«إذا دخل أحدكم على أَخيه المسلم، فأَطعمه طعامًا، فليأكُل من طَعامه، ولا يسأله عنه، وإن سَقاهُ شرابًا مِن شرابه، فليشرب من شَرابه، ولا يسأله عنه».
رواه أحمد برقم: (9185)، والطبراني في الأوسط برقم: (5305)، والدارقطني برقم: (4675)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (518)، سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (627).
شرح مختصر الحديث
.
شرح الحديث
قوله: «إذا دَخل أَحدكم على أَخيه المسلم، فأَطعمه طعامًا، فليأكل مِن طعامه، ولا يَسأله عنه»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«إذا دخل أحدكم على أخيه المسلم» لزيارة أو غيرها «فأطعمه» من طعامه «فليأكل» منه ندبًا، هكذا هو ثابت في الحديث، وإن كان صائمًا نفلًا؛ جبرًا لخاطره. فيض القدير(1/ 337).
قوله: «ولا يَسأله عنه»:
قال المناوي -رحمه الله-:
قوله: «ولا يسأل عنه» أي: عن الطعام من أي وجه اكتسبه؟ ليقف على حقيقة حِلِّه؛ فإن ذلك غير مُكلف به ما لم تَقْوَ الشُّبهة في طعامه، والمراد: لا يسأل منه، ولا من غيره. فيض القدير(1/ 337).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «ولا يسأل عنه» حلال هو أم حرام، أو من أين حصل له؟؛ لأن ذلك يوحشه، وهو مأمور بإحسان الظَنّ بأهل الإسلام. التنوير شرح الجامع الصغير (2/ 36).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «ولا يسأله عنه» يريد أنَّ الاعتماد على ظاهر الْحِلِّ يكفي، ولا حاجة إلى البحث عن حقيقة الأمر، وظاهر: أن الظاهر في مال المسلم هو الْحِلُّ، نعم؛ إذا ظهرت علامة الْحُرْمة، فذاك أمر آخر، -والله أعلم-. حاشية السندي على مسند أحمد (2/ 709).
قوله: «وإن سَقاهُ شرابًا من شرابه، فليشرب من شرابه، ولا يسأله عنه»:
قال المناوي -رحمه الله-:
قوله: «وإن سقاه من شرابه فليشرب» منه أيضًا «ولا يسأل عنه» كذلك؛ لأن السؤال عن ذلك يورث الضغائن، ويوجب التباغض، والظاهر: أن المسلم لا يُطْعِمُهُ ولا يَسْقِيْه إلا حلالًا، فينبغي إحسان الظَنّ وسلوك طريق النوادر، فيتجنب عن إيذائه بسؤاله، وإنما نهى عن أكل طعام الفاسق زجرًا له عن ارتكاب الفسق؛ لطفًا به في الحقيقة، كما ورد: «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا».
ومِن ثمّ قيَّد جمعٌ ما ذُكِرَ هنا من النهي عن السؤال بما إذا غلب على ظنه تَوَقِّيْه للمحرمات، وفيما إذا كان أكثر ماله حرامًا.فيض القدير (1/ 337).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ويشرب» بالجزم «من شرابه، ولا يسأل» فإنه قد يتأذى بالسؤال؛ وذلك إذا لم يُعْلَم فسقه، كما ينبئُ عنه قوله: «على أخيه المسلم». مرقاة المفاتيح(5/ 2111).
وقال العزيزي -رحمه الله-:
قوله: «ولا يسأل عنه» مِن أَيّ وجه اكتسبه؛ لأن السؤال عن ذلك يُوْرِثُ الضغائن، ويُوْجِب التباغض.
والأمر للندب، وإن كان صائمًا نفلًا فيُنْدَب الفطر إن شَقّ عَدَمُه على صاحب الطعام. السراج المنير (1/ 113).
وقال الدهلوي -رحمه الله-:
قوله: «ولا يسأل» بحيث يُفْضِي إلى سُوء الظَنّ وإيذائه، ويستكشف حقيقة الحال من غير سؤال وإيذاء؛ وذلك إذا لم يُعلَم فسقُه وظلمُه وتجاوزُه عن الحد.
وبالجملة إذا عُلم بيقين أو غلبة الظن أنه مُحْتَاط في أمر طعامه فذاك، وإن تساويا فالاحتياط في الترك، وإن كان له وجوه متعددة في الرزق بعضها طيب، وبعضها خبيث، وأحسن الظن باحتمال أنه يأكل من الوجوه الطيبة فله وجه الجواز، وإن تَعَيَّن أنه لا يحتاط، أو تَعَيَّن أنه يأكل الحرام، أو ليس له إلا مداخل سوء فَكَلَّا، -واللَّه الموفق-.
وفي قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: «على أخيه المسلم» نوع إيماء إلى تحسين الظن، -واللَّه أعلم-. لمعات التنقيح (6/ 100).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
ومثله قوله: «وإن سقاه من شرابه فليشرب، ولا يسأل عنه» فيه إباحة ما في أيدي أهل الإسلام حتى يُعْلَم خلاف ذلك. التنوير شرح الجامع الصغير (2/ 36).
