«أتاني الليلةَ آتٍ من ربي -وهو بالعَقِيق-: أنْ صلِّ في هذا الوادي المبارك، وقل: عُمرةٌ في حجَّة»،
وفي رواية: «عُمرة وحجَّة».
رواه البخاري برقم: (2337 ـ 7343)، من حديث عمر -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«آتٍ»:
أي: مَلَكٌ، والظاهر: أنه يعني جبريل. الكواكب الدراري، للكرماني (25/ 71).
«العقيق»:
قال الجوهريُّ -رحمه الله-:
وادٍ بظاهر المدينة، وكل مَسِيْلٍ شَقَّه ماء السيل فوسَّعَه فهو عَقِيقٌ. الصحاح (4/1527).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
وهو موضع قريب من ذاتِ عِرْقٍ، قبْلها بمرحلة أو مرحلتين.
وفي بلاد العرب مواضع كثيرة تُسَمَّى العَقِيق، وكل موضع شَقَقْتَه من الأرض فهو عَقِيْقٌ، والجمع: أَعِقَّةٌ وَعَقَائِقُ. النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 278).
«الوادي المبارك»:
أي: وادي الموضعِ المبارك، وهو وادي العَقِيق. إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (3/ 103)، ومنحة الباري بشرح صحيح البخاري (4/ 25).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
تنبيه: العقيق وادٍ يَدْفُقُ ماؤه في غَوْرَيْ تهامة، قال الأزهري: هو حِذَاءُ ذات عِرْقٍ. التلخيص الحبير (2/ 502).
شرح الحديث
قوله: «أتاني الليلةَ آتٍ من ربي»:
قال العيني -رحمه الله-:
هو جبريل -عليه الصلاة والسلام-، قالوا هكذا، قلتُ: يحتمل: أن يكون مَلَكًا من الملائكة غير جبريل؛ لأن إسرافيل أيضًا نزل إليه مُدَّة، ولكن صَرَّح في رواية البيهقي أنه جبريل -عليه الصلاة والسلام-. عمدة القاري (9/ 148).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
«آتٍ من ربي»، أي: مَلَك من الملائكة، والظاهر: أنه رأى في المنام؛ لقوله في آخر الباب: «أُرِيَ وهو في مُعَرَّسِهِ». الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (11/ 175).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
قال المهلب: بهذه الرؤيا حكم النبي -عليه السلام- بنسخ ما كان في الجاهلية من تحريم العُمرة في أشهر الحج؛ لأن رؤيا الأنبياء وحي، فأمر أصحابه الذين أهَلُّوا بالحج من ذي الحُلَيفة ممن لم يكن معه هَديٌ أن يفسخوه في عمرة، فَعَظُمَ ذلك عليهم؛ لبقائه هو على حَجِّه من أجل ما كان ساق من الهدي، وما كان اسْتَشْعَره من التَّلْبِيد لِرَأْسه.
وفيه: أن السُّنن والفرائض قد يُخْبَر عنها بخبر واحد فيما اتَّفقا فيه، وإن كان حكمها يختلف في غيره، فلما كان الإحرام بالحج والعمرة واحدًا أخبر الله عنها في هذه الرؤيا بذلك. شرح صحيح البخاري (4/ 202).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
في هذا الحديث من الفقه ما يدل على أن منام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حق وصدق، وما يدل على بركة وادي العَقِيق. الإفصاح عن معاني الصحاح (1/ 167).
وقال حسن العدوي الحمزاوي -رحمه الله-:
وفيه: دليل على جواز الإخبار بأمرِ الآمِر، ولا يلزم ذكر الواسطة، يُؤخذ ذلك من قوله -عليه السلام-: «أتاني الليلةَ آتٍ من ربي»، ولم يذكر من كان الآتي هل جبريل -عليه السلام- أو غيره. النور الساري من فيض صحيح الإمام البخاري (4/159).
