«يُقَالُ لِصَاحب القرآن يوم القيامة: اقْرَأْ وَارْق، وَرتِّل كما كُنْتَ تُرَتِّل في دَار الدُّنيا، فإن مَنْزِلَتَكَ عند آخر آية كُنْتَ تَقْرَؤُهَا».
رواه أحمد. برقم: (6799)، وأبو داود برقم: (1464)، والترمذي برقم: (2914)، والنسائي في الكبرى برقم: (8002)، وابن حبان برقم: (766) واللفظ له.
صحيح الجامع برقم: (8122)، صحيح الترغيب، والترهيب برقم: (1426).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«وَارْقَ»:
قال المظهري -رحمه الله-:
(رَقَى، وَارْتَقَى): إذا صعد. المفاتيح في شرح المصابيح (3/82).
«وَرَتِّل»:
قال ابن الأثير -رحمه الله-:
التأني فيها، والتمهُّل، وتبيين الحروف والحركات، تشبيهًا بالثغر المرتَّل، وهو المشبَّه بنور الأقحوان. النهاية في غريب الحديث والأثر (2/194).
وقال المظهري -رحمه الله-:
(رَتَّل تَرْتِيَلًا): إذا قرأ قراءة مُبَيَّنَةً حرفًا حرفًا على التَّأنِّي والسّكُون. المفاتيح في شرح المصابيح (3/82).
شرح الحديث
قوله: «يُقَالُ لِصَاحب القرآن»:
قال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
قوله: «يقال» عند دخول الجنة، وتوَجُّه العاملين إلى مراتبهم على حسب أعمالهم. «لصاحب القرآن» أي: حافِظَه، أو حافظ بعضه، الملازم لتلاوته، أو لتدبره، والعمل به، والتأدب بآدابه.
وأصل الصحبة للشيء حيوان أو جماد: الملازمة له بالبدن، وهو الأصل، أو العناية والهمة، فالصاحب من يرافقك ببدنه، ويوافقك فيما يُهمُّك، ويقاويك فيما ينفعك، ويدافع عنك ما يضرك، وحينئذٍ فالصاحب هنا يحتمل أن يُراد به الملازم للحفظ مع أدنى عمل، أو العامل وإن لم يحفظ، والمراد الأول. فتح الإله في شرح المشكاة (7/125).
وقال عبد الرحمن المباركفوري -رحمه الله-:
قوله: «يُقَالُ» أي: عند دخول الجنَّة «لصاحب القرآن» أي: من يلازمه بالتلاوة والعمل. تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي (8/ 186).
وقال الملا علي القَارِي -رحمه الله-:
«يُقَالُ»، أي: عند دخول الجنَّة وتوجه العاملين إلى مراتبهم على حسب مكاسبهم «لصاحب القرآن» أي: من يلازمه بالتلاوة والعمل، لا من يقرؤه وهو يلعنه. مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (4/ 1469).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله- عندما سُئِلَ عن قوله -صلى الله عليه وسلم-:
«يُقَال لصَاحب الْقُرْآن يَوْم الْقِيَامَة: اقْرَأ وارْقَ» مَنْ الْمَخْصُوص بِهَذِهِ الْفَضِيلَة: هَل هم من يحفظ الْقُرْآن فِي الدُّنْيَا عَن ظهر قلبه وَمَات كَذَلِك، أم يَسْتَوِي فِيهِ هُوَ وَمن يقْرَأ فِي الْمُصحف؟
الْخَبَر الْمَذْكُور خاصّ بِمن يحفظه عَن ظهر قلب، لَا بِمن يقْرَأ فِي الْمُصحف؛ لِأَن مُجَرّد الْقِرَاءَة فِي الْخط لَا يخْتَلف النَّاس فِيهَا، وَلَا يتفاوتون قلَّة وَكَثْرَة، وَإِنَّمَا الَّذِي يتفاوتون فِيهِ كَذَلِك هُوَ الْحِفْظ عَن ظهر قلب، فَلهَذَا تفاوتت مَنَازِلهمْ فِي الْجنَّة بِحَسب تفَاوت حفظهم، وَمِمَّا يُؤَيّد ذَلِك أَيْضًا: أنَّ حفظ الْقُرْآن عَن ظهر قلب فرض كِفَايَة على الْأمَّة، وَمُجَرَّد الْقِرَاءَة فِي الْمُصحف من غير حفظ لَا يَسْقط بهَا الطّلب، فَلَيْسَ لَهَا كَبِير فضل كفضل الْحِفْظ، فتعيَّن أَنه -أَعنِي الْحِفْظ عَن ظهر قلب- هُوَ المُرَاد فِي الْخَبَر، وَهَذَا ظَاهر من لفظ الْخَبَر بِأَدْنَى تَأمل، وَقَول الْمَلَائِكَة لَهُ: «اقْرَأ وارق» صَرِيح فِي حفظه عَن ظهر قلب كَمَا لَا يخفى. الفتاوى الحديثية (ص: 113).
