قال رجلٌ للنبي -صلى الله عليه وسلم-: إِنَّا نأكل وما نَشْبَعُ، قال: «فلعلكم تأكلون مُفْتَرِقِين، اجتمعوا على طعامكم، واذكروا اسم الله عليه، يُبَارَكْ لكم فيه».
رواه أحمد برقم: (16078) واللفظ له، وأبو داود برقم: (3764)، وابن ماجه برقم: (3286) من حديث وحشي بن حرب -رضي الله عنه-.
سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (664)، صحيح الترغيب والترهيب برقم: (2128).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«نَشْبَعُ»:
الشِّبَعُ نقيض الجوع. عون المعبود (10/ 170).
وقال الجوهري -رحمه الله-:
الشِبَعُ: نقيضُ الجوع، يقال: شَبِعْتُ خبزًا ولحمًا، ومن خُبْزٍ ولحمٍ شِبَعًا، وهو من مصادر الطبائع. الصحاح (3/ 1234).
«يُبَارَكْ»:
البركة: هي الزيادة والنماء والكثرة والاتساع. غريب القرآن، للسجستاني (ص: 151).
والبركة في الطعام: أنْ تحصل به التغذية والسلامة من المرض والأذى، والقوةُ على طاعة الله، مع القناعة به، واستغناء القلب عن النَّهْمَةِ والشَّرَهِ في الأكل، وربما تصحب كل ذلك كفاية القليل منه مكان الكثير. منة المنعم في شرح صحيح مسلم، للمباركفوري (3/363).
شرح الحديث
قوله: «إنا نأكل وما نَشْبَعُ»:
قال ابن علان -رحمه الله-:
الجملة معطوفة على جملة الخبر قبلها، ويجوز إعرابها حالًا. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (5/ 229).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«إِنَّا نأكل» أي: كثيرًا، «ولا نَشْبَعُ» أي: ونحن نريد القناعة، والقوة على الطاعة. مرقاة المفاتيح (7/ 2739).
وقال الشيخ أحمد حطيبة –حفظه الله-:
وطعامهم كان قليلًا، ومع قِلَّة الطعام كان كل واحد يأخذ نصيبه، ويقعد ليأكل، فلا يكفيهم الطعام. شرح رياض الصالحين (68/ 6).
قال: «فلعلكم تأكلون مُفْتَرِقِيْن»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
«لعل» هنا للاستفهام، كقوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} عبس: 3، وهذا الاستفهام ليس على حقيقته، بل المراد به: التنبيه والإيماء على أنَّ عِلَّة عدم شِبَعِهِم في أكلهم كونهم يفترقون. شرح سنن أبي داود (15/ 343).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«مُفْتَرِقِيْن» أي: حال الأكل، بأن كل واحد من أهل البيت يأكل وحده. مرقاة المفاتيح (7/ 2739).
قوله: «اجتمعوا على طعامكم»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«اجتمعوا» بهمزة وصل مكسورة، خطاب لمن شكوا إليه أنهم يأكلون فلا يشبعون، «على طعامكم» ندبًا من الاجتماع ضد الافتراق. فيض القدير (1/ 152).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«فاجتمعوا على طعامكم»؛ وذلك لأن البركة في الجمع، ومن ثم شُرِعَتْ الجماعة في الصلوات. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (5/ 229).
وقال السندي -رحمه الله-:
«فاجتمعوا...» إلخ، فبالاجتماع تنزل البركات في الأقوات، وبذكر اسم الله تعالى يمتنع الشيطان عن الوصول، فتدوم بركته لهم. فتح الودود في شرح سنن أبي داود (3/719- 720).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
يعني: اجتمعوا على الطعام؛ فإنه يكون من أسباب البركة؛ لأنه -كما هو معلوم- إذا وُضِعَ لكل واحد طعام بالتساوي، فقد يكون بعضهم يحتاج إلى شيء قليل، وبعضهم يحتاج إلى شيء كثير، فهذا يأكل حقه، ويكون بحاجة إلى زيادة، وذلك يترك بعض حقه، فالناس متفاوتون، فإذا كان الطعام بين أيديهم كل يأكل من هذا الطعام الذي بين أيديهم، فمنهم من يأكل قليلًا حسب حاجته، ومنهم من يأكل كثيرًا، بخلاف ما لو أنه قُسِم بينهم، ووضع لكل واحد مقدار، فإن بعضهم قد يأكل ويبقى شيء، والثاني قد يأكل ولا يكفيه ذلك الذي قُدِّم له، لكن إذا وضع بين يدي الجميع فكلٌّ يأخذ حاجته. شرح سنن أبي داود (ص: 2).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
ومنها: -أي مِن أسباب نزع البركة-: التَّفَرُّق على الطعام؛ فإن ذلك من أسباب نزع البركة؛ لأن التَّفَرُّق يستلزم أن كل واحد يجعل له إناء خاصًا، فيتفرَّق الطعام، وتُنْزَع بركته؛ وذلك لأنك لو جعلت لكل إنسان طعامًا في صحن واحد، أو في إناء واحد لتَفَرَّقَ الطعام، لكن إذا جعلته كله في إناء واحد اجتمعوا عليه، وصار في القليل بركة، وهذا يدل على أنه ينبغي للجماعة أن يكون طعامهم في إناء واحد، ولو كانوا عشرة أو خمسة؛ يكون طعامهم في صحن واحد بحسبهم؛ فإن ذلك من أسباب نزول البركة، والتَّفَرُّق من أسباب نزع البركة. شرح رياض الصالحين (4/ 219).
