«من أشراط الساعة: الفُحْش والتَّفحُّش، وقطيعة الأرحام، وتخوين الأمين، وائْتِمان الخائن».
رواه البزار في مسنده برقم: (7518)، والطبراني في الأوسط برقم: (1356)، من حديث أنس -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (5894)، سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (2238).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«أشراط الساعة»:
علاماتها، وقيل: منه سُمي الشُّرَط؛ لأنهم جعلوا لأنفسهم علامة يُعرَفون بها. تفسير غريب ما في الصحيحين، للحميدي (ص: 112).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
الأشراطُ: العَلَاماتُ، واحدُها: شَرَط بالتحريك، وبه سُمِّيت شُرَط السلطان؛ لأنهم جَعَلوا لأنُفسهم عَلَامات يُعرَفون بها، هكذا قال أبو عبيد.
وحكى الخطّابي عن بعض أهل اللغة: أنه أنكر هذا التفسير، وقال: أشراط الساعة: ما يُنكِرُه الناسُ من صِغار أمُورها قبل أن تقُوم الساعة، وشُرَط السلطان: نُخْبة أصحابه الذين يُقدِّمهم على غَيرهم من جُنْده.
وقال ابن الأعرابي: هم الشُّرَط: والنِّسبةُ إليهم شُرَطِيٌّ، والشُّرْطة: والنسبة إليهم شُرْطِيٌّ. النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 460).
«الفُحْش»:
ما عَظُمَ قُبحه من الأفعال والأقوال. المفردات، للراغب (ص: 626).
«التَّفحُّش»:
تكلُّف القُبح وتعمُّده في القول والفعل. تفسير غريب ما في الصحيحين (ص: 206).
«الأرحام»:
القرابات، واحِدَتُها رَحِم، والرَّحِم في غير هذا ما يشتمل على ماء الرجل من المرأة، ويكون فيه الحمل. غريب القرآن، للسجستاني (ص: 53).
شرح الحديث
قوله: «من أشراط الساعة: الفُحْش والتَّفحُّش»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«من أشراط الساعة»، أي: علاماتها. مصابيح التنوير (1/ 135).
وقال المناوي -رحمه الله- أيضًا:
«من أشراط الساعة: الفُحش والتَّفحُّش»، أي: ظهورهما، وغلبتهما في الناس. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 380).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«الفُحْش»:
التّعدِّي في القول والجواب، (والتَّفَحُّش): تكلُّف الفُحْش، والمراد: ظهورهما، وغلبتهما. التنوير شرح الجامع الصغير (9/ 580).
وقال النووي -رحمه الله-:
أما الفُحْش فهو: القبيح من القول والفعل، وقيل: الفُحْش مجاوزة الحد. شرح النووي على مسلم (14/ 147).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
الفُحْش من القول ما يَقْبُح، ومن الذنوب كذلك، وقيل: الفُحْش: الزيادة على ما عُهِدَ من مقدار الشيء، والعدوان فيه. إكمال المعلم (7/ 52).
وقال الدهلوي -رحمه الله-:
قوله: «الفُحْش والتَّفحُّش»، الفُحْش: هو ما اشتدَّ وظهر قُبحُه من الذنوب، والفُحْش في الكلام: الغِلَظ فيه، والتَّفحُّش: التعمُّد والتكلُّف فيه. لمعات التنقيح في شرح مشكاة المصابيح (8/ 16).
وقال الشيخ أحمد حطيبة -حفظه الله-:
أظن هذا قد حصل، ففي أي مكان تسير تتأذَّى أذنك بما تسمع، فذا يشتُم ذا، وذا يسب ذا، حتى النساء والأطفال تسمع منهم من الكلام ما يؤذيك، و(الفُحْش) يكون ببذاءة اللسان، (والتَّفَحُّش) هو تكلُّف ذلك، والفُحْش يدخل فيه الجرائم التي تتعلَّق بالأخلاق والأعراض، كجرائم الزنا، وما أكثرها! في كل مكان تحت مسمَّيات الزواج العُرْفِيْ، والصداقات التي بين الرجال وبين النساء، والدعوة إلى مثل ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله. التفسير (503/ 11).
