ البيوت على النفل المطلق.
ومن فوائد الصلاة في البيوت: تَبَرُّكها بالصلاة، ونزول الرحمة فيها، وحضور الملائكة، ونفرة الشيطان منها.
وقال القاضي عياض: إنما أُمِرْنَا بالصلاة في البيوت؛ لأن النوافل في البيوت أَبْعَدُ عن الرياء، وأَصْوَنُ من المحْبِطات؛ ولِمَا ورد في الحديث «نَوِّرُوا بيوتكم بذكر الله تعالى، وأَكْثِرُوا فيها تلاوة القرآن، ولا تتخذوها قبورًا كما اتخذها اليهود والنصارى، فإن البيت الذي يُقرأ فيه القرآن يَتَّسِعُ على أهله، ويكثر خيره، وتحضره الملائكة، وقد حُصِّن من الشياطين» رواه الطبراني. المنهل الحديث في شرح الحديث (1/ 106).
وقال ابن المنذر -رحمه الله-:
دليل على أن المقبرة ‌ليست ‌بموضع صلاة؛ لأن في قوله: «اجعلوا في بيوتكم مِن صلاتكم» حثٌّ على الصلوات في البيوت، وقوله: «ولا تجعلوها قبورًا» يدل على أن ‌الصلاة غير جائزة في المقبرة.
وقد اختلف أهل العلم في ‌الصلاة في المقبرة: فكرهَتْ طائفة ذلك، وممن رُوِيَ عنه أنه كَرِهَ: عليٌّ وابن عباس وابن عمرو بن العاص وعطاء والنخعي. الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف (2/ 183).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
فيه: دليل على أن الصلاة لا تجوز في المقابر، وقد يحتمل أن يكون معناه: ‌لا ‌تجعلوا ‌بيوتكم أوطانًا للنوم ولا تصلون فيها؛ فإن النوم ‌أخو ‌الموت.
فأما مَن تَأَوَّلَهُ على النهي عن دفن الموتى في البيوت فليس قوله بشيء، وقد دُفِنَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيته الذي يسكنه أيام حياته. أعلام الحديث (شرح صحيح البخاري) (1/ 393).

قوله: «إن الشيطان يَنْفِرُ من البيت الذي تُقْرَأُ فيه سورة البقرة»:
قال النووي -رحمه الله-:
قوله: «إن الشيطان يَنْفِرُ من البيت» هكذا ضبطه الجمهور «يَنْفِرُ»، ورواه بعض رواة مسلم «يَفِرُّ» وكلاهما صحيح. شرح النووي على مسلم (6/ 69).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
قوله: «إنّ الشيطان يَنْفِرُ» بكسر الفاء على الأفصح، وضمُّها لغة، أي: يَصِدُّ ويُعْرِضُ إعراضًا بالغًا، فلا يقال: إنه يَنْفِرُ من كل ما يُقرأ فيه غير البقرة أيضًا.
«من البيت الذي تُقرأ فيه» بالفوقية في الأصول المصححة مُبَنَّيًّا للمجهول، ونائب فاعله «سورةُ البقرة»؛ ليَأْسِهِ مِن إغوائهم وإضلالهم؛ ببركة قراءتها وامتثالهم لما فيها؛ لأنه ليس في سورةٍ من القرآن ما في سورة البقرة من تفصيل الأحكام والحِكَم، وضَرْبِ الأمثال، وإقامة الحُجَج والبراهين، وبيان الشرائع، أو القصص والمواعظ والوقائع الغريبة، والمعجزات العجيبة، وذكر خاصة أوليائه والمصطفين من عباده، وتَفْضِيحِ الشيطان ولَعْنِهِ، وكَشْفِ ما توسل به إلى التسويل لآدم وذريته، ومن ثَمَّ قيل: فيها (أي سورة البقرة) ألف أَمْرٍ، وألف نهي، وألف حُكم، وألف خَبر. دليل الفالحين (6/ 335).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «إن الشيطان يَنْفِرُ» استئناف كالتعليل للنهي، كقوله تعالى: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} هود: 37، فلابد من بيان وجه المناسبة بين التعليل والمعَلَّل؛ وذلك أن معنى التشبيه: لا تكونوا كالموتى في القبور، عَارِيْنَ عن القراءة والذكر، غير مُنَفِّرين للشيطان، ونحوه في النهي قوله تعالى: {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} آل عمران: 102، نهاهم عن أن يموتوا على غير الإسلام، والمراد الأمر على ثباتهم في الإسلام، حيث إذا أدركهم الموت كانوا مسلمين، فكذا هاهنا المراد أَمْرهم على قراءة القرآن، والعمل به، والتحري في استنباط معانيه، والكشف عن حقائقه، بحيث يصير ذا جَدٍّ وحِظٍّ وافر من ذلك؛ مراغمةً للشيطان، وقوله: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر» كناية تلويحية عن هذه المعاني. الكاشف عن حقائق السنن (5/ 1640).