وقال التُّورِبِشْتِي -رحمه الله-
«يُقَالُ لصاحب القرآن: اقْرَأ وَارْتَقِ...» الحديث، الصحبة للشيء: الـمُلَازمة له إنسانًا كان أو حيوانًا، أو مكانًا أو زمانًا، وتكون بالبدن، وهو الأصل والأكثر، وتكون بالعناية والهمَّة، وصاحب القرآن هو الملازم له بالهمَّة والعِنَاية، ويكون ذلك تارة بالحفظ والتِّلاوة، وتارة بالتَّدبر له، والعمل به.
فإن ذهبنا فيه إلى الأول، فالمراد من الدَّرجات بعضها دُون بعض، والمنْزِلَة التي في الحديث هي ما يناله العبد من الكرامة على حسب مَنْزِلته في الحفظ والتِّلاوة لا غير؛ وذلك لما عرفنا من أصل الدِّين: أنّ العامِل بكتاب الله، المتدبِّر له أفضل من الحافظ والتَّالِي إذا لم يَنْلْ شَأْوَهُ في العمل والتدبر، وقد كان في الصحابة من هو أحفظ لكتاب الله تعالى من أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، وأكثر تلاوة منه، وكان هو أفضلهم على الإطلاق؛ لسبقه عليهم في العلم بالله وبكتابه، وتدبُّره له، وعمله به.
وإن ذهبنا إلى الثَّاني: وهو أَحقُّ الوجهين وأتمهما، فالمراد من الدَّرجات التي يستحقها بالآيات سائرها، وحينئذٍ تُقَدَّر التِّلاوة في القيامة على مقدار العمل، فلا يستطيع أحد أن يتلو آية إلا وقد أقام ما يجب عليه فيها، واستكمال ذلك إنما يكون للنبي -صلى الله عليه وسلم-، ثمَّ الأمَّة بعده على مراتبهم ومنازلهم في الدِّين، كلٌ منهم يقرأ على مقدار ملازمته إياه تدبرًا وعملًا، وقد ورد في الحديث: «إنَّ دَرَجَات الجنَّة على عدد آيات القرآن»، وفي هذا دليل على صِحَّة ما ذهبنا إليه. الميسر في شرح مصابيح السنة (2/498-499).
قال الطيبي -رحمه الله-:
أقول: لعل الشيخ التوربشتي عنى بردِّه القول الأول ضُعف هذا القول، وظاهر كلام القاضي اختياره، والذي يُذهب إليه: أنَّ سياق هذا الحديث تحريض لصاحب القرآن على التَّحري في القراءة، والإمعان في النَّظر فيه، والملازمة له، والعمل بمقتضاه، وكل هذه الفوائد يعطيها معنى الصاحب استعارة؛ لأن أصل المصاحبة بالبدن، وقد عُلم أن الصَّاحب من يُرَافِقُك بالبدن، ويُوَافِقُكَ بما يهمُّك، ويُعَاوِنُك فيما يَنْفَعك، ويَدْافَعُ عنك ما يَضُرُّك، فإذن هو جامع لمعنى القراءة والتدبر والعمل. شرح المشكاة (5/1655).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قال ابن حجر -رحمه الله-: ويُؤخذ من الحديث: أنه لا ينال هذا الثَّواب الأعظم إلا من حفظ القرآن، وأَتْقَن أَدَاءه وقراءته كما يَنْبَغي له....