قوله: «وهو بالعَقِيق»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
محل قريب من ذي الحُلَيْفة، ذكرهُ ابن حجر -رحمه الله-، وفي القاموس: موضع بالمدينة، وموضع آخر في غيرها، وفي النهاية: وادٍ بالمدينة، وموضع قريب من ذات عِرْقٍ.مرقاة المفاتيح (5/1887).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وادي العَقِيق، وهو بِقُرْب البقيع، بينه وبين المدينة أربعة أَمْيال. روى الزبير بن بَكَّار في أخبار المدينة: أن تُبَّعًا لما رجع من المدينة انْحَدر في مكان فقال: هذا عَقِيق الأرض، فَسُمِّي العَقِيق. فتح الباري (3/ 392).
قال محمد الخضر الشنقيطي -رحمه الله-:
هكذا قال في (الفتح) قلتُ: لعله تصحيف؛ لأن المدينة بين العَقِيق والبقيع، فلا يصح أن يُقال: إنَّ العَقِيق بِقُرْب البقيع. كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري(13/ 49).
وقد نبه ابن حجر نفسه على ذلك، فقال:
تنبيه: النَّقيع بالنُّون، جزم به الحازِمِيُّ وغيره، وهو من ديار مُزَيْنة، وهو في صدْر وادي العَقِيق، ويَشْتَبِه بالبقيع بالباء الموحدة، وزعم البكري أنهما سواء، والمشهور الأول. التلخيص الحبير(2/ 593).
وقال الشيخ عبد القادر شيبة الحمد -رحمه الله-:
العَقِيق: هو وادٍ مشهور، وهو أبعد عن مكة من ذات عِرْق، ويقع شَرْقِيّها، وليس المراد به هنا: العَقِيق الذي يقع غَرْبِيّ المدينة المنورة قادمًا من ذي الحُلَيفة، وإن كان امتدادًا له، فإن عَقِيق المدينة هو الذي روى البخاري فيه حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-: أنه سمع عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- يقول: سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بوادي العَقِيق يقول: «أتاني الليلةَ آتٍ من ربي فقال: صلِّ في هذا الوادي المبارك، وقُل: عُمرة في حجَّة». فقه الإسلام = شرح بلوغ المرام (4/ 32).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
ووادي العَقِيق مُتَّصِل بذي الحُلَيفة. فتح الباري (3/432).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
أما وادي العَقِيق فقال أبو سليمان الخطابي: هو ميقات لأهل العراق، وكان الشافعي يستحب أن يُحْرِم أهل العراق من العَقِيق، وإن أحرموا من ذات عِرْق أجزأهم. كشف المشكل من حديث الصحيحين (1/ 112).
وقال الدهلوي -رحمه الله-:
وادٍ مشهورٌ معظَّم من أودية المدينة، وذو الحُلَيفة داخِلٌ في هذا الوادي أو قريب منه، وذكر فضائله في الأحاديث، وذِكْرُه في الأشعار كثير، قال:
يا صاحبي هذا العَقِيق فقف به *** مُتَوَالِهًا إن كنت لست بِوَالِه. لمعات التنقيح في شرح مشكاة المصابيح (5/ 484).
قوله: «صلِّ في هذا الوادي المبارك»:
قال ابن بطَّال -رحمه الله-:
إعلام منه -عليه السلام- بفضل المكان لا إيجاب الصلاة فيه؛ لأن الأمة مُجْمِعة أن الصلاة بوادي العَقِيق غير فرض، فبان بهذا أن أمره -عليه السلام- بالصلاة فيه نَظِيرُ حَثّه لأمته على الصلاة في مسجده ومسجد قباء. شرح صحيح البخاري (4/ 203).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
ظاهره: أنَّ هذه الصلاة سُنة الإحرام. الكواكب الدراري (8/ 68).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
«صلِّ»: أمْرٌ بالصلاة، قال الكرماني: ظاهره: أنَّ هذه الصلاة صلاة الإحرام، وقيل: كانت صلاة الصبح، والأول أظهر. مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (9/ 560).
وقال النووي -رحمه الله-:
فيه استحباب صلاة الركعتين عند إرادة الإحرام، ويصليهما قبل الإحرام، ويكونان نافلة، هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة إلا ما حكاه القاضي وغيره عن الحسن البصري أنه استحب كونهما بعد صلاة فرض، قال: لأنه روي أن هاتين الركعتين كانتا صلاة الصبح.
