«إنَّ مِن ورائِكم أيام الصبر، الصَّبرُ فيه مثل قبضٍ على الجَمرِ، للعامل فيهم مثل أَجرِ خمسين رجلًا يعملون مثل عمله»، وزادني غيره قال: يا رسول الله، أجر خمسين منهم؟ قال: «أجر خمسين منكم».
رواه أبو داود، برقم: (4341) واللفظ له، والترمذي، برقم: (3058)، وابن ماجه، برقم: (4014)، من حديث أبي ثعلبة الخُشني -رضي الله عنه-.
صحيح الترغيب والترهيب برقم: (3172).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«مِن ورائكم»:
أي: قُدَّامكم من الأزمان الآتية. مرقاة المفاتيح (8/ 3215).
«أيام الصّبر»:
بالإضافة، أي: أيامًا يُعظم فيها أجر الصبر. حاشية السندي على سنن ابن ماجه (2/487- 488).
«قبضٍ على الجَمْر»:
الجمر: هو الحطب المحترق قبل أن تخبوَ نارُه.
أي: أنَّ المتمسك بدينه في تلك الأيام: تلحقه المشقة الشديدة بالصبر، كمشقة الصابر على قبض الجَمرة بيده. شرح المصابيح، لابن الملك (5/370، 466).
شرح الحديث
قوله: «إنَّ مِنْ ورائِكم أيامَ الصَّبْرِ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فإنَّ وراءَكم» أي: قُدَّامَكم من الأزمان الآتية، أو خلفكم من الأمور الهاوية.
«أيامَ الصَّبْرِ» أي: أيامًا لا طريق لكم فيها إلا الصبر، أو أيامًا يُحمد فيها الصبر، وهو الحبس على خلاف النفس من اختيار العزلة، وترك الخلطة والخلوة. مرقاة المفاتيح (8/ 3215).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
قوله: «فإن وراءَكم» أي: أمامَكم وقُدَّامَكم، «أيامَ الصبرِ» أي: أيامًا يُحمَد فيها الصبرُ عن المحارم. شرح المصابيح (5/ 370).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
قوله: «فإنَّ مِنْ ورائِكم» أي: قُدَّامكم وأمامكم، فهو كقوله تعالى: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ} المؤمنون: 100، وقوله تعالى: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} الكهف: 79.
و«أيامَ» بالنصب، ويجوز الرفع.
«الصبرِ» مضاف إليه، أي: لا طريق لكم في ذلك الزمان الذي يظهر فيه المنكر، وينكر فيه المعروف، إلا الصبر على البلاء الذي يصيبكم. شرح سنن أبي داود (17/ 205).
وقال السندي -رحمه الله-:
«أيامَ» هكذا في بعض النسخ، وفي بعضها «أيامًا» بالنصب، وهو الظاهر، والأول محمول على مسامحة أهل الحديث في الخطأ؛ فإنهم كثيرًا ما يكتبون المنصوب بصورة المرفوع، أو على لغة من يرفع اسم (إن)، أو على حذف ضمير الشأن، والله تعالى أعلم. فتح الودود في شرح سنن أبي داود (4/ 263).
وقال الكنكوهي -رحمه الله-:
قوله: «فإنَّ مِنْ ورائِكم أيامًا» كأنه جواب لمن تعَجَّب أنْ يعم المسلمين هذه الكيفية السيئة التي ذكرها بقوله: «حتى إذا رأيتَ شُحًّا مُطاعًا..» إلخ، بأنْ لا عجب في مثل هذا الزمان الذي هو آتٍ عن ذلك؛ لأن الصبر على دِينه لما كان شديدًا لا محالة، يُبتلون بما يُبتلون. الكوكب الدري على جامع الترمذي (4/ 129).