فإن قُلْتَ: ما الدليل على أن الصَّاحب هو الحافظ دون الـمُلازم للقراءة في المصحف؟
قُلتُ: الأصل فيما في الجنَّة أنه يَحَكِي ما في الدنيا، وقوله: «في الدنيا» صريح في ذلك، على أنَّ الملازم له نظرًا لا يُقَالُ له: صاحب القرآن على الإطلاق، وإنما يُقَالُ ذلك لمن لا يفارق القرآن في حالة من الحالات.
وأيضًا ففي رواية عند أحمد: «يُقَالُ لصاحب القرآن إذا دخل الجنَّة: اقرأ واصعد، فيقرأ ويصعد بكل آية درجة، حتى يقرأ آخر شيء معه» فقوله: «معه» صريح في أنه حافِظَه.
وفي حديث عند الرَّامَهُرْمُزي: «فإذا قام صاحب القرآن بقراءته آناء الليل، وآناء النهار ذَكَرَه، وإن لم يقم به نَسِيَه».
وروى البخاري (نسبة الحديث للبخاري تصحيف) وغيره: «من قرأ القرآن ثم مات قبل أن يسْتَظهره، أتاه ملَك يُعَلِّمه في قبره، ويَلْقَى الله وقد اسْتَظْهَره».
وفي حديث الطبراني والبيهقي: «ومن قرأ القرآن وهو يَتَفَلَّت منه، ولا يَدعْه، فله أجره مرتين، ومن كان حريصًا عليه، ولا يستطيعه ولا يدَعْه، بعثه الله يوم القيامة مع أشراف أهله».
وأخرج الحاكم وغيره: «من قرأ القرآن فقد استدرج النُّبُوَّة بين جنبيه، غير أنه لا يُوحى إليه، لا ينبغي لصاحب القرآن أن يجهل مع من يجهل وفي جوفه كلام الله». مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (4/1470).
وقال محمود خطاب السُّبْكي -رحمه الله-:
قوله: «يُقَالُ لصاحب القرآن... إلخ» يعني: حافِظه كله أو بعضه، العامل به، المتأدب بآدابه.
ويُقَالُ له ذلك عند دخول الجنَّة، وتوجه العاملين إلى مراتبهم فيها على حسب أعمالهم. المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود (8/ 123).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
«صاحب القرآن»: حافِظُه، والـمُواظبُ على قراءته.
وقيل: العالِمُ بمعانيه، والـمُعْتَني بالتدبر فيه.
والمراد من الحديث: المعنى الأول؛ لقوله: «اقرأ وَارْتَق» أي: اقرأ ما كنت تُحْسِنَه من القرآن، وَارْتَق بِقَدْرِهِ في درجات الجنَان. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/533).
