الجمعة 28 رمضان 1446 هـ | 28-03-2025 م

A a

«اتْرُكُوني ما تَرَكْتُكم، فإذا حدَّثْتُكم فخذوا عنِّي؛ فإنما هَلَك من كان قبلكم بكثرةِ سؤالهِم، واختلافِهم على أنبيائهم».


رواه الترمذي برقم: (2679) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم: (850)، صحيح سنن الترمذي، برقم: (2679).


شرح مختصر الحديث


.


شرح الحديث


قوله: «اتْرُكُوني ما تَرَكْتُكم»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
«اتْرُكُوني» المراد بهذا الأمر ترك السؤال عن شيء لم يقع؛ خشية أن ينزل به وجوبُه، أو تحريمُه، وعن كثرة السؤال لما فيه غالبًا من التَّعَنُّت، وخشية أن تقع الإجابة بأمر يُستثقل، فقد يؤدي لترك الامتثال فتقع المخالفة. فتح الباري (13/ 260).
وقال ابن حجر -رحمه الله- أيضًا:
قوله: «ما تَركْتُكُم» أي: مدَّةَ تَرْكِي إياكم بغير أمر بشيء، ولا نهي عن شيء. فتح الباري (13/ 260).
وقال محمد عبد الرحمن المباركفوري -رحمه الله-:
أي: مدَّةَ تَرْكِي إياكم من التكليف. تحفة الأحوذي (7/372).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
و(ما) في «ما تَركْتُكُم» مصدرة ظرفية زمانية، أي: مدَّةَ تَرْكِي إياكم بغير أمر بشيء، ولا نهي عن شيء. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (9/ 221).

قوله: «فإذا حدَّثْتُكم فخذوا عنِّي»:
قال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
أمْرُ جَزْمٍ بوجوب الأخذ عنه في كل أحواله. المفهم (19/ 85).

