الجمعة 28 رمضان 1446 هـ | 28-03-2025 م

A a

بَعَثَنَا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- سريَّةً إلى الْحُرَقَاتِ، فَنَذِرُوا بنا، فهربوا، فَأَدْرَكْنَا رجلًا، فلما غَشِيناهُ قال: لا إله إلا الله، فضربناه حتى قتلناه، فذكرتُه للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «مَن لَكَ بلا إله إلا الله يوم القيامة؟!» فقلتُ: يا رسول الله، إنما قالها مخافةَ السلاح، قال: «أفلا شققتَ عن قلبه؛ حتى تعلم من أجل ذلك قالها أم لا؟ مَن لَكَ بلا إله إلا الله يوم القيامة؟» فما زال يقولها حتى وَدِدْتُ أني لم أُسْلِم إلا يومئذٍ.


رواه أبو داود بهذا اللفظ برقم: (2643)، وأصله في البخاري برقم: (4269)، ومسلم برقم: (96)، من حديث أسامة بن زيد ـ رضي الله عنهما ـ .
صحيح الجامع برقم: (2654)، صحيح سنن أبي داود برقم: (2643).


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«بَعَثَنَا»:

أي: أرْسَلنا. عون المعبود، للعظيم آبادي (7/ 149).

«سَريَّةً»:
السَّرية: قطعةٌ من الجيش. قال في القاموس: والسَّريَّة من خمسة أنْفُسٍ إلى ثلاثمائة أو أربعمائة. القاموس المحيط، للفيروزآبادي (ص: 1294).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
السَّرية طائفة من الجيش يبلغ أقصاها أربعمائة، تُبعث إلى العدو، وجمعها: السرايا، سُموا بذلك؛ لأنهم يكونون خُلاصة العسكر وخيارهم، من الشيء السَّريِّ النَّفيس.
وقيل: سُموا بذلك لأنهم يَنْفُذون سرًا وخُفيةً، وليس بالوجه؛ لأن لام السِّر، راء، وهذه ياء. النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 363).

«الْحُرَقَاتِ»:
بضم الراء وفتحها، وهو موضعٌ معروفٌ من بلاد جُهَينَةَ، يسمّى بجمع المؤنَّث السالم؛ كعَرَفَات، وأَذرِعَات. المفهم، للقرطبي (1/ 296).

«فَنَذِرُوا بنا»:
بكسر الذال المعجمة أي: علموا، أو أحسُّوا. مرقاة الصعود إلى سنن أبي داود، للسيوطي (2/ 666).

«غَشِيناهُ»:
بكسر الشين المعجمة، أي: قرُبْنَا منه.دليل الفالحين، لابن علان (3/ 274).


شرح الحديث


قوله: «بعثَنَا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
أي: أرسلني مع جماعة من الصحابة. مرقاة المفاتيح (6/ 2260).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
ليس في هذا ما يدل على أنه كان أمير الجيش، كما هو ظاهر الترجمة...، فإنْ ثبت أنَّ أسامة كان أمير الجيش، فالذي صنعه البخاري هو الصواب؛ لأنه ما أُمِّر إلا بعد قتل أبيه بغزوة مؤتة؛ وذلك في رجب سنة ثمان، وإن لم يثبت أنه كان أميرها رجّح ما قال أهل المغازي.فتح الباري (7/ 518).
وقال ابن حجر -رحمه الله- أيضًا:
وترجم البخاري في المغازي: «بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- أسامة بن زيد إلى الحُرقات من جُهَينة»، فجرى الداودي في شرحه على ظاهره، فقال: فيه تأمير من لم يبلغ، وتُعقِّب من وجهين:
أحدهما: أنه ليس فيه تصريح بأنَّ أسامة كان الأمير؛ إذ يحتمل: أن يكون جعل الترجمة باسمه؛ لكونه وقعت له تلك الواقعة، لا لكونه كان الأمير.
والثاني: أنها إنْ كانت سنة سبع أو ثمان، فما كان أسامة يومئذٍ إلا بالغًا؛ لأنهم ذكروا أنه كان له لما مات النبي -صلى الله عليه وسلم- ثمانية عشر عامًا.فتح الباري (12/ 195).
وقال العيني -رحمه الله-:
«بعثَنَا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-»، ولكن ليس في هذا ولا في الترجمة ما يدل على أنَّ أسامة كان أمير القوم...، وقال صاحب (التلويح): فيُنظر في هذا، هل المرجع إلى ما قاله البخاري، أو إلى ما ذكره أهل التاريخ؟ عمدة القاري (17/ 272).