وقال الشيخ الألباني -رحمه الله-:
واعلم أنَّ المراد بقوله: «صاحب القرآن» حافِظه عن ظهر قلب على حدِّ قوله -صلى الله عليه وسلم-: «يَؤُّم القوم أقرؤهم لكتاب الله...» أي: أحْفَظُهم، فالتَّفاضل في درجات الجنَّة إنما هو على حسب الحفظ في الدنيا، وليس على حسب قراءته يومئذٍ، واستكثاره منها، كما توهم بعضهم، ففيه فضيلة ظاهرة لِحَافِظِ القرآن، لكن بشرط أن يكون حِفْظه لوجه الله -تبارك وتعالى-، وليس للدنيا والدرهم والدينار، وإلا فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «أكثر مُنَافقي أمَّتي قُرَّاؤها». سلسلة الأحاديث الصحيحة (5/284).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد-حفظه الله-:
قوله: «يُقَالُ لصاحب القرآن». صاحب القرآن هو الذي يقرؤه، ويعمل به، وليس الذي يقرؤه فقط دون أن يعمل به؛ لأن القرآن يكون حُجَّة للإنسان، ويكون حُجَّة عليه، ومن لم يعمل بالقرآن فإنه يكون حُجَّة عليه، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: «والقرآن حُجَّة لك أو عليك» والحديث في صحيح مسلم، وهو من أحاديث الأربعين النووية، وفي الحديث الآخر حديث عمر -رضي الله عنه- في صحيح مسلم: «إنَّ الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا، ويَضَعُ به آخرين».
أما اشتراط الحفظ في هذا الحديث فلا يُوجد شيء يدل عليه، فيُمْكن أن يكون ذلك بالحفظ، ويُمْكِن أن يكون بغير الحفظ، لكن لا شك في أن الحفظ له مِيْزَة؛ لأن الإنسان يستطيع أن يقرأ ماشيًا وراكبًا ومضطجعًا وعلى غير وضوء، بخلاف الإنسان الذي لا يحفظ، فإنه لا يَتَمَكَّن من قِراءته على غير وضوء؛ لأنه لا يقرأ إلا من المصحف، ولا يَتَيَسَّر له ذلك في كل وقت؛ إِذْ لا بد من أن يكون على طهارة عندما يقرأ القرآن من المصحف، لكن أمور الآخرة علمها عند الله -عز وجل-، فكون الإنسان يكون حافظًا، وأنه يقرأ هو من أمور الآخرة، ولا ندري كيف تكون أحوال الآخرة بالنِّسبة لمن لا يحفظ وهو مكثر من قراءة القرآن. شرح سنن أبي داود (177/3).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
وهذا يَحْتَمل شيئين: أن تكون مَنْزِلته عند آخر حفظه، وأن تكون عند آخر تلاوته لمحفوظه، والله أعلم. حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح (67).
قوله: «اقْرَأْ وَارْق»:
قال عبيد الله الرحماني المباركفوري -رحمه الله-:
«اقْرَأ وَارْقَ»، هو أمرٌ مِن رَقِيَ يرقي رُقِيًّا، أي: اصعد إلى درجات الجنَّة، وارتفع فيها، يُقَالُ: رقِيَ الجبلَ، وفيه وإليه رَقْيًا ورُقِيًّا أي: صَعَدَ. مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (7/ 208 -209).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «اقْرأْ وارْقَ» أمر له في الآخرة بالقراءة التي توصله إلى مَصَاعِدَ ودَرَجَات. شرح المشكاة (5/1655).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «وَارْتَقِ» أمر من ارتقى يَرتقي، ومعناه: اصعَدْ إلى منزلك درجةً درجةً، فإن منزلَه بحسَب قراءته من الآيات، وهو معنى قوله: «فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها».
ويُستفاد منه: استحباب التَّرتيل في القراءة. شرح سنن أبي داود (5/381).
وقال ابن رَسْلان -رحمه الله-:
«اقْرَأْ وَارْتَقِ» أي: اصعد، بدليل رواية ابن ماجه من رواية أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-، قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: «يُقَالُ لصاحب القرآن إذا أُدخل الجنَّة: اقْرَأ وَاصْعَد، فيقرأ ويصعد بكل آية درجة، حتى يقرأ آخر شيء معه». شرح سنن أبي داود (7/ 181).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
قوله: «اقرأ وارْقَ» في دُرُج الجنة؛ لما جاء في الحديث الذي صححه الحاكم، لكنه شاذ، أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «عدد دُرُج الجنة عدد آي القرآن، ومن دخل الجنة من أهل القرآن فليس فوقه درجة» أي: إن كان من أهله حقيقة لا حفظًا فحسب، وإلا كان المراد أنه ليس فوقه درجة لغيره من الحفاظ، فلا ينافي ذلك ما يأتي أنَّ فيها دُرُجًا أعلى من دُرُج الحفاظ...
