الخميس 27 رمضان 1446 هـ | 27-03-2025 م

A a

«اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا».


رواه البخاري برقم: (472)، ومسلم برقم: (753) من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-.


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«وِترًا»:
الوِتْرُ بالكسر: الفَرْد. الصحاح للجوهري (2/ 842).
وقال البركتي -رحمه الله-:
الْوِتْر بِالْكَسْرِ وَيُفتح: الْفَرد، وَهُوَ ضد الشَّفْعِ، سُميت به الصَّلَاة الْمَخْصُوصَة بعد فريضة العشاء؛ لأن عدد ركعاتها وِتْرٌ لَا شَفْعٌ، وأَوْتَر معناه: صلى صلاة الْوتر. قواعد الفقه (ص: 539-540).


شرح الحديث


قوله: «اجعلوا»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«اجعلوا» أمر ندب. مرقاة المفاتيح (3/ 943).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
الأمر ليس للوجوب؛ بقرينة صلاة الليل، فإنها غير واجبة اتفاقًا، فكذا آخرها، وأما قوله في حديث أبي داود: «فمن لم يوتر فليس منا» فمعناه: ليس آخذًا بسنتنا. إرشاد الساري (2/ 232).
وقال المباركفوري -رحمه الله-:
واستدَل من قال بوجوب الوتر بحديث ابن عمر -رضي الله عنه- مرفوعًا: «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا» رواه الشيخان، وتُعقِّب بأن صلاة الليل ليست بواجبة فكذا آخرها، وبأن الأصل عدم الوجوب حتى يقوم دليل، كذا في فتح الباري.
قلتُ: هذا الحديث إنما يدل على وجوب جعل آخر صلاة بالليل وترًا، لا على وجوب نفس الوتر، والمطلوب هذا لا ذاك، فالاستدلال به على وجوب الوتر غير صحيح. تحفة الأحوذي (2/ 442).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
اختلف السلف في وجوب الوتر، فروي عن علي بن أبي طالب، وعبادة بن الصامت أنه سنة، وعن سعيد بن المسيب، والحسن، والشعبي، وابن شهاب مثله، وهو قول مالك، والثوري، والليث، وأبي يوسف، ومحمد، والشافعي، وعامة الفقهاء.
وقالت طائفة: الوتر واجب على أهل القرآن دون غيرهم؛ لقوله -عليه السلام-: «أوْتِرُوا يا أهل القرآن»، رُوي ذلك عن ابن مسعود، وحذيفة، وهو قول النخعي.
وقالت طائفة: هو واجب لا يسوغ تركه، رُوي ذلك عن أبي يوسف الأنصاري، وهو قول أبي حنيفة، وهو أنه -عليه السلام- أمَر بالوتر، وأَمْرُه على الوجوب، وبقوله: «الوتر حق»، و «من لم يوتر فليس منا».
وقال الطبري: الصواب قول من جعله سنة؛ لإجماع الجميع أن عدَّة الصلوات المفروضات خمس، لو كان الوتر فرضًا لكانت ستًا، ولكان وتر صلاة الليل إحدى الست، كما وتر صلاة النهار (المغرب) إحدى الخمس، فدل على اختلاف حكم وتر صلاة الليل، وحكم وتر صلاة النهار في أن أحدهما فرض، والثاني نافلة.
وقوله: «الوتر حق» معناه: حقٌّ في السُّنة، وقوله: «من لم يوتر فليس منا» يقتضي الترغيب فيه، ومعناه: ليس بآخذ سنَّتَنا، ولا مقتدٍ بنا، كما قال: «ليس منا من لم يتَغَنَّ بالقرآن»، ولم يرد إخراجه من الإسلام. شرح صحيح البخاري (2/ 580-581).
وقال العيني -رحمه الله-:
ويُستفاد منه حكمان:
الأول: استحباب تأخير الوتر.
والثاني: فيه الدلالة على وجوب الوتر.
واختلف العلماء فيه، فقال القاضي أبو الطيب: إنَّ العلماء كافة قالت: إنه سُنَّة، حتى أبو يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة وحده: هو واجب وليس بفرض.
وقال أبو حامد في تعليقه: الوتر سنة مؤكدة، ليس بفرض ولا واجب، وبه قالت الأئمة كلها إلا أبا حنيفة، وقال بعضهم: وقد استدل بهذا الحديث بعض من قال بوجوبه، وتُعُقِّب بأن صلاة الليل ليست واجبة... إلى آخره، وبأن الأصل عدم الوجوب حتى يقوم دليله.