والصواب: ما قاله الجمهور، وهو ظاهر الحديث، قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: وهذه الصلاة سنة لو تركها فاتته الفضيلة ولا إثم عليه ولا دم.
قال أصحابنا: فإن كان إحرامه في وقت من الأوقات المنهي فيها عن الصلاة لم يصلهما هذا هو المشهور، وفيه وجه لبعض أصحابنا أنه يصليهما فيه لأن سببهما إرادة الإحرام، وقد وجد ذلك. شرح النووي على مسلم (8/ 92-93).
وقال النووي -رحمه الله- أيضًا:
ركعتي الإحرام سنة ليستا بشرط لصحة الحج؛ لأن أسماء لم تصلهما. شرح النووي على مسلم (8/133).
وقال ابن قدامة -رحمه الله-:
المستحب أن يحرم عقيب الصلاة فإن حضرت صلاة مكتوبة أحرم عقبيها وإلا صلى ركعتين تطوعًا وأحرم عقيبهما. المغني (3/259).
وقال العيني -رحمه الله-:
وفيه: فضل الصلاة فيه ومطلوْبِيَّتها عند الإحرام؛ لا سيما في هذا الوادي المبارك، وهو مذهب العلماء كافَّة؛ إلا ما رُوِي عن الحسن البصري فإنه استحبَّ كونها بعد فرض. وقال الطبري: ومعنى الحديث: الإعلام بفضل المكان، لا إيجاب الصلاة فيه؛ لقيام الإجماع على أن الصلاة في هذا الوادي ليست بفرض.
قال: فبَانَ بذلك أن أمره بالصلاة فيه نَظيرُ حَثّه لأمته على الصلاة في مسجده ومسجد قباء.
قلت: الصلاة بركعتين من سنة الإحرام؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- أمر بذلك أمْر إرشاد، وأنه صلى ركعتين، ولا يصليهما في الوقت المكروه.
وقال النووي: فإن كان إحرامه في وقت من الأوقات المنهي فيها عن الصلاة لم يُصَلِّهما، هذا هو المشهور، وفيه وجه لبعض أصحابنا: أنه يصليهما فيه؛ لأن سببهما إرادة الإحرام، وقد وُجِد ذلك. عمدة القاري (9/148).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
يستحب أن يحرم عقيب صلاة، إما فرض وإما تطوع إن كان وقت تطوع في أحد القولين، وفي الآخر: إن كان يصلي فرضًا أحرم عقيبه وإلا فليس للإحرام صلاة تخصه وهذا أرجح. مناسك الحج (40).
وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله-:
الحديث يدل على شرعية صلاة الركعتين، وهذا قول جمهور أهل العلم.
وقال آخرون: ليس في هذا نص؛ فإن قول: «أتاني الليلة آت من ربي وقال: صل في هذا الوادي المبارك» يحتمل: أن المراد صلاة الفريضة في الصلوات الخمس، وليس بنص في ركعتي الإحرام، وكونه أَحرم بعد الفريضة لا يدل على شرعية ركعتين خاصة بالإحرام وإنما يدل على أَنه إذا أحرم بالعمرة أو بالحج بعد صلاة، يكون أفضل إذا تيسر ذلك.مجموع الفتاوى(17/69)
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
أما ركعتا الإحرام وهما الركعتان اللتان يصليهما من أراد الإحرام فإنهما غير مشروعتين؛ لأنه لم يرد عن النبي -عليه الصلاة والسلام- أن للإحرام صلاة تخصه، وإذا لم يرد عن النبي -عليه الصلاة والسلام- مشروعيتهما فإنه لا يمكن القول بمشروعيتهما إذ إن الشرائع إنما تتلقى من الشارع فقط، ولكنه إذا وصل إلى الميقات وكان قريبًا من وقت إحدى الصلوات المفروضة فإنه ينبغي أن يجعل عقد إحرامه بعد تلك الصلاة المفروضة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أهلَّ دبر الصلاة، وكذلك لو أراد الإنسان أن يصلى سنة الوضوء بعد اغتسال الإحرام وكان من عادته أن يصلى سنة الوضوء فإنه يجعل الإحرام بعد هذه السنة. مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (22/ 14).