واستفيد من حديث المتن هنا، وحديث الحاكم: أنَّ من استوفى قراءة جميع آي القرآن استولى على أقصى دُرُج الجنة، ومن لا، كان رُقُيُّهُ إلى قدر منتهى قراءته، هذا كله إن أُريد بالصاحب المعنى الأول، وهو الذي يدل عليه السياق، بل صرح به قوله: «ورتِّل» في قراءتك في الجنة التي هي لمجرد التلذذ والشهود الأكبر، كعبادة الملائكة؛ إذ لا تكليف ولا عمل في الجنة، «كما كنتَ ترتل» في قراءتك «في الدنيا». فتح الإله في شرح المشكاة (7/125-126).
وقال عبد الحق الدِّهْلوي -رحمه الله-:
قوله: «وارْتَقِ» أي: في الدَّرج على قدر ما يُقرأ من آي القرآن، فمن استوفى جميع آي القرآن استولى على أقصى دُرُج الجنَّة الْمُعَدّ لها، واللَّائِقَة بِحَالها، فالأمر شامل لجميع أصحاب القرآن من الأنبياء والمرسلين والأولياء وسائر الصالحين على قدر درجاتهم في الحفظ والتلاوة والعمل. لمعات التنقيح في شرح مشكاة المصابيح (4/554).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- (بعد ذكره لكلام الطيبي السابق):
ولا عبرة بطعن ابن حجر فيه، وتضعيف كَلَامه، وحمله على التكلفة والمنافاة لظاهر الحديث، فإن التحقيق كما يُسْتَفاد من حديث: «إنَّ من عمل بالقرآن فكأنه يقرؤه دائمًا وإن لم يقرأه، ومن لم يعمل بالقرآن فكأنه لم يقرأه وإن قرأه دائمًا» ليس بحديث، وإنَّما ذكره في عون المعبود (4/ 238) من قول بعض العلماء وقد قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَاب}ص: 29، فمجرد التلاوة والحفظ لا يُعْتَبر اعتبارًا يترتب عليه المراتب العلية في الجنَّة العالية. مرقاة المفاتيح (4/ 1469-1470).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
النُّصوص الواردة في فضل تلاوة القرآن تشمل تِلَاوته نظرًا وتِلَاوته حفظًا؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لو أراد الحفظ فقط لقال: من قرأ عن ظهر قلب، فلما لم يُقَيّده، فإن الواجب إطلاقه، وأن نقول: من قرأ من المصحف أو عن ظهر قلب فإنه ينال الأجر الثابت لِتَالِي القرآن. لقاءات الباب المفتوح(46/18).
قوله: «وَرتِّل كما كُنْت تُرَتِّل في دَار الدُّنيا»:
قال عبد الرحمن المباركفوري -رحمه الله-:
«ورتِّل» أي: اقرأ بالتَّرتيل ولا تستعجل بالقراءة، «كما كنت تُرَتِّل في الدنيا» من تجويد الحروف، ومعرفة الوقوف، «فإنّ منزلتك عند آخر آية تقرؤها».تحفة الأحوذي (8/ 186 -187).
وقال محمود خطاب السُّبْكي -رحمه الله-:
قوله: «ورتِّل كما كنتَ تُرَتِّل في الدنيا» أي: رَتِّل في قِراءَتِك في الجنَّة كَتَرْتِيْلِك في الدنيا، وقراءة أهل الجنَّة كتسبيح الملائكة لا تَشْغَلُهم عن مُسْتَلَذَّاتهم، بل هي من أعظم مُسْتَلذَّاتهم، ويُؤْخَذ منه: أنه لا يَنَال هذا الثواب العظيم إلا مَن حفظ القرآن، واتقن قراءته. المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود (8/ 123 -124).