وقال الزبيدي -رحمه الله-:
والسِّرُّ في ذلك: أنَّ اجتماع الأنفاس، وعِظَم الجمع أسباب نصبها الله سبحانه، مقتضية لفيض الرحمة، وتَنَزُّلات غيث النعمة، وهذا كالمحسوس عند أهل الطريق، ولكن العبد لجهله يغلب عليه الشاهد على الغائب، والحس على العقل. إتحاف السادة المتقين (5/ 218).
قوله: «واذكروا اسم الله عليه»:
قال ابن علان -رحمه الله-:
أي: قولوا: بسم الله عند أكله. فيض القدير (1/ 152).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«واذكروا» حال شروعكم في الأكل «اسم الله عليه».فيض القدير (1/ 152).
وقال المناوي -رحمه الله- أيضًا:
«اسم الله عليه» بأن تقولوا في أوَّلِه: بسم الله، والأكمل إكمال البسملة؛ فإنكم إن فعلتم ذلك «يُبَارِكْ» أي: الله، فهو مبني للفاعل، ويجوز للمفعول. فيض القدير (1/ 152).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«واذكروا اسم الله» أي: جميعكم في ابتداء أكلكم. مرقاة المفاتيح (7/ 2739).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «واذكروا اسم الله» هل هو أمر لكل فرد أو للجماعة، وأنه إذا سمى البعض أجزأ عن الجميع؟
قال ابن القيم (زاد المعاد): وهاهنا مسألة تدعو الحاجة إليها، وهي: أن الآكلين إذا كانوا جماعة فسمى أحدهم، هل تزول مشاركة الشيطان لهم في الطعام بتسميته وحده؟ أو لا تزول إلا بتسمية الجميع؟ فنص الشافعي -رحمه الله- على إجزاء تسمية الواحد، وجعله أصحابه كتشميت العاطس، ورد السلام.
وقد يقال: لا ترتفع مشاركة الشيطان للآكل إلا بتسمية الآكل نفسه، ولا يكفيه تسمية غيره؛ ولهذا جاء في حديث حذيفة: إنا حضرنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجاءت جارية كأنها تدفع، فذهبت لتضع يدها في الطعام، فأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدها، ثم جاء أعرابي فأخذ يده، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الشيطان يستحل الطعام أن لا يُذْكَرَ اسمُ الله عليه، وأنه جاء بهذه الجارية ليستحل بها، فأخذتُ بيدها، فجاء بهذا الأعرابي ليستحل به فأخذتُ بيده، فوالذي نفسي بيده، إن يده لفي يدي مع يديهما»، ثم ذكر اسم الله فأكل.
فلو كانت تسمية الواحد تكفي لما وضع الشيطان يده في ذلك الطعام، وقد يجاب عن هذا، بأنه لم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد سمى بعد، ولكن الجارية ابتدأت بالوضع من غير تسمية، وكذلك الأعرابي، فشاركهما الشيطان، فمن أين لكم أن الشيطان شارك من لم يُسَمِّ بعد تسمية غيره؟ فهذا مما يمكن أن يقال، لكن قد روى الترمذي وصححه من حديث عائشة قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأكل الطعام في ستة من أصحابه، فجاء أعرابي فأكله بلقمتين، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أما إنه لو سمى لكفاكم»، ومن المعلوم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأولئك الستة سَمَّوْا، فلما جاء هذا الأعرابي فأكل ولم يُسَمِّ شاركه الشيطان في أكله، فأكل الطعام بلقمتين، ولو سمى لكفى الجميع. التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 361-362).
