عاد النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- مريضًا من وَعَكٍ كان به، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أَبْشِر؛ فإنَّ الله يقول: هي نَارِي أُسَلِّطُهَا على عبدي المؤمن في الدّنيا؛ لتكونَ حَظَّه من النار في الآخرة».
رواه أحمد برقم: (9676) واللفظ له، والترمذي برقم: (2088)، وابن ماجه برقم: (3470)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (557)، مشكاة المصابيح برقم: (1584).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«وَعَكَ»:
قال ابن قرقول -رحمه الله-:
بفتح العين وسكونها، قال أبو حاتم: الوَعَك: الحُمّى. قال غيره: هو ألَمُ التعب. قال يعقوب: وعْكَةُ الشيء: دفْعَتُه وشدَّتُه.مطالع الأنوار على صحاح الآثار
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
«الوَعْكُ» الحُمَّى، وقيل: أَلَـمُها، وقد وَعَكَه المرض وَعْكًا، وَوُعِكَ فهو مُوْعُوكٌ. النهاية في غريب الحديث (5/207).
«أُسَلِّطُهَا»:
أي: أُسَلِّط حرارة الحُمّى في الدّنيا. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (20/275).
«حَظَّه»:
أي: نصيبَه بدلًا (من النار). مرقاة المفاتيح (3/ 1151).
شرح الحديث
قوله: «عادَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- مريضًا من وَعَكٍ كان به»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
قوله: «عاد مريضًا» من مرضى المسلمين، أي: زاره ومعه أبو هريرة، أي: عاده، «من وعَكٍ» حُمّى «كان به» أي: بذلك المريض، ولم أرَ من ذكر اسم ذلك المريض. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (20/275).
وقال عبد الحق الدِّهْلوي -رحمه الله-:
قوله: «عاد مريضًا» أي: مَحْمُومًا. لمعات التنقيح في شرح مشكاة المصابيح (4/58).
قوله: «أَبْشِر؛ فإنَّ الله يقول: هي نَاري أُسَلِّطُهَا على عبدي المؤمن في الدنيا»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«أبشر» أيها المريض بسعة رحمة الله وفضله؛ «فإن الله» -عزّ وجلّ- «يقول: هي» أي: شِدّة حرارة الحُمّى «ناري» أي: قطعة من حرارة ناري الأخروية، يعني: جهنم «أُسَلِّطُها» أي: أُسَلِّط حرارة الحُمَّى في الدنيا وأُنْزِلُها «على عبدي المؤمن»، وآخذه بها في الدنيا. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (20/275).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «هي ناري»: في إضافة «ناري» إشارة إلى أنَّها لُطفٌ ورحمةٌ من الله -سبحانه-، يختص بها من يشاء من عباده؛ ولذلك صرح بقوله: «عبدي»، ووَصَفه بالمؤمن.
وقوله: «أُسَلِّطُهَا» خبر بعد خبر، أو استئنافُ بَيَانٍ لمعنى الإضافة، كأنه قِيْلَ: هذه العناية في حق من؟ قيل: أُسَلِّطُها على عبدي المؤمن. شرح المشكاة (4/1357).
وقال الملَّا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «هي ناري» أي: الحُمّى، كما يُفِيْدُه السِّياق «ناري أُسَلِّطُها على عبدي المؤمن» مرقاة المفاتيح (3/1151).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
قوله: «ناري» أي: نار لُطْفي ورحمتي؛ لكونها تُذهب الذنوب، وتَقي من نار الغضب الأخروية التي لا تُطاق؛ ولكوني إنما «أُسَلِّطُها على عبدي» الكامل الإيمان والتصديق، المستلزم لرضاه بها، أو صبره عليها. فتح الإله في شرح المشكاة (5/476).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
واختُلف في نسبتها إلى جهنم، فقيل: حَقِيْقَة، واللَّهب الحاصل في جسم الـمَحْمُوم قِطْعَة من جهنم، وقدَّر الله ظهورها بأسباب تَقْتَضِيْهَا؛ لِيَعْتَبر العِبَادُ بذلك، كما أنَّ أنواع الفرح واللَّذة من نَعِيْم الجنَّة أظْهَرَهَا في هذه الدار عَبْرَة ودِلَالة.
وقد جاء في حديث أخرجه البزار من حديث عائشة -رضي الله عنها- بسند حسن، وفي الباب عن أبي أمامة -رضي الله عنه- عند أحمد، وعن أبي ريحانة -رضي الله عنه- عند الطبراني، وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- في مسند الشهاب: «الحُمَّى حَظُّ المؤمن من النار».
وهذا كما تقدم في حديث الأمر بالإبراد: أن شِدَّة الحَرِّ من فَيْح جهنم، وأنَّ الله أَذِنَ لها بنَفَسَين.
