«إذا أتاكم من تَرْضَون خُلُقه ودِيْنَه، فزوِّجُوه، إلا تفعلوا تَكن فِتْنَةٌ في الأرض، وفسادٌ عَرِيض».
رواه الترمذي برقم: (1084)، وابن ماجه برقم: (1967) واللفظ له، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (1022)، صحيح سنن ابن ماجه برقم: (1967).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«خُلُقَه»:
بضمتين، وبضم فسكون، أي: مُعاشرته؛ لحُسن خُلُقه. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه، للهرري (11/ 365).
«فِتْنَةٌ»:
الفتنة: الامتحان والاختبار... وقد كثر استعمالها فيما أخرجه الاختبار للمكروه، ثم كُثر حتى استُعمل بمعنى: الإثم والكفر والقتال والإحراق والإزالة، والصرف عن الشيء.النهاية، لابن الأثير (3/ 410).
«فسادٌ»:
الفَسَادُ: خروج الشيء عن الاعتدال، قليلًا كان الخروج عنه أو كثيرًا، ويضادّه الصّلاح، ويُستعمل ذلك في النّفس والبدن والأشياء الخارجة عن الاستقامة، يقال: فَسَدَ فَسَادًا وفُسُودًا، وأَفْسَدَهُ غيره.المفردات في غريب القرآن، للأصفهاني (ص: 636).
«عَرِيْضٌ»:
أي: منتشر مستطيل، ووصْفه بالعَرض كوصفه في الآية بالكبير.التنوير شرح الجامع الصغير، للصنعاني (1/497).
شرح الحديث
قال المناوي -رحمه الله-:
«إذا أتاكم» أيها الأولياء «مَن» أي: رجل يخطب مُوْلِيَتِكُم، «ترضون خُلقه» بالضم، وفي رواية بدله: «أمانته»، «ودِينه» بأن يكون مساويًا للمخطوبة في الدِّين، أو المراد أنه عَدْلٌ، فليس الفاسق كُفؤًا لعفيفة، «فزَوِّجوه» إياها، وفي رواية: «فأنْكِحُوه» أي: ندبًا مؤكدًا، بل إن دعَت الحاجة وجَب.فيض القدير (1/243).
وقال الصنعاني-رحمه الله-:
«إذا أتاكم» أي: خاطبًا؛ كما يُشعر به «فزوجوه»، وظاهره الإيجاب، والاقتصار على الخُلق والدِّين دليل على أنه لا يُشترط في الكفاءة غيرهما من نَسَبٍ أو نشب النشب: المال والعقار، كما في الصحاح، وإن لم يكن فيه حصر، فالمقام مقام البيان.التنوير شرح الجامع الصغير (1/497).
وقال الكنكوهي-رحمه الله-:
لم يذكر النسب والمال؛ كأنهما شيئان لا ينبغي أن تَعْتَدّوا بهما؛ ولأن الناس يطلبونهما من غير ذكر، فلم يحتج إلى ذكرهما.الكوكب الدري على جامع الترمذي (2/212).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
أي: طَلَب منكم أن تزوِّجوه امرأة من أولادكم وأقاربكم، «مَن ترضون» أي: تستحسنون «دِينه» أي: دِيَانَتَه، «وخُلُقه» أي: معاشرته.مرقاة المفاتيح (5/2047).
وقال المظهري -رحمه الله-:
يعني: إذا طلب أحدٌ منكم أن تزوِّجوه امرأةً من أولادكم، أو أقاربكم فانظروا، فإن كان مسلمًا صالحًا حسَن الخُلق، فزوِّجوه.المفاتيح في شرح المصابيح (4/13).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «مَن ترضون خُلقه» بضمَّتين، أو سكون الثاني؛ وذلك لأنه مدار حُسْن المعاش، كما أنَّ الدِّين مدار أداء الحقوق.حاشية السندي على سنن ابن ماجه (1/607).
وقال محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«ودِينه» أي: ديانته؛ بامتثاله المأمورات، واجتنابه المنهيات.مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (11/ 365).
وقال المناوي -رحمه الله-:
قوله: «وفساد» أي: خروج عن الاستقامة النافعة المعِينة على العفاف.التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 59).
وقال المناوي -رحمه الله- أيضًا:
فيه: أنه ينبغي تحري محاسن الأخلاق في الخاطب، والبعد عمن اتصف بمساويها.فيض القدير (1/314).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
في هذا الحديث: إنْ خطب فزوِّجوه، وقد يخطب ولي المرأة، والأصل فيه الحديث الصحيح: أنَّ عمر عرض ابنته حفصة على عثمان وأبي بكر، وخَطبت أم حبيبة أختها على النبي -صلى الله عليه وسلم-.عارضة الأحوذي (4/244).