وقال الكرماني أيضًا ما يشبه هذا.
قلتُ: هذا كله من آثار التعصب، فكيف يقول القاضي أبو الطيب وأبو حامد، وهما إمامان مشهوران بهذا الكلام الذي ليس بصحيح ولا قريب من الصحة؟
وأبو حنيفة لم ينفرد بذلك، هذا القاضي أبو بكر بن العربي ذكر عن سحنون وأصبغ بن الفرج وجوبه، وحكى ابن حزم أن مالكًا قال: من تركه أُدِّبَ، وكانت جَرْحَه في شهادته، وحكاه ابن قدامة في (المغني) عن أحمد، وفي (المصنف) عن مجاهد بسند صحيح: «هو واجب ولم يكتب»، وعن ابن عمر بسند صحيح: «ما أحبُّ أني تركت الوتر وأن لي حمر النَّعَم»، وحكى ابن بطال وجوبه عن أهل القرآن عن ابن مسعود وحذيفة وإبراهيم النخعي، وعن يوسف بن خالد السمتي شيخ الشافعي وجوبه، وحكاه ابن أبي شيبة أيضًا عن سعيد بن المسيب وأبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود والضحاك. انتهى.
فإذا كان الأمر كذلك، كيف يجوز لأبي الطيب ولأبي حامد أن يدَّعيا هذه الدعوى الباطلة؟ فهذا يدل على عدم اطلاعهما فيما ذكرنا، فجهْل الشخص بالشيء لا ينفي علم غيره به.
وقول من ادعى التعقب بأن: صلاة الليل ليست بواجبة... إلى آخره، قول واهٍ؛ لأن الدلائل قامت على وجوب الوتر...عمدة القاري (7/ 11).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
واستدل أبو حنيفة بقوله -صلى الله عليه وسلم-: «‌اجعلوا ‌آخر ‌صلاتكم ‌بالليل ‌وترًا» على وجوب الوتر؛ استدلالًا بظاهر الأمر، ورَدَّهُ بعضهم بأن صلاة الليل ليست واجبة فكذا الوتر، وهذا كلام فاسد؛ لأن المأمور به في الحديث هو الوتر؛ لا الصلاة.
ثم قال: فإن قلتَ: ما دليل غيره على عدم الوجوب؟
قلتُ: الأصل عدم الوجوب، وأيضًا لهم دليل، وليس هذا موضعه، وأنا أقول: أيّ موضع له غير هذا، فإن الخصم استدل على الوجوب بالحديث، والدليل لهم ما قدمنا من حديث معاذ؛ حيث لم يأمره بأن يُبلِّغ عنه غير الصلوات الخمس، وحديث السائل عن شرائع الإسلام؛ حيث لم يزد في جوابه على الصلوات الخمس، وقد أشرنا إلى عدم تمام دليلهم؛ بجواز أن يكون وجوب الوتر بعد ذلك.
فإن قلت: قد روى مسلم عن عائشة: أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي بعد الوتر ركعتين وهو جالس.
قلتُ: أجاب النووي: بأنه فعله بيانًا للجواز. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (3/ 103).

قوله: «آخر صلاتكم بالليل»:
قال ابن الملك -رحمه الله-:
«اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا» وهذا يدل على أنَّ السُّنة ختم صلاة الليل بالوتر. شرح المصابيح (2/ 180).
وقال النووي -رحمه الله-:
السُّنة جعل آخر صلاة الليل وترًا، وبه قال العلماء كافة. شرح النووي على مسلم (6/ 22).
