الجمعة 28 رمضان 1446 هـ | 28-03-2025 م

A a

«أتدرون ما ‌الْغِيبَةُ؟»، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «ذكرُك أخاك بما يكره»، قيل: أفرَأَيْت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بَهَتَّهُ».


رواه مسلم، برقم: (2589) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«‌الْغِيبَةُ»:
أن يُذْكَرَ الإنسان في غيبته بسوء وإن كان فيه، فإذا ذكرته بما ليس فيه فهو البُهْت والبهتان. النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 399).
وقال المناوي -رحمه الله-:
ذِكْر ‌العيب ‌بظهر ‌الغيب بلفظ، أو إشارة، أو محاكاة، أو بالقلب. فيض القدير (3/129).

«بَهَتَّه»:
البُهْتَان هو: الباطل الذي يُتَحَيَّر منه، وهو من البُهْت التَّحَيُّر، والبُهْت: الكذب والافتراء. النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 165).
وقال المازري -رحمه الله-:
يقال: بَهَتَ فلَان فلَانًا إذا كذب عليه فَبَهَتَه، أي: تحيَّر في كذبه، {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} البقرة: 258، أي: قُطِعَتْ حجته فتَحَيّر. والبُهْتان: الباطل الذي يُتَحَيَّر من بطلَانِهِ. المعلم بفوائد مسلم (3/ 294).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
هو عند بعضهم: المواجهة بالقبيح من الكلام. المسالك في شرح موطأ مالك (7/ 578).
وقال الحسن: ‌الْغِيبَةُ ثلاثة أوجه كلها في كتاب الله تعالى: الغيبة، والإفك، والبُهْتَان؛ فأما الغيبة فهو: أن تقول في أخيك ما هو فيه.
وأما الإفك: فأن تقول فيه ما بلغك عنه.
وأما البُهْتَان: فأن تقول فيه ما ليس فيه. الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (16/335).


شرح الحديث


قوله: «أتدرون ما ‌الْغِيبَةُ؟»:
قال القرطبي -رحمه الله-:
كأن هذا السؤال صدر عنه بعد أن جرى ذكر الغيبة، ولا يبعد أن يكون ذلك بعد نزول قوله تعالى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} الحجرات: 12، ففسر النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه الغيبة المنهي عنها. المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (6/ 569-570.
وقال ابن علان -رحمه الله-:
قال: «أتدرون ما الغيبة»، أي: ما حقيقتها الشرعية. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (8/ 350)
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
قوله: «أتدرون ما الغيبة؟»، الاستفهام لجذب الانتباه؛ حتى يستقر الخبر في نفس المخاطب. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (10/ 66).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«أتدرون؟»، أي: أتعلمون، والاستفهام هنا استفهام استعلام، يعني: يسألهم لكن المراد به أن ينتبهوا، وإلا فالرسول -صلى الله عليه وسلم- يعلم أنه لا علم لهم بمثل هذه الأمور الشرعية، أو يعلم أنهم يعلمونها، لكن أراد التقرير. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (6/ 378).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«أتدرون ما ‌الْغِيبَةُ؟» بكسر الغين المعجمة، قيل: أي: أتعلمون ما جواب هذا السؤال؟ مرقاة المفاتيح (7/ 3032).
وقال القرطبي -رحمه الله-:
الغِيبة: ووزنها فِعْلَة، وهي مأخوذة من الغَيْبة -بفتح الغين-: مصدر غاب؛ لأنَّها ذكر الرجل في حال غيبته بما يكرهه لو سمعه. يقال من ذلك المعنى: اغتاب فلان فلانًا، يغتابه اغتيابًا، واسم ذلك المعنى: الغيبة.
ولا شك في أنها محرمة وكبيرة من الكبائر بالكتاب والسنة، فالكتاب: قوله تعالى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} الحجرات: 12.
وأما السنة: فكثيرة، من أنَصِّهَا ما خرَّجه أبو داود عن أبي هريرة -¬رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن من الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم»، وفي كتابه من حديث أنس عنه -صلى الله عليه وسلم-، قال: «مررت ليلة أُسْرِي بي بقوم لهم أظفار من نحاس يَخْمِشُون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم». المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (6/ 569-570.