وقال الشيخ عبد الكريم الخضير -حفظه الله-:
وقد جاء الأمر للنبي -عليه الصلاة والسلام- وقت إحرامه بأن قيل له: «صلِّ في هذا الوادي المبارك»؛ فأُمِر بالصلاة في هذا الوادي، وأُمِر أن يُحْرِم منه، «وقُل: حجةً وعمرة». شرح كتاب الحج من صحيح مسلم (25/ 3).
وقال -حفظه الله- أيضًا:
جاء الأمر: «صلِّ في هذا الوادي المبارك»، هل المقصود في هذا الوادي نفسه؟ بمعنى: أنه كُل من مرّ بهذا الوادي المبارك ينبغي أن يصلي، سواء أراد أن يحرم أو لا؟ قال بهذا أحد من أهل العلم؟ أو نقول: المراد بـ «صلّ في هذا الوادي»، صلّ الفريضة، أو صلِّ للإحرام؟ احتمال، وأهل العلم يقولون: إذا كان الأمر يحتمل التأسيس والتأكيد، فحمله على التأسيس أولى؛ لأن التأكيد يفقده معناه، ما معنى هذا الكلام؟ لو قلنا: إنَّ معنى قوله: «صلِّ في هذا الوادي المبارك»: صلِّ الظهر، تأكيد لأوامر سابقة، لا بد أن يصلي الظهر، وإذا قلنا: إنّ المراد بقوله: «صلِّ في هذا الوادي المبارك»: صلِّ للإحرام، صار تأسيس حكم جديد، وأهل العلم يقولون: التأسيس خير وأولى من التأكيد؛ لأن التأكيد يُفقِد الحديث فائدته، كيف يصلي وقد أُمِر بالصلاة؟ فهو مصلٍّ مصلٍّ، هذا فرض لا بد أن يصلي.
وعلى كل حال: البحث في هذه المسألة يطول، ومثل ما ذكرنا: ينبغي أن يصلي الإنسان إذا كان الوقت من الأوقات المطلقة، وليس من أوقات النهي. شرح حديث جابر في صفة حج النبي -صلى الله عليه وسلم- (1/ 16).
قال الشيخ حمزة قاسم -رحمه الله-:
وصفه بالبركة؛ لأن أهل المدينة يستبشرون به إذا سأل، ويستدلون به على غزارة الأمطار.منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري(3/76)
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وفي الحديث: فضل العَقِيق كفضل المدينة، وفضل الصلاة فيه، وفيه استحباب نزول الحاجِّ في منزلة قريبة من البلد، ومبيتهم بها؛ ليجتمع إليهم من تأخَّر عنهم ممن أراد مرافقتهم، وليستدرك حاجته مَن نسيها -مثلًا-؛ فيرجع إليها من قريب. فتح الباري (3/ 393).
قوله: «وقُل: عُمرة في حجة»:
قال ابن بطَّال -رحمه الله-:
أي: إحرامكم تدخل فيه العُمرة والحجة متتاليًا ومفترقًا.
قال ابن القصار: وقد احتج الكوفيون للقِران أنه أفضل من الإفراد، وأنه الذي أمر به النبي -عليه السلام- أن نفعله بقوله -عليه السلام-: «وقُل: عمرة في حجة».
فالجواب: أنه يحتمل أن يريد أحد أمرين: إما أن يحرم بالعمرة إذا فرغ من حجته قبل أن يرجع إلى منزله، فكأنه قال: إذا خرجت وحججت فقل: لبيك بعمرة، وتكون في حجتك التي تحج فيها.
قال المؤلف: ويؤيد هذا التأويل ما رواه البخاري في هذا الحديث في كتاب الاعتصام: «وقل: عمرة وحجة»؛ ففصل بينهما بالواو.
