«إنَّ مِن ورائكم زمانَ صَبْرٍ، للمتمسك فيه أجر خمسين شهيدًا»، فقال عمر: يا رسول الله، مِنَّا أو منهم؟ قال: «منكم».
رواه الطبراني في المعجم الكبير برقم: (10394)، من حديث عبد الله ابن مسعود -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (2234).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«مِن وَرائِكم»:
أي: قُدَّامكم من الأزمان الآتية. مرقاة المفاتيح (8/ 3215).
«زمانَ صَبْرٍ»:
أي: أيام ينبغي فيها الصبر على الْمَشاق والفتن. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (24/ 172).
شرح الحديث
قوله: «إنَّ مِن وَرائكم زمانَ صَبْرٍ»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
«إنَّ مِن وَرائِكم» أي: أمامكم وقُدَّامكم، كقوله تعالى: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} الكهف: 79. شرح سنن أبي داود (18/ 107).
وقال محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«إنَّ مِن وَرائِكم» أي: قُدَّامكم؛ فهو تفسير بالضد؛ كما في قوله: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} الكهف: 79. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (24/ 283).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
وقال الجعبري: أي: هذا الزمان زمانُ الصبر؛ لأنه قد أُنْكِرَ المعروف، وعُرِفَ المنكر، وفَسدت النيات، وظهرت الخيانات، وأُوْذِي الْمُحِق، وأُكْرِم الْمُبطِل. مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (8/ 3365).
وقال محمد عويضة:
«أيام الصبر» هي أيام الابتلاء في الدّين والشهوات المستعرة، والشبهات المستحكِمة، ومع ذلك المرء صابر لِدِينه، فسمّاها أيام الصبر؛ لأنه لا يُستعمل فيها إلا الصبر، ولا حَلّ إلا الصبر، والصبر هو القائد، وهو الملاذ والحصن الحصين، الذي مَن دخله عُصم.
حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- الثابت في صحيح الجامع: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إنَّ مِن وَرائِكم زمانَ صَبْرٍ، للمتمسك فيه أجر خمسين شهيدًا منكم».
تنبيه: أيام الصبر هذه هي أيام غُربة الدِّين. فصل الخطاب في الزهد والرقائق والآداب (2/ 186).
قوله: «للمتمسك فيه أجر خمسين شهيدًا»:
قال الشيخ أحمد حطيبة -حفظه الله-:
«للمتمسك فيه أجر خمسين شهيدًا» أي: للمتمسك بدينه أجر خمسين شهيدًا، وهذا شيء عظيم ما تَحلم به أبدًا.
فالمؤمن يدعو ربه أن يرزقه شهادةً كشهادة أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويمكن أن يصل إليها بأن يتمسك بالدّين، وأن يقبض عليه، وأن يُعاني في سبيل الله -سبحانه وتعالى-، ويصبر على ذلك، مهما آذاه الخَلق، ومهما تعرّض له من فتن فيصبر ويتمسك، حتى يكون له أجر خمسين شهيدًا، أو رجلًا من أصحاب النبي -صلوات الله وسلامه عليه-. شرح الترغيب والترهيب (47/ 3).
وقال الشيخ أحمد حطيبة أيضًا:
ويذكرُ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّ الواحد من هؤلاء يعمل العمل، ويكون له أجر خمسين رجلًا من أصحابه، وفي رواية: «يكون له أجر خمسين شهيدًا»، فهذا الأجر العظيم الذي يكون للقابض على دينه كما يقبض الإنسان على الجمر، وللمتمسك بدينه الجنة عند رب العالمين، وله وعد الله -عزّ وجلّ- بالعزة في الدنيا، والتمكين إذا صبر على ذلك، وله إحدى الحسنيين: إما النصر، وإما الشهادة، وله عند الله سبحانه حبه ورضاه في الجنة، والحُور العِين. التفسير(112/ 6).
وقال الشيخ محمد صديق حسن خان -رحمه الله-:
وإطلاق الشهيد يشير إلى أنَّ المراد به: الشهيد في سبيل الله، أي: الشهادة الكبرى دون الصغرى؛ لأن في العمل بالسّنة من الآفات والامتحانات ما لا يساويه إلا مشقة الجهاد في سبيل الله تعالى، والله أعلم. الدين الخالص (3/48).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
وذلك أنه لا يتمسك بالسنة عند الفساد إلا من صبر على الأذى، وكيْدِ العدا، وآثر الأخرى على الأولى، فكم لعله سقط: لاقى مَن اتَّبع السنة أو دعا إليها من جهلة المبتدعة من الإيذاء والرمي بكل داهية، ما ينال به من الله أجر الشهيد، أو يقعد به مقاعد السُّعداء. التنوير شرح الجامع الصغير (10/ 465).
قوله: «فقال عمر: يا رسول الله، مِنّا أو منهم؟ قال: «مِنكم»:
قال ابن قدامة المقدسي -رحمه الله-:
قوله: «أجر خمسين شهيدًا...».