قوله: «قالوا: الله ورسوله أعلم»:
قال ابن علان -رحمه الله-:
«قالوا: الله ورسوله أعلم»: رَدُّوا العلم إليهما، عملًا بالأدب، ووقوفًا عند حد العلم. دليل الفالحين (8/ 350).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«قالوا: الله ورسوله أعلم»، يعني: ولو علمنا بعض العلم، لكن يُستفاد منك حقيقة العلم بكل شيء فضلًا عن الغيبة، ونحوها. مرقاة المفاتيح (7/ 3032).

قوله: «ذكرك أخاك بما يكره»:
قال العظيم أبادي -رحمه الله-:
«ذكرك»، أي: أيها المخاطب خطابًا عامًّا، «أخاك»، أي: المسلم، «بما يكره»، أي: بما لو سمعه لكرهه. عون المعبود (13/ 151).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
وفي التعبير عنه بالأخ جذب للمغتاب عن غيبته لمن يغتاب؛ لأنه إذا كان أخاه، فالأولى الْحُنُوُّ عليه، وَطَيِّ مساويه، والتَّأَوُّل لمعايبه، لا نشرها بذكرها.
وفي قوله -صلى الله عليه وسلم-: «بما يكره»: ما يشعر به بأنه إذا كان لا يكره ما يعاب به، كأهل الخلاعة، فإنه لا يكون غيبة. سبل السلام (2/ 670).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
قوله: «ذكرك أخاك بما يكره»: شامل لذكره في غيبته وحضرته، وإلى هذا ذهب طائفة، ويكون الحديث بيانًا لمعناها الشرعي، وأما معناها لغة: فاشتقاقها من الغيب يدل على أنها لا تكون إلا في الغيبة، ورجح جماعة أن معناها الشرعي موافق لمعناها اللغوي، ورووا في ذلك حديثًا مسندًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «ما كَرِهْتَ أن تُواجِه به أخاك فهو غيبة»؛ فيكون هذا إن ثبت مُخَصِّصًا لحديث أبي هريرة، وتفاسير العلماء دالَّة على هذا، ففسرها بعضهم بقوله: «ذكر العيب بظهر الغيب»، وآخر بقوله: «هي أن تذكر الإنسان من خلفه بسوء وإن كان فيه»، نعم ذكر العيب في الوجه حرام؛ لما فيه من الأذى، وإن لم يكن غيبة.
وفي قوله: «أخاك»، أي: أخ الدين، دليل على غير المؤمن تجوز غيبته، وتقدم الكلام في ذلك، قال ابن المنذر: في الحديث دليل على أن من ليس بأخ كاليهودي والنصراني وسائر أهل الملل، ومن قد أخرجته بدعته عن الإسلام لا غيبة. سبل السلام (4/ 193).
وقال المغربي -رحمه الله-:
وذكر الأخ يدل على أن من لم يكن أخًا فلا يكون عيبه غيبة، وأما الكافر الحربي فإيذاؤه جائز، إلا أن يكون بانتقاص الخلقة، فالأولى عدم الجواز؛ لأن في ذلك انتقاصًا بفعل خالقها الذي أحسن كل شيء خلقه، وأمَّا الذِّمِّي فحكمه حكم المسلم في تحريم الإيذاء في العرض، وقد روى ابن حبان في صحيحه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من سَمَّع يهوديًّا أو نصرانيًا فله النار»، ومعنى: «سَمَّع»: أسمعه ما يؤذي، وهذا دليل واضح في التحريم للأذى.
قال الغزالي: وأمَّا المبتدع فإن كفر ببدعته فكالحربي، وإلا فكالمسلم، وأما ذكره ببدعته فليس مكروهًا.
وقال ابن المنذر: في الحديث دلالة على أن من ليس بأخ كاليهودي والنصراني وسائر أهل الملل، ومن قد أخرجته بدعته عن الإسلام، لا غيبة له. انتهى.
وأمَّا غيبة مرتكب الكبيرة فقد تقدم الكلام فيه قريبًا، ويجوز أن يقال: إن قوله: «أخاك» ليس للتقييد، وإنما هو لترقيق المخاطب وتعريفه بخطئه، فإن الأخ لا يرضى بنقص أخيه، فيكون النهي عامًّا، ولا يخرج منه إلا لمخصص، كما هو القاعدة المعروفة.
