تَمَارَيْنَا في سُورة من القرآن، فقلنا: خمس وثلاثون آية، ست وثلاثون آية، قال: فانطلقنا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فوجدنا عليًّا يُنَاجِيْه، فقلنا: إنَّا اختلفنا في القراءة، فاحمرَّ وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال عليٌ: «إنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يَأْمُركم أن تقرؤوا كما عُلِّمْتُم».
رواه أحمد برقم: (832)، من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (1171)، سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (1522).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«تَمَارَيْنَا»:
الْمِراء: الجِدال، والتَّمَاري والمُمَاراة: المجادلة على مذهب الشك والريبة.النهاية، لابن الأثير (4/322).
والمماراة: المجادلة والمحاجة فيما فيه مرية، وهي التردد في الأمر، والاسم منه: المراء وأصل ذلك من: (مريت الناقة): إذا مسحت ضرعها".الميسر في شرح مصابيح السنة للتوربشتي(1/ 106).
«يُنَاجِيْه»:
الْمُنَاجي: المخاطِب للإنسان، والمحدِّث له.النهاية، لابن الأثير (5/25).
والنجو: كلام بين اثنين كالسّر والتسار، تقول: ناجيتهم وتناجوا فيما بينهم، وكذلك: انتجوا. والقوم نَجوَى، وأنجية".العين، للخليل (6/ 187).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
التناجي: تَفَاعُلٌ من المناجاة، وهي الْمُسَارّة، والتحادُثُ سرًّا، وانْتَجَى القومُ، وتنَاجَوا؛ أي: سَارَّ بعضهم بعضًا. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج(35/ 683).
«اختلفنا»:
الاختلافُ والمخالفة: أن يأخذ كلّ واحد طريقًا غير طريق الآخر في حاله أو قوله، والخِلَاف أعمّ مِن الضّدّ، لأنّ كلّ ضدّين مختلفان، وليس كلّ مختلفين ضدّين.المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني (ص: 294).
وقال المناوي –رحمه الله-:
الاختلاف: افتعال من الخلاف، وهو تقابل بين رأيين فيما ينبغي انفراد الرأي فيه، ذكره الحرالي.التوقيف على مهمات التعاريف. للمناوي (ص: 41).
«فاحمرَّ»:
احمرَّ الشَّيءُ: صار بلون الدّمِ. معجم اللغة العربية المعاصرة (1/ 557).
شرح الحديث
قوله: «تَمَارَيْنَا في سُورة من القرآن، فقلنا: خمس وثلاثون آية، ست وثلاثون آية»:
قال البنا الساعاتي -رحمه الله-:
قوله: «تَمَارَيْنَا في سُورة من القرآن» يعني: عبد الله بن مسعود وبعض الصحابة، أي: تجادلنا.بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني (18/37).
وقال العيني -رحمه الله-:
تَمَارَيْنَا: من التّماري، وهو المجادَلة على مذهب الشك والرّيبة، وكذلك الْمُمَاراة، ويقال للمناظرة: مماراة؛ لأن كل واحد منهما يستخرج ما عند صاحبه ويَمْتريه، كما يمْتري الحالب اللبن من الضرع.نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار (5/ 300).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
وقيل: أصل التمَارِي من الْمِرْيَة، وهو الشك؛ لأن كُلًّا من المتنازِعَين يَشُكّ أو يشكك في كلام صاحبه، قال عباس بن مرداس من الطويل:
تَمَارَوا بنَا فِي الفَجْر حَتَّى تَبَيَّنُوا *** مَعَ الفَجْر فُرْسَانًا وَقَابًا مُقَوَّمَا.ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (4/ 366).
وقال السخاوي -رحمه الله-:
فإنْ قيل: فلو كان ذلك -أي عدد الآي- توقيفًا لم يقع اختلاف.
قلتُ: الأمر في ذلك على نحو من اختلاف القراءات، وكلها مع الاختلاف راجع إلى النقل، والله أعلم.
ومما يؤيد ما ذكرته من أنَّ عدد الآي راجع إلى التوقيف: ما روى عاصم عن زِر عن عبد الله بن مسعود أنه قال: اختلفنا في سورة من القرآن، فقال بعضنا: ثلاثين، وقال بعضنا: اثنتين وثلاثين، وأتينا النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأخبرناه، فتغيَّر لونه، فأسرَّ إلى علي بن أبي طالب بشيْء، فالتفت إلينا عليٌّ -رضوان الله عليه- فقال: «إنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمركم أن تقرؤوا القرآن كما عُلِّمْتمُوهُ».
ففي هذا دليل على أنَّ العدد راجع إلى التعليم.
وفيه: أيضًا دليل على تصويب العددين لمن تأمَّل بفهم.جمال القراء وكمال الإقراء (ص: 321).
وقال الباقلاني -رحمه الله-:
وهذا الخبرُ يدل على أنّه لم يأمرهم بعَدِّ الآي، بل نهاهم عنه إذ ذاك، أو أطلقَه لهم، ووكله إلى آرائهم، وما يؤديهم الاجتهادُ إلى أنّه فصلٌ وموضعُ آخرِ الآية؛ ليستعينوا بذلك على الحفظ ويقيِّدوه، ويدلُّ أيضًا على أنّهم كانوا يعُدُّون عدًّا مختلفًا...الانتصار للقرآن (1/228- 230).
وقال الدّاني -رحمه الله- رادًّا عليه:
وقد زعم بعض من أهمل التفتيش عن الأصول، وأغفل إمعان النظر في السنن والآثار: أنَّ ذلك -أي عدّ الآيات- كله معلوم من جهة الاستنباط، ومأخوذ أكثره من المصاحف دون التوقيف والتعليم من رسول الله.