وهذا فضل عظيم؛ وذلك -والله أعلم- لِعِظَم نفعهم، وصعوبة الأمر عليهم، وكثرة أعدائهم، وتألُّبِهم عليهم، وقلة أنصارهم.
وقد جاء في خبر: «يأتي على الناس زمان يكون المتمسك بدينه كالقابض على الجمر»، فهذه الصعوبة هي الموجبة لذلك الأجر. المناظرة في القرآن (ص: 54- 56).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
مجرد زيادة الأجر لا يستلزم ثبوت الأفضلية المطلقة، وأيضًا فالأجر إنما يقع تفاضله بالنسبة إلى ما يماثله في ذلك العمل، فأما ما فاز به من شاهد النبي -صلى الله عليه وسلم- من زيادة فضيلة المشاهدة، فلا يعدله فيها أحد. فتح الباري (7/ 7).
وقال الدهلوي -رحمه الله-:
قوله: «أجر خمسين منكم» يدل على فضل هؤلاء في الأجر على الصحابة من هذه الحيثية، وقد جاء أمثال هذا في أحاديث أُخر، وتوجيهه كما ذكروا: أنَّ الفضل الجزئي لا ينافي الفضل الكلي.
وقد تكلم ابن عبد البر في هذه المسألة، وقال: يمكن أن يجيء مَن بعد الصحابة مَن هو في درجة بعض منهم، أو أفضل، ومختار العلماء خلافه.لمعات التنقيح (8/ 379).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
ولا بُعد في أنْ يكون في بعض الأعمال لغيرهم -أي الصحابة- من الأجور أكثر مما لهم فيه، ولا تلزم منه الفضيلة المطلقة التي هي المطلوبة بهذا البحث، والله أعلم. المفهم (1/ 503).
وقال خلدون الحقوي -رحمه الله-:
في حديث البخاري: «خير الناس قَرني» وقد ورد في نصوص أُخر صحيحة قوله: «إن مِن وَرائِكم زمانَ صَبْرٍ؛ للمتمسك فيه أجر خمسين شهيدًا»، فقال عمر: يا رسول الله منا أو منهم؟ قال: «منكم». فما التوفيق؟
والجواب هو من وجهين:
1. أنه لا يلزم من زيادة الأجر في العمل زيادة الفضل، أي: أن الفضل الأكبر هو قطعًا للصحابة، ولكن مِن الناس من قد يُؤجَر على فعلٍ ما أكثر مما يؤجرون هم على نفس الفعل، كالحديث السابق.
2. أن هذا الأجر ليس مطلقًا، وإنما هو مقيد بأمور هي: (ذلك الزمن، وذلك الصبر، وتلك الشدة)، بينما فضل الصحابة دائم إلى قيام الساعة. التوضيح الرشيد في شرح التوحيد (ص: 518).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
وهذا الأجر العظيم إنما هو لغُربته بين الناس، والتّمسك بالسُّنة بين ظلمات أهوائهم وآرائهم.
فإذا أراد المؤمن الذي قد رزقه الله بصيرة في دينه، وفقهًا في سُنة رسوله، وفهمًا في كتابه، وأراه ما الناس فيه من الأهواء والبدع والضلالات، وتنكُّبهم عن الصراط المستقيم الذي كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فإذا أراد أن يسلك هذا الصراط فليُوطِّن نفسه على قَدْحِ الجُهَّال، وأهل البدع فيه، وطعنهم عليه، وإزرائهم به، وتنفير الناس عنه، وتحذيرهم منه، كما كان سلَفُهم من الكفار يفعلون مع متبوعه وإمامه -صلى الله عليه وسلم-، فأما إن دعاهم إلى ذلك، وقدَح فيما هم عليه، فهنالك تقوم قيامتهم، ويبغون له الغوائل، وينصبون له الحبائل، ويجلبون عليه بِخَيْلِ كبيرهم ورَجِلِه.
فهو غريب في دينه لفساد أديانهم، غريب في تمسكه بالسنة لتمسكهم بالبدع، غريب في اعتقاده لفساد عقائدهم، غريب في صلاته لسوء صلاتهم، غريب في طريقه لضلال وفساد طُرقهم، غريب في نِسبته لمخالفة نَسَبهم، غريب في معاشرته لهم؛ لأنه يعاشرهم على ما لا تهوى أنفسهم.
وبالجملة: فهو غريب في أمور دُنياه وآخرته، لا يجد من العامة مساعدًا ولا معينًا، فهو عالِم بين جُهَّال، صاحب سُنة بين أهل بدعٍ، داعٍ إلى الله ورسوله بين دعاة إلى الأهواء والبدع، آمرٍ بالمعروف، ناهٍ عن المنكر بين قوم المعروف لديهم منكر، والمنكر معروف. مدارج السالكين (3/ 189).
وللاستفادة من الرواية الأخرى ينظر (هنا)