أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أَمرَ بقتله، وكان عَينًا لأبي سفيان، وكان حليفًا لرجُلٍ من الأنصار، فمرَّ بحلقةٍ من الأنصار، فقال: إني مسلمٌ، فقال رجلٌ من الأنصار: يا رسول الله، إنه يقول: إني مسلمٌ، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ منكم رجالًا نَكِلُهُم إلى إيمانهم، منهم فُرَاتُ بن حيان».
رواه أحمد برقم: (18965)، وأبو داود برقم: (2652)، من حديث فُرات بن حيان -رضي الله عنه-.
سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (1701)، صحيح سنن أبي داود برقم: (2652).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«عَيْنًا»:
أي: جاسُوسًا، واعْتَانَ له: إذَا أتاهُ بالخَبر.النهاية، لابن الأثير (3/625).
وقيل للمُتجسِّس: عَيْنٌ؛ تشبيهًا بها في نظرها.المفردات، للراغب الأصفهانى (ص: 599).
«حَلِيفًا»:
أي: مُحَالِفًا، وأصل الحِلْف: المُعاقَدةُ والمعاهدة على التَّعاضُد والتَّساعُد والاتّفاق.النهاية، لابن الأثير (1/ 1031).
«نَكِلُهُم»:
مِن وَكَلَ يَكِلُ، أي: نَصْرِف أمرهم إلى إيمانهم، ونُفَوِّضُه إليهم، ونقبله منهم.بذل المجهود في حل سنن أبي داود، للسهارنفوري (9/ 260).
شرح الحديث
قوله: «أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أَمر بقتله»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
«أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر بقتله» فصار قتله فرضًا على كُلِّ من استطاع قتله من غير تعيين فاعله.
وهذا القتل فرض كفاية، أو في معناه؛ لأنه مهم ديني يَقْصُد الشرع حصوله من غير نظر بالذات إلى فاعله، وهذا حدُّ فرض الكفاية.شرح سنن أبي داود (11/ 435).
وقال ابن رسلان -رحمه الله- أيضًا:
وإنما أمر بقتله لأنه «كان عَينًا» أي: جاسوسًا «لأبي سفيان»، وهذا عِلَّة للأمر بقتله؛ لأنه حربي، دخل دار الإسلام بغير أمان، وفي بقائه مفسدة عامة، فلو أَمَّن الجاسوسَ مسلمٌ لم يصح أمَانُه، ووجب قتلُه؛ فإن الإمام صرَّح بأنَّ شرط الأمان المعقود للحربي: أن لا يكون فيه ضرر عائد على المسلمين، ومالُ الجاسوس إذا قُتل يكون فيئًا؛ لأنه لم يُوجَفْ عليه بخَيْلٍ ولا رِكَاب، وعند بعض العلماء: أنه لمن قتَله؛ لأن النبي نفَّل سلمة بن الأكوع العين الذي قال النبي فيه: «اطلبوه، فاقتلوه»؛ لأنه الذي قتَله، رواه البخاري.شرح سنن أبي داود (11/ 435).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
وحديث فُرات المذكور في الباب يدل على جواز قتل الجاسوس الذمي. وذهبت الهادوية إلى أنه يُقتل جاسوس الكفار والبُغاة إذا كان قد قَتَل أو حصَل القتلُ بسببه، وكانت الحرب قائمة، وإذا اختل شيء من ذلك حُبس فقط.نيل الأوطار (8/ 11).
وقال النووي -رحمه الله-:
يُقتل الجاسوس الكافر الحربي بإجماع المسلمين...، وأما الجاسوس المعاهَد والذمي فقال مالك والأوزاعي: يصير ناقضًا للعهد، فإن رأى استرقاقه أَرَقَّهُ، ويجوز قتْلُه، وقال جماهير العلماء: لا ينتقض عهده بذلك، قال أصحابنا: إلا أن يكون قد شرط عليه انتقاض العهد بذلك.