قوله: «وقطيعة الأرحام»:
قال ابن الأثير -رحمه الله-:
«قطيعة الرّحم» ضد وصْلِها، وصِلَة الرّحِم معروفة، وهي الإحسان إلى الأهل والأقارب، والرفق والبر بهم. الشافي في شرح مسند الشافعي (2/ 141).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«قطيعة الرحم» عدم صِلتها. التنوير شرح الجامع الصغير (9/ 580).
وقال الصنعاني أيضًا:
«قطيعة الرحم» بالإساءة والهجر. التنوير شرح الجامع الصغير (9/ 241).
وقال أبو عبدالله القرطبي -رحمه الله-:
اتَّفقتْ الملة على أنَّ صِلَة الرحم واجبة، وأنَّ قطيعتها محرمة. الجامع لأحكام القرآن (5/ 6).
وقال أبو العباس القُرطبي -رحمه الله-:
ويدخل في قطيعة الرحم: جميع حقوق المسلمين ومظالمهم، وقد بيَّنَّا أنَّ الرحم ضربان: رحم الإسلام، ورحم القرابة. المفهم (7/ 63).
وقال الألوسي -رحمه الله-:
ولا ينبغي التوقف في كون القطع كبيرة، والعَجَب من الرافعي -عليه الرحمة- كيف توقَّف في قول صاحب الشامل: إنه من الكبائر، وكذا تقرير النووي -قدس سره- له على توقُّفِه.
واختُلف في المراد بالقطيعة، فقال أبو زرعة: ينبغي أن تختصَّ بالإساءة، وقال غيره: هي ترك الإحسان ولو بدون إساءة؛ لأن الأحاديث آمرة بالصِّلَة، ناهية عن القطيعة، ولا واسطة بينهما، والصِّلَة إيصال نوع من أنواع الإحسان كما فسَّرها بذلك غير واحدٍ، فالقطيعة ضدها، فهي ترك الإحسان.
ونظَّر فيه الهيثمي بناء على تفسير العقوق: بأنْ يفعل مع أحد أبويه ما لو فعله مع أجنبي كان محرمًا صغيرة، فينتقل بالنسبة إلى أحدهما كبيرة، وإن الأبوين أعظم من بقية الأقارب. روح المعاني (13/ 226).
وقال أبو عبدالله القرطبي -رحمه الله-:
فالرّحم على وجهين: عامة وخاصة، فالعامة رحم الدِّين، ويجب مواصلتها بملازمة الإيمان والمحبة لأهله ونصرتهم، والنصيحة، وترك مضارتهم، والعدل بينهم، والنَّصَفَة في معاملتهم، والقيام بحقوقهم الواجبة، كتمريض المرضى، وحقوق الموتى: من غسلهم، والصلاة عليهم، ودفنهم، وغير ذلك من الحقوق المترتبة لهم.
وأما الرحم الخاصة: وهي رحم القرابة من طَرَفَيِ الرجل أبيه وأمه، فتجب لهم الحقوق الخاصة وزيادة، كالنفقة، وتفقُّد أحوالهم، وترك التغافل عن تعاهدهم في أوقات ضروراتهم، وتتأكَّد في حقهم حقوق الرحم العامة، حتى إذا تزاحمت الحقوق بُدئ بالأقرب فالأقرب.
وقال بعض أهل العلم: إنَّ الرحم التي تجب صلتها هي كُل رحم محرم، وعليه: فلا تجب في بني الأعمام وبني الأخوال.
وقيل: بل هذا في كل رحم ممن ينطلق عليه ذلك من ذوي الأرحام في المواريث، مُحَرَّمًا كان أو غير مُحَرَّم، فيخرج من هذا أن رحم الأم التي لا يتوارث بها لا تجب صلتهم، ولا يحرم قطعهم.
وهذا ليس بصحيح، والصواب: أنَّ كل ما يشمله ويعمه الرحم تجب صلته على كل حال، قربة ودينية، على ما ذكرناه أولًا، -والله أعلم-. الجامع لأحكام القرآن (16/247- 248).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
لا يلزم من نفي الوصل ثبوت القطع، فهم ثلاث درجات: مواصل، ومُكافئ وقاطع، فالواصل: مَن يتفضّل ولا يُتَفَضَّلُ عليه، والمكافئ: الذي لا يزيد في الإعطاء على ما يأخذ، والقاطع: الذي يُتَفَضَّلُ عليه ولا يَتَفَضَّلُ، وكما تقع المكافأة بالصلة من الجانبين، كذلك تقع بالمقاطعة من الجانبين، فمن بدأ حينئذٍ فهو الواصل، فإن جُوْزِيَ سمي من جازاه مكافِئًا، -والله أعلم-. فتح الباري (10/ 424).