وقوله: «بما يكره»: ظاهره أنه إذا كان المعيب لا يكره ما ذكر فيه من العيب، كما قد يوجد فيمن يتصف بالخلاعة والمجون أنه يجوز، ولا بُعد في جوازه، إلا أن يكون بانتقاص الخلقة، فالظاهر أنه لا يجوز؛ لما عرفت. البدر التمام شرح بلوغ المرام (10/ 297-298).
وقال الزرقاني -رحمه الله-:
قال الأبي: ويمكن الجمع بأن «أخاك» خرج مخرج الغالب، أو يخرج به الكافر؛ لأنه لا غيبة فيه بكفره، بل بغيره، واستثنى مسائل تجوز فيها الغيبة. شرح الزرقاني على الموطأ (4/ 644).
وقال ابن رسلان –رحمه الله-:
«ذكرك أخاك بما يكره»، أي: بكل ما يكرهه لو سمعه، وكما تكون الغيبة باللسان تكون بالقلب، فالذكر باللسان إنما حرم لأن فيه تفهيم الغير وتعريفه بما يكرهه أخوك الغائب، والتعريض في هذا كالتصريح، والفعل فيه كالقول، وكذا الإشارة والإيماء والغمز والرمز والكتابة، وكل ما يفهم المقصود بكل ما يكرهه، فهو داخل في الغيبة.
قالت عائشة: دخلت علينا صفية؛ فلما ولَّت أَوْمَأْت بيدي إلى أنها قصيرة؛ فقال -عليه السلام-: «قد اغتبتها».
وكذلك المحاكاة بأن يمشي متعارجًا كما يمشي، فهو غيبة له، ويدخل في الغيبة كل ما ذكرت به أخاك بما يكرهه لو بلغه، سواء ذكرت نقصًا في بدنه، أو نسبه، أو خلقه، أو فعله، أو قوله، أو دينه، أو دنياه، أو داره، أو دابته، أو خادمه، فذكر البدن كالعَمَش والقِصَر والطول. والنسب: أبوه نَبَطِي، أو فاسق، أو إسكاف. أو الخُلق بأن يقول: سيِّئ الخلق، أو بخيل، أو متكبر. والأفعال المتعلقة بالدين: سارق، كذاب، خائن، متهاون بالصلاة، لا يضع الزكاة قسمتها ولا يحسنها. وأما فعله المتعلق بالدنيا كقولك: قليل الأدب، متهاون بالناس، كثير الأكل، نؤوم. شرح سنن أبي داود (18/ 601-602).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
وذكرك فيه بما يكرهه عام، سواء كان في بدنه، أو دينه، أو دنياه، أو نفسه، أو خلقه، أو ماله، أو ولده، أو والده، أو زوجه، أو غلامه، أو خادمه، أو ثوبه، أو مشيه، وحركته، وبشاشته، وعُبُوْسَتِه، وطلاقته، أو غير ذلك مما يتعلق به، سواء ذكرته بلفظك أو كتابتك، أو رَمَزْتَ، أو أشرت إليه بعينك أو يدك أو رأسك، ونحو ذلك.
وضابطه: أن كل ما أفْهَمْتَ به غيرك نقصانَ مسلم، فهو غيبة محرمة، ومن ذلك المحاكاة بأن تمشي مُتَعَارِجًا أو مُطَأْطِئًا، أو غير ذلك من الهيئات؛ مريدًا حكاية هيئة من تنتقصه بذلك. شرح المشكاة (10/3118).
وقال الغزالي -رحمه الله-:
حد الغيبة: أن تذكر أخاك بما يكرهه لو بلغه، سواء ذكرته بنقص في بدنه، أو نسبه، أو في خلقه، أو في فعله، أو في قوله، أو في دينه، أو في دنياه ... حتى في ثوبه، وداره، ودابته.
وقال قوم: لا غيبة في الدين؛ لأنه ذَمُّ ما ذَمَّه الله تعالى، فَذِكْرُه بالمعاصي وذَمُّه بها يجوز، بدليل ما روي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذُكِرَتْ له امرأة، وكثرة صلاحها وصومها، ولكنها تؤذي جيرانها بلسانها، فقال: «هي في النار». إحياء علوم الدين (3/ 143-144).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
والغيبة المحرمة عند أهل العلم في اغتياب أهل السِّتْر من المؤمنين، ومن لا يُعْلِنُ بالمعاصي، فأما من جاهر بالكبائر فلا غيبة فيه.
وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن زيد بن أسلم قال: إنما الغيبة فيمن لم يُعْلِنْ بالمعاصي.