وأما الجاسوس المسلم فقال الشافعي والأوزاعي وأبو حنيفة وبعض المالكية وجماهير العلماء -رحمهم الله تعالى-: يعزِّره الإمام بما يرى من ضرب وحبس ونحوهما، ولا يجوز قتله.
وقال مالك -رحمه الله تعالى-: يجتهد فيه الإمام، ولم يفسِّر الاجتهاد، وقال القاضي عياض -رحمه الله-: قال كبار أصحابه: يُقتل، قال: واختلفوا في تركِه بالتوبة، قال الماجِشُون: إن عُرف بذلك قُتل وإلا عُزِّر.شرح النووي على مسلم (12/ 67).
قوله: «وكان عينًا لأبي سفيان»:
قال السهارنفوري -رحمه الله-:
«وكان عينًا» أي: جاسوسًا «لأبي سفيان» في حروبه.بذل المجهود في حل سنن أبي داود (9/ 259).
وقال السندي -رحمه الله-:
وقوله: «وكان عينًا» أي: جاسوسًا يوم الخندق، كما في الإصابة.حاشية السندي على المسند (4/408).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
وإنما سُمي الجاسوس عينًا؛ لأن عمَله بعينه، أو لشدة اهتمامه بالرؤية، واستغراقه فيها، كأنَّ جميع بدنه صار عينًا.نيل الأوطار (8/ 11).
وقال ابن حجر-رحمه الله-:
عن علي، أُتي النبي -صلى الله عليه وسلم- بفُرات بن حيان يوم الخندق وكان عينًا للمشركين، فأمر بقتله، فقال: إني مسلم، فقال: «إنَّ منكم من أَتَأَلَّفهم على الإسلام، وأَكِله إلى إيمانه، منهم فُرات بن حيان».الإصابة في تمييز الصحابة (5/ 205).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سَرِيَّة مع زيد بن حارثة؛ ليعترضوا عِيرًا لقريش، وكان دليل قريش فُرات بن حيان، فأصابوا العِير، وأَسَرُوا فُرات بن حيان، فأتوا به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلم يقتله، فمر بحليفٍ له من الأنصار، فقال: إني مسلم..، إلى آخر القصة. أسد الغابة (4/ 51).
قوله: «وكان حَليفًا لرجل من الأنصار»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
«وكان» فُرات بن حيان «حليفًا» بفتح الحاء، وكسر اللام، تُجمع على حُلفَاء وأَحْلاف، وهو ما كان عليه الجاهلية من التزام ونُصرة بعضهم لبعض، وأن لا يتخاذلوا، وأن يرث بعضهم بعضًا.
وأصله من الحلف التي هي اليمين، كانوا يتقاسَمون عند عقدهم الالتزام، ولعل حِلْفَه هذا «لرجل من الأنصار» كان قبل الإسلام.
قال الطبري: لا يجوز الحِلْفُ اليوم، والحِلْفُ المذكور في الحديث كله منسوخ بقوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} الأنفال: 75.
قال الحسن: نُسِخَ التوارث بالحِلْف بآية المواريث.شرح سنن أبي داود (11/ 435-436).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وكان حليفًا لبني سهم، وهو حي من قريش، فكيف يكون حليفًا لرجل من الأنصار؟
قلتُ: لعله بعدما كان حليفًا لبني سهم، حالف رجلًا من الأنصار، ولم أقف على تسميته.الإصابة (3/ 195).
قوله: «فمر بحلقةٍ من الأنصار، فقال: إِني مسلمٌ»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
«فمرّ» فُرات «بحلقة» قومٍ «من الأنصار»، وفي بعض النسخ المعتمدة: بحليفِه، يعني: الأنصاري.
والحلْقة بإسكان اللام على اللغة الفصحى، «فقال» حين علم أنه حليف لرجل منهم: «إني مُسلم».شرح سنن أبي داود (11/ 436).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
أي: فجاء إلى مجلس جماعة من الأنصار.شرح سنن أبي داود (ص: 2).