وقال البيهقي -رحمه الله-:
وهذا إن صح؛ فلأن الظاهر أنَّ المسلم لا يُطْعِمُه، ولا يَسْقِيه، إلا ما هو حلال عنده. شعب الإيمان (7/ 526).
وقال الطيبي -رحمه الله- عن حديث عمران بن حصين قال: (نهي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن إجابة طعام الفاسقين)، وحديث أبي هريرة هذا:
فإن قلتَ: كيف الجمع بين الحديثين؟ قلتُ: الفاسق هو: الجائر عن القصد والمنحرف عن الطريق المستقيم، فالغالب أن لا يجتنب عن الحرام، فنُهِي الحازم عن أكل طعامه، وألا يُحْسِن الظن به؛ لأن الحزم من سوء الظن، وخص في حديث أبي هريرة بلفظ: «أخيه» ووصف بـ«المسلم»، والظاهر من حال المسلم أن يجتنب الحرام، فأُمِر بِحُسن الظن به، وسلوك طريق التَّحَابِّ والتَّوَادِّ، فيجتنب عن إيذائه بسؤاله.
وأيضًا: إن الاجتناب عن طعام الفاسق زجر له عن ارتكاب الفسق، فيكون لطفًا في الحقيقة، كما ورد: «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا». شرح المشكاة (7/ 2320).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قال أنس: «إذا دخلتَ على مسلم لا يُتَّهَم فكل من طعامه، واشرب من شرابه»، وصَلَهُ ابن أبي شيبة من طريق عمير الأنصاري: سمعتُ أنسًا يقول مثله، لكن قال: «على رجل لا تتهمه».
وجاء نحو ذلك عن أبي هريرة مرفوعًا أخرجه أحمد والحاكم والطبراني من طريق أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ: «إذا دخل أحدكم على أخيه المسلم فأطعمه طعامًا، فليأكل من طعامه، ولا يسأله عنه»، قال الطبراني: تفرَّد به مسلم بن خالد، قلتُ: وفيه مقال، لكن أخرج له الحاكم شاهدًا من رواية ابن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رواية بنحوه أخرجه ابن أبي شيبة من هذا الوجه موقوفًا.
ومطابقة الأثر للحديث (حديث الباب في البخاري) من جهة كون اللحام لم يكن مُتَّهمًا، وأكل النبي -صلى الله عليه وسلم- من طعامه، ولم يسأله، وعلى هذا القيد يُحْمَلُ مطلق حديث أبي هريرة، -والله أعلم-. فتح الباري (9/ 584).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
ويدخل في هذا الباب: معاملة من كان في ماله شبهة، أو خالطه رِبا، فإن الاختيار تركُها إلى غيرها، وليس بمحرم عليك ذلك، ما لم تتَيَقَّنْ أن عينه حرام، أو مخرجه من حرام، وقد رَهَنَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دِرْعَه من يهودي على أَصْوُعٍ من شعير أخذها لقوت أهله، ومعلوم أنهم يُرْبُون في تجاراتهم، ويستحِلِّون أثمان الخمور، ووصفهم الله تعالى بأنهم سمَّاعون للكذب، أكَّالون للسُّحْت. معالم السنن (3/ 58).
وقال العيني -رحمه الله-:
قال أنس: «إذا دخلتَ على مسلم لا يُتَّهَم فكُل من طعامه، واشرب من شرابه» مطابقة هذا التعليق عن أنس بن مالك للترجمة: من حيث إن الرجل إذا دخل على رجل مسلم -سواء بدعوة، أو بغيرها-، فوجد عنده أكلًا، أو شربًا، هل يتناول من ذلك شيئًا؟
فقال أنس: يأكل ويشرب إذا لم يكن الرّجل المدخول عليه لا يُتَّهَم في دينه، ولا في ماله، ووصل هذا التعليق ابن أبي شيبة من طريق عمير الأنصاري: سمعتُ أنسًا يقول مثله، لكن قال: «على رجل لا يَتَّهِمُه»، وقد روى أحمد والحاكم والطبراني من حديث أبي هريرة نحوه مرفوعًا بلفظ: «إذا دخل أحدكم على أخيه المسلم فأطعمه طعامًا فليأكل من طعامه ولا يسأله عنه». عمدة القاري (21/ 80).
وقال القاسمي -رحمه الله-:
اعلم أنَّ كُل من قدَّم إليك طعامًا أو هدية، أو أردت أن تشتري منه، أو تَتَّهِب (أي: تقبل منه الهبة) فليس لك أن تُفَتِّش عنه وتسأل، وتقول: هذا مما لا أتحقق حِلَّه فلا آخذه، بل أُفَتِّش عنه، وليس لك أيضًا أن تترك البحث مطلقًا، بل السؤال لا بد منه من مواقع الريبة، ومنشأ الريبة بالنسبة لصاحب المال أن يكون مشكوكًا فيه، أو معلومًا بنوع ظَنِّيٍّ يستند إلى دلالة.