قوله: «فإنما هَلَكَ مَن كان قبلكم بكثرة سؤالهم»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
قوله: «فَإِنَّما هَلَكَ» بفتح اللام ثلاثيًّا، وقوله: «مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ» فاعِلُه. مشارق الأنوار الوهاجة ومطالع الأسرار البهاجة في شرح سنن الإمام ابن ماجه (1/ 63).
وقال محمد عبد الرحمن المباركفوري -رحمه الله-:
«مَن كان قبلَكم» أي: من اليهود والنصارى. تحفة الأحوذي (7/372).
وقال النووي -رحمه الله-:
المراد بهلاك مَن قبْلَنا هنا: هلاكُهُم في الدِّين، بكفرهم، وابتداعهم، فحذَّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مِن مِثْل فعلهم. شرح النووي على مسلم (16/ 218).
وقال الشيخ موسى شاهين-رحمه الله-:
فإنما أهْلَكَ الذين مِن قبلِكم كثرةُ مَسائلِهم»، يريد بالذين مِن قبلهم: بني إسرائيل، ويريد أنَّ كثرة التنقيب قد تُفضي إلى المشقة، فقد أُمِروا أن يذبحوا بقرة، فلو ذبحوا أيَّ بقرة كانت لامتثلوا، ولكنهم شددوا فَشُدِّد عليهم. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (9/ 221).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
يدل على كراهة المسائل وذمِّها، ولكن بعض الناس يزعم أن ذلك كان مختصًا بزمن النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لما يُخشى حينئذٍ من تحريم ما لم يُحرَّم، أو إيجاب ما يَشق القيام به، وهذا قد أُمِنَ بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم-ولكن ليس هذا وحْدَه هو سبب كراهة المسائل، بل له سبب آخر، وهو الذي أشار إليه ابن عباس في كلامه الذي ذكرنا بقوله: «ولكن انتظروا، فإذا نزل القرآن؛ فإنكم لا تسألون عن شيء إلا وجدتم تبيانه».
ومعنى هذا: أن جميع ما يَحتاج إليه المسلمون في دينهم لا بد أن يُبيِّنَه الله في كتابه العزيز، ويُبلِّغ ذلك رسوله عنه، فلا حاجة بعد هذا لأحد في السؤال، فإن الله تعالى أعلم بمصالح عباده منهم، فما كان فيه هدايتهم ونفعهم فإن الله تعالى لا بد أن يُبيِّنَه لهم ابتداء من غير سؤال. جامع العلوم والحكم (1/ 243)
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
«فإنما هَلَكَ مَن كان قبلكم بكثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم»: فإن الاختلاف يَجرُّ إلى عدم الانقياد، وهذا كله من حيث تقسيم المشتغلين بالعلم.
وأما العمل بما ورد في الكتاب والسنة، والتشاغل به، فقد وقع الكلام في أيهما أولى، والإنصاف أن يقال: كل ما زاد على ما هو في حق المكلَّف فرض عين، فالناس فيه على قسمين: مَن وجد في نفسه قوة على الفهم، والتحرير، فتَشَاغُله بذلك أولى من إعراضه عنه، وتَشَاغُله بالعبادة؛ لما فيه من النَّفع المتعدي.
ومن وجد في نفسه قصورًا، فإقبالُه على العبادة أَولى؛ لعُسْر اجتماع الأمرين، فإنَّ الأول لو تَرك العلم لأوشك أن يضيع بعض الأحكام بإعراضه.
والثاني لو أقبلَ على العلم وتَرَك العبادة فاته الأمران؛ لعدم حصول الأول له، وإعراضه به عن الثاني. فتح الباري (13/267-267).
وقال محمد عبد الرحمن المباركفوري -رحمه الله-:
كسؤال الرؤية، والكلام، وقضية البقرة. تحفة الأحوذي (7/372).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «بكثرة سؤالهم» وإنما كثرةُ سؤالهم الأنبياء كان سبب الهلاك؛ لأن الأنبياءَ مبعوثون من الله تعالى على الحق، ولا يَبعثُ الله أحدًا بالرسالة إلى الخلق إلا إذا كان أمينًا بمراعاة مصالح أُمَّتِه، وتعليمهم ما هم محتاجون إليه، ونهيهم عما يضرهم في الدنيا والآخرة، فإذا كان النبيُّ بهذه الصفة فلا تحتاج الأُمَّة أن يُكثروا السؤال بين يديه، فإن كثرةَ السؤال من النبيِّ علامةُ سوء ظنِّ الرَّجُل في كون النبي -عليه السلام- تاركًا لتعليم ما به نجاته، ونهيه عما يضره، فلا شكَّ أن سوء الظن بالنبي -عليه السلام- مُهْلِكَ الرَّجُل، بل من شأن الأمَّة التسليم بين يدي النبي، وتقبُّل ما يأمرها النبي عن اعتقاد عظيم فيه، وتسكُتُ إذا سكَتَ النبي -عليه السلام-؛ ولْيُعتَقَدُ سكوتُه وتَكَلُّمُه عينُ المصلحة. المفاتيح في شرح المصابيح (1/256).
وقال ابن المَلَك -رحمه الله-:
وقوله: «بكثرة سؤالهم»: فيه إشارة إلى أن بعض السؤال لا يضر إذا كان بقدر الحاجة. شرح مصابيح السّنة (1/160).
وقال ابن علَّان -رحمه الله-:
قوله: «بكثرة سؤالهم» أي: من غير حاجة، بل لقصد التعنُّت المؤدي للإيذاء، أو التكذيب. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (7/74).
وقال الزرقاني -رحمه الله-:
قال المازري: أما إذا كانت المسائل مضطرًا إليها، فلا بأس بالسؤال عنها، وقد كان يُسأل عن الأحكام فلا يَكْره. شرح الزرقاني على الموطأ (3/ 283-284).
وقال الراغب الأصفهاني -رحمه الله-:
الأشياء في البحث عنها وسؤالها ثلاثة أضرب:
ضربٌ يجب السؤال عنه: وهو ما كُلِّف به الإنسان وفيه أمر، وإياه تَوَجَّهَ أن أُفتي لجريح بالاغتَسال فقال: «قتلتموه، هلّا سألتم؟ فإنما شفاء العِيِّ السؤال».
وضربٌ يُكره، أو يحظر السؤال عنه، وإياه تَوَجَّهَ قوله -عليه الصلاة والسلام-: «اتركوني ما تَركْتُكُم، إنما هَلَكَ مَن كان قبلكم بكثرة سؤالهم الأنبياء».
وضربٌ يجوز السؤال عنه، والسكوت عنه، وهو ما يُحب أن يُحمدوا، لا يؤخذ به الإنسان إن بحث عنه واستكشف. تفسير الراغب (5/464- 466).
وقال المناوي -رحمه الله-:
والحاصل: أنَّ من الناس من فرَّط، فَسَدَّ باب المسائل، حتى قلَّ فَهمُه وعلمه، ومنهم من أفرط فتوسَّع حتى أكثر الخصومة والجدل بقصد المغالبة، وصَرْفِ وجوه الناس إليه، حتى تفرقت القلوب، وانشحنت بالبغضاء، ومنهم من اقتصد، فبحث عن معاني الكتاب والسنة، والحلال والحرام والرقائق، ونحوها مما فيه صفاء القلوب، والإخلاص لعلام الغيوب، وهذا القسم محبوب مطلوب، والأولان مذمومان؛ وبذلك عُرف أن ما فعله العلماء من التأصيل والتفريع والتمهيد والتقرير في التأليفات مطلوب مندوب، بل ربما كان واجبًا، شَكَرَ الله سعيهم. فيض القدير (3/ 562).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
وكان بنو إسرائيل يَسألون فيُجابُون عما يَسألون، ويُعطَون ما طَلبوا، حتى كان ذلك لهم فِتنة، وأدَّى ذلك بهم إلى هلاكهم، فاجْتَنَبت الصحابةُ ما فعلته بنو إسرائيل. حتى بالغ بعض العلماء فقال: لا يجوز السؤال في النوازل للعلماء حتى تقع.
وكان السلف يقولون في مثلها: دعوها حتى تنزل، وإنه لمكروه، وإن لم يكن حرامًا، إلا أن العلماء أصَّلوا، وفرَّعوا، ومهَّدوا، وسطَّروا؛ لما خافوا ذهاب العلماء، ودُرُوسَ العلم. المعين على تفهم الأربعين (ص: 362).