قوله: «سريَّةً إلى الْحُرَقَاتِ»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
هذه السَّرية يقال لها: سرية غالب بن عبيد الله الليثي، وكانت في رمضان سنة سبع، فيما ذكره ابن سعد عن شيخه، وكذا ذكره ابن إسحاق في المغازي: حدثني شيخ مِن أَسْلم عن رجال من قومه، قالوا: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غالب بن عبيد الله الكلبي، ثم الليثي، إلى أرض بني مُرة، وبها مرداس بن نهيك، حليف لهم من بني الحُرَقة، فقتله أسامة.
فهذا يُبيِّن السبب في قول أسامة: بعَثَنا إلى الحُرَقات من جُهَينة.فتح الباري (12/ 195).
وقال ابن حجر -رحمه الله- أيضًا:
«الْحُرَقَاتِ» بضم المهملة، وفتح الراء بعدها قاف نسبة إلى الحُرَقَة، واسمه: جُهَيش بن عامر بن ثعلبة بن مُودِعَة بن جُهَينة، تُسمَّى الحُرَقة؛ لأنه حَرَّق قومًا بالنَّبل، فبالغ في ذلك، ذكره ابن الكلبي.فتح الباري (7/ 517).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«الْحُرَقَاتِ» موضع معروف من بلاد جُهينة، سُمي بجمع المؤنث السالم، كعرفات وأذرعات.شرح سنن أبي داود (11/ 401).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي-رحمه الله-:
قد تلخَّص مما ذكره القرطبيُّ ومما سبق عن الفتح: أنَّ الحُرَقات تُطلق على قبيلة، وعلى بلدة، وقد جمع بينهما في (لُبِّ اللباب) حيث قال ما حاصله:
الْحُرَقيُّ بضم الحاء، وفتح الراء، وفي آخره قاف، هذه النسبة إلى الْحُرَقَات مِن جُهينة، وبطنٌ من غافق، وناحيةٌ بعُمَان. انتهى.البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (3/ 178).

قوله: «فَنذِرُوا بنا، فهربوا»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
«فنذِروا» بكسر الذال المعجمة «بنا» أي: عَلِمُوا بمجيئنا إليهم «فهربوا» منا.شرح سنن أبي داود (11/ 401).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
«فنذِرُوا» أي: عَلِمُوا، «بنا» أي: بهجومنا.بذل المجهود في حل سنن أبي داود (9/ 236).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد ـ حفظه الله ـ :
قوله: «فنَذِرُوا بنا فهربوا» يعني: أُنِذرُوا وأُخبِروا، ووصلهم العلم، بأنهم مَغْزُوُّون، فهربوا.شرح سنن أبي داود (ص: 2).

قوله: «فَأَدْرَكْنَا رجلًا، فلما غَشِيناه، قال: لا إله إلا الله، فضربناه حتى قتلناه»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
«فَأَدْرَكْنا» بإسكان الكاف «رجلًا» منهم.شرح سنن أبي داود (11/ 401-402).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
«فأدركْنا رجلًا» سمَّاه ابن هشام في (سيرته): مِرْدَاسُ بن نَهِيْك.بذل المجهود في حل سنن أبي داود (9/ 236).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «رجلًا منهم» قال ابن عبد البر: اسمه مِرْدَاسُ بن عمرو الفَدَكِي، ويقال: مِرْدَاسُ بن نَهِيْكٍ الفِزَاري، وهو قول ابن الكلبي، قتله أسامة، وساق القصة.فتح الباري (12/ 195).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
قيل: هذا المقتول هو مِرْدَاسُ بن نَهِيْكٍ الفِزَاري، وقيل: هو مِرْدَاسُ بن عمرو الفَدَكي، وعلى القولين لم يكن من جُهينة، لكن لما وجدوه بأرضهم، وكان مقيمًا فيما بينهم عُدَّ منهم.تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (2/ 457).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«فأتيتُ على رجلٍ منهم» قيل: ذلك الرجل لم يكن جُهَينيًا، بل وُجِدَ بأرضهم، راعي غنمهم، فعُدَّ منهم.شرح المصابيح (4/ 120).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «غَشِينَاه» بفتح أوله، وكسر ثانيه، معْجمتين، أي: لحِقْنَا به، حتى تغطَّى بنا، وفي رواية الأعمش عن أبي ظبيان عند مسلم: «فأدركتُ رجلًا فطعنْتُه برمحي حتى قتلته»، ووقع في حديث جندب عند مسلم: «فلما رفع عليه السيف قال: لا إله إلا الله، فقتله»، ويُجمع بأنه رفع عليه السيف أولًا، فلما لم يتمكن من ضربه بالسيف، طعنه بالرمح.فتح الباري (12/ 195).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
قوله: «فلمّا غَشِيناه» بِكسر الشّين المعجمة، أي: قرُبنا منه، «قال: لا إله إلا الله، فضربناه حتى قتلناه»، وفي رواية مسلم: طعنتُهُ، فيُجمع بين الروايتين: بأن أسامة طعَنه، ثم طعَنه غيره، حتى قتلوه.
وفيه: دليل على أنه لا يقتصر في القتال على ضربة واحدة، ثم ينتقل إلى غيره، بل يكرر الضرب هو وغيره على الواحد من العدو حتى يقتلوه.شرح سنن أبي داود (11/ 401-402).

