«أتاني آتٍ من عند ربي، فخَيَّرني بين أن يَدْخُل نصفُ أُمَّتي الجنة وبين الشفاعة، فاخترتُ الشفاعة، وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئًا».
زاد ابن ماجه: قلنا: يا رسول الله، ادعُ الله أن يجعلنا من أهلها، قال: «هي لِكُلّ مسلم».
رواه أحمد برقم:(23977)، والترمذي برقم:(2441) واللفظ له، وابن ماجه برقم: (4317)، من حديث عوف بن مالك الأشجعي -رضي الله عنه-.
ورواه أحمد برقم: (24002) عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (56)، مشكاة المصابيح برقم: (5600).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«أتاني آتٍ»:
أي: مَلَكٌ عظيم. مرقاة المفاتيح، للقاري (8/ 3568).
«الشفاعة»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
هي سؤال التجاوز عن الذنوب والجرائم. التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 289.
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
«الشفاعة» هي السؤال في التجاوز عن الذنوب والجرائم بينهم، يقال: شَفَعَ يشْفَعُ شفاعة، فهو شافع وشَفِيع، والْمُشَفِّعُ: الذي يَقْبَل الشفاعة، والْمُشَفَّع الذي تُقبل شفاعتُه. النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 485).
شرح الحديث
قوله: «أتاني آتٍ»:
قال المناوي -رحمه الله-:
أي: مَلَك، وفيه إشعار بأنه غير جبريل. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/21).
وقال المناوي -رحمه الله- أيضًا:
أي: مَلَك، أو هو النفث، وهو ما يُلقيه الله إلى نبيه إلهامًا كشْفيًا بمشاهدة عين اليقين. فيض القدير (1/ 103).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
يحتمل أنه جبريل؛ لأنه السفير بينه -صلى الله عليه وسلم- وبين ربه بالوحي، ويحتمل أنه غيره، وهو ظاهر الإبهام، وقد ثبت أن غير جبريل من الملائكة -عليهم السلام- جاءه -صلى الله عليه وسلم-. التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 288-289).
قوله: «من عند ربي»:
قال المناوي -رحمه الله-:
أي: برسالةٍ بأمره، وليست هي عندية مكان. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 21).
وقال المناوي -رحمه الله- أيضًا:
وعبَّر بالرِّب الْمُشْعر بالتربية والإحسان والامتنان وتبليغ الشيء إلى كماله؛ لأنه أنسب بالمقام. فيض القدير (1/103).
قوله: «فخيَّرني»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
أي: ربي على لسان الآتي، أو الآتي عن ربي، أي جعل الخِيَرةَ إليَّ. التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 289).
قوله: «بين أن يَدخل»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «بين أن يَدْخُل»: بفتح الياء، وضم الخاء على ما في الأصول المعتمدة، وفي نسخة صحيحة بصيغة المجهول، وفي أخرى بضم أوله، وكسر الخاء، على أن الفاعل هو، أو الملك مجازًا...
واعلم أنه نُقل عن نسخة السيد جمال الدين المحدث: «أن تَدْخل» بالتاء المثناة من فوق، على بناء الفاعل من الثلاثي المجرد، و«نصفُ» بالرفع، فيحتاج إلى تكلف، بل إلى تعسف، وهو أن يقال: اكتسب التأنيث من المضاف إليه.
وضُبط بالكسرة أيضًا «تُدْخِل» من باب الالتفات، على البناء للفاعل مخاطبًا، ويرده قوله: «نصف أمتي»، والقول بالالتفات في مثل هذا مما لا يلتفت إليه. مرقاة المفاتيح (8/ 3568).
قوله: «نصف أمتي الجنة»:
قال المناوي -رحمه الله-:
قوله: «نصف أمتي» أُمّة الإجابة. فيض القدير (1/ 103).
وقال الصنعاني-رحمه الله-:
المراد مِن الذين يستحقون العذاب؛ إذ الذين لا يستحقونه داخلون الجنة، وسكت عن النصف الثاني، والظاهر أنهم يعذبون ولا شفاعة لهم، ويحتمل: أنهم مَوكُولُون إلى رحمة الله، وعفوهِ، وإنما سيق الحديث لإفادة تخييره -صلى الله عليه وسلم- أن يُدخِل الله الجنة نصف أمته، أو لا تبقى له شفاعة. التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 289).