وقال الملا علي القَارِي -رحمه الله-:
«ورتِّل»، أي: لا تستعجل في قِرَاءَتِك في الجنَّة التي هي لمجرد التَّلَذُّذ والشُّهود الأكبر، كعبادة الملائكة، «كما كنتَ تُرَتِّل» أي: قراءتك، وفيه إشارة إلى أن الجزاء على وفْق الأعمال كمِّيَّة وكَيْفِيَّة، «في الدنيا» من تجويد الحروف، ومعرفة الوقوف الناشئ عن عُلُوم القرآن، ومَعَارِف الفُرْقَان. مرقاة المفاتيح (4/ 1469-1470).
قوله: «فإن مَنْزِلَتَك عند آخر آية كُنْت تَقْرَؤُهَا»:
قال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «فإن مَنْزِلَتَك» تعليل للأمر المرتب عليه التَّرقي، يعني قراءتك هذه يا صاحب القرآن تُرَقِّيْكَ إلى منزلة فَمَنْزِلَة على قدر قراءَتِك، فإذا قَطَعْتَها انْقَطَعت، وإذا وصلتها اتَّصَلَت، وزادت إلى ما لا نهاية له.
ولأن الشَّبَه في قوله: «وَرَتِّل كما كنت تُرَتِّل في الدنيا» تستدعي تشبيه الاتصال بالاتصال، وكما أن قراءته في حالة الاختتام استدعت الافتتاح الذي لا انقطاع له على ما ورد في حديث: «الحال المرتحل»، كذلك لا انقطاع لهذه القراءة، ولا للرُّقِي، ولا للمنازل، فهو كما قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَاب} الزمر:10.
وهذه القراءة لهم كالتسبيح للملائكة، لا تشغلهم عن سائر مُسْتَلَذَّاتهم، بل هو الـمُسْتَلذ الأعظم، ودونه كل مُسْتَلذ.
ترتيل القرآن: قراءته على ترتيل وتُؤَدَة، بِتَبْيِين الحروف، وإِشْبَاع الحركات حتى يجيء الـمَتْلُو منه شبيهًا بالثَّغْر الـمُرَتَّل، وهو الـمُفَلَّج الـمُشَبَّه بنُور الأقحوان. شرح المشكاة (5/1654-1655).
وقال محمود خطاب السُّبْكي -رحمه الله-:
أي: أن منزلتك في الجنَّة تكون عند آخر آية تقرؤها، فإن قرأت كُلَّ القرآن ذلك أعلى الدَّرجات، وإلا على قدر قراءتك.
وقيل: هو كناية عن دوام التَّرقي: فكما أن قراءته في الدنيا حال الختام تستدعي الافتتاح الذي لا انقطاع له كذلك تكون هذه القراءة والترقي في المنازل التي لا تتناهى.