قال ابن القصار: ويحتمل أن يريد أن أفعال العمرة هي بعض أفعال الحج، فكأنه أوقع أفعال العمرة في فعل هو بعض أفعال الحج. وقال غيره: معناه: «قل: عمرة في حجة»، أي: قل ذلك لأصحابك، أي: أعلمهم أن القِران جائز، وأنه من سنن الحج.
قال الطبري: وهذا نظير قوله -عليه السلام-: «دَخَلَتِ العمرة في الحج إلى يوم القيامة» شرح صحيح البخاري (4/202-203).
وقال الخطَّابي -رحمه الله-:
وقد يحتمل أن يكون (في) بمعنى (مع)؛ كأنه قال: عمرة معها حجة.
ويحتمل أن يكون أراد عمرة مُدْرجة في حجة، على مذهب من رأى أن عمل العمرة مُضَمَّنٌ في عمل الحج، يجزيه لهما طواف واحد، وسعي واحد، ولو قتل صيدًا كان عليه جزاء واحد. أعلام الحديث (2/ 838).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
«وقُل: عمرة في حجة» ...، أي: قل: جعلتها عمرة، وهذا دالٌّ على أنه -صلى الله عليه وسلم- كان قارنًا.
وأبْعَدَ من قال: معناه: عمرة مُدْرجة في حَجة؛ أي أن عمل العمرة يدخل في عمل الحج، فيجزي لهما طواف واحد، وقال: مِن معناه: أنه يعتمر في تلك السنة بعد فراغ حجه، وهذا أبعد من الذي قبله؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- لم يفعل ذلك، نعم يحتمل أن يكون أُمِر أن يقول ذلك لأصحابه؛ ليعلمهم مشروعية القِران، وهو كقوله: «دخلت العمرة في الحج؛ قاله الطبري. واعترضه ابن الْمُنيِّر في الحاشية فقال: ليس نظيره؛ لأن قوله: «دخلت... » إلخ تأسيس قاعدة، وقوله: «عمرة في حجة» بالتنكير يستدعي الوحدة، وهو إشارة إلى الفعل الواقع من القِران إذْ ذاك.
قلت: ويؤيده ما يأتي في كتاب الاعتصام بلفظ: «عمرة وحجة» بواو العطف. فتح الباري (3/ 392-393).
وقال العيني -رحمه الله-:
وفيه: أفضليَّة القِران والدلالة على وجوده، وعلى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان قارنًا في حجة الوداع؛ وذلك لأنه -صلى الله عليه وسلم- أُمِر أن يقول: «عمرة في حجة»؛ فيكون مأمورًا بأنه يجمع بينهما من الميقات، وهذا هو عين القِران، فإذا كان مأمورًا به استحال أن يكون حجه خلاف ما أُمِر به.
فإن قلت: لا نُسَلِّم ذلك، ولا يدل ذلك على أفضليَّة القِران، ولا على كون النبي -صلى الله عليه وسلم- قارنًا؛ لأنه جاء في رواية أخرى: «قل: عمرة وحجة»؛ ففصل بينهما بالواو، فحينئذٍ يحتمل أن يريد أن يحرم بعمرة إذا فرغ من حجته قبل أن يرجع إلى منزله، فكأنه قال: إذا حججت فقل: لبيك بعمرة، وتكون في حجتك التي حججت، أو يكون محمولًا على معنى تحصيلهما معًا.
قلت: رواية البخاري وغيره: «قل: عمرة في حجة»، وهذه هي الصحيحة، وهي تدل على أنه -صلى الله عليه وسلم- أُمِر أن يجعل العمرة في الحجة، وهي صفة القِران، والرواية التي بواو العطف تدل على ما قلنا أيضًا؛ لأن الواو لمطلق الجمع، والجمع بين الحج والعمرة هو القِران، فيدل أيضًا على أنه -صلى الله عليه وسلم- كان قارنًا، وما ذكروه من الاحتمال بعيد، وصرف اللفظ إلى غير مدلوله، فلا يقبل، -والله أعلم-. عمدة القاري (9/ 148).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
وفيه دليل على أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان قارنًا، قلت: قال النووي: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أولًا مُفرِدًا، وإنما صار قارنًا فيما بعد؛ لَمَّا أَمَر أصحابه بالعمرة، وإنما توهَّم هذا القائل من قوله: «حجة وعمرة»؛ فلا دلالة فيه، فإنه تشريع العمرة في أشهر الحج؛ لأنهم كانوا يعدونها أفجر الفجور. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (11/ 175).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وقُل: عمرة» بالرفع، أي: حُسِبَتْ «في حجة»، وفي نسخة بالنصب، قال الطيبي -رحمه الله-: أي: احْسبْ صلاتك هذه وَأَعِدْ لها بعمرة داخلة في حجة، والقول يستعمل في جميع الأفعال كما مَرَّ، ويحتمل أن يقال: المعنى: صلِّ في هذا الوادي المبارك للإحرام، وقارن بين العمرة والحج. ا. هـ.