قوله: «وبين الشفاعة»:
قال المناوي -رحمه الله-:
أي: شفاعتي فيهم يوم القيامة. فيض القدير (1/ 103).
قوله: «فاخترت الشفاعة»:
قال المناوي -رحمه الله-:
لعمومها؛ إذ بها يَدْخُلها -ولو بعد دخول النار- كل من مات مؤمنًا. فيض القدير (1/ 103).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
دليل أنها أوسع في شمولها من النصف، وأنها تشمل أُمَّة الإجابة أجمعين، كما دل له قوله: «وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئًا»؛ فإنه عام لكل أُمَّة الإجابة، ولفظه شامل لمن مات مُصِرًا على الكبائر مستوجبًا للنار، ولمن تساوت حسناته وسيئاته فلم يستوجب أحد الدارين، وشامل لمن لم يستحق في الجنة رفع درجاته، ولمن أُدْخِل النار بذنوبه، وشفع في التحقيق عنه، فإنه يصدق على الكل إنه مات غير مشرك بالله.
وأدلة ثبوت الشفاعة لهذه الأنواع ثابتة واسعة..، وإن كان ظاهر الحديث إنما هو في الإنقاذ من النار، إلا أن اللفظ عام والمعنى يحتمله.
وأما حديث: «شفاعتي لأهل الكبائر من أُمَّتي»، فإنه نص في بعض أفراد هذا العام، ولا يبطل العام، وإنما فيه بيان أنهم أحق الناس بشفاعته.
وكذلك حديث: «فإن شفاعتي للهالكين من أمتي» سيأتي، واعلم أن هذه الشفاعة التي خُيَّر -صلى الله عليه وسلم- فيها غير الشفاعة العظمى في فصل القضاء بين العباد. التنوير شرح الجامع الصغير (1/289).
وقال ابن خزيمة -رحمه الله-:
قوله في ذكر الشفاعة في الأخبار التي قدمناها في الباب قبل هذا الباب: «هي لكل مسلم» يريد أني أشفع لجميع المسلمين في الابتداء للنبيين والشهداء والصالحين وجميع المسلمين، فيخلصهم الله من الموقف الذي قد أصابهم فيه من الغم والكرب ما قد أصابهم في ذلك الموطن؛ ليقْضيَ الله بينهم، ويُعَجِّل حسابهم على ما قد بُيِّن في الأخبار التي قد أمليتها بطولها.
فأما قوله: «شفاعتي لأهل الكبائر مِن أُمتي» فإنما أراد شفاعتي بعد هذه الشفاعة التي قد عمَّت جميع المسلمين، هي شفاعة لمن قد أُدخل النار من المؤمنين بذنوب وخطايا قد ارتكبوها لم يغفرها الله لهم في الدنيا، فيخرجوا من النار بشفاعته، فمعنى قوله: «شفاعتي لأهل الكبائر» أي: من ارتكب من الذنوب الكبائر، فأُدْخلوا النار بالكبائر؛ إذ الله -عز وجل- وعد تكفير الذنوب الصغائر باجتناب الكبائر. التوحيد وإثبات صفات الرّب عز وجل (2/ 656).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
وهي أقسام: عدم دخول قوم النار، وتخفيف لبْثِهم فيها، وتعجيلُ دخولهم الجنة، ورفع درجات فيها. مرقاة المفاتيح (4/1523)
وقال المناوي -رحمه الله-:
وهذا -أي الحديث- متضمنٌ لكرامة المصطفى على ربه، وأفضاله على أمته، ووفور شفقة النبي -صلى الله عليه وسلم- عليهم. فيض القدير (1/ 103).
قوله: «وهي»:
قال المناوي -رحمه الله-:
أي: والحال أنها كائنة أو حاصلة، ويحتمل جعل الواو للقسم، أي: والله هي حاصلة. فيض القدير (1/ 103).