قوله: «الصَّبرُ فيه مثل قبضٍ على الجَمْر»:
قال العظيم أبادي -رحمه الله-:
«الصبرُ فيه» كذا في عامة النسخ التي في أيدينا، وفي نسخة: «فيهن» وهو الظاهر، وأما تذكير الضمير كما في عامة النسخ فلا يستقيم، إلا أن يُؤَوَّل أيام الصبر: بوقت الصبر. عون المعبود (11/ 332).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«قبضٍ على الجمر» أي: تلحقه المشقة الشديدة بالصبر، كمشقة الصابر على قبض الجمرة بيده. شرح المصابيح (5/ 370).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
لأنه يَفِيضُ الشرُّ، ويُخفَى الخير، ويَقِلُّ أعوانُه، ويُؤذَى الباقي على الحق، ويكثر أهل البدع، ويُعَدُّ المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، فشبَّهَ الصابر على دينه كالقابض على الجمر، من تشبيه المعقول بالمحسوس. التنوير شرح الجامع الصغير (11/ 192).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
فيه مشقة التَّمسك بالسُّنة؛ لأنه يُؤذى ويُعادَى، ولا غَرْوَعجب؛ فإنه خليفة الأنبياء، ووارث علمهم، وقد نالوا من الأذى في ذات الله ما هو معروف. التنوير شرح الجامع الصغير (10/ 465).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
أي: كما لا يَقْدِرُ القابض على الجمر أن لا يصبر لاحتراق يده، كذلك المتدَيِّن يومئذٍ لا يقدر على ثباته على دينه؛ لغلبة العصاة والمعاصي، وانتشار الفتن، وضعف الإيمان. شرح المشكاة (11/ 3393).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
الظاهر: أن معنى الحديث: كما لا يمكن القبض على الجمرة إلا بصبر شديد، وتحمل غلبة المشقة، كذلك في ذلك الزمان لا يُتصور حفظ دينه، ونور إيمانه إلا لصبر عظيم، وتعب جسيم.
ومن المعلوم أنَّ المشبَّه به يكون أقوى، فالمراد به المبالغة، فلا ينافيه أنَّ ما أحد يصبر على قبض الجمر؛ ولذا قال تعالى: {فَمَا أَصْبَرَهُم عَلَى النَّارِ} البقرة: 175، مع أنه قد يقبض على الجمر أيضًا عند الإكراه على أمر أعظم منه؛ من قتل نفس، أو إحراق، أو إغراق ونحوها؛ ولذا قال تعالى: {قُلْ نَارُ جَهَنَّم أَشَدّ حَرًّا} التوبة: 81، وقد أشار الشاطبي -رحمه الله- في زمانه إلى هذا المعنى بقوله:
وهذا زمان الصبر فمن لك بالتي *** كقبضٍ على جمر فتنجو من البَلا.
قال الجعبري: أي: هذا الزمان زمان الصبر؛ لأنه قد أُنْكِرَ المعروفُ، وعُرِّف المنكرُ، وفسدت النيات، وظهرت الخيانات، وأُوذِي الْمُحِق، وأكرم المبطل، فمن يَسْمَعُ لك بالحالة التي لزومها في الشدة كالقابض على جمر النار. مرقاة المفاتيح (8/ 3365).
قوله: «للعامل فيهم مثل أجر خمسين رجلًا يعملون مثل عمله»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «للعامل» أي: الكامل، ولو لم يكن مكمِّلًا لغيره، «أجر خمسين رجلًا يعملون مثل عمله» أي: في غير زمانه. مرقاة المفاتيح (8/ 3215).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «يعملون بمثل عمله» في زمان آخر، ثم حاصل هذا الحديث: أنَّ العمل بالآية مقيد بوقت لا دائمي. حاشية السندي على سنن ابن ماجه (2/ 488).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
قوله: «للعامل فيهن» أي: في تلك الأيام عملًا يشق في مثل ذلك الزمن، لا كلّ عمل؛ كالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ أي: أجر العامل فيهن «مثل أجر» عمل «خمسين رجلًا يعملون بمثل عمله» أي: بمثل عمل ذلك العامل؛ أي: في غير زمانه؛ أي: زمان آخر. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (24/ 172).
قوله: «وزادني غيره قال: يا رسول الله، أجر خمسين منهم؟ قال: «أجر خمسين منكم»:
قال العظيم أبادي -رحمه الله-:
«وزادني غيره» وفي رواية الترمذي: قال عبد الله بن المبارك: وزادني غير عُتبة. عون المعبود (11/ 332).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«قالوا: يا رسول الله، أجر خمسين؟» بتقدير الاستفهام، «منهم» فيه تأويلان:
أحدها: أن يكون أجر كُلِّ واحد منهم على تقدير أنه غير مُبتلى، ولم يُضاعف أجره.
وثانيهما: أن يراد أجر خمسين منهم أجمعين لم يُبتلوا ببلائه، قال: «أجر خمسين منكم». مرقاة المفاتيح (8/ 3215).