وسيأتي غيبة أهل المعاصي قريبًا في باب ما يجوز منها.
والغيبة من الذنوب العظام التي تحبط الأعمال.
وفي الحديث: أنها «تأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب».
وقد قيل: إنها تُفَطِّر الصائم بإحباط أجره.
وقد تأوَّل بعض أهل العلم في حديث: «أفطر الحاجم والمحجوم»: أنهما كانا يغتابان، كما سلف.
وكذلك قال النخعي: ما أُبَالِيْ اغتبت رجلًا أو شربت ماء باردًا في رمضان.
وعنه -عليه السلام-: «ما صام من ظَلَّ يأكل لحوم الناس».
ولعِظَمِ وِزْرِ الغيبة، وكثرة ما تُحْبِطُ من الأجر كفَّ جماعة من العلماء عن اغتياب جميع الناس، حتَّى لقد روي عن ابن المبارك أنه قال: لو كنت مغتابًا أحدًا لاغتبت والِدَيّ، فإنهما أحق الناس بحسناتي.
وقال رجل لبعض السلف: إنك قلت فيَّ، قال: أنت إذًا أكرم عليَّ من نفسي.
وقيل للحسن البصري: إن فلانًا اغتابك، فبعث إليه طبقًا من (الطبرزد)؛ فقال: بلغني أنك أهديت إليَّ حسناتك، فأردت أن أُكَافِئَك بها.
والآثار في التشديد فيها كثيرة، وقد جاء حديث شريف في أجر من نصر من اغتيب عنده.
روى عبد الرازق، عن معمر، عن أبان، عن أنس، رفعه: «من اغْتُيْبَ عنده أخوه المسلم فنصره نصره الله في الدنيا والآخرة، وإن لم ينصره أدركه الله به في الدنيا والآخرة».
وروينا في سنن أبي داود من حديث جابر وأبي طلحة مرفوعًا: «ما من امرئ يخذل امرأً مسلمًا في موضع تُنْتَهَك فيه حُرْمَتُه، ويُنْتَقَصُ فيه من عرضه، إلا خذله الله في موضع يُحِبُّ فيه نصرته، وما من امرئ ينصر مسلمًا في موطن يُنْتَقَصُ فيه من عرضه، ويُنْتَهَك فيه من حُرْمَتِه، إلا نصره الله في موطن يُحِبُّ فيه نصرته».
وروينا في جامع الترمذي من حديث أبي الدرداء مرفوعًا: «من ردَّ عن عرض أخيه ردَّ الله عن وجهه النار يوم القيامة»، ثم قال: حديث حسن. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (28/ 380-381).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
الاغتياب محرم، وأصله: ذِكْرُ الإنسان بما يسوؤه في غيبته، والبُهْت في وجهه، وكلاهما مذموم كان بحق أو باطل، إلا أن يكون لوجهٍ شرعي، أن يقول له ذلك في وجهه على طريق الوعظ والنصيحة، ويستحب فيمن كانت منه زَلَّة التعريض دون التصريح؛ لأن التصريح يَهْتِك حجاب الهيبة، وقد كان -عليه الصلاة والسلام- كثيرًا ما يقول: «ما بَالُ أقوام يفعلون كذا»، ولا يواجه به. إكمال المعلم بفوائد مسلم (8/ 60).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
الغيبة من الشخص ليُؤْكَل لحمه؛ وذلك معنى قوله -عز وجل-: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} الحجرات: 12، ومعنى ذلك: أن الغائب قد وضع عرضه عند الحاضر بمنزلة الميتة ليس دونه من يدافع عنه، ولا يناضل دونه، فإذا رضي الإنسان لنفسه أن يغتاب فقد قام مقام أكل الميتة التي ليس فيها حراك تدفع عن نفسها، فمعنى الآية: يا أيها العرب، ويا أهل النخوة، من كان منكم يرضى أن يأكل لحم الميتة، فإن عرض الغائب في معنى الميتة.
ولقد أجاد القائل:
وأُكْبِرُ نفسي عن جزاء بغيبة *** وكل اغتيابٍ جُهْدُ من ما له جُهْدُ
فوضع الغيبة أن يصدق المغتاب فيمن اغتابه.