وقيل: بل الخبر ورد مَوْرِدَ التشبيه، والمعنى: أن حرَّ الحُمّى شَبِيهٌ بحرِّ جهنم؛ تنبيهًا للنفوس على شدة حرِّ النار، وأنَّ هذه الحرارة الشديدة شبيهةٌ بِفَيْحِها، وهو ما يُصيب من قَرُبَ منها من حَرِّها، كما قيل بذلك في حديث الإبراد، والأول أَولى، والله أعلم. فتح الباري (10/175).
قوله: «لتكون حَظَّه من النار في الآخرة»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«لتكون» حرارتها «حَظَّه» أي: نصيبَه؛ أي: بدلًا عن نصيبه «مِن» حرارة «النار في الآخرة» فلا أُعذِّبه ثانيًا بحرارة النار الأخروية بعدما أَخَذْتُه وابتَلَيْتُه بحرارة الحُمَّى في الدنيا، فالله أكْرَمُ من أن يعاقبَه مرتين. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (20/275).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «لتكون حظَّه من النار» أي: نصيبَه، وهو يحتمل وجهين:
أحدهما: أنها نصيبه من الحتْمِ المقضي في قوله تعالي: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} مريم: 71.
أو نصيبه مما اقترف من الذنوب، وهو الظاهر. شرح المشكاة (4/1357).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
ويحتمل: أنها نصيبه من الحتْمِ المقضي عليه في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُم إِلَّا وَارِدُهَا} مريم: 71، قال الطيبي: والأول هو الظاهر، وعندي أن الثاني هو الظاهر، ويؤيده ما أخرجه ابن أبي الدنيا، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم في التفسير، والبيهقي في الشُّعَب، عن مجاهد في قوله تعالى: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} مريم: 71، قال: «الحُمَّى في الدنيا حَظُّ المؤمن من الورود في الآخرة».
وجاء عن الحسن مرفوعًا: «إن لكل آدمي حَظًّا من النار، وحظُّ المؤمن منها الحُمَّى تُحْرِقُ جلده، ولا تُحْرِق جَوفَه، وهي حظُّه منها» اهـ.
نعم ينبغي أن يُقيَّد المؤمنُ بالكامل؛ لئلا يُشْكل بأن بعض العُصاة من المؤمنين يُعذبون بالنار. مرقاة المفاتيح (3/1151).
وقال عبد الحق الدِّهْلوي -رحمه الله-:
وقوله: «لتكون حَظَّه من النار» أي: نصيبَه منها، أي تكون عوضًا منها. لمعات التنقيح في شرح مشكاة المصابيح (4/58).
وقال عبيد الله الرحماني المباركفوري -رحمه الله-:
وقيل: المعنى: أنَّ الحُمَّى تُسَهِّل عليه الورود حتى لا يَشْعُر به، ولا يحس يوم القيامة. مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (5/276).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
قال مجاهد: «الحُمَّى حظُّ كل مؤمن من النار» ثم قرأ: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيا} مريم: 71، وهذا لم يرد به مجاهد تفسير الورود الذي في القرآن؛ فإنَّ السياق يأبى حمله على الحُمَّى قطعًا، وإنما مراده: أنَّ الله -سبحانه- وعد عباده كلهم بورود النار، فالحُمَّى للمؤمن تُكفِّر خطاياه، فيَسْهُل عليه الورود يوم القيامة، فينجو منها سريعًا، والله أعلم. عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين (ص: 89).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
وأما ما يجدونه من آثار النار فما يجدونه من الحُمَّى، فإنها من فَيْحِ جهنم، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَاطْفِئُوهَا بِالمَاءِ»، وهي نوعان: حارة وباردة.
فالحارة من آثار (سَمُوم) جهنم، والباردة من آثار (زَمْهَرير) جهنم...
فَإِذَا كانت الحُمَّى من النار ففي هذه الأحاديث السابقة: أنها حظُّ المؤمن من نار جهنم يوم القيامة.
والمعنى -والله أعلم-: أنَّ حرارة الحُمّى في الدُّنْيَا تُكفِّر ذنوب المؤمن، ويَطْهُر بها، حتى يلقى الله بغير ذنب، فيلقاه طاهرًا مُطهَّرًا من الخُبث، فيَصْلُح لمجاورته في دار كرامته، دار السلام، ولا يحتاج إِلَى تطهير في كِيْرِ جهنم غدًا؛ حيث لم يكن فيه خُبْثٌ يحتاج إِلَى تطهير، وهذا في حق المؤمن الَّذِي حقق الإيمان، ولم يكن له ذنوب إلا ما تُكفِّره الحُمَّى وتطهِّره.
وقد تواترت النصوص عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بتكفير الذنوب بالأسقام والأَوْصَابِ، وهي كثيرة جدًّا يطول ذكرها. مجموع الرسائل (2/ 373-335).