قال السندي -رحمه الله-:
قوله: «خمسين منكم» قيل: هذا في الأعمال التي يشق فعلها في تلك الأيام لا مطلقًا، كيف وقد جاء: «لو أنفق أحدُكم مثل أُحدٍ ذهبًا ما بلغ مُدّ أَحدهم ولا نصيفه»؟ ثم قلَّ من يفعل منهم بعض تلك الأعمال، فالمضاعفة لا تقتضي فضلهم على الأولين حتى ينافي حديث: «خير القرون قَرني» الحديث.
قلتُ: المنافاة غير ظاهرة من أصلها؛ إذ خيرية القرون السابقة لا تُنافي بعض آحاد القرون اللاحقة على بعض آحاد القرون السابقة بل كلها، نعم الخيرية مفقودة عند الجمهور؛ لقولهم: إنَّ الصحابي مطلقًا أفضل من غيره، والله تعالى أعلم. فتح الودود في شرح سنن أبي داود (4/ 263-264).
وقال السيوطي -رحمه الله-:
قال الشيخ عزّ الدّين بن عبد السلام: ليس هذا على إطلاقه، بل هو مبنيّ على قاعدتين:
إحداهما: أنَّ الأعمال تَشْرُف بثمراتها.
الثانية: أن الغريب في آخر الإسلام كالغريب في أوَّله وبالعكس؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: «بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء من أمَّتي»، يريد المتفرّدين عن أهل زمانهم.
إذا تقرَّر ذلك فنقول: الإنفاق في أوّل الإسلام أفضل؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام- لخالد بن الوليد: «لو أنفق أحدكم مثل أُحُدٍ ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه» أي: مُدَّ الحنطة؛ والسبب في ذلك: أنَّ تلك النفقة أثمرت في فتح الإسلام، وإعلاء كلمة الله ما لا تثمر غيرها، وكذلك الجهاد بالنفوس لا يصل المتأخرون فيه إلى فضل المتقدّمين؛ لقلَّة عدد المتقدِّمين، وقلّة أنصارهم، فكان جهادهم أفضل؛ ولأنَّ بذل النفس مع النُّصرة، ورجاء الحياة ليس كبذلها مع عدمها؛ ولذلك قال -عليه السَّلام-: «أفضل الجهاد كلمة حقّ عند سلطان جائر»، جعله أفضل جهاد؛ ليأسه من حياته، وأمَّا النهي عن المنكر بين ظهور المسلمين وإظهار شعائر الإسلام، فإنَّ ذلك شاقّ على المتأخّرين؛ لعدم المُعِين، وكثرة المنْكِر فيهم، كالمنْكِر على السلطان الجائر؛ ولذلك علَّل -عليه السلام- بكون القابض على دينه كالقابض على الجمر، والقابض على الجمر لا يستطيع دوام ذلك؛ لمزيد المشقّة، فكذلك المتأخر في حفظ دينه. وأمَّا المتقدِّمون فليسوا كذلك؛ لكثرة المُعِين، وعدم الْمُنْكَر، فعلى هذا يُنزَّل الحديث. انتهى. مرقاة الصعود إلى سنن أبي داود (3/ 1105).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
قوله: «أجر خمسين رجلًا منكم» أي: من الصحابة -رضي اللَّه عنهم-؛ لقلة من يساعده، ويعينه على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وغيره من شرائع الدين، وكثرة من يتعرض لأذاه باللسان واليد؛ لقيامه بالحق. شرح سنن أبي داود (17/ 205).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
وورد أيضًا في أيام الصبر: أنَّ للعامل فيهن أجر خمسين من الصحابة، ولا شك أنَّ انفراد الإنسان بالصلاح في موضع يكثر فيه الفساد يعتبر من نعمة الله عليه، وأن له شأنًا ينبغي أن يهتم به؛ ليكون ذلك تشجيعًا لغيره، وكذلك تقويه لهذا الرجل الذي صلح في مكان الفساد. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (2/ 553).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
وقوله: «أجر خمسين منكم» يدل على فضل هؤلاء في الأجر على الصحابة من هذه الحيثية، وقد جاء أمثال هذا في أحاديث أُخر، وتوجيهه كما ذكروا: أن الفضل الجزئي لا ينافي الفضل الكلي، وقد تكلم ابن عبد البر في هذه المسألة، وقال: يمكن أن يجيء مِن بعد الصحابة مَن هو في درجة بعضٍ منهم، أو أفضل، ومختار العلماء خلافه. لمعات التنقيح (8/ 379).