قوله: فذَكرْتُه للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «مَن لك بلا إله إلا الله يوم القيامة؟»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
«فذكرتُه للنبي -صلى الله عليه وسلم-» فيه: دليل على أنَّ السَّرية إذا رجعتْ من الغزو، يذكرون جميع ما وقع لهم في المحاربة للإمام؛ ليُبيِّن لهم ما يترتب على فعلهم من الأحكام الشرعية.
«فقال: من لك بلا إله إلا الله؟» أي: من يشفع لك، ويُحَاجِج عنك؟ وبماذا تحتجُّ إذا جيء بكلمة التوحيد «يوم القيامة»، وقيل لك: كيف قتلتَ من قال: لا إله إلا الله، وقد حصلت له ذمة حرمة الإسلام؟ شرح سنن أبي داود (11/ 402).
وقال النووي -رحمه الله-:
وأما قول أسامة في الرواية الأولى: «فطعنته فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنبي -صلى الله عليه وسلم-»، وفي الرواية الأخرى: «فلما قدمنا بلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال لي: يا أسامة أقتلته؟» وفي الرواية الأخرى: «فجاء البشير إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأخبره خبر الرجل فدعاه» يعني: أسامة، فسأله، فيحتمل أن يُجمع بينها: بأن أسامة وقع في نفسه من ذلك شيء بعد قتله، ونوى أن يسأل عنه، فجاء البشير فأخبر به قبل مقدم أسامة، وبلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- أيضًا بعد قدومهم، فسأل أسامة، فذكره.
وليس في قوله: «فذكرته» ما يدل على أنه قاله ابتداءً قبل تقدُّم علم النبي -صلى الله عليه وسلم- به، والله أعلم.شرح النووي على مسلم (2/ 107).
وقال العظيم أبادي -رحمه الله-:
قوله: «من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة؟» أي: من يعينك إذا جاءت تلك الكلمة بأن يُمثِّلها الله في صورة رجل مُخاصِم، أو من يُخاصم لها من الملائكة، أو مَن تلفظ بها؟ عون المعبود (7/ 217).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قال ابن التّين: في هذا اللوم تعليم وإبلاغ في الموعظة، حتى لا يَقْدم أحدٌ على قتل من تلفَّظ بالتوحيد.
وقال القرطبي: في تكريره ذلك، والإعراض عن قبول العذر، زجر شديد عن الإقدام على مثل ذلك.فتح الباري (12/ 195-196).

