كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخرج إلينا في الصُّفَّة، وعلينا الحَوْتَكِيَّة، فيقول: «لو تعلمون ما ذُخِر لكم ما حَزِنتم على ما زُوِي عنكم، ولَيُفتَحَنَّ لكم فارسٌ والروم».
رواه أحمد برقم: (17161)، من حديث العِرباض بن سارية -رضي الله عنه-.
سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (2168)، صحيح الترغيب والترهيب برقم: (3208).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«الصُّفَّة»:
صُفَّةُ الدار: واحدة الصُّفَف؛ وقال الليث: الصُّفَّةُ من البُنيان: شبه البَهْو الواسع الطويل السَّمْكِ. لسان العرب، لابن منضور (9/195).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
«أهل الصُّفَّة» هم فقراء المهاجرين، ومن لم يكن له منهم منزل يسكنه، فكانوا يأوون إلى موضع مظلَّل في مسجد المدينة يسكنونه. النهاية (3/37).
«الحَوْتَكِيَّة»:
الحَوْتَك: الصغير من كُل شيء، والحَوْتكُ أَيْضًا: الْقصير...، والحوْتَكِيَّة: عِمَّةٌ تَعَمَّمُ بها الأعراب.المحكم والمحيط الأعظم (3/37).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
قيل: هي عِمَّة يتعممها الأعراب، يسمونها بهذا الاسم...، وقيل: هي خَمِيْصَة منسوبة إليه، وإلى القِصَر، وهذا أظهر، -والله أعلم-. فتح القريب المجيب على الترغيب والترهيب (12/599-600)
«ذُخِر»:
الذَّال والخاء والراء يدل على إحراز شيء يحفظه. يقال: ذَخَرْتُ الشيء أَذْخَرُهُ ذَخْرًا، فإذا قلت: افتعلت من ذلك، قلت: ادَّخَرْتُ.
ومن الباب: المذاخر، وهو اسم يجمع جوف الإنسان وعروقه.مقاييس اللغة (22/ 193).
«حَزِنتم»:
الحُزْنُ والحَزَنُ: خلاف السرور، وحَزِنَ الرجل -بالكسر- فهو حَزِن وحَزين. الصحاح (5/2098).
«زُوِي»:
كطُوِيَ، لفظًا ومعنىً. حاشية السندي على المسند (4/167).
وقال أبو عبيد -رحمه الله-:
ولا يكاد يكون الانْزِوَاء إلا بانحراف مع تَقَبُّض. غريب الحديث، للقاسم بن سلام (1/3).
وقال ابن منظور -رحمه الله-:
الزَّيُّ: مصدر زَوى الشيء يزويه زَيًّا وزُوِيًّا فانزوى، نَحَّاه فتَنَحَّى، وزَوَاه: قَبَضه. لسان العرب (14/ 363).
«فارس»:
فارس: هي مملكة تشتمل على عدة من المدن، ودار مملكتها: شيراز، سُميت فارس بذلك؛ لأنه سكنها فارس بن عابور بن يافث بن نوح -عليه السلام-، ذكره علي بن كيسان. شرح سنن أبي داود لابن رسلان (12/ 590).
«الرُّوم»:
الرُّوم بالضّم: جيل من وَلَدِ الرُّوم بن عِيصُو بن إسحاق - عليه السلام -؛ سُمُّوا باسم جَدِّهم.
قيل: كان لـ عيصو ثلاثون ولدًا؛ منهم الرُّوم، ودخل في الرُّوم طوائف من تَنُوخ ونَهْد وسُلَيم وغيرهم من غسان، كانوا بالشام، فلما أجلاهم المسلمون عنها دخلوا بلاد الرُّوم، فاستوطنوها، فاختلطت أنسابهم. تاج العروس (32/292-293).
شرح الحديث
قوله: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخرج إلينا في الصُّفَّة، وعلينا الحَوْتَكِيَّة»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
أهل الصّفة: هي سقيفة مُظَلَّلة، كانت تأوي إليها المساكين في المسجد النبوي، وأبْعَدَ من قال: إنهم سُموا بذلك؛ لأنهم كانوا يَصُفُّون على باب المسجد. فتح الباري (1/ 145).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
أي: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخرج إلينا في الصُّفَّة، وعلينا الحَوْتَكِيَّة، ويقول لنا ذلك. التنوير شرح الجامع الصغير (9/ 147).