قال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
ولكن هذا خلاف ما عليه العلماء قاطبة، مِن أنَّ فضل الصُّحبة لا يعادلهُ شيء، والقليل الذي يحصل من الصحابة؛ لأنه في خدمة الرسول -عليه الصلاة والسلام-، وفي الدفاع عنه، وفي الذِّب عنه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، خير من الكثير من غيرهم.شرح سنن أبي داود(11/490)
وقال العباس القرطبي -رحمه الله-:
وأمّا قوله: «للعامل منهم أجر خمسين منكم» فلا حجَّة فيه؛ لأن ذلك -إن صح- إنما هو في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ لأنه قد قال -عليه الصلاة والسلام- في آخرِه: «لأنكم تجدون على الخير أعوانًا، ولا يجدون»، ولا بُعد في أن يكون في بعض الأعمال لغيرهم من الأجور أكثر مما لهم فيه، ولا تلزم منه الفضيلة المطلقة التي هي المطلوبة بهذا البحث، والله أعلم. المفهم (1/ 503).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
أما أعمال مَن بعد الصحابة فلم يرد ما يدل على كونها أفضل على الإطلاق، إنما ورد ذلك مقيدًا بأيام الفتنة، وغربة الدِّين، حتى كان أجر الواحد يعدل أجر خمسين رجلًا من الصحابة، فيكون هذا مخصِّصًا لعموم ما ورد في أعمال الصحابة، فأعمال الصحابة فاضلة، وأعمال من بعدهم مفضولة، إلا في مثل تلك الحالة. نيل الأوطار (8/ 360).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
الصحابة أفضل من التابعين، والتابعين أفضل من تابعيهم، وأن التفضيل بالنظر إلى كل فرد فرد، وإليه ذهب الجماهير.
وذهب ابن عبد البر إلى أن التفضيل بالنسبة إلى مجموع الصحابة، لا إلى الأفراد، فمجموع الصحابة أفضل ممن بعدهم لا كل فرد منهم، إلا أهل بدر وأهل الحديبية، فإنهم أفضل من غيرهم، يريد أن أفرادهم أفضل من أفراد من يأتي بعدهم.
واستدل على ذلك بما أخرجه الترمذي من حديث أنس وصححه ابن حبان من حديث عمار من قوله -صلى الله عليه وسلم-: «أُمَّتي مثل المطر لا يُدرى أوَّله خير أم آخره»، وبما أخرجه أحمد والطبراني والدارمي من حديث أبي جمعة قال: قال أبو عبيدة: يا رسول الله، أحدٌ خير منا؟ أسْلَمْنا معك، وهاجرنا معك، قال: «قوم يكونون مِن بعدِكم، يؤمنون بي ولم يروني» وصححه الحاكم، وأخرج أبو داود والترمذي من حديث ثعلبة يرفعه: «تأتي أيامٌ للعامل فيهن أجر خمسين»، قيل: منهم أو منا يا رسول الله؟ قال: «بل منكم»، وأخرج أبو الحسن القطان في مشيخته عن أنس يرفعه: «يأتي على الناس زمانٌ الصابر فيه على دِينه له أجر خمسين منكم».
وجمع الجمهور بين الأحاديث: بأن للصحبة فضيلة ومزية لا يوازيها شيء من الأعمال، فلِمَن صَحِبَه -صلى الله عليه وسلم- فضيلتها، وإن قَصُر عملُه، وأجره باعتبار الاجتهاد في العبادة، وتكون خيريتهم على من سيأتي باعتبار كثرة الأجر، لا بالنظر إلى ثواب الأعمال، وهذا قد يكون في حق بعض الصحابة، وأما مشاهير الصحابة فإنهم حازوا السبق من كل نوع من أنواع الخير، وبهذا يحصل الجمع بين الأحاديث. سبل السلام (2/ 581).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
وهذه اللفظة «بل منكم» قد سكت عنها بعض رواة هذا الحديث، فلم يذكرها. التمهيد (20/ 250).
وللاستفادة من الرواية الأخرى ينظر (هنا)
وللمزيد من الفائدة ينظر (هنا)