وقال الزبيدي -رحمه الله-:
والأمر للندب. إتحاف السادة المتقين (5/ 218).
قوله: «يبارك لكم فيه»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
فقد روى أبو يعلى في مسنده وابن حبان والبيهقي والضياء عن جابر مرفوعًا: «أحب الطعام إلى الله ما كَثُرْت عليه الأيدي».
وروى الطبراني عن ابن عمر موقوفًا: «طعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية»؛ فاجتمعوا عليه، ولا تفرَّقوا، وأما قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} النور: 61، فمحمول على الرخصة، أو دفعًا للحرج على الشخص إذا كان وحده. مرقاة المفاتيح (7/ 2739).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
قوله: «يبارك لكم فيه» أي: يوضع لكم فيه البركة، بحيث تشبعون إذا اجتمعتم، وذكرتم اسم الله بالتسمية والحمد آخره. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (5/ 229).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «يبارك لكم فيه» أي: يحصل فيه النماء والزيادة بسبب الاجتماع. التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 361).
وقال المناوي -رحمه الله-:
قوله: «يبارك لكم فيه» فتشبعون، فالاجتماع على الطعام، وتكثير الأيدي عليه، ولو من الأهل والخدم، مع التسمية؛ سبب للبركة التي هي سبب للشبع والخير.
والتسمية على الأكل سنة كفاية، والأكمل أن يسمي كل واحد منهم، فإن ترك التسمية أوله عمدًا أو سهوًا تداركها في أثنائه. فيض القدير (1/ 152).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
قوله: «يبارك لكم فيه» إذا اجتمعتم، وذكرتم اسم اللَّه أوله، وحمدتم اللَّه آخره، فالاجتماع على هذِه الكيفية موجب للبركة، ولمحبة اللَّه تعالى أيضًا بكثرة ذكر اسمه وحمده؛ لما رواه أبو يعلى والطبراني عن جابر: قال رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ أحب الطعام إلى اللَّه ما كثرت عليه الأيدي»، وللطبراني وابن ماجه زيادة في الحديث في رواية ابن عمر: قال رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: «كلوا جميعًا، ولا تفترقوا، فإن طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة». شرح سنن أبي داود (15/ 343-344).
وقال العزيزي -رحمه الله-:
فالاجتماع على الطعام مع التسمية سبب للبركة التي هي سبب للشبع. السراج المنير شرح الجامع الصغير (1/ 43).
وقال الشيخ أحمد الساعاتي -رحمه الله-:
فيه: الأمر بالاجتماع على الطعام، وهو أَمر إرشاد. الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني (17/ 88).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
فيه الحث على الاجتهاد على تكثير الأيادي على أكل الطعام، ولو من أهله وولده وخادمه.
والظاهر: أن المقصود الأعظم ليس هو كثرة وضع الأيدي فقط، بل كثرة الأيدي سبب لكثرة ذكر اسم اللَّه تعالى، فإذا سمى اللَّه كل واحد من الجماعة على الطعام حصلت بركة ذكر اسم اللَّه، حتى لو اجتمع جماعة للأكل ولم يذكروا اسم اللَّه، وخالفوا سنة الأكل، فأي بركة تحصل باجتماع تاركي السنة؟ شرح سنن أبي داود (15/ 343).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
أفاد الحديث أن الاجتماع سبب البركة، ويدل عليه: «طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الثلاثة».
وهل البركة تكون بالاجتماع، أو بالتسمية، أو بهما؟
ظاهر جواب الشكوى أنها تحصل بالاجتماع، ثم أرشدهم إلى زيادة التسمية لزيادة البركة، وقد ورد تعليل الأمر بالتسمية بأنه يدفع مشاركة الشيطان، ولا شك أنه بمشاركته لهم ترتفع البركة. التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 361).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
والاجتماع على الطعام من أسباب البركة، والأكل على سبيل الانفراد وعلى سبيل الاجتماع كل ذلك سائغ، كما جاء في الآية: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأكلوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} النور:61، فالاجتماع والانفراد في الأكل سائغ، ولكن الاجتماع فيه فائدة: وهي الاجتماع والتلاقي والتآنُس بين أهل البيت، وأيضًا فيه زيادة البركة، كما جاء في الحديث: «طعام الاثنين كافٍ للثلاثة، وطعام الثلاثة كافٍ للأربعة ...» إلى آخر الحديث، يعني: أنَّ الطعام عندما يُوضع لعدد معين، ثم يأتي زيادة على ذلك العدد، فإنه يكون كافيًا لهم. شرح سنن أبي داود (425/ 16).