قوله: «فقلتُ: يا رسول الله، إنما قالها مخافةَ السلاح»:
قال السهارنفوري -رحمه الله-:
«فقلتُ: يا رسول الله إنما قالها» أي: قال ذلك الرجل تلك الكلمة.بذل المجهود في حل سنن أبي داود (9/ 237).
وقال العظيم أبادي -رحمه الله-:
قوله: «مخافةَ السلاح» بالنصب، أي: لأجل خوفه.عون المعبود (7/ 217).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «إنما كان متعوِّذًا»، وفي رواية الأعمش: «قالها خوفًا من السلاح»، وفي رواية ابن أبي عاصم من وجه آخر عن أسامة: «إنما فعل ذلك ليُحْرِز دمَه».فتح الباري (12/ 196).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
فتوهم أسامة أنَّ الرفع للقتل المانع منه الإيمان الحقيقي، ولم يتحققه فيه، والحال أنَّ المانع منه الإسلام ولو ظاهرًا.دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (3/ 276).
وقال ابن علان -رحمه الله- أيضًا:
ولعله أسامة قام عنده ما علم به ذلك، حتى أقدم على قتله، فكان متأوِّلًا باستصحاب كفره، وعدم النفع بما أتاه؛ لأنه لم يكن عن حقيقة، ولم يتمكن من السؤال عن حكم ذلك، فوقع في ذلك وهو غير آثم، باعتبار أنَّ ذلك هو الحكم بالنسبة إليه.
ولكن لما وردت الشريعة بإجراء الأحكام على الظواهر لم يكن ذلك التأويل مؤثرًا في جواز قتله في نفس الأمر له، فقرّر النبيُّ المنع من ذلك بأبلغ وجهٍ وآكده؛ ليزيل ما في نفسه من تلك الشبهة؛ وليُبيِّن وجوب الانكفاف عمن كان كذلك، فكان تأويله مانعًا من القَوَد؛ لأنه قتله بظَنِّ كفره.دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (3/274- 275).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
إنما اجترأ أسامة على قتله؛ لأنه رأى أنه يقول ما يقول تعوُّذًا عن السيف، لا عن صميم قلبه، وظن أنَّ إيمان الرجل في مثل هذه الحالة لا ينفعه، كما لا ينفع المحتضِر.
لكن إبقاء ألْف كافر أهون عند الله من إهلاك مسلم، والرجل وإن لم يكن محكومًا بإسلامه بما قال، حتى يُضم إليه الإقرار بالنبوة، لكنه لما أتى بما هو العمدة والمقصود بالذات، كان من حقه أن يُمسك عنه، حتى يتعرَّف حاله.تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (2/ 457).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
مع العلم بأنَّ الذي يَغْلُب على الظن ما فهمه أسامة؛ أنه قالها متعوذًا من القتل يستجير بها من القتل، لكن مع ذلك إذا قال: لا إله إلا الله، انتهى الأمر، ويجب الكَفّ عنه، ويُعْصَم بذلك دمُه وماله، وإن كان قالها متعوِّذًا، أو قالها نفاقًا، فحسابه على الله.شرح رياض الصالحين (3/ 280).

قوله: «قال: «أفلا شققتَ عن قلبه؛ حتى تعلم من أجل ذلك قالها أم لا؟ مَن لَكَ بلا إله إلا الله يوم القيامة؟»:
قال السهارنفوري -رحمه الله-:
«أفلا» وفي رواية البخاري ومسلم: «فهلَّا»، «شققتَ عن قلبه؛ حتى تعلم من أجل ذلك» أي: الخوف «قالها أم لا؟».
والحاصل: أنَّ الاطلاع على ما في قلبه غير مُمكن، وإنْ كان بالشق عن القلب، فلما لم يُمكن الاطلاع على الباطن، فكيف قتلتَه على ظنِّك الفاسد؟! بذل المجهود في حل سنن أبي داود (9/ 237).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«قال: أفلا شققتَ عن قلبه؛ حتى تعلم من أجل ذلك أقالها أم لا؟» بقلبه وتكلَّم بها في نفسه، والفاعل في قوله: «أقالها؟» هو القلب.
«من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة؟» وفيه: دليل لأهل السنة أنَّ في النفس كلامًا وقولًا، خلافًا للمعتزلة.
وفيه: دليل على ترتيب الأحكام على الأسباب الظاهرة الجليَّة، دون الباطنة الخفية.شرح سنن أبي داود (11/ 402-403).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
قوله: «من لك بلا إله إلَّا الله يوم القيامة؟» كرَّرَه تهويلًا لشأن القتل بعد ظهور الإسلام.بذل المجهود في حل سنن أبي داود (9/ 237).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
وشقُّ القلب: مستعار هنا للفحص والبحث عن قلبه: أنه مؤمن أو كافر.
حاصله: أنَّ أسامةَ ادَّعى أمرًا يجوز معه القتل، والنبي -صلى الله عليه وسلم- نفاه لانتفاء سببه؛ لأن الاطلاعَ عليه إنما يُمكن للباحث عن القلوب، ولا سبيلَ إليه للبشر، وهذا يدل على أنَّ الحكمَ بالظاهر، وأما السرائرُ، فتُوكَلُ لله تعالى.شرح المصابيح (4/ 121).
وقال البغوي -رحمه الله-:
وفيه: دليل على أنَّ الكافر إذا تكلَّم بالتوحيد، وجب الكفُّ عن قتله.
وهذا في الثَّنَوِيُّ الذي لا يعتقد التوحيد إذا أتى بكلمة التوحيد، يُحكم بإسلامه، ثم يُجبر على سائر شرائط الإسلام، فأما من يعتقد التوحيد لكنه يُنكر الرسالة، فلا يُحكم بإسلامه بمجرد كلمة التوحيد، حتى يقول: «محمد رسول الله»، فإذا قاله كان مسلمًا، إلا أن يكون من الذين يقولون: محمد مبعوث إلى العرب خاصة، فحينئذٍ لا يُحكم بإسلامه بمجرد الإقرار بالرسالة، حتى يقر أنه مبعوث إلى كافة الخلق، ثم يستحب أن يُمتحن بالإقرار بالبعث، والتبرؤ من كل دِين خالف الإسلام.
وكذلك حكم المرتد يعود إلى الإسلام عن الدِّين الذي انتقل إليه.
وذهب أكثر أهل العلم إلى قبول توبة الكافر الأصلي والمرتد، وذهب جماعة إلى أن إسلام الزنديق والباطنية لا يُقبل، ويقتلون بكل حال، وهو قول مالك وأحمد، وقالت طائفة: إذا ارتد المسلم الأصلي، ثم أسلم لا يُقبل إسلامه، فأما الكافر الأصلي إذا أسلم، ثم ارتد، ثم عاد إلى الإسلام، يُقبل إسلامه، وظاهر الحديث دليل العامة على قبول إسلام الكل.شرح السنة (10/ 242-243).