وفي الحديث: دلالة على الترغيب في حفظ القرآن. المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود (8/ 123 -124).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«عند آخر آية تقرؤها» وقد ورد في الحديث: «أن درجات الجنَّة على عدد آيات القرآن»، وجاء في حديث: «من كان من أهل القرآن فليس فوقه درجة». فالقراء يتصاعدون بقدرها. مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (4/ 1469-1470).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
قيل: درج الجنَّة بعدد آي القرآن، والقُرَّاء يتصاعدون بقدرها، فمن قرأ مائة آية –مثلًا- كان منزله عند آخر آية يقرؤها، وهي المائة من الدَّرجات، ومن حفظ جميع القرآن كان مَنْزِلُه الدَّرجة الأقصى من دَرَجَات الجِنَان، وهذا للقارئ الذي يقرؤه حقَّ قِرَاءَتِه، وهو أن يَتَدَبَّر معناه، ويأتي بما هو مُقْتَضَاه، لا الذي يَقْرأ والقرآن يَلْعَنُه. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/533).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
جاء في الأثر: «أن عدد آي القرآن على قدر دُرُج الجنَّة»، يُقَالُ للقارئ: ارْقَ في الدرج على قدر ما كنت تقرأ من آي القرآن، فمن استوفى قراءة جميع القرآن استولى على أقصى درج الجنَّة، ومن قرأ جزءًا منها كان رُقِيُّه في الدّرج على قدر ذلك، فيكون منتهى الثواب عند منتهى القراءة. معالم السنن (1/290).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
فهذا يدل على أن في الجنَّة درجات على عدد آي القرآن، وهي تنيف على ستة آلاف آية (6000)، فإذا اجتمعت للإنسان فضيلة الجهاد مع فضيلة القرآن جُمِعت له تلك الدرجات كلها، وهكذا كلما زادت أعماله زادت درجاته، والله أعلم.الكوكب الوهَّاج والرَّوض البَهَّاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج(20/190).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
قوله: «فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها» هذا في الآخرة، ومن المعلوم أن ذلك مثل التسبيح وغيره مما يُلْهَمه الناس وليس تعبُّدًا، وإنما يُتَعَبَّد بقراءته في الدنيا، وإذا انتقل إلى الآخرة فله بالحرف الواحد عشر حسنات.
إذًا: هم في الآخرة يُلْهَمون التلاوة، ويُلْهمون التَّسبيح كما يُلْهمون النَّفَس.
وقد ذكر الخطابي وغيره أنه جاء في بعض الأحاديث «أن عدد آي القرآن على قدر عدد درج الجنَّة»، ولكن لا نعلم شيئًا عن هذه الأحاديث التي أشاروا إليها، وهذه الأحاديث التي أشار إليها الخطابي أشار إليها صاحب عون المعبود، لكن لم يَذْكُرَا من خَرَّجها ولا دَرَجَتَها ومَنْزِلَتَها، ولا وجودها في أي مؤلَّف، لكن ذكر الشيخ الألباني في السلسلة الضعيفة (5/ 283) أن هذا الحديث هو عند ابن أبي شيبة، وذكر أن إسناده ضعيف.شرح سنن أبي داود (177/3).
وقال الشيخ الألباني -رحمه الله-:
وقال الخطابي -رحمه الله في معالم السنن (2/136)-:
قلت: جاء في الأثر: «أن عدد آي القرآن على قدر درج الجنَّة»، يُقَالُ للقارئ: ارْقَ في الدَّرج على قدر ما كُنْتَ تقرأ من آي القرآن، فمن استوفى قراءة جميع القرآن استولى على أقصى درج الجنَّة، ومن قرأ جزءًا منها كان رُقِيُّه في الدّرج على قدر ذلك، فيكون منتهى الثواب عند منتهى القراءة.
والأثر الذي أشار إليه أخرجه ابن أبي شيبة (10/466/ 10001): حدثنا محمد بن عبد الرحمن السَّدُوسِي عن مِعْفَسِ بن عِمْرَان عن أم الدَّرداء -رضي الله عنها- قالت: دخلتُ على عائشة -رضي الله عنها- فقلت: ما فَضل من قرأ القرآن على من لم يقرأه ممن دخل الجنَّة؟ فقالت: إن عدد درج الجنَّة على عدد آي القرآن، فليس أحد ممن دخل الجنَّة أفضل ممن قرأ القرآن. و(مِعْفَسُ) هذا ترجمه ابن أبي حاتم (4/1/433) برواية اثنين آخرين عنه، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا، ومحمد بن عبد الرحمن السَّدُوْسِي أورده ابن أبي حاتم (3/2/324) برواية وكيع عنه ولم يزد، فهو مجهول، ووكيع -وهو ابن الجَرَّاح- من شيوخ ابن أبي شيبة الذين يُكْثِر عنهم.
فالظاهر أنه سقط اسمه من "ابن أبي شيبة"، كما أن اسم شيخه وقع فيه (مِقْعَس) بالقاف ثم العين. وهو خطأ مطبعي.