فأما إذا كذب عليه فذلك البُهْت الذي ذكر في الحديث، فإذا كان الصدق في ذلك هو أكل لحم المسلم ميتة، فما ظنك بالبُهْتَان والكذب في الإثم والشر؟ الإفصاح عن معاني الصحاح (8/ 176-177).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
الذي دلت عليه الدلائل الكثيرة الصحيحة الظاهرة أنها كبيرة، لكنها تختلف ‌عِظَمًا وضده بحسب اختلاف مفسدتها.
وقد جعلها من أُوْتِيَ جوامع الكلم عَدِيْلَةُ غصب المال، وقتل النفس، بقوله -صلى الله عليه وسلم-: «كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه»، والغصب والقتل كبيرتان إجماعًا، فكذا ثَلْمُ العِرض. الزواجر عن اقتراف الكبائر (2/22).
وقال الغزالي -رحمه الله-:
ويكفيك زاجرًا عن الغيبة قوله تعالى: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} الحجرات: 12، فقد شبَّهَك الله بآكِل لحم الميتة؛ فما أجدرك أن تحترز منها؟
ويمنعك عن الغيبة أمر لو تفكرت فيه، وهو أن تنظر في نفسك، هل فيك عيب ظاهر أو باطن؟ وهل أنت مُقَارِف معصية سرًّا أو جهرًا؟ فإذا عرفت ذلك من نفسك، فاعلم أن عجزه عن التنزه عما نسبته إليه كعجزك، وعذره كعذرك.
وكما تكره أن تفتضح وتُذْكَر عيوبك، فهو أيضًا يكرهه؛ فإن سترته ستر الله عليك عيوبك، وإن فضحته سلَّط الله عليك ألسنة حِدَادًا، يُمَزِّقون عرضك في الدينا، ثم يفضحك الله في الآخرة على رؤوس الخلائق يوم القيامة.
وإن نظرت إلى ظاهرك وباطنك، فلم تَطَّلع فيهما على عيب ونقص في دين ولا دنيا، فاعلم أن جهلك بعيوب نفسك أقبح أنواع الحماقة، ولا عيب أعظم من الحمق، ولو أراد الله بك خيرًا لبصَّرك بعيوب نفسك، فرؤيتك نفسك بعين الرضا غاية غباوتك وجهلك، ثم إن كنت صادقًا في ظنك فاشكر الله تعالى عليه، ولا تفسده بِثَلْبِ الناس، والتَّمضمُض بأعراضهم؛ فإن ذلك من أعظم العيوب. بداية الهداية (ص: 54).

قوله: «قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟»:
قال ابن علان -رحمه الله-:
«قيل: أفرأيت»، أي: أخبرني، «إن كان في أخي ما أقول» حذف الجواب، أي: فهو غيبة، كما يومئ إليه تعريفها السابق، فإنه يشمل ما كان فيه وما لا. دليل الفالحين (8/ 350).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«قيل»، أي: قال بعض الصحابة: «أفرأيت»، أي: فأخبرني، «إن كان في أخي»، أي: موجودًا، «ما أقول؟»، أي: من المنقصة، والمعنى: أن يكون حينئذٍ ذكره بها أيضًا غيبة، كما هو المتبادر من عموم ذكره بما يكره. مرقاة المفاتيح (7/ 3032).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«قيل: أفرأيت»، أي: أخبرني يا رسول الله، «إن كان في أخي ما أقول؟»، أي: إن كان أخي موصوفًا بما وصفتُه، هل يكون غيبة؟ شرح المصابيح (5/ 242).

قال: «إن كان فيه ما تقول، فقد اغتبته»:
قال ابن علان -رحمه الله-:
«قال: إن كان فيه ما تقول» الظرف خبر مقدم لـ(كان)، و(ما) اسمها، وعائدها محذوف إن قُدِّرَتْ موصولًا أو موصوفًا، فإن قُدِّرَت مصدرية فالاسم، المصدر الْمُنْسَبِك منها مع صلتها «فقد اغتبته»؛ لصدق الحد السابق لها على ذلك. دليل الفالحين (8/ 350).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«قال: إن كان فيه ما تقول»، أي: من العيب، «فقد اغتبته»، أي: لا معنى للغيبة إلا هذا، وهو أن تكون المنقصة فيه. مرقاة المفاتيح (7/ 3032).