وقال أبو حاتم البُستي ـ رحمه الله ـ :
أراد به مردةَ الشياطين دون غيرهم.صحيح ابن حبان برقم:(780).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
ظاهره: أنه يفر إذا سمعها مرة، ولا يعود بعد ذلك؛ لأن بقراءتها مرة في البيت قد صدق على هذه القراءة بهذه السورة في البيت أنها قُرِئَتْ فيه، ولكن قد ورد تقييد هذا المنع بثلاثة أيام، أو ثلاث ليال. تحفة الذاكرين بعدة الحصن الحصين (ص:397-398).
وقال الشيخ الألباني -رحمه الله-:
لم نجد للحديث (بثلاثة أيام، أو ثلاث ليال) شاهدًا نقويه به إلا طرفَه الأول منه (إن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة)، وهو مخرج في "السلسلة الأخرى". سلسلة الأحاديث الضعيفة برقم: (1349).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
إذا قرأت في بيتك سورة البقرة فإن الشيطان يَفرُّ منها ولا يقرب البيت والسبب أنَّ في سورة البقرة (آية الكرسي) ويدل لهذا ما بعد الحديث الذي ذكرهُ المؤلف، حديث أبي بن كعب -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سأله: «أي آية في كتاب الله أعظم؟» قال: آية الكرسي. فضرب النبي -صلى الله عليه وسلم- على صدره وقال: «ليهنك العلم يا أبا المنذر». يعني: هنأه حيث عَلِم أنَّ أعظم آية في كتاب الله (آية الكرسي)؛ لأن هذه الآية مشتملة على عشر صفات من صفات الله -عز وجل-.شرح رياض الصالحين(4/684)
وقال -رحمه الله- أيضًا:
وذلك لأن فيها آية الكرسي، وقد صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «أن من قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا قربه شيطان حتى يصبح.مجموع الفتاوى(20/220)
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
وفي الحديث: دلالة على عدم كراهة أن يقال: سورة ‌البقرة، وحُجَّة على مَن كرهه وقال: ينبغي أن يقال السورة التي فيها ‌البقرة. شرح المصابيح (3/ 17).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
فأهل الإخلاص والإيمان لا سلطان له عليهم (أي الشيطان)؛ ولهذا يهربون مِن ‌البيت الذي تُقْرأ فيه سورة ‌البقرة. النبوات (2/ 1018).
وقال المظهري -رحمه الله-:
خصَّ سورة البقرة بفِرارِ الشيطان من البيت الذي تُقرَأ فيه؛ لطولها، وكثرة الأحكام الدينية، وكثرة أسماء الله تعالى العظيمة فيها. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 70).