وقال تاج الدين الفاكهاني -رحمه الله-:
قوله -عليه الصلاة والسلام-: «‌اجعلوا ‌آخرَ ‌صلاتكم ‌بالليل ‌وترًا» يقتضي أن يكون الوتر آخرَ صلاة الليل، لكن بشرط أن يَعلم من عادته أنه يقوم قبلَ الفجر، وإلا استُحِب له صلاته قبلَ نومه، فإن أوْتَر ثم تنفَّل جاز، ولم يُعِدْه على المشهور. رياض الأفهام في شرح عمدة الأحكام (2/ 550).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
قد كان كثيرٌ من الصحابة يوتِر من أول الليل، منهم: أبو بكر الصِّدِّيق، وعثمانُ بن عفان، وعائذ بن عمرو، وأنس، ورافع بن خديج، وأبو هريرة، وأبو ذر، وأبو الدرداء، وهؤلاء الثلاثة أوصاهم النبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- بذلك، فتمسَّكوا بوصيته، ومنهم مَن كان يفعل ذلك خشيةً من هجوم الموت في النَّوم؛ فإنَّهم كانوا على نهاية من قصر الأمل، وذهب طائفةٌ إلى أنَّ الوتر قبل النوم أفضل، وهو أحدُ الوجهين للشافعية، وهو مقتضى قول القاضي أبي يَعلَى من أصحابنا في كتابه (شرح المذهب)؛ حيث ذكر أنَّ وقت الوتر تابع لوقت العشاء، وأنه يخرج وقته بخروج وقت العشاء المختار، وقال أبو حفص البرمكيُّ -من أصحابنا- في شهر رمضان خاصَّة لِمَن صلَّى التراويح خلف الإمام-: فإنَّ الأفضل ألا ينصرفَ المأموم حتى ينصرفَ إمامه، ونقل مهنَّا، عن أحمد، أنه كان يُوتِر قبل أن ينام، وقال: هو أحوط، وما يُدريه؟ لعلَّه لا ينتبه، وهذا يدلُّ على أنَّ الأخذ بالاحتياط أفضل...، وممَّن كان يُقدِّم الوتر: ابن المسيب والشعبي. فتح الباري (9/ 161- 162).
وقال ابن رجب -رحمه الله- أيضًا:
كان أكثر السلف يُوتِر في آخر الليل، منهم: عمر، وعليٌّ، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وغيرهم، ورَوى وكيع عن الربيع بن صَبِيح، عن ابن سيرين، قال: ما يختلفون أنَّ الوترَ من آخر الليل أفضلُ، واستحبَّه النخعيُّ، ومالك، والثوريُّ، وأبو حنيفة، وأحمد -في المشهور عنه-، وإسحاق، إنْ قوي ووثق بنفسِه القيام من آخِر الليل، فأمَّا مَن ليس كذلك فالأفضل في حقِّه أن يُوتِر قبل النوم، ورُوي هذا المعنى عن عائشة. فتح الباري (9/ 162- 163).
وقال الكشميري -رحمه الله-:
بعض السلف ذهبوا إلى نقض الوتر، وليس مذهب أحد من الأئمة الأربعة، وهو أن يوتر قبل النوم، ثم إذا استيقظ يصلي ركعة ويضمها بما صلى قبل النوم ليشفعه، ثم يوتر آخر الليل؛ عملًا بحديث: «‌اجعلوا ‌آخر ‌صلاتكم ‌بالليل ‌وترًا»، والقائل بنقض الوتر هو القائل بالوتر ركعة، أو بثلاث ركعات بتسليمتين، وحديث الباب لأتباع الأئمة الأربعة، وفي معاني الآثار: أن أصحاب ابن مسعود تعجَّبوا من نقض ابن عمر الوتر. العرف الشذي شرح سنن الترمذي (1/ 440).
وقال ابن العطار -رحمه الله-:
قوله: «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا» يقتضي أن يكون الوتر آخر صلاة الليل؛ لأنه أمَر أن يجعله آخر صلاته بالليل، ولم يقل أحد بوجوبه فيما أعلم، بل ذهب ذاهب إلى وجوب أصل الوتر، وجعل من جملة ما استدل به على وجوبه هذا الحديث، وليس فيه دليل، بل إنْ أراد الاستدلال بأن يحمل الصيغة على الندب، فلا يستقيم له أيضًا؛ لما يلزم منه من الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظة واحدة، ومذهب هذا الذاهب يمنعه، ولا يرى ندبية الوتر، فلا يستقيم له الاستدلال به على الوجوب، ثم جعل الوتر آخر صلاة الليل هو الأفضل؛ لأنه الغالب من فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. العدة في شرح العمدة في أحاديث الأحكام (2/ 634- 635).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «اجعلوا آخر صلاتكم وترًا» يُفهم منه أنَّ الوتر يضاف إلى شفْعٍ قبله، لكن هل هذا الشفع هو العِشاء، أو هو نفل فيكون أقله ركعتين؟
قولان لأصحابنا، وعليه انْبَنى الخلاف في الوتر: هل يُكتَفى فيه بركعة فقط، أو لا بد من شفع؟ وعلى الأول يدل حديث النسائي عن ابن عمر مرفوعًا: «والمغرب وتر صلاة النهار، فأوتروا صلاة الليل»، وعليه يدل قوله -صلى الله عليه وسلم-: «الوتر ركعة من آخر الليل»، وصار إليه جماعة من السلف والفقهاء، وهو قول ابن نافع من أصحابنا، وقد روي في الحديث ما يرفع الخلاف؛ وهو ما خرّجه النسائي عن أبي أيوب، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «الوتر حق، فمن شاء أوتر بخمس، ومن شاء أوتر بثلاث، ومن شاء أوتر بواحدة»، وذُكر في هذا الحديث: أنه روي موقوفًا.