قوله: «فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، إنه يقول: إني مسلم»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
لعله حليفه المذكور، «يا رسول الله، إنَّه يقول: إني مسلم»، قد يُستدل بهذا من قال: إنَّ الكافر إذا قال: أنا مسلم، أو مؤمن، أنه يُحكَم بإسلامه بهذا، وإن لم يتلفظ بالشهادتين؛ لأنهما اسمان لشيء معلوم، وهو الشهادتان، فإذا أخبر عن نفسه بما تضمَّن الشهادتين كان مخبرًا بهما.
ومذهب الشافعي: أنه لا يصير مسلمًا بهذين اللفظين، ولا بأحدهما، كما لو قال: آمنت أو أسلمت؛ لاحتمال أن يريد أنا مؤمن بموسى أو عيسى، وأن يريد بقوله: أنا مسلم، أي: مستسلم، وأسلمت: استسلمت. شرح سنن أبي داود (11/ 436).
قوله: «إنَّ منكم رجالًا نَكِلُهُم إلى إيمانهم، منهم فُرات بن حيان»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ منكم» وفي رواية غير أبي داود: «وإنَّ فيكم»، «رجالًا نَكِلُهُم إلى إيمانهم» أي: نكتفي منه ومِن أمثاله بالنطق بالشهادتين، فإنهما أصل الإسلام، «منهم فُرات بن حيان».
قال ابن عبد البر: وبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فُرات بن حيان إلى ثمامة بن أُثال في قتل مُسيلمة وقتاله، ولم يزل يغزو مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أن تُوفي.شرح سنن أبي داود (11/436- 437).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «نَكِلُهُم إلى إيمانهم» أي: إلى قولهم: نحن مؤمنون، أي: لعدم ظهور المُكذِّب لقولهم.حاشية السندي على المسند (4/408).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
فقال رَجل من الأنصار: يا رسول الله، إنه يقول: إني مسلم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ منكم رجالًا نَكِلُهُم» مِنْ وَكَل يَكِلُ، «إلى إيمانهم» أي: نصْرِف أمرهم إلى إيمانهم، ونُفَوِّضُه إليه، ونقْبَله منهم، «منهم فُرات بن حيان».
ومطابقة الحديث بالباب غير ظاهرة؛ لأن المصنف عقد الباب في الجاسوس الذِّمِّيِّ، وفُرات بن حيان لم يكن ذميًّا حين أُسِر، بل كان حربيًّا؛ لأنه كان جاسوسًا لأبي سفيان.بذل المجهود في حل سنن أبي داود (9/ 260).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
ومحل الشاهد من هذا: أنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- أَمر بقتله من أجل تجسُّسه، ولكن الإسلام هو الذي منع من ذلك، وحال بينه وبين أن يُقتل.
وقد كان جاسوسًا لأبي سفيان، ولا ندري هل كان أيضًا من أهل الذِّمة أم لم يكن له عهد؟
ويمكن أن يكون عاش تحت ولاية الإسلام، ولكنه استُخدم للتجسس. شرح سنن أبي داود (ص: 2).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد أيضًا:
وقد جاء في بعض الروايات أنه كان ذمِّيًا، وكان جاسوسًا، ففي مسند الإمام أحمد: أنه كان ذميًا، وهذا هو الذي فيه مطابقة للترجمة من جهة كونه ذميًا، وأنه كان عينًا -أي: جاسوسًا- لأبي سفيان في حال كفره، وذلك قبل أن يُسلم، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- أمر بقتله.
وهذا يدل على أن الجاسوس الكافر إذا كان ذميًا فإنه يكون قد نقض عهده بذلك، ويحل قتْلُه، والنبي -صلى الله عليه وسلم- أرشد إلى قتله.شرح سنن أبي داود (ص: 2).
وقال العظيم أبادي -رحمه الله-:
واعلم أنَّ هذا الحديث وقع في منتقى الأخبار برواية أحمد ولفظه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بقتله، وكان ذِميًا، وكان عينًا لأبي سفيان، وحليفًا لرجل من الأنصار، فمرَّ.. إلخ.
والحديث يدل على جواز قتل الجاسوس الذِّمِّيِّ.عون المعبود شرح سنن أبي داود (6/ 81).