قوله: «وإن لم يكن فيه فقد بَهَتَّه»:
قال القرطبي -رحمه الله-:
«بَهَتَّه»: هو بتخفيف الهاء، وتشديد التاء؛ لإدغام تاء المخاطب في التاء التي هي لام الفعل، وكذلك رويته، ويجوز أن تكون مخففة على إسقاط تاء الخطاب، يقال: ‌بَهَتَهُ ‌بَهْتًا ‌وبَهَتًا ‌وبُهْتَانًا، أي: قال عليه ما لم يقل، وهو بَهَّات، والْمقول مَبْهُوت، ويقال: بُهِت الرجل -بالكسر- إذا دُهِشَ وتَحَيَّر، وبَهُت -بالضم- مثله، وأفصح منها: بُهِت، كما قال تعالى: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} البقرة: 258؛ لأنَّه يقال: رجل مَبْهُوت، ولا يقال: باهِت، ولا بَهِيْت. المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (6/ 571).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بَهَتَّه»: بفتح الهاء المخففة، وتشديد التاء على الخطاب، أي: قلتَ عليه البُهْتان، وهو كذب عظيم، يُبْهَت فيه من يقال في حقِّه. مرقاة المفاتيح (7/ 3032).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فقد بهتَّه»، أي: افتريت عليه، فحينئذٍ جمعت له بين الغيبة والبُهْتان، وهو بتشديد التاء المفتوحة للمخاطب؛ لإدغام لام الكلمة في تاء الفاعل، أي: فقد ذكرته بالبُهْتان والكذب والباطل. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (24/ 371-372).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
معناهُ: يذكرهُ بما فيهِ مما يكره، فإن ذكرهُ بغير ما فيهِ فهو البُهْتان حرم الله تعالى ذلك؛ لأنه يتناول الأعراض، وكما حرَّم على الناسِ تناول أموال الناس ودمائهم بغير حَقٍّ، كذلك حرَّم عليهم تناول أعراضهم بغير حقٍ، ولا فرقَ بين الأحوال الثلاثة، وقد حفَّ الله تعالى الدماء بالقَصَاصِ، وحَفَّ الأموال بالقطعِ، وحفَّ الأعراض بالحدّ، كل ذلك حُجُبٌ لا يحلُّ اختراقها، فمن اخترقها بالأذى أُدِّبَ، ومن اخترقها بالأقصى حُدَّ، ترتيبُ حكيم للمصلحة، وتدبيرُ عزيزٍ له القَهرُ والغَلبةُ. القبس في شرح موطأ مالك بن أنس (ص: 1168).
وقال النووي -رحمه الله-:
«فقد بَهَتَّه»، يقال: بَهَتَّه بفتح الهاء مخففة، قلتَ فيه البُهْتان، وهو الباطل، والغيبة ذكر الإنسان في غيبته بما يكره، وأصل البُهْت أن يقال له الباطل في وجهه، وهما حرامان.
لكن تباح الغيبة لغرض شرعي؛ وذلك لستة أسباب:
أحدها: التظلُّم، فيجوز للمظلوم أن يتظلَّم إلى السلطان والقاضي وغيرهما، ممن له ولاية أو قدرة على إنصافه من ظالمه، فيقول: ظلمني فلان، أو فعل بي كذا.
الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر، ورد العاصي إلى الصواب، فيقول لمن يرجو قدرته: فلان يعمل كذا، فازجره عنه، ونحو ذلك.
الثالث: الاستفتاء بأن يقول للمفتي: ظلمني فلان، أو أبي أو أخي أو زوجي بكذا، فهل له ذلك؟ وما طريقي في الخلاص منه؟ ودفع ظلمه عني؟ ونحو ذلك، فهذا جائز للحاجة، والأجود أن يقول: في رجل أو زوج أو والد وولد كان من أمره كذا، ومع ذلك فالتعيين جائز؛ لحديث هند وقولها: «إن أبا سفيان رجل شحيح».
الرابع: تحذير المسلمين من الشر؛ وذلك من وجوه، منها: جرح المجروحين من الرواة والشهود والمصنفين؛ وذلك جائز بالإجماع، بل واجب صونًا للشريعة، ومنها: الإخبار بعيبه عند المشاورة في مصاهرته، ومنها: إذا رأيت من يشتري شيئًا معيبًا أو عبدًا سارقًا أو زانيًا أو شاربًا، أو نحو ذلك تذكره للمشتري إذا لم يعلمه؛ نصيحة لا بقصد الإيذاء والإفساد، ومنها: إذا رأيت متفقهًا يتردد إلى فاسق أو مبتدع يأخذ عنه علمًا، وخِفْت عليه ضرره، فعليك نصيحته ببيان حاله قاصدًا النصيحة، ومنها: أن يكون له ولاية لا يقوم بها على وجهها لعدم أهليته أو لفسقه فيذكره لمن له عليه ولاية؛ ليستدل به على حاله فلا يغتر به، ويلزم الاستقامة.