وبطلان ما زعمه، وفساد ما قاله غير مشكوك فيه عند من له أدنى فهم، وأقل تمييز؛ إذ كان المبيِّن عن الله -عزّ وجلّ- قد أفصح بالتوقيف بقوله: من قرأ آية كذا وكذا، مَن قرأ الآيتين، ومَن قرأ الثلاث الآيات، ومن قرأ العشر إلى كذا، ومن قرأ ثلاثمائة آية إلى خمسمائة آية إلى ألف آية، في أشباه ذلك مما قد مضى بأسانيده من قوله، ألا ترى أنه غير ممكن ولا جائز أن يقول ذلك لأصحابه الذين شهدوه، وسمعوا ذلك منه، إلا وقد علمُوا المقدار الذي أراده، وقصده، وأشار إليه، وعرفوا ابتداءه وأقصاه ومنتهاه؛ وذلك بإعلامه إياهم عند التلقين والتعليم برأس الآية، وموضع الخَمْس، ومنتهى العَشْر، ولا سيما أن نزول القرآن عليه كان مُفرَّقًا: خمسًا خمسًا، وآية وآيتين وثلاثًا وأربعًا، وأكثر من ذلك، على ما فرَطَ قبلُ، وقد أفصح الصحابة -رضي الله عنهم- بالتوقيف، بقولهم: إنَّ رسول الله كان يعلِّمهم العَشْر، فلا يجاوزونها إلى عشر أخرى حتى يتعلموا ما فيها من العمل، وجائز أن يعلِّمهم العَشر كاملًا في وقت واحد، ومُفرَّقًا في أوقات، وكيف كان ذلك فعَنْه أخذوا رؤوس الآي آية آية، وإذا كان ذلك كذلك، ولا يكون غيره، بطَلَ ما قاله مَن قدَّمناه، وصح ما قلناه.
وكذلك القول عندنا في تأليف السور وتسميتها، وترتيب آيها في الكتابة أن ذلك توقيف من رسول الله، وإعلام منه به؛ لتوفُّر مجيء الأخبار بذلك، واقتضاء العادة بكونه كذلك، وتواطؤ الجماعة، واتفاق الأمة عليه.البيان في عد آي القرآن (ص:39- 40).
وقال البنا الساعاتي -رحمه الله-:
لأنه -صلى الله عليه وسلم- يكره الاختلاف والْمِراء.بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني (18/38).
قوله: «فقال عليٌّ: إنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يَأْمُركم أن تقرؤوا كما عُلِّمْتُم»:
قال سليمان بن نجاح –رحمه الله-:
«اقرءوا كما علمتم»، فلا يجوز أن يقرأ أحدٌ إلا بما أقرئ وسمع تلاوة من القارئ على العالم أو من العالم على المتعلم عن قصد منهما لذلك.مختصر التبيين لهجاء التنزيل(1/ 284).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «كما عُلِّمْتم» على بناء المفعول من التعليم.
ويحتمل: بناء الفاعل من العِلم.حاشية السندي على المسند (1/228).
قال البنا الساعاتي -رحمه الله-:
أي: كما علَّمكم النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو بعض الصحابة.بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني (18/38).
وقال ابن مجاهد -رحمه الله-:
وقد كان أبو عمرو بن العلاء وهو إمام أهل عصره في اللغة وقد رأس في القراءة والتابعون أحياء وقرأ على جلة التابعين - مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة ويحيى ابن يعمر - وكان لا يقرأ بما لم يتقدمه فيه أحد...، قال الأصمعي: سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: لولا أنه ليس لي أن أقرأ إلا بما قد قرئ بِهِ لقرأت حرف كذا كذا وحرف كذا كذا...، وقال الأصمعي: قلت لأبي عمرو بن العلاء: {وباركنا عَلَيهِ} فِي مَوضِع {وَتَركنَا عَلَيهِ} في موضع أيعرف هذا فقال: ما يعرف إلا أن يسمع من المشايخ الأولين، قال: وقال أبو عمرو: إنما نحن فيمن مضى كبقل في أصول نخل طوال...السبعة في القراءات لأبي بكر ابن مجاهد (ص47).
وقال ابن كثير –رحمه الله-:
وهذا في معنى الحديث الذي تقدمه، وأنه ينهى عن الاختلاف في القراءة والمنازعة في ذلك والمراء فيه كما تقدم النهي عن ذلك، والله أعلم.تفسير القرآن العظيم(1/ 88).
وقال ابن بطال –رحمه الله-:
فيه من الفقه: جواز الغضب للإمام والعالم في التعليم والموعظة إذا رأى منكرًا يجب تغييره، وقال مالك: الأمر بالمعروف واجب على جماعة المؤمنين من الأئمة والسلاطين وعامة المؤمنين لا يسعهم التخلف عنه...شرح صحيح البخاري(9/ 294).
وقال عبد الصبور شاهين -رحمه الله-:
وأما ما ذكره -أي الخوئي الشيعي في كتابه البيان من ادعائه التناقص بين هذه الروايات- من عدم التناسب بين السؤال والجواب فلا حقيقة له؛ إذ إنّ الاختلاف في عدد آيات سورة مَا، يأتي من اعتبار أنّ آيتين قد اندمجتا في آية أو لا؛ وذلك يتوقف على صورة التلقي، فكان الأمر لهم أنْ يقرأ كُل إنسان كما علم مناسبًا؛ لحسم خلافهم.تاريخ القرآن (ص: 56).