«أنَّ جبريل -عليه السلام- أتاه في أول ما أُوْحِيَ إليه، فعلمه الوضوء والصلاة، فلما فرغ من الوضوء، أخذ غَرْفَة من ماء، فنَضَح بها فَرْجَه».
رواه أحمد، برقم: (17480)، والطبراني في المعجم الأوسط، برقم: (3901)، والبزار برقم: (1332)، وهو عند ابن ماجه، بلفظ مقارب، برقم: (462) من حديث زيد بن حارثة -رضي الله عنه-.
سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (841)، مشكاة المصابيح برقم: (366).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«الوَضُوء»:
بفتح الواو اسم للماء المتوضئ به، وبضمها للفعل، وهو المراد هنا. التنوير شرح الجامع الصغير للصنعاني (1/ 283).
«الصلاة»:
الأذكار المعروفة، والأفعال المشهورة، المفتتحة بالتكبير، المختتمة بالتسليم. التيسير بشرح الجامع الصغير، للمناوي (1/ 21).
«غَرْفَةً»:
أي: ملء الكف. لمعات التنقيح، للدهلوي (2/ 92).
«فَنَضَحَ»:
يعني: رَشَّ بالماء الإزار الذي يلي محل الفرج من الآدمي. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/21).
«فرجه»:
الفَرْجُ والفُرْجَةُ: الشَّقُّ بين الشّيئين، كفرجة الحائط. والفَرْجُ: ما بين الرّجلين، وكُنِّيَ به عن السّوأة، وكَثُرَ حتى صار كالصّريح فيه. المفردات في غريب القرآن (ص: 628).
شرح الحديث
قوله: «أن جبريل -عليه السلام- أتاه في أول ما أُوْحِيَ إليه»:
قال ابن عبد البر -رحمه الله-:
معنى قوله: «في أول ما أُوْحِيَ إليه»، أي: أُوْحِيَ إليه في الصلاة، وهذا يدل على أنه لم يُصلّ صلاة قط بغير طهور؛ ولهذا قال مالك في حديثه عن عبد الرحمن بن القاسم -حديث عِقْد عائشة حين فقدوا الشمس وهم على غير ماء-: فنزلت آية التيمم، ولم يقل: فنزلت آية الوضوء، وآية الوضوء وإن كانت مدنية، فإنما كان سبب نزولها التيمم. الاستذكار (1/ 21).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«أتاني جبريل في أول ما أُوْحِيَ إليّ»، وذلك عند انصرافه من غار حراء، كما في الدلائل وغيرها. فيض القدير (1/ 100).
قوله: «فَعَلَّمَهُ الوضوء والصلاة»:
قال المناوي -رحمه الله-:
قوله: «الوُضُوء» بالضم: استعمال الماء في الأعضاء الأربعة بالنية عند الشافعية، وكذا بدونها عند الحنفية، «والصلاة»: الأذكار المعروفة، والأفعال المشهورة المفتتحة بالتكبير، المختتمة بالتسليم، وأصلها الدعاء، قال الله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} التوبة: 103، أي: ادْعُ لهم، وفيما نقله الشرع إليه باشتمال على الدعاء.
قال في الوفاء: لم يذكر كيفية الصلاة في هذا الحديث، وقد ذكر في حديث البراء أنها ركعتان، وهذه الصلاة كانت نفلًا؛ لأن الخمس لم تفرض إلا ليلة الإسراء، وقيل: بل فرضت الصلاة قبله ركعتين قبل غروب الشمس، وركعتين قبل طلوعها، ثم فرضت الخمس ليلة الإسراء، وهو مروي عن عائشة وغيرها، وقيل: بل المراد بالصلاة هنا التهجد؛ فإنه فُرِضَ عليه ثم نسخ.
قال السهيلي: فالوضوء على هذا الحديث مكي بالفرض، مدني بالتلاوة؛ لأن آية الوضوء كانت قبل فرض الصلاة، يعني: الصلوات ليلة الإسراء، قال: ويُقَوِّيْه قوله -في خبر فيه لين-: أن جبريل علَّمه إياه حين نزول الوحي عليه في غار حراء، وقال: ويؤيده ما في أخبار صحاح أن من قبلنا كانوا يتوضؤون للصلاة، كما في قصة سارة والراهب. فيض القدير (1/ 100).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
فيه: أن شرعية الوضوء والصلاة قديمة في أول البعثة، وأما أحاديث أنها إنما فرضت الصلاة ليلة الإسراء، فيحتمل: أن المراد فرضها على الأمة، ويحتمل: أن هذه الصلاة التي كانت في أول البعثة لم تكن فرضًا، ويحتمل: أنها كانت صلاة واحدة فرضت أولًا، ثم فرضت الخمس ليلة الإسراء، ويحتمل: أن يراد أول ما أوحي إليه في شأن الصلاة، لا مطلق الوحي، ويراد به ليلة الإسراء، أو أنها فرضت عليه، وأتاه جبريل بعد ذلك بتفاصيلها وكيفياتها وشرائطها، كما ثبت أنه أمَّهُ عند البيت في تعليمه له المواقيت.