وقال الشيح الغنيمان -حفظه الله-
خصَّ سورة ‌البقرة لما فيها من الأحكام والآيات والصفات العظيمة؛ ولأنها أطول سورة في المصحف، فهي (286) آية، مع أن فيها آيات طويلة، فأطول آية في القرآن فيها، وأعظم آية في القرآن فيها، وفيها ألْف أَمْرٍ، وألف نهي، وفيها أشياء عظيمة جدًّا؛ ولهذا كان الصحابة يعظمونها، وإذا كانوا في معركة حامية وحصل ارتباك صار يُنادي بعضهم بعضًا: يا أهل سورة ‌البقرة، يا أهل سورة ‌البقرة، يذكِّر بعضُهم بعضًا بهذه السورة العظيمة، فلهذا الشيطان يفر منها. شرح فتح المجيد (67/ 7).

من فوائد الحديث:
قال ابن هبيرة -رحمه الله-:
هذا الحديث يدل على فضيلة سورة ‌البقرة، وتقديمها على غيرها، وإنها لكذلك؛ فإنها جمعت من أحكام الشرع ما لم تجمعه سورة في القرآن.
وهي مشتملة على صفات المؤمنين، وصفات المنافقين، وشرح قصص بني إسرائيل، والزجر عن السحر والربا، وذكر القِبْلَة والصلاة والصوم والحج والعمرة والطلاق، والعِدَدِ والديون والشروط والرهن والقصاص، وغير ذلك من الأحكام. الإفصاح عن معاني الصحاح (8/ 98).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
وفي الحديث: جواز أن يُقال: سورة ‌البقرة.
وفيه أيضًا: دليل على الحث على قراءة سورة ‌البقرة. فتح القريب المجيب (7/ 152).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
وفيه دليل على أنه ما ينبغي للإنسان أن يترك القراءة في بيته، وأنه ينبغي أن يجعل في بيته جزءًا من تلاوته، وبعضًا من صلاته التي يتنفل بها. تحفة الذاكرين بعدة الحصن الحصين (ص: 398).
وقال الشيخ عبد العزيز الراجحي -حفظه الله-:
في هذا الحديث: حثٌّ على الذِّكْر العام، سواء أكان قراءة القرآن، أو الصلاة، أو الدعاء، أو التسبيح، أو قراءة كتب أهل العلم والرسائل المفيدة، فكُلّ هذا من الذّكر.
وفيه: فضل قراءة سورة ‌البقرة في ‌البيت بخصوصها، فهي تطرد الشياطين. توفيق الرب المنعم بشرح صحيح الإمام مسلم (2/ 500).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده (أي: هذا الحديث):
1. منها: الحثّ على صلاة النوافل في البيوت.
2. ومنها: النهي عن اتّخاذ البيت مهجورًا كالقبر لا يُصلَّى فيه، ولا يُذكر اللَّه -عَزَّ وَجَلَّ- فيه.
3. ومنها: الحثّ على قراءة سورة البقرة في البيت.
4. ومنها: جواز إطلاق لفظ سورة البقرة بلا كراهة، وأما كَراهة من كَرِهَ قول: سورة البقرة، ونحوها، وقال: إنما يقال: السورة التي تُذكَر فيها البقرة، فرَأْيٌ باطل، تَرُدُّ عليه الأحاديث الصحيحة الكثيرة...
5. ومنها: بيان فضيلة سورة البقرة؛ حيث إنها تطرد الشيطان، فلا يقرب البيت الذي تُقرأ فيه...
6. ومنها: ما قيل: إنما خُصّت سورة البقرة بهذه الفضيلة؛ لطولها، وكثرة أسماء اللَّه تعالى، واشتمالها على الأحكام الكثيرة، وبيان الشرائع، والقِصَص، والمواعظ، والوقائع الغريبة، والمعجزات العجيبة، وذكر خاصّة أوليائه، والمصطفَيْنَ من عباده، وفضيحة قبائح الشيطان وكَيدِهِ، وكشف ما توسّل به إلى التسويل على آدم -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وذرّيّته.
قال بعض العلماء: هي مشتملة على أَلْفِ خبر، وألف أَمْرٍ، وألف نهي. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (16/ 162-163).

وللاستفادة من الروايات الأخرى ينظر (هنا) و (هنا) و (هنا)


ابلاغ عن خطا