الخامس: أن يكون مجاهرًا بفسقه أو بدعته كالخمر ومصادرة الناس وجباية المكوس، وتولي الأمور الباطلة، فيجوز ذكره بما يجاهر به، ولا يجوز بغيره إلا بسبب آخر.
السادس: التعريف، فإذا كان معروفًا بلقب كالأعمش والأعرج والأزرق والقصير والأعمى والأقطع ونحوها جاز تعريفه به، ويحرم ذكره به تنَقُّصًا، ولو أمكن التعريف بغيره كان أولى، -والله أعلم-. شرح النووي على مسلم (16/ 142-143).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
وجَمَعَهَا -أي: الأغراض الشرعية التي تجوز فيها الغيبة- ابن أبي شريف في قوله:
الذَّمُّ ليس بغيبة في ستة *** مُتظَلِّم ومُعَرِّف ومُحَذِّرِ
ولِمُظْهِر فسقًا ومُسْتفتٍ ومَن *** طلب الإعانة في إزالة منكرِ سبل السلام (2/ 671).
وقال النووي -رحمه الله-:
ومن ذلك: غيبة المتفقهين والمتعبدين، فإنهم يُعَرِّضون بالغيبة تعريضًا يُفْهَم به كما يُفْهَم بالصريح، فيُقال لأحدهم: كيف حال فلان؟ فيقول: الله يُصلحنا، الله يغفر لنا، الله يُصلحه، نسأل الله العافية، نحمدُ الله الذي لم يَبْتَلِنَا بالدخول على الظلمة، نعوذ بالله من الشرّ، الله يُعافينا من قلّة الحياء، الله يتوبُ علينا، وما أشبه ذلك مما يُفْهم تنقُّصه، فكل ذلك غيبة محرّمة، وكذلك إذا قال: فلان يُبتلى بما ابتُلينا به كلُّنا، أو ماله حيلة في هذا، كلُّنا نفعلُه، وهذه أمثلة، وإلا فضابط الغيبة: تَفْهِيْمُك المخاطب نقص إنسان -كما سبق-، وكلُّ هذا معلوم من مقتضى الحديث الذي ذكرناه في الباب الذي قبل هذا عن صحيح مُسْلِم وغيره في حدّ الغيبة، -والله أعلم-.
واعلم أن الغيبة كما يَحْرُم على المغتاب ذكرها، يَحْرُم على السامع استماعها وإقرارها، فيجب على من سمع إنسانًا يبتدئ بغيبة محرّمة أن ينهاه إن لم يَخَفْ ضررًا ظاهرًا، فإن خافه وجب عليه الإِنكارُ بقلبه ومفارقةُ ذلك المجلس إن تمكَّن من مفارقته، فإن قَدَر على الإِنكار بلسانه، أو على قطع الغيبة بكلام آخر، لزمه ذلك، إن لم يفعل عصى، فإن قال بلسانه: اسكتْ وهو يشتهي بقلبه استمرارُه، فقال أبو حامد الغزالي: ذلك نفاقٌ لا يخرجُه عن الإِثم، ولا بدّ من كراهته بقلبه، ومتى اضطرّ إلى المقام في ذلك المجلس الذي فيه الغيبة، وعجز عن الإِنكار، أو أنكر فلم يُقبل منه ولم يُمكنه المفارقة بطريق حرم عليه الاستماع والإِصغاء للغيبة، بل طريقه أن يذكرَ الله تعالى بلسانه وقلبه، أو بقلبه، أو يفكر في أمر آخر ليشتغل عن استماعها، ولا يضرّه بعد ذلك السماع من غير استماع وإصغاء في هذه الحالة المذكورة، فإن تمكَّن بعد ذلك من المفارقة وهم مستمرّون في الغيبة ونحوها، وجب عليه المفارقة، قال الله تعالى: {وَإِذَا رأيْتَ الَّذينَ يَخُوضُونَ في آياتِنا فأعْرِضْ عَنْهُمْ حتَّى يخوضُوا في حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ} الأنعام: 68. الأذكار (ص: 339).


ابلاغ عن خطا