قوله: «لو تعلمون ما ذُخِر لكم»:
قال العزيزي -رحمه الله-:
أي: عند الله من النّعيم في الجنة. السراج المنير شرح الجامع الصغير (4/146).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «ذُخِرَ» أي: في الآخرة، أو الدنيا، أو فيهما، وآخر الحديث يؤيد الثاني. حاشية السندي على المسند (4/167).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «لو تعلمون ما ذُخِر لكم» مِن الخيرات والمغانم، كما يُرْشِد إليه تمام الحديث، بلفظ: «وليفتحن عليكم فارس والروم». التنوير شرح الجامع الصغير (9/147).
وقال المناوي -رحمه الله-:
قاله لأهل الصُّفَّة لما رأى خصاصتهم وفقرهم.
قال بعض العارفين: ينبغي للعاقل أن يحمد الله على ما زَوَى عنه من الدنيا، كما يحمده على ما أعطاه، وأين يقع ما أعطاه والحساب يأتي عليه إلى ما عافاه ولم يبْتَلِه به فيشغل قلبه، ويتعب جوارحه، ويكثر همه.
وفي الحديث وما قبله وبعده: إشعار بأن إفشاء سر الربوبية قبيح؛ إذ لو جاز إفشاء كل سر لذكر لهم ما ادَّخَرَ لهم، ولذَكَّرهم حتى يبكون، ولا يضحكون.
وفيه: تفضيل الفقر على الغنى، قالوا: بَشَّر الفقراء الصابرين بما لم يُبَشِّر به الأغنياء المؤمنين، وكفى به فضلًا. فيض القدير (5/ 404).
قوله: «ما حَزِنتم على ما زُوِي عنكم»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
«ما حَزِنتم» الآن «على ما زُوِي عنكم» من النّعم. التنوير شرح الجامع الصغير (9/147).
وقال الساعاتي -رحمه الله-:
«ما زُوِي عنكم» أي: ما نحَّى عنكم من متاع الدنيا. الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني (22/ 193).
وقال ابن القيم-رحمه الله-:
وقال بعض أهل العلم: لَنِعم الله علينا فيما زوى عنّا أفضل من نعمه علينا فيما بسط لنا منها؛ وذلك أنّ الله لم يرضَ لنَبِيِّه الدّنيا، فَأَنْ أكون فيما رضي الله لنَبِيِّه وأحبَّ له أحبُّ إليّ أن أكون فيما كره له وسخطه.
قال ابن أبي الدنيا: وبلغني عن بعض العلماء أنه قال: «ينبغي للعالم أن يحمد الله على ما زوى عنه من شهوات الدنيا، كما يحمده على ما أعطاه، وأين يقع ما أعطاه والحساب يأتي عليه، إلى ما عافاه ولم يبْتَلِه به، فيشغل قلبه، ويتعب جوارحه؟ فيشكر الله على سكون قلبه، وجمع همه.عدة الصابرين (1/253).
وقال المناوي -رحمه الله-:
وذلك لأنه -تعالى- خَلق الخَلق لبقاء لا فناء معه، وعزٍّ لا ذُلّ معه، وأمنٍ لا خوف معه، وغَناءٍ لا فقر معه، ولذّة لا ألم معها، وكمال لا نقص فيه، وامتحنه في هذه الدار ببقاء يُسْرِع إليه الفناء، وعِزٍّ يُقارنه ذُلٌّ، وأَمنٍ معه خُوفٌ، وغِنى ولِذة وفرحة ونعيم مشُوب بضِدّه، وهو سريع الزوال، فغلط أكثر الناس في هذا المقام؛ إذ طلبوا البقاء، وما معه في غير محله، ففاتهم في محله، وأكثرهم لم يظفر بما طلبه، والظافر إنما ظفر بمتاع قليل زواله قريب، فكيف يحزن العاقل على الفائت منه؟! فيض القدير (5/317).
قوله: «ولَيُفتَحَنَّ لكم فارس والروم»:
قال الساعاتي -رحمه الله-:
قوله: «ولَيُفتَحَنَّ لكم فارس والروم» فيغنيكم الله من فضله، ويُعَوِّضُكم ما فقدتم من متاع الدنيا. الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني (22/ 193).
قال الفيومي -رحمه الله-:
ومراده - صلى الله عليه وسلم - ما يُفتح على أُمّتِه منها من ملك فارس، والروم، وغيرهم من الكفار الذين وَرِثَتْ هذه الأمة ديارهم، وأموالهم، وأراضيهم التي يخرج منها زروعهم وثمارهم وأنهارهم ومعادنهم، وغير ذلك مما يخرج من بركات الأرض.
وهذا من أعظم المعجزات، وهو إخباره بظهور أمته على كنوز فارس والروم وأموالهم وديارهم، ووقع ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم -.فتح القريب المجيب على الترغيب والترهيب (12/726).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
والحديث: بشرى للمؤمنين، وهو من أعلام النّبوة. التنوير شرح الجامع الصغير (9/147).