قوله: «إلا تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض، وفسادٌ عريض»:
قال المناوي -رحمه الله-:
قوله: «إن لا تفعلوا» ما أُمِرتم به، وفي رواية: «تفعلوه».فيض القدير (1/313).
وقال العزيزي -رحمه الله-:
قال العلقمي: والمعنى: إنْ ردَدْتم الكفؤ الراغب من غير حُجة، فهو ضلال في الأرض، وفساد ظاهر؛ لردِّ مَن أمَر الشارع بتزويجه.السراج المنير شرح الجامع الصغير (1/ 75).
وقال المظهري -رحمه الله-:
لأنكم لو لم تزوِّجوا نساء أقاربكم إلا من معروفٍ صاحبِ مال وجاهٍ وغير ذلك من الصفات التي يميل إليها أبناء الدنيا، يبقى أكثر نسائكم بلا زوج، ويبقى أكثر الرجال بلا زوجة، وحينئذٍ يميل الرجال إلى النساء، والنساء إلى الرجال، ويكثر الزنا، ويلحق الأولياءَ العارُ بنسبة الزنا إلى نسائهم، وربما تغلب غيرةٌ على أقاربهم بما سمعوا من نسبة الزنا إليهن، فيقتلوهن، ويقتلون من قصدهن بالفواحش، وهذا كله فسادٌ عريض، وفتنة كبيرة.المفاتيح في شرح المصابيح (4/13).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
«إن لا تفعلوه» الفعل هنا كِنَايَةٌ عن المجموع، أي: إن لم تزوِّجوا مَن ترضون دِينه وخُلقه، تحدُث فتنة في الأرض، وفساد عريض، والفساد خروج الشيء عن حالة استقامته، وكونه منتفَعًا به، ونقيضه الصلاح وهو الحصول على الحالة النافعة.
والفساد في الأرض يهيِّج الحروب والفتن؛ لأن في ذلك فساد ما في الأرض، وانتفاء الاستقامة عن أحوال الناس والزروع والمنافع الدينية والدنيوية، قال الله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} البقرة: 205.
والحديث يحتمل وجهين:
أحدهما: أنكم إن لم ترغبوا فيمن له الدِّين المرضي، والخُلق الحسن الموجبان لصلاح الأرض واستقامتها، ورغبتم في مجرد الحسب والمال الجالِبَين للطغيان، المؤدي إلى البغي والفساد في الأرض «تكن فتنة في الأرض، وفساد عريض»، وإلى هذا المعنى أشار التنزيل في حق المنافقين: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُون * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُون} البقرة: 11- 12.
وثانيهما: ما ذكره المظهري: وهو إن لم تزوِّجوا مَن ترضون دِينه، بل نظرتم إلى صاحب مال وجاهٍ، كما هو من شيمة أبناء الدنيا، يبقى أكثر النساء بلا زوج، والرجال بلا زوجة، فيكثر الزنا، ويلحق العار الأولياء والغيرة، فيقع القتل فيمن نُسب إليه هذا العار، فتهيج الفتن.شرح المشكاة (7/2262-2263).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«إن لا تفعلوه» أي: لا تزوِّجوه «تكن» أي: تقع «فتنة في الأرض وفساد عريض»، أي: ذو عَرْض، أي: كثير.مرقاة المفاتيح (5/2047).
وقال السندي -رحمه الله-:
«إلا تفعلوا...» إلخ، أي: إن لم تزوجوا من ترضون دِينه وخُلقه، وترغبوا في ذي الحسب والمال، تكن فتنة وفساد؛ لأن الحسب والمال يجلبان إلى الفتنة والفساد عادة.حاشية السندي على سنن ابن ماجه (1/607).
وقال الدِّهْلوي -رحمه الله-:
«إن لا تفعلوا» أي: إن لم تُزوِّجوا مَن هذه صفته، ورغبتُم في مجرد الحسب والمال تكن فتنة في الأرض وفساد؛ لأن المال والحسب يوجبان الطغيان والفساد، أو لبقاء أكثر النساء بلا زوج، والرجال بلا زوجة، فيكثر الزنا، وتقع الفتنة، وهذا أوْجَه.لمعات التنقيح (6/15).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «إلا تفعلوه» التزويج لمن هذه صفته «تكن فتنة في الأرض» أي: ابتلاء وامتحان بالعقوبة على ذلك...