وبالنسبة للمال أن يختلط حرامه بحلاله، ويكون الحرام أكثر من يقين وجوده.
فإذا كان الحرام هو الأقل، واحتمل أن لا يكون موجودًا في الحال لم يكن الأكل حرامًا، ولكن السؤال احتياط، والامتناع عنه ورع، وإنما يسأل من صاحب اليد إذا لم يكن مُتَّهمًا، فإن كان مُتَّهمًا بأنه ليس يدري طريق كسب الحلال، أو بأنه لا ثقة في أخباره وأمانته، فليسأل من غيره، فإذا أخبره عدل واحد قَبِلَهُ، وإن أخبره فاسق عَلِمَ من قرينة حاله أنه لا يكذب حيث لا غرض له فيه جاز قبوله؛ لأن المطلوب ثقة النفس، والمفتي هو القلب في مثل هذا الوضع.
وللقلب الْتِفَاتَاتٌ إلى قرائن خَفِيَّة يضيق عنها نطاق النطق، فليتأمل فيه؛ فإذا اطْمَأَنَّ القلب كان الاحتراز حتمًا واجبًا. موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين (ص: 124).
وقال الشيخ الألباني -رحمه الله-:
والظاهر: أن الحديث محمول على من غَلب على ظنه أن الأخ المسلم ماله حلال ويتقي المحرمات، وإلا جاز بل وجب السؤال، كما هو شأن بعض المسلمين المستوطنين في بلاد الكفر، فهؤلاء وأمثالهم لا بُد من سؤالهم عن لحمهم مثلًا: أقتيل هو أم ذبيح؟ سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/ 204).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
إن كان ذلك الرَّجل معروفًا -بأن في ماله حرامًا- ترك معاملته ورعًا، وإن كان أكثر ماله حرامًا ففيه نزاع بين العلماء.
وأما المسلم المستور فلا شبهة في معاملته أصلًا، ومن ترك معاملته ورعًا كان قد ابتدع في الدين بدعة ما أنزل الله بها من سلطان. مجموع الفتاوى (29/ 324).
وسئل ابن تيمية -رحمه الله-:
عن الذين غالب أموالهم حرام مثل الْمَكَّاسِين وأَكَلَةِ الربا وأشباههم، ومثل أصحاب الْحِرَفِ المحرمة، كمُصَوِّرِيِّ الصور والْمُنَجِّمِين، ومثل أعوان الولاة، فهل يحل أخذ طعامهم بالمعاملة أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، إذا كان في أموالهم حلال وحرام ففي معاملتهم شبهة؛ لا يحكم بالتحريم إلا إذا عرف أنه يعطيه ما يحرم إعطاؤه، ولا يحكم بالتحليل إلا إذا عرف أنه أعطاه من الحلال، فإن كان الحلال هو الأغلب، لم يحكم بتحريم المعاملة، وإن كان الحرام هو الأغلب، قيل: بِحِلِّ المعاملة، وقيل: بل هي محرمة. مجموع الفتاوى (29/ 272-273).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قَبِلَ الهدية من المرأة اليهودية حينما أهدت إليه شاة في غزوة خيبر، وأجاب النبي -صلى الله عليه وسلم- دعوة يهودي دعاه في المدينة على خبز شعير، وإهالة (مَا يُؤْتَدَمُ بِهِ من الأدهان) سَنِخَة (متغيرة الرائحة من طول الزمن).
وعامل اليهود بيعًا وشراء، حتى إنه -عليه الصلاة والسلام- مات ودرعه مرهونة عند يهودي في شعير اشتراه لأهله، وهذا يدل على جواز معاملة من اختلط ماله بحرام؛ لأن اليهود كما وصفهم الله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} المائدة: 42 فتاوى نور على الدرب (16/ 2).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- (في شروط إجابة دعوة الوليمة):
- أن لا يكون كسبه حرامًا؛ لأن إجابته تستلزم أن تأكل طعامًا حرامًا، وهذا لا يجوز، وبه قال بعض أهل العلم.
وقال آخرون: ما كان محرمًا لكسبه؛ فإنما إثمه على الكاسب لا على من أخذه بطريق مباح من الكاسب، بخلاف ما كان محرمًا لعينه؛ كالخمر والمغصوب ونحوهما، وهذا القول وجيه قَوِيٌّ، بدليل أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- اشترى من يهودي طعامًا لأهله، وأكل من الشاة التي أهدتها له اليهودية بخيبر، وأجاب دعوة اليهودي، ومن المعلوم أن اليهود معظمهم يأخذون الربا، ويأكلون السُّحْت، ورُبما يُقَوِّي هذا القول قوله -صلى الله عليه وسلم- في اللحم الذي تصدق به على بريرة: «هو لها صدقة، ولنا منها هدية».
وعلى القول الأول؛ فإن الكراهة تقوى وتضعف حسب كثرة المال الحرام وقِلَّتِهِ، فكلما كان الحرام أكثر كانت الكراهة أشد، وكلما قلَّ كانت الكراهة أقل. القول المفيد على كتاب التوحيد (2/ 351- 352).