قوله: «واختلافِهِم على أنبيائهم»:
قال محمد عبد الرحمن المباركفوري -رحمه الله-:
«واختلافِهِم» عطفٌ على الكثرة لا على السؤال؛ لأن نفْسَ الاختلاف مُوجِب للهلاك من غير الكثرة.
«على أنبيائهم» يعني: إذا أَمَرَهم الأنبياء بعد السؤال أو قبله، واختلفوا عليهم، فهلكوا، واستحقوا الإهلاك، وفي رواية مسلم: «فإذا أمرتُكم بشيء فأْتُوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتُكم عن شيء فدَعُوهُ». تحفة الأحوذي (7/372).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
قوله: «واختلافِهم على أنبيائهم» فيَتَقوَّلون عليهم ما لم يقولوه، ويُحرِّفون ما قالوه؛ إيثارًا لما ينالهم من ضُعَفَائِهم، واتِّبَاعِهِم على رضا الله تعالى، واتِّباعِ أنبيائه ورسله. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (7/74).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «واختلافهم على أنبيائهم» معنى (الاختلاف) هنا: الاعتراض؛ أي: واعتراضُهم على أنبيائهم، والشكُّ في أقوالهم. المفاتيح في شرح المصابيح (1/257).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
قوله: «واختلافهم على أنبيائهم» هو زيادة على ما وقع؛ فإن الذي وقع إنما هو إلحاح في السؤال لا الاختلاف. مرعاة المفاتيح (8/ 298).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
قوله: «واختلافهم على أنبيائهم»؛ فإن كثرة السؤال والاختلاف عليهم كان سببًا لهلاكهم؛ لأنها من أمارات التردد في الباعث والمبعوث. شرح المصابيح (1/ 160).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
سبب هلاك الأولين إنما كان كثرة السؤال، ثم الاختلاف على الرسل بالمعصية، كما أخبرنا الله عن بني إسرائيل من مخالفتهم أمر موسى في الجهاد وغيره، وفي كثرة سؤالهم عن صفات البقرة.
لكن هذا الاختلاف على الأنبياء هو -والله أعلم- مخالفة الأنبياء، كما يقول: اختلف الناس على الأمير، إذا خالفوه.
والاختلاف الأول: مخالفة بعضهم بعضًا، وإن كان الأمران متلازمين، أو أن الاختلاف عليه هو الاختلاف فيما بينهم، فإن اللفظ يحتمله. اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (1/ 157-158).


ابلاغ عن خطا