وقال المناوي -رحمه الله- أيضًا:
ثم إنه ليس لك أن تقول: هذا يناقضه ما في الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «فأقول: يا رب، ائْذَن لي فيمن قال: لا إله إلا الله، قال: ليس ذلك، ولكن وعزتي وكبريائي لأُخْرجَن من النار من قال: لا إله إلا الله»، والمراد بالقائل: لا إله إلا الله، من مات معتقدًا لها، فهو الذي مات لا يشرك بالله شيئًا، فإذا لم يكن ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فكيف قال: إن هؤلاء تنالهم شفاعة؟
لأنا نقول: قد قيَّد المصطفى -صلى الله عليه وسلم- من تناله شفاعته، مع كونه مات غير مشرك بكونه من أُمَّته، والذي جاء فيه أنه ليس إليه غير مُقيَّد بها، فحصل التوفيق بأن الذين تنالهم شفاعته هم مُوحِّدو أَمَّته، والذي استأثر الله به مُوحِّدو غيرها، كما حرَّره المحقق أبو زرعة. فيض القدير (1/ 103).
قوله: «لمن مات»:
قال المناوي -رحمه الله-:
مِن هذه الأُمَّة ولو مع إصراره على جميع الكبائر. فيض القدير (1/103).
قوله: «لا يشرك بالله شيئًا»:
قال ابن الملك -رحمه الله-:
«لا يشرك بالله شيئًا» جملة حالية. شرح المصابيح (6/ 89).
وقال الملا علي القاري - رحمه الله -:
حال مِن فاعل (ماتَ)، (شيئًا): أي: من الأشياء أو من الإشراك.
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قال القرطبي: معنى نفي الشرك: أن لا يتخذ مع الله شريكًا في الإلهية، لكن هذا القول صار بحكم العُرف عبارة عن الإيمان الشرعي. فتح الباري (3/ 111).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«لا يشرك بالله شيئًا» أي: ويشهد أني رسوله، ولم يذكره اكتفاء بأحد الجزأين عن الآخر؛ لعلمهم بأنه لا بد من الإتيان بهما لصحة الإسلام، فالمراد أنه يكون مؤمنًا بكل ما يجب الإيمان به. فيض القدير (1/ 103).
قوله: «هي لِكُلِ مُسلمٍ»:
قال أبو عبدالله القرطبي -رحمه الله-:
فشفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- والملائكة والنبيين والمؤمنين لمن كان له عمل زائد على مجرد التصديق، ومن لم يكن معه من الإيمان خير كان من الذين يتفضل الله عليهم، فيُخرجهم من النار فضلًا وكرمًا، وعدًا منه حقًا، وكلمة صدقًا: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} النساء: 48، فسبحان الرؤوف لأبياته بعباده، الموْفِي بعهده. التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة (1/ 460).
وقال العيني -رحمه الله-:
قال القاضي عياض: مذهب أهل السنة جواز الشفاعة عقلًا، ووجوبها بصريح الآيات والأخبار التي بلغ مجموعها التواتر لصحتها في الآخرة لمذنبي المؤمنين. وأجمع السلف الصالح ومن بعدهم من أهل السنة على ذلك، ومنعت الخوارج وبعض المعتزلة منها، وتأولت الأحاديث على زيادات الدرجات والثواب، واحتجوا بقوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِين} المدثر: 48، {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} غافر: 18، وهذه إنما جاءت في الكفار، والأحاديث مصرِّحة بأنها في المذنبين. عمدة القاري شرح صحيح البخاري (2/127).
وقال ابن الملقن -رحمه الله -:
ثبوت الشفاعة، والأحاديث جارية مجرى القطع في ذَلِكَ، وهو مذهب أهل السنة، وأنها جائزة عقلًا، وواجبة بصريح الآيات والأخبار التي بلغ مجموعها التواتر لمذنبي المؤمنين، وهو إجماع السلف ومَن بعدهم منهم.
ومَنعت الخوارج وبعض المعتزلة منها، وتأولت الأحاديث عَلَى زيادات الدرجات والثواب، واحتجوا بقوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} المدثر: 48، وقوله: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} غافر: 18. وهذا إنما جاء في الكفار، والأحاديث مُصرِّحة بها في الموحدين المؤمنين. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (3/490).
وقال السندي -رحمه الله-:
فاثبتوا على الإسلام على الدوام حتى تنالوها، والمراد بالإسلام هو هذا الدّين، بل الإيمان، لا مجرد إظهار الأركان، والله أعلم. حاشية السندي على سنن ابن ماجه (2/ 586).
وقال الحاكم -رحمه الله-:
وليس في سائر أخبار الشفاعة و«هي لِكلِ مُسلم». المستدرك على الصحيحين (1/60).