قوله: «فما زال يقولها حتى ودِدْتُ أني لم أُسْلِم إلا يومئذٍ»:
قال السهارنفوري -رحمه الله-:
قوله: «فما زال يقولها» تهويلًا، وسدًا للباب على الآخرين.
«حتى ودِدْتُ أني لم أُسلم إلَّا يومئذٍ» أي: من شدة تهديده؛ لأن الإسلام يهدم ما كان قبله.بذل المجهود في حل سنن أبي داود (9/ 237).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«فما زال يقولها» أي: يكرِّرها، يعني كلمة الإنكار «حتى ودِدْتُ» أي: تمنيتُ، كما في مسلم «أني لم أُسلم إلا يومئذٍ».
وإنما تمنى أسامة أن يتأخر إسلامه إلى يوم المعاتبة على قتله؛ ليسْلم من هذِه الجناية، وكأنه استصْغر ما كان منه من الإسلام، والعمل الصالح قبل ذلك في جنْب ما ارتكبه من هذِه الجناية؛ لما حصل في نفسه من شدة إنكار النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتعظيمه لذلك.شرح سنن أبي داود (11/ 403).
وقال النووي -رحمه الله-:
وقوله: «حتى تمنيتُ أني أسلمتُ يومئذٍ» معناه: لم يكن تقدَّم إسلامي، بل ابتدأت الآن الإسلام؛ ليمحو عني ما تقدم.شرح النووي على مسلم (2/ 104).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
فإن قلتَ: كيف جاز تمنِّي عدم سبق الإسلام؟! قلتُ: يتمنى إسلامًا لا ذنب فيه، أو ابتداء الإسلام؛ ليجُبَّ ما قبله.الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (24/ 7).
وقال الشيخ موسى شاهين-رحمه الله-:
استدل به بعضهم على أنَّ من تمنى أنه لم يكن أسلم قبل اليوم لا يكفُر؛ لأنه جازم بالإسلام في الحال والاستقبال، وفي هذا الاستدلال نظر؛ لأن أسامة لم يرد أنه تمنى ألا يكون مسلمًا قبل ذلك، وإنما قصد الإشعار بأنه استصغر ما سبق له قبل مِن عملٍ صالح في مقابلة هذه الفعلة لما سمع من الإنكار الشديد، فهو إنما أورد ذلك على سبيل المبالغة، لا على سبيل التمني حقيقة.فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/ 325).
وقال الدماميني -رحمه الله-:
ولم يُنقل أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألزم أسامةَ ديةً، ولا غيرها.
لكن نقل القرطبي في تفسيره: أنه أمره بالدِّية، فينبغي تحريره.مصابيح الجامع (8/ 83).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
وفيه: أنَّ من تأوَّل لا قَوَد عليه، ولم يذكر فيه أيضًا ديةً، ولا كفارةً.التوضيح لشرح الجامع الصحيح (21/ 416).
وقال النووي -رحمه الله-:
وأما كونه -صلى الله عليه وسلم- لم يُوجب على أسامة قصاصًا ولا ديةً ولا كفارةً، فقد يُستدل به لإسقاط الجميع، ولكن الكفارة واجبة، والقصاص ساقط للشُّبهة، فإنه ظنه كافرًا، وظن أن إظهاره كلمة التوحيد في هذا الحال لا يجعله مسلمًا.
وفي وجوب الدية قولان للشافعي، وقال بكل واحد منهما بعض من العلماء، ويُجاب عن عدم ذكر الكفارة بأنها ليست على الفور، بل هي على التراخي، وتأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز على المذهب الصحيح عند أهل الأصول.
وأما الدية على قول من أوجبها، فيحتمل: أنَّ أسامة كان في ذلك الوقت معسرًا بها، فأُخِّرت إلى يَسَاره.شرح النووي على مسلم (2/ 106).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