وفيه: أن من لم نرض خُلقه ولا دينه، فإنه لا بأس في ردِّه إن جاء خاطبًا.التنوير شرح الجامع الصغير (1/497).
وقال الكنكوهي -رحمه الله-:
قوله: «ألا تفعلوا» لأنكم إذا لم تزوِّجوا المتدين السهل الخُلق، بل اخترتم عليه الـمُتَمَوّل الفاسق الشَّرِس الخُلق، وإن كان شريف النسب، فإنه يُعامل زوجته على مقتضى فسقه وخُلقه السيئ، ولا ريب حينئذٍ في الشقاق بينهما والخلاف، وأيُّ فساد أكثر منه؟! الكوكب الدري على جامع الترمذي (2/212-213).
وقال المناوي -رحمه الله-:
فيه: أنَّ المرأة إذا طلبت من الولي تزويجها من مساوٍ لها في الدِّين لزمَه، لكن اعتبر الشافعية كونه كفؤًا. فيض القدير (1/314).
وقال المظهري -رحمه الله-:
وهذا الحديث دليل مالك، فإنه يقول: لا يُراعى في الكفاءة إلا الدِّين وحده.
ومذهب غيره: أنه يُراعى في الكفاءة أربع أشياء: الدين، والحرية، والنسب، والصنعة؛ يعني: لا تزوَّج المسلمة من كافر، فإن زوِّجت فالنكاح باطل، ولا تزوَّج الصالحة من فاسقٍ، ولا الحرةُ من عبد، ولا المشهورةُ النسبِ من خامِلِ النَّسب، ولا بنتُ تاجرٍ أو من له حرفةٌ طيبةٌ ممَّن له حرفةٌ خبيثة أو مكروهةٌ عند الناس، فإن رضيت المرأة ووليُّها بغير كُفءٍ ممن ذكرنا صحَّ النكاح، وإن رضيَتِ المرأةُ بغير كُفءٍ ولم يَرضَ الولي، أو رضيَ الولي ولم تَرضَ المرأةُ، فالنَّكاحُ باطلٌ، وإن كان لها أولياءُ بدرجةٍ واحدةٍ، ورضيَتِ المرأةُ وبعضُ الأولياءِ دونَ بعضٍ فالنَّكاحُ باطلٌ أيضًا.
واعلمْ أن الكفاءةَ مُعتبَرةٌ في الزوج؛ يعني: لا تُزوَّجُ امرأة شريفةٌ بهذه الخِصال من زوجٍ خَسِيْسٍ، أمَّا لو كان الزوجُ شريفًا بهذه الخِصال، والمرأةُ دونَه في هذه الخِصال فلا بأسَ، حتى لو زَوَّجَ الرجلُ من ابنه الصغير الشريف امرأةً هي دونَه في هذه الخِصال جاز، إلا أنه لا يجوز أن تكونَ المرأةُ أَمَةً، أو بها برصٌ أو جُذَامٌ أو جنونٌ، أو رَتَقٌ أو قَرَنٌ، والرَّتَق والقَرَن: عَيبانِ يكونان في الفَرج، لا يمكن أن يُجامعَ تلك المرأةَ.
ولا يجوز أن تُزوَّجَ مسلمةٌ من كافرٍ بالاتفاق، سواءٌ رضيَتِ المرأةُ والأولياءُ أو لم يَرضَوا.المفاتيح في شرح المصابيح (4/14).
وقال العيني -رحمه الله-:
قال أبو حنيفة: قريش كلهم أكْفَاء بعضهم لبعض، ولا يكون أحد من العرب كُفؤًا لقرشي، ولا أحد من الموالي كُفؤًا للعرب، ولا يكون كُفؤًا من لا يجد المهر والنفقة.عمدة القاري (20/87).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
قوله: «من ترضون دِينه وخُلقه» فيه دليل على اعتبار الكفاءة في الدين والخُلق، وقد جزم بأن اعتبار الكفاءة مختص بالدِّين مالك، ونُقل عن عمر وابن مسعود، ومن التابعين عن محمد بن سيرين، وعمر بن عبد العزيز، ويدل عليه قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} الحجرات: 13.
واعتبر الكفاءة في النسب الجمهور، وقال أبو حنيفة: قريش أكْفَاء بعضهم بعضًا، والعرب كذلك، وليس أحد من العرب كفؤًا لقريش، كما ليس أحد من غير العرب كفؤًا للعرب، وهو وجه للشافعية.
قال في الفتح: والصحيح تقديم بني هاشم والمطلب على غيرهم، ومن عدا هؤلاء أكْفَاء بعضهم لبعض.