وفيه: دليل على مشروعية الوضوء من أول مشروعية الصلاة، وإن الآيتين التي في سورة النساء والمائدة من الآيات التي تأخر لفظها عن حكمها لتأخر نزولها، وقد ذكرهما المصنف -رحمه الله- مثالًا لما تأخر لفظه، وتقدم حكمه. التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 283- 284).
وقال عبيد الله الرحماني المباركفوري -رحمه الله-:
«فعلمه الوضوء»؛ فنزول سورة المائدة آخرًا كان لتأكيد الحكم وتأييد الأمر. مرعاة المفاتيح (2/ 70).
قوله: «فلما فرغ من الوضوء»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
هذا صريح في أن النضح بعد الوضوء، وأنه ليس المراد بالنضح غسل الفرج. مرقاة المفاتيح (1/ 390).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«فلما فرغ من الوضوء»، أي: أتمَّه. فيض القدير (1/ 100).
قوله: «أخذ غَرْفَةً من ماء، فنضح بها فرجه»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«أخذ غرفة» بالفتح والضم، «من الماء فنضح بها فرجه»: حقيقة أو حذاءه.
قال الأبهري: ولعله لتعليم الأمة ما يدفع الوسوسة، أو لقطع البول؛ فإن النضح بالماء البارد يردع البول، فلا ينزل منه شيء بعد شيء، والظاهر: أن النضح مختص بمن يستنجي بغير الماء. مرقاة المفاتيح (1/ 390).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وأما الانتضاح فقال أبو عبيد الهروي: هو أن يأخذ قليلًا من الماء، فينضح به مذاكِيْرَهُ بعد الوضوء؛ لينفي عنه الوسواس.
وقال الخطابي: انتضاح الماء: الاستنجاء به، وأصله من النضح، وهو الماء القليل، فعلى هذا هو والاستنجاء خصلة واحدة، وعلى الأول فهو غيره. فتح الباري (10/ 338).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«فرجه»، الفرج: العورة، كما في القاموس، والظاهر: أن المراد هنا القُبل. التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 47).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
والحكمة فيه: أنه لدفع الوسواس والشك في الوضوء إذا أدرك بللًا، والظاهر: أنه من آخر أعمال الوضوء، وأنه بعد الاستمان لعله بعد الاستنجاء، وهذه سنة تركها الناس، وقلَّ من تعرَّض لها من الفقهاء في كتبهم، وحديثها مصحح أو محسن، فلا عذر عنها، وكان العذر عندهم عدم ذكرها في أحاديث التعليم، وليس ذلك بعذر مع صحة الحديث أو حسنه. التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 284).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«أخذ غرفة من الماء»، قال ابن حجر في المختصر: وهي قدر ما يُغْرَف من الماء بالكف، «فنضح»، وفي رواية «فرش بها فرجه»، يعني: رَشَّ بالماء الإزار الذي يلي محل الفرج من الآدمي؛ لأن جبريل ليس له فرج؛ إذ الملائكة ليسوا بذكور ولا إناث -كما مر- فيندب رَشُّ الفرج عقب الوضوء لدفع الوسوسة.
وفي رواية ذكرها ابن سيد الناس: «وجهه» بدل فرجه، وفي رواية: الفرج، والنضح: الرَّشُّ، والفرج أصله فرجة بين شيئين، ثم كنى به عن السوأة، وكَثُرَ حتى صار كالصريح فيه. فيض القدير (1/ 100).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«فنضح بها فرجه»، يعني: رَشَّ بالماء الإزار الذي يلي محل الفرج من الآدمي، فيندب ذلك؛ لدفع الوسواس. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 21).