وجملة القول: إنّ إسناد هذا الأثر ضعيف، والله أعلم. سلسلة الأحاديث الصحيحة (5/ 282- 283).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«الجنَّة مِائة درجة» ...، وقد عارضه حديث أحمد أنه «يُقَالُ لصاحب القرآن: اقْرَأ واصعد، فيقرأ ويصعد بكل آية درجة حتى يقرأ آخر شيء معه»، وحديث: «أن عدد دَرَجِ الجنَّة عدد آيات القرآن» تقدم، وأُجيب بأن المراد بالمائة الدَّرجة الدَّرجات الكبار، وبينها درجات صغار كثيرة. التنوير شرح الجامع الصغير (5/299).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله- (عند كلامه على حديث: للشهيد مائة درجة):
ولا يُظن من هذا: أن درجات الجنَّة محصورة بهذا العدد، بل هي أكثر من ذلك، ولا يَعلم حصرها ولا عددها إلا الله تعالى، ألا تراه قد قال في الحديث الآخر: «يُقَالُ لصاحب القرآن: اقْرَأْ وَارْقَ، فإن مَنْزِلَتُك عند آخر آية تقرؤها»؟ فهذا يدل على أن في الجنَّة درجات على عدد آي القرآن، وهي تَنِيْفُ على ستة آلاف آية، فإذا اجتمعت للإنسان فضيلة الجهاد مع فضيلة القرآن، جُمعت له تلك الدرجات كلها، وهكذا من زادت أعماله زادت درجاته، والله تعالى أعلم. المفهم (3/ 710 -711).
وقال المناوي -رحمه الله-:
وأما خبر: «الجنَّة مائة درجة» فَيُحْتَمل كون المائة من جملة الدرج، وكونها نهاية هذه المائة، وفي ضمن كل درجة درج دُوْنَها. فيض القدير (2/458).
وقال الشيخ عبد الله الغنيمان -حفظه الله-:
وهذه الدرجات للمجاهدين في سبيل الله خاصة، ولا ينفي هذا وجود درجات أُخر لغير المجاهدين في الجنَّة، كما جاء في سنن أبي داود والترمذي وصححه: «يُقَالُ لصاحب القرآن: اقرأ وارتق، ورتل، كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها» ...
ولهذا قال: «أعدها الله للمجاهدين في سبيله»، قال ابن القيم -رحمه الله-: يجوز أن تكون هذه المائة من جملة الدرج، ويجوز أن تكون نهايتها هذه المائة. ورجَّح الأول. شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري (1/403).
وقال الشيخ فيصل ابن المبارك -رحمه الله-:
في هذا الحديث: أن حافظ القرآن الـمُلازم لِتِلَاوَتِه وتَدَبُّره، والعمل به أنه يصعد في دَرَجِ الجنَّة حتى يبلغ منزلته على قدر عمله وحفظه، وبالله التوفيق. تطريز رياض الصالحين (ص: 583).
وقال السيوطي -رحمه الله-:
والمنزلة التي في الحديث هي ما يناله العبد من الكرامة على حسب منزلته في الحفظِ والتلاوة لا غير؛ وذلك لما عرفنا من أصل الدِّين: أنَّ العامل بكتاب الله المتدبر له أفضل من الحافظ والتالي له إذا لم ينل شَأْوَه في العمل والتدبر.
وإن ذهبنا إلى الثاني -وهو أحق الوجهين وأتمهما- فالمراد من الدرجات التي يستحقها بالآيات سائرها، وحينئذٍ تُقَدَّر التلاوة في القيامة على مقدار العمل، فلا يستطيع أحد أن يتلو آية إلا وقد أقام ما يجب عليه فيها، واستكمال ذلك إنما يكونُ للنَّبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ثم للأمَّة بعده على مراتبهم ومنازلهم في الدِّين، كلٌّ منهم يقرؤه على مقدار مُلازمته إياه تدبرًا وعملًا. قوت المغتذي على جامع الترمذي (2/ 733).