لا امتراء أنَّ أسامة إنما قتله متأوّلًا، وظانًا أنَّ الشهادة عند معاينة القتل لا تنفع، كما لا تنفع عند حضور الموت، ولم يعلم بعدُ حكم النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- فيه، ألا تراه كيف قال: «إنما قالها متعوّذًا»؟ فحكمه حكم الخاطئ، فسقوط القصاص عنه بيّنٌ.
وأما سقوط الدية فلِكَوْنه من العدو، ولعله لم يكن له وليٌّ من المسلمين تكون له ديتُه، كما قال تعالى: {فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} النساء: 92، فلم يجعل عليه قصاصًا ولا ديةً سوى الكفارة.
وهذا مذهب ابن عباس وجماعة في الآية: أنها في المؤمن يُقْتَل خطأ وقومه كفارٌ، فليس على قاتله سوى الكفارة.
وذهب بعضهم إلى أنها فيمن أولياؤه معاهَدون، وذكر عن مالك والمشهور عنه -رحمه الله-: أنها فيمن لم يهاجر من المسلمين؛ لقوله تعالى: {مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} الأنفال: 72، فيكون هذا الحديث ومثله حجةً لهذه المقالات، أو يكون قتله هذا لم يُعْلَم إلا بقول أسامة، والعاقِلةُ لا تحمل اعترافًا، ولم يكن عند أسامة مالٌ يكون فيه ديتُه، أو يكون قد تحقق النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- بوحي الله أن المقتول لم يقل: لا إله إلا الله مخلِصًا، بل قالها مُعتصمًا بها من القتل، غير معتقدٍ لها، فكان كافِرًا في الباطن، لكن شدَّد النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- على أسامة الأمر وعظَّمه؛ لئلا يواقعه ثانيةً في قائلها عن صحة وحقيقة، وممن يكتم إيمانه كما قال للمقداد.
فلهذا كان أسامة بعد لا يقاتل مسلمًا، وحلف على ذلك؛ ولهذا قعد عن نصْرة علي -رضي الله عنه-؛ ولهذا قال سعد وهو ابن أبي وقاص في الحديث: «فأنا لا أُقاتل حتى يُقاتل ذو البُطَين» يعنى: أسامة، وقيل له: ذو البُطَين مُصغرًا؛ لأنه كان له بَطن.إكمال المعلم (1/ 371-373).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
فيه من الفقه: أنَّ الكافر إذا تكلَّم بالشهادة، وإن لم يصف الإيمان وجب الكف عنه، والوقوف عن قتله، سواء كان بعد القدرة عليه، أو قبلها.
وفي قوله: «هلّا شققتَ عن قلبه؟» دليل على أنَّ الحكم إنما يجري على الظاهر، وأن السرائر مَوكولة إلى الله -سبحانه-.
وفيه: أنه لم يُلزِمه مع إنكاره عليه الدِّية، ويُشْبه أن يكون المعنى فيه: أن أصل دماء الكفار الإباحة، وكان عند أسامة أنه إنما تكلَّم بكلمة التوحيد مستعيذًا من القتل، لا مصدِّقًا به، فقتَله على أنه كافر مباح الدم، فلم تلزمه الدية؛ إذ كان في الأصل مأمورًا بقتاله، والخطأ عن المجتهد موضوع.
ويحتمل: أن يكون قد تأول فيه قول الله: {فَلَم يَكُ يَنْفَعُهُم إِيَمانُهُم لَمَا رَأَوْا} غافر: 85. وقوله في قصة فرعون: {الآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِن المفْسِدِينَ} يونس: 91، فلم يُخَلِّصهم إظهار الإيمان عند الضرورة والارهاق من نزول العقوبة بساحتهم، ووقوع بأْسِه بهم.معالم السنن (2/ 270).


أحاديث ذات صلة

ابلاغ عن خطا