والحاصل من مجموع الأحاديث: أنه يصح أن يُضاف إلى الفرض وإلى النفل، وإضافته إلى النفل أولى، والله أعلم. المفهم (2/380- 381).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
ولما كان الله يحبُّ الوتر جعل آخر كل صلاة من ليل ونهار وترًا، فالمغرب يُوتِر شفع النهار...، والوتر بعد العشاء يُوتِر شفع الليل. التنوير شرح الجامع الصغير (7/ 37).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
واختلف العلماء فيمن أَوْتَر ثم نام ثم قام فصلى، هل يجعل آخر صلاته وترًا أم لا؟
فكان ابن عمر إذا عرض له ذلك صلى ركعة واحدة في ابتداء قيامه أَضَافَها إلى وِتْره ينقضه بها، ثم يصلي مثنى مثنى، ثم يُوتر بواحدة، رُوي ذلك عن سعد وابن عباس، وابن مسعود، وبه قال إسحاق، وممن رُوي عنه أنه يشْفَع وِتْره: عثمان، وعلي بن أبي طالب، وعن عمرو بن ميمون، وابن سيرين مثله.
وكانت طائفة لا ترى نقض الوتر، روي عن أبي بكر الصديق أنه قال: أما أنا فإني أنام على وتر، فإن استيقظتُ صليتُ شفعًا حتى الصباح.
وروي مثله عن عمار، وسعد، وابن عباس، وقالت عائشة في الذي ينقض وتره: هذا يلعب بوِتْره.
وقال الشعبي: أُمِرنا بالإبرام، ولم نُؤمر بالنقض، وكان لا يرى نقض الوتر: علقمة، ومكحول، والنخعي، والحسن، وهو قول مالك، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وأبي ثور. شرح صحيح البخاري (2/581).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
وروي عن الصدِّيق أنه قال: أما أنا فأنام على وتر، فإن استيقظت صليت شَفعًا حتى الصباح؛ لأن إعادته تصيِّر الصلاة كلها شفعًا، فيبطل المقصود منه.
وكان ابن عمر ينقض وتره بركعة، ثم يصلّي مثنى مثنى، ثم يوتر.
والأمر ليس للوجوب؛ بقرينة صلاة الليل، فإنها غير واجبة اتفاقًا فكذا آخرها.
وأما قوله في حديث أبي داود: «فمن لم يوتر فليس منا» فمعناه: ليس آخذًا بسنتنا. إرشاد الساري(2/ 232).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
وفي مسند الإمام أحمد عن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: «كان رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- يصلي بعد الوتر ركعتين خفيفتين وهو جالس».
وعن أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه-: «كان رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- يصلي ركعتين بعد الوتر وهو جالس، يقرأ فيهما بـ{إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} الزلزلة: 1، و{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} الكافرون: 1»، وروي ذلك عن جماعة من الصحابة غير من ذُكِر.
ولكن هذا مع ظاهر حديث: «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا» معارض، واستَشكل ذلك على كثير من العلماء، فأنكر الإمام مالك -رحمه الله- حديث الركعتين بعد الوتر، وقال: لم يصح.
وقال الإمام أحمد -رحمة اللَّه عليه-: لا أصلِّيهما، ولا أمنع منهما أحدًا، وجماهير العلماء قائلون بذلك؛ لورُوده في الصحاح، وقالوا: إنما صلاهما بيانًا لجواز التنفل بعد الوتر، وعلى هذا يكون قوله: «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا» محمولًا على الاستحباب لا الوجوب؛ وذلك أحب وأفضل.