وقال الثوري -رحمه الله-: إذا نكح المولى العربية يفسخ النكاح، وبه قال أحمد في رواية، وتوسط الشافعي فقال: ليس نكاح غير الأكْفَاء حرامًا، فأَرُدُّ به النكاح، وإنما هو تقصير بالمرأة والأولياء، فإذا رضوا صح، ويكون حقًا لهم تركوه، فلو رضوا إلا واحدًا فله فسخه، قال: ولم يثبت في اعتبار الكفاءة بالنسب من حديث.
وأما ما أخرجه البزار من حديث معاذ -رضي الله عنه- رفعه: «العرب بعضهم أكْفَاء بعض، والموالي بعضهم أكْفَاء بعض» فإسناده ضعيف.
واحتج البيهقي بحديث: «إنَّ الله اصطفى بني كنانة من بني إسماعيل» الحديث، وهو صحيح أخرجه مسلم، لكن في الاحتجاج به لذلك نظر.
وقد ضم إليه بعضهم حديث: «قدِّموا قريشًا، ولا تَقَدَّمُوها»، ونقل ابن المنذر عن البُويطي أن الشافعي قال: الكفاءة في الدين، وهو كذلك في مختصر البُويطي.
قال الرافعي -رحمه الله-: وهو خلاف المشهور.
قال في الفتح: واعتبار الكفاءة في الدين متفق عليه، فلا تحل المسلمة لكافر.
قال الخطابي -رحمه الله-: إن الكفاءة معتبرة في قول أكثر العلماء بأربعة أشياء: الدين والحرية والنسب والصناعة، ومنهم من اعتبر السلامة من العيوب، واعتبر بعضهم اليَسَار، ويدل على ذلك ما أخرجه أحمد والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم من حديث بريدة -رضي الله عنه- رفعه: «إن أحساب أهل الدنيا الذي يذهبون إليه المال»، وما أخرجه أحمد والترمذي وصححه هو والحاكم من حديث سمرة -رضي الله عنه- رفعه: «الحَسَب المال، والكرم التقوى».
قال في الفتح: يحتمل أن يكون المراد أنه حسَب مَن لا حَسَب له، فيقوم النسب الشريف لصاحبه مقام المال لمن لا نسب له، أو أن مِن شأن أهل الدنيا رفْعَة من كان كثير المال، ولو كان وضيعًا، وضِعَة من كان مُقِلًا ولو كان رفيع النسب، كما هو موجود مُشاهد، فعلى الاحتمال الأول يمكن أن يُؤخذ من الحديث اعتبار الكفاءة بالمال لا على الثاني.نيل الأوطار (6/154).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
في الحديث: انتقاء الكُفْءَ، وهو الدِّين دون الدنيا؛ لقوله: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} الفرقان: 54، وقد بيَّن ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- بنكاح زَيد مولاه لزينب بنت عمته، وضُباعة بنت عمه للمقداد، وإنكاح أبي حذيفة بن عتبة سالمًا لهند بنت الوليد بن عتبة.
ويكشف الغطاء في ذلك: الحديث الصحيح عن أبي حازم عن سهل قال: مرَّ رَجُل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «ما تقول في هذا؟» فقال: حريٌّ إن خطب أن يُنكح، وإن شفع أن يُشفَّع، وإن قال أن يُسمع، قال: ثم سكت، فمر رَجُل من فقراء المسلمين، فقال: «ما تقول في هذا؟» فقال: هذا حريٌّ إن خطب أن لا يُنكح، وإن شفع ألا يُشفَّع، وإن قال: ألا يُسمع، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «هذا خير من ملء الأرض مثل هذا»، وقد خطب أسامة وأبو جَهْمٍ ومعاوية، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «معاوية صعلوك، وأبو جَهْمٍ لا يرفع عصاه عن عاتقه، أنكِحي أسامة»، وذكر صعلكة معاوية، وليست بعيب بانفرادها حتى يقترن بها غيرها، فكان أسامة صعلوكًا أيضًا، ولكن كان صعلكة أسامة خير من معاوية بكثير، فقدَّمه عليه، وإن ساواه في صفته.عارضة الأحوذي (4/244).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
قال المهلب: الأكْفَاء في الدِّين هم المتشاكلون، وإن كان في النسب تفاضل، فقد نسخ الله ما كان يحكم به العرب في الجاهلية من شرف الأنساب بشرف الصلاح والدين، فقال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} الآية، الحجرات: 13، وقد نزع بهذِه الآية مالك بن أنس.