وهذا احتمال بعيد جدًّا؛ لأن رؤيا الأنبياء وحيٌ حقٌّ، ولم يثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه أحرم بالعمرة منه؛ فضلًا أن يجمع بينهما، فالصواب في معناه: أن ثواب الصلاة فيه يعدِل ثواب عمرة في ضمن حجة، وفيه إشارة إلى أن العمرة إذا كانت مقرونة في الحجة بأن يكون سفرهما واحدًا خير من العمرة المفردة.
ويمكن أن يكون (في) بمعنى (مع)، ويدل عليه قوله: وفي رواية: «وقل: عمرة وحجة» بالرفع، أي: صلاة فيه لعمرة وحجة؛ فهو تشبيه بليغ، وبالنصب على نزع الخافض، وهو من باب التشبيه لإلحاق الناقص بالكامل مبالغة.
ووجه فضيلة الصلاة في ذلك المقام: مُفوَّض إلى صاحب الشريعة -عليه الصلاة والسلام-، والظاهر: أن هذا من خصوصيات حاله في ذلك المقام، وكأنه أراد من الله تعجيل العمرة وحجة الإسلام فقيل له: صلِّ فإن الصلاة معراج الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، ولك في مقابلتها ثواب العمرة والحج بنيتك على وجه التمام، ويدل على ما قلنا: أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة الكرام وعلماء الأنام عده من المشاهد العظام التي يزورها الخواصُّ والعوامُّ، ثم رأيت الفارسي ذكر في منسكه: إنه قال محمد بن جرير الطبري في تهذيب الأخبار: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن متمتعًا؛ لأنه قال: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سُقْتُ الهدي، ولجعلتها عمرة»، ولا كان مُفرِدًا؛ لأن الهدي كان معه واجبًا كما قال، وذلك لا يكون إلا للقارن؛ ولأن الروايات الصحيحة قد تكاثرت بأنه لَبَّى بهما جميعًا؛ فكان من زاد أولى.
قال: ووجه الاختلاف: أنه -صلى الله عليه وسلم- لما عقد إحرامه جعل يُلَبِّي تارة بالحج، وتارة بالعمرة، وتارة بهما جميعًا؛ لعله أن يتبيَّن واحدًا منهما، وهو في ذلك كله يقصد الحج، ويطلب كيفية العمل؛ حتى نزل عليه جبريل -عليه الصلاة والسلام- في وادي العَقِيق، فقال له: «قل: عمرة في حجة»؛ فانكشف الغطاء، وتبين المطلوب. ا. هـ.
وفيه نظر من وجوه؛ منها: أن وجوب الهدي لم يمنع كونه مُفرِدًا، بل يمنع فسخ الحج بالعمرة؛ إذ مقتضاه الخروج من الإحرام، وقد قال تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُؤوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} البقرة: 196.
ومنها: أن قوله: (لعله أن يتبين) معلول؛ إذ لا تصح النية مع التردُّد في الكيفية على أنه قد أمر -عليه الصلاة والسلام- بالحج، وقد أتى بالعمرة مرارًا؛ فهو -عليه الصلاة والسلام- إما أنه نوى بهما أولًا، أو نوى الحج، ثم أدخل العمرة؛ عملًا بقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} البقرة: 196، على قراءة: {وأقيموا}
ومنها: أن وادي العَقِيق قريب المدينة اتفاقًا، وإحرامه -عليه الصلاة والسلام- كان في ذي الحُلَيفة إجماعًا، فالتحقيق ما تقدم، -والله سبحانه وتعالى أعلم-. مرقاة المفاتيح (5/ 1887).