قال الدِّهلوي -رحمه الله-:
ظاهر العبارة: أن الضمائر لجبرئيل؛ لأنه كان متمثلًا بصورة البشر، ومعلمًا له -صلى الله عليه وسلم- الوضوء والصلاة بفعله، ويحتمل: أن يكون للنبي -صلى الله عليه وسلم-، ويكون تقدير الكلام هكذا: فتوضأ النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد التعلم فلما فرغ من الوضوء، ويؤيده الحديث الآتي لأبي هريرةإذا توضأت فانتضح؛ لأنه يدل على أن تعليم جبرئيل كان بالقول، فتدبر.
وأما جعل الضمير في «فرغ» للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وفي «أخذ» لجبرئيل -عليه السلام- فأيضًا محتمل، لكنه بعيد، وأما ما ذكر صاحب (سفر السعادة) من أنه توضأ جبرئيل، ثم قال للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: بأن يتوضأ مثله، ثم أخذ جبرئيل غَرْفَة ماء وضرب بها وجهه -صلى اللَّه عليه وسلم- فذلك شيء آخر غير هذا النضح، فعله تكميلًا وتتميمًا للتطهير والتنظيف، أو لسر آخر يكون في ضمنه، -واللَّه أعلم-. لمعات التنقيح (2/ 92- 93).
قال ابن دقيق العيد -رحمه الله- (عن نضح الفرج):
هذا الحكمُ معلّلٌ بعلَّتَيْن:
إحداهما: ما تقدَّمتِ الإشارةُ إِليه؛ فيما حكيناه عن القاضي أبي بكر ابنِ العربيِّ من إذْهابِ الوَسْوَاسِ، ومعناه: أنه إذا نَضَحَ الفرجَ فوجد بلله أحالَه على ما نَضَحَ به من الماءِ، فذهب الوسواسُ، ومثله قد تبيَّن في باب الاستبراءِ، وليس هو بالهيِّن عندي، وينبغي أن يكونَ محلُّه عندنا إذا تعارضتِ الاحتمالات على الاستواء، فحينئذٍ يُبنى على الأصل في الطَّهارة، وأما إذا كانت العادةُ في الشخصِ المعيَّنِ خروجَ الخارجِ، وعرفَ ذلك من نَفْسِهِ، فلا ينبغي أنْ يقالَ بهذا فيه؛ لأنَّ العملَ بالغَلَبة راجحٌ، والظنَّ المستفادَ منها أقوى من مقابِلِهِ.
والمعنى الثاني في تعليلِ هذا الحكم: أنَّ الماءَ الباردَ ينقبِضُ له العضوُ، وينكمشُ، بخلاف الحارِّ، فإنَّه يُرخيه، فإذا نَضَحَ بعد الوضوء بالماء البارد، كان أقربَ إلى عدم خروجِ الخارج لتقبُّضِ العُضْوِ.
قد ورد في بعض الأحاديث من طريق ابن لَهِيْعَةَ عند ابن ماجه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «علَّمَنِي جبريلُ الوُضوءَ، وأمرني أن أنضحَ تَحْتَ ثوبي لِمَا يَخْرُجُ من البولِ بعد الوُضوء»، وهذا ظاهر في تعليل النَّضْحِ لعدمِ الخروجِ.
فإذا ترجَّح هذا المعنى في التعليلِ، جُعِلَ أصلًا في مداواة الْمَرَضِ، ودَفْعِ ما عساه يُخْشَى من تجدُّدِه.
فإن ترجَّح المعنى الأولُ، ففيه دليلٌ على الرغبة عن الوسواسِ.
ودليلٌ أيضًا على البناء على الأصلِ، إذا لم يتحقَّق مخالفُه، وأنه لا يُشْتَرَطُ القطع بزوال المخالِفِ، -والله أعلم-. شرح الإلمام بأحاديث الأحكام (5/ 193-194).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
يُستحب إذا توضأ أن ينضح فرجه بالماء؛ ليقطع عنه الوسواس بخروج البول، نصَّ عليه؛ لما روى سفيان بن الحكم أو الحكم بن سفيان، قال: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- توضأ، ثم نضح فرجه، رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والنسائي.
وعن زيد بن حارثة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أتاه جبريل -عليه السلام- في أول ما أوحي إليه فعلمه الوضوء والصلاة، فلما فرغ من الوضوء أخذ غرفة من ماء، فنضح بها فرجه. رواه أحمد والدارقطني وابن ماجه، ولفظه: علمني جبريل الوضوء، وأمرني أن أنضح تحت ثوبي؛ لما يخرج من البول بعد الوضوء، وهذا في المستنجي بالماء، فأما المستجمر فتنجسه إن قلنا: إن المحل نجس، وإن قلنا: هو طاهر، فهو مكروه، نص عليه. شرح العمدة في الفقه (1/164- 165).