وأما دعوى دخول العار عليها وعلى الأولياء، فيقال: مع الدِّين لا عار، فمعه يحمل كل شيء، وفي النسب مع عدم الدِّين كل عار، وقد تزوج بلال امرأة قُرشية كما سلف، وأسامة بن زيد فاطمة بنت قيس، وهي قرشية، وقد كان عزم عمر بن الخطاب على تزويج ابنته من سلمان الفارسي، حتى قال عمرو بن العاصي لسلمان: لقد تواضع لك أمير المؤمنين، فقال سلمان: لمثلي يتواضع! والله لا أتزوجها أبدًا، ولولا أن ذلك جائز ما أراده عمر، ولا همَّ به؛ لأنه لا يدخل العار نفسه وعشيرته.التوضيح لشرح الجامع الصحيح (24/ 252).
وقال العيني -رحمه الله-:
وقالوا في اعتبار الكفاءة أحاديث لا تقوم بأكثرها الحجة، وأمْثَلها حديث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- رواه الترمذي: حدثنا قتيبة، حدثنا عبد الله بن وهب، عن سعيد بن عبد الله الجهني، عن محمد بن عمر بن علي عن أبيه علي بن أبي طالب، أن رسول الله قال له: «يا علي، ثلاث لا تؤخرها: الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأَيِّمُ إذا وَجَدَت كفؤًا».عمدة القاري (29/ 224).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
والكفاءة في العدالة يعني: فاسق يتزوج امرأة ملتزمة هذا ليس بشرط، ما دام فسقه لا يخرجه من الإسلام، لكنه لا ينبغي أن يزوَّج الفاسق مع إمكان أن تُزوَّج بعدل؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إذا أتاكم من ترضون دينه وخُلقه فأنكحوه»، ولكن أحيانًا تُلجِئُ المصلحة إلى تزويج فاسق، مثل: أن تكون المرأة ثيبًا لا يكثر الخُطاب عليها، أو تكون المرأة قد كبرت ويقِلُ الخُطاب عليها، فهنا تزويجها بالفاسق يكون لحاجة، إلا أنه يُستثنى من الفسق فسق الزنا، كما سبق، فإن تزويج الزاني حرام، ولا يصح النكاح؛ لقوله تعالى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} النور: 3.
إذن: الكفاءة في الدين لا بد منها، ويُستثنى منها: أن يتزوج المسلم بالكتابية؛ لأن الزوج هنا أعلى من الزوجة.فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (4/513).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
فالذي يقتضيه حكمه -صلى الله عليه وسلم- اعتبار الدّين في الكفاءة أصلًا وكمالًا، فلا تُزوَّج مسلمة بكافر، ولا عفيفة بفاجر، ولم يعتَبر القرآن ولا السُّنة في الكفاءة أمرًا وراء ذلك، فإنه حرّم على المسلمة نكاح الزّاني الخبيث، ولم يعتَبر نسبًا ولا صناعة، ولا غنى، ولا حرية، فجوَّز للعبد القِنّ نكاح الحرة النَّسَيبة الغنية، إذا كان عفيفًا مسلمًا، وجوَّز لغير القرشيين نكاح القرشيات، ولغير الهاشميين نكاح الهاشميات، وللفقراء نكاح الموسرات.زاد المعاد(5/145).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
وهذا الذي قاله الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- هو عين التحقيق الذي لا ينبغي التَّعويل إلا عليه، ولا الرُّجوع إلا إليه.ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (27/76).
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي أيضًا:
والحاصل: أنّ الكفاءة المعتَبرة بين الزوجين هي الدِّين فقط، وما عدا ذلك من النّسب والحَسب والمال ونحو ذلك فلا اعتداد به، فإذا رضيت المرأة الهاشمية بأن تتزوج مولى من الموالي، فلا اعتراض لأحد عليها، وكذا الغنيَّة إذا رضيت بالفقير، ونحو ذلك، والله تعالى أعلم بالصواب.ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (27/76).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي أيضًا:
والحاصل: أنَّ الصحيح هو ما ذهب إليه مالك: من أن المعتبَر الدِّين، لا النّسب، ولا غيره.البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (37/186).
وقال الشيخ ابن جبرين -رحمه الله-:
فهو -عليه الصلاة والسلام- حذَّر من ردِّه إذا كان كفؤًا؛ مخافة أن تتعطل النساء إذا رُدَّ هذا الكُفء، وكذلك يتعطل هذا الكُفء، ويتعطل الشباب إذا رُدَّ هؤلاء وأولئك، فتحصل مفسدة عظيمة، وهي انتشار الفاحشة، أو مقدمات الفاحشة.شرح عمدة الأحكام (60/ 3).