وقال شرف الحق آبادي-رحمه الله-:
وفي لفظ البخاري: «قُل: عُمرة في حجة» قال بعضهم: أي: قل ذلك لأصحابك، أي: أعلمهم أن القِران جائز، واحتجَّ به من يقول: إن القِران أفضل، وقال: لأنه هو الذي أُمر به النبي وأحبَّ.
فالرواية الصحيحة وهي قوله: «عُمرة وحجة» فُصِلَ بينهما بالواو، ويحتمل: أن يريد أن يحرم بعمرة إذا فرغ من حجته قبل أن يرجع إلى منزله، وهو كأنه قال: إذا حججت فقل: لبيك بعمرة، وتكون في حجتك التي حججت فيها، وقال بعضهم: هو محمول على معنى تحصيلهما جميعًا؛ لأن عمرة التمتع واقعة في أشهر الحج. عون المعبود (5/161).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
وهذا الحديث يحتج به الحنفيون؛ لأن القِران عندهم أفضل، وقد أجيبوا: أن في بعض ألفاظه الصحيحة: «عمرة وحجة» على أن لفظة: (في) قد تكون بمعنى: (مع).
ثم هو محمول على معنى تحصيلهما جميعًا؛ لأن عمرة المتمتع واقعة في أشهر الحج. كشف المشكل من حديث الصحيحين (1/ 112).
وقال الشيخ محمد الشنقيطي -رحمه الله-:
وقوله في هذا الحديث: «وقل: عمرة في حجة» يدل على القِران، والمحتملات الأُخَرُ التي حمله عليها بعض المالكية والشافعية وغيرهم لا تظهر كل الظهور، بل معناه: القِران كما ذكرنا، وجزم به غير واحد، -والله تعالى أعلم-، والأحاديث بمثل ما ذكرنا كثيرة. أضواء البيان (4/ 367).
قال ابن حزم -رحمه الله-:
صح في سائر الأخبار من رواية البراء، وعائشة، وحفصة أمي المؤمنين، وأنس، وغيرهم: أنه -عليه السلام- كان قارنًا. المحلى بالآثار (5/171).
وقال النووي -رحمه الله-:
والصواب الذي نعتقده: أنه -صلى الله عليه وسلم- أحرم أوَّلًا بالحج مُفرِدًا، ثم أدخل عليه العمرة فصار قارنًا. المجموع شرح المهذب (7/ 159).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
أما حج النبي -صلى الله عليه وسلم- فالصحيح: أنه كان قارنًا؛ قرن بين الحج والعمرة، وساق الهدي، ولم يطف بالبيت وبين الصفا والمروة إلا طوافًا واحدًا حين قَدِمَ؛ لكنه طاف طواف الإفاضة مع هذين الطوافين، وهذا الذي ذكرناه هو الصواب المحقَّق عند أهل المعرفة بالأحاديث الذين جمعوا طرقها، وعرفوا مقصدها، وقد جمع أبو محمد بن حزم في حجة الوداع كتابًا جيدًا في هذا الباب. مجموع الفتاوى (26/ 80).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
وإنما قلنا: إنه أحرم قارنًا لبضعة وعشرين حديثًا صحيحة صريحة في ذلك. زاد المعاد (2/102).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
والذي يظهر لي: أن من أنكر القِران من الصحابة نفى أن يكون أهلَّ بهما جميعًا في أول الحال، ولا ينفي أن يكون أهلَّ بالحج مُفرِدًا، ثم أدخل عليه العمرة، فيجتمع القولان. فتح الباري (3/ 430).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
واعلم أن حجه -صلى الله عليه وسلم- وإن اختلفت الأحاديث في بيان نوعه؛ فقد تواتر أنه حج قرانًا، وبلغت الأحاديث في ذلك زيادة على عشرين حديثًا من طريق سبعة عشر صحابيًا. السيل الجرار (ص: 346).