قوله: «وتخوين الأمين، وائْتِمَان الخائِن»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
«وتخوين الأمين، وائْتِمَان الخائن»، أي: انقلاب الأمور عن وجهها. التنوير شرح الجامع الصغير (9/ 580).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«يُؤتمن الخائنُ»، أي: يوصف فيها الخائن بالأمانة؛ لكونه ذا غنىً ومال وجاهٍ، و«يُخوَّن»، أي: يوصف بالخيانة، «الأمينُ» لكونه فقيرًا أو وضيعًا. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (24/ 240).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
وهذا كله من انقلاب الحقائق في آخر الزمان، وانعكاس الأمور. جامع العلوم والحكم (1/ 140).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
وقد جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «لا تقوم الساعة حتى يُؤْتَمَن الخائن، ويُسْتَخْوَنُ الأمين»، وهذا إنما يكون إذا غلب الجهل، وضعُف أهل الحق عن القيام به، ونصرته. شرح صحيح البخاري (1/ 128).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
وفيه: أنَّ الساعة لا تقوم حتى يُؤتمن الخائن، وهذا إنما يكون إذا غلب الجهّال، وضعُف أهل الحق عن القيام به، ونصرته. إرشاد الساري (1/ 155).
وقال الشيخ أحمد حطيبة -حفظه الله-:
«وتخوين الأمين» أي: أنَّ الإنسان الأمين تُلفَّق له التُّهَم أنه خائن ومُخْتَلِس ومُرْتَشٍ وكذا؛ لأنه يقول كلمة الحق، فيُخَوَّن الأمين، حتى ينزل من المكان الذي هو فيه؛ لكونه أمينًا.
«ويُؤْتَمَن الخائن»، أي: أنَّ الإنسان الخائن يُعطى المناصب الكبيرة، ويُعطى الودائع والأمانات، ويقال عنه: هذا أمين، وهم يعرفون أنه خائن. التفسير (503/ 11).
وقال الدكتور عمر سليمان الأشقر -رحمه الله-:
أخبرنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنَّ المقاييس التي يُقوَّم بها الرجال تختل قبل قيام الساعة، فيُقبل قول الكذبة ويُصَدَّق، ويُرَدُّ على الصادق خبره، يؤتمن الخونة على الأموال والأعراض، ويُخوَّن الأُمَناء ويُتَّهَمون، ويتكلَّم التافهون من الرجال بالقضايا التي تهم عامة الناس، فلا يقدمون إلا الآراء الفجَّة، ولا يهدون إلا الأمور المعْوَجَّة.
فقد أخرج الأمام أحمد وابن ماجه والحاكم عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله علية وسلم-: «سيأتي على الناس سنوات خدَّاعات، يُصَدَّق فيها الكذاب، ويُكَذَّب فيها الصادق، ويُؤْتَمَن فيها الخائن، ويُخَوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرُّوَيْبِضَة»، قيل: وما الرُّوَيْبِضَة؟ قال: «الرجل التَّافه، يتكلم في أمر العامة».
ومن تأمل في أحوال عالمنا اليوم وجد أننا نعيش في هذا العصر الذي أخبرنا فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- عنه، فالكذَبَة من الكفار والمشركين الذين يملكون وكالات الأنباء والإذاعات، ومن على طريقهم يُصدِّقون، وأهل الصدق والعدل يُكذَّبون.
والأمة الإسلامية تضع أموالها في أيدي الكفرة الخونة، ويُؤتَمنُون على ذلك، ويُخوَّن المسلمون، ولا يؤتمنون على شيء من ذلك، وقد تكلَّم في شؤون العامة التافهون من الرجال، وقادوه قيادة هوجاء تُوشك أن تدمر البشرية جمعاء. القيامة الصغرى (ص:193).