وهل كانت هاتان الركعتان بعد الوتر أول الليل وآخره؟ فحديث أبي أمامة مطلق، وحديث ثوبان على ما رواه صاحب (المشكاة) عن الدارمي يدل على تقدير الإيتار في أول الليل، وأحاديث البخاري ومسلم والموطأ تدل على أنهما بعد قيام الليل، ثم نية التشفيع على تقدير الإيتار أول الليل -كما يفعله بعض الناس بجعل الركعتين قاعدًا في حكم ركعة واحدة- لا معنى له، وهو ناقض ومبطل للوتر من غير ضرورة، بعد ما عرف كون الصلاة بعد الوتر جائزة، وعلى هذا إذا صلى الوتر أول الليل، ثم قام وتهجد لا حاجة إلى إعادة الوتر، وهو المختار، صرح به الشيخ ابن الهمام.
وقد ورد: «لا وتران في ليلة»، وقال بعض العلماء: هاتان الركعتان ملحَقتان بالوتر جاريتان مجرى سُنة، لا سيما على مذهب من يقول بوجوب الوتر؛ ولما كان وتر النهار الذي هو صلاة المغرب مشفوعًا بالركعتين، جعل وتر الليل أيضًا مشفوعًا بركعتي السُّنة، واللَّه أعلم. لمعات التنقيح في شرح مشكاة المصابيح (3/ 371-372).
وقال النووي -رحمه الله-:
الصواب: أن هاتين الركعتين فعلهما -صلى الله عليه وسلم- بعد الوتر جالسًا؛ لبيان جواز الصلاة بعد الوتر، وبيان جواز النفل جالسًا، ولم يواظب على ذلك، بل فعله مرة أو مرتين أو مرات قليلة...
والروايات المشهورة في الصحيحين وغيرهما عن عائشة مع روايات خلائق من الصحابة في الصحيحين مصرِّحة بأن آخر صلاته -صلى الله عليه وسلم- في الليل كان وترًا، وفي الصحيحين أحاديث كثيرة مشهورة بالأمر بجعل آخر صلاة الليل وترًا، منها: «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا»، و«صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة» وغير ذلك، فكيف يُظَنُّ به -صلى الله عليه وسلم- مع هذه الأحاديث وأشباهها أنه يداوم على ركعتين بعد الوتر، ويجعلهما آخر صلاة الليل؟
وإنما معناه ما قدَّمناه من بيان الجواز، وهذا الجواب هو الصواب. شرح النووي على مسلم (6/ 21).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
جعْلُ الوتر آخر صلاة الليل يُستفاد منه فوائد عديدة:
فمنها: تأخير الوتر إلى آخر الليل؛ فإن صلاة وسط الليل وآخر الليل أفضل من صلاة أوله، فتأخير الوتر يتسع به وقت الصَّلاة في وسط الليل وآخره.
ومنها: أنه لا ينبغي التنفل في الليل بوتر غير الوتر الذي يقطع عليه صلاة الليل، كما لا ينبغي التنفل في النهار بوتر أيضًا حتى تكون صلاة المغرب وتْرَه. فتح الباري (9/168).
وقال بدر الدين الدماميني -رحمه الله-:
«اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا» قد عُلم أن المقصود بالوتر أن تكون الصلاة كلُّها وترًا؛ لقوله -عليه السلام-: «صَلَّى رَكْعَةً تُوترُ لَهُ ما قَدْ صَلَّى»، فما الحكمةُ في استحبابِ كونِ الوترِ آخرَ الصلاة، مع أنَّه يوتر الأشفاع، تقدمَ عليها أو تأخرَ؟
قال ابن المنير: كأن المقصود من ذلك أن يكون أولُ صلاةِ ليلٍ وترًا، وآخرُها وترًا؛ لأنَّ أولَ صلاةِ الليل المغربُ، وهي وتر، فإذا كان آخرُها وترًا، بدأت بالوتر، وخُتمت به، وللبداءة والخاتمة اعتبارٌ زائد على اعتبار الأوساط. مصابيح الجامع (3/ 39).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«‌اجعلوا ‌آخر ‌صلاتكم ‌بالليل ‌وترًا»، فيُسن جعله الأقل منه، والأكمل بعد صلاة الليل التي يريد فعلها فيه من راتبةٍ أو تراويح أو تهجد، أو نفل مطلق، وكأنَّ حكمة ذلك: أن الوتر أفضل من هذه الصلوات الليلية، فندب وقوعه عقبها؛ ليختم عمله بالأفضل، فتعود عليه بركته، ويحوز نفعه، وما ورد من صلاته أول الليل محمول على بيان الجواز. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (6/